رواية امراة العقاب كاملة جميع الفصول بقلم ندى محمود توفيق

رواية امراة العقاب كاملة جميع الفصول  بقلم ندى محمود توفيق 


رواية كيان الفهد كاملة جميع الفصول  هى رواية الكترونية من تأليف ندى محمود توفيق  واليوم سنعرض لكم جميع الفصول كاملة من رواية كيان الفهد



رواية امراة العقاب كاملة جميع الفصول  بقلم ندى محمود توفيق





رواية كيان الفهد كاملة جميع الفصول ( الفصل الاول 1 )

 

دقائق طويلة قاربت على النصف ساعة وهي تقف بشرفة المنزل ، تستند بمرفقيها على سور الشرفة ، وعيناها معلقة على بوابة المنزل الكبيرة منتظرة على أحر من الجمر وصول والدها ، لقد طال غيابه هذه المرة عنهم ولم تراه منذ اسبوعين .. وعندما علمت من أمها أن اليوم هو يوم عودته قفزت فرحًا وسعادة وأخذت تجهز كل ما ستخبره به من أحداث حدثت طوال الفترة الماضية ، تخرج الألعاب الجديدة التي قامت بشرائها حتى تريه إياها عندما يعود ورسوماتها الطفولية التي قامت برسمها بألوان مختلفة وجميلة اهداهم إليها عمها ! .
وأخيرًا ها هي سيارته الفخمة تعبر البوابة الحديدية ، وثبت من مكانها بفرحة ودخلت إلى المنزل تصرخ بطفولية متجهة نحو الباب حتى تخرج له :
_ بابا جه .. بابا جه
لم تبالي لتنبيهات أمها الصارمة بأن تهدأ من ركضها حتى لا تسقط .. فتحت باب المنزل ورأته وهو يتجه نحوها وابتسامة مشرقة وعريضة تعلو وجهه بعدما نزل من سيارته ، ركضت نحوه وارتمت بين ذراعيه ليحملها هو ويدور بها ويمطرها بوابل من قبلاته المشتاقة هامسًا :
_ وحشتيني أوي ياهنايا
إجابته بصوت طفولي سعيد به بعض الكلمات الغير مترتبة :
_ وأنت كمان شوحتني يا بابا !!
قهقه عاليًا ثم انحنى عليها يطبع قبلاته الحانية على وجنتيها ليشبع شوقه منها بينما هي فقالت بطفولية :
_ تعالي هوريك حجات حلوة اشتريتها
حملها على ذراعيه واستقام واقفًا وهو يتجه بها إلى داخل المنزل متمتمًا بصدمة مازحًا :
_ اشتريتي حجات حلوة من غيري .. لا كدا أنا زعلت منك يا هنا
انحنت على وجنته وطبعت قبلة لطيفة متمتمة برقة :
_ لا متزعلش عشان خاطري مش هشتري حاجة تاني من غيرك يابابا
دفن وجهه بين رقبتها يدغدغها بفمه ويقول بمشاكسة وضحك :
_ حبيبة قلب بابا
تعالت ضحكاتها وهي تحاول الإفلات من بين مشاكسة أبيها لها ولكن باتت محاولاتها كلها بالفشل .
فاق من شروده على صوت زوجته الأولى وهي تتمتم باستغراب :
_ عدنان أنا ليا ساعة بكلمك وأنت مش معايا خالص !!
تنهد الصعداء بحنق وتمتم بعبوس :
_ معلش يافريدة سرحت شوية
لوت فمها بغيظ وهتفت :
_ في جلنار مش كدا !
ظهرت الحدة على محياه بمجرد ذكرها لاسم زوجته الثانية وهتف بغضب :
_ لا في بنتي يافريدة اللي هتجن وأعرف خدتها وهربت بيها على فين
تأففت ووقفت ثم اقتربت منه وجلست بجواره على الأريكة تملس على شعره بحنو متمتمه بحب :
_ بنتك هتلاقيها ياحبيبي متقلقش
ثم استكملت بنظرات نارية وشيطانية :
_ بس الأهم إنك متسيبش الهانم من غير عقاب على عملتها دي ، الله اعلم خدت بنتك وهربت مع مين !
رمقها بنظرة مرعبة فهمت أنها حصلت على مبتغاها تمامًا وهو إشعال النيران في صدره حتى لا تتسنى لجلنار فرصة في الدفاع عن نفسها عندما يجدها ! .

***
بمكان آخر داخل أحد المنازل المتوسطة في ولاية كاليفورنيا بأمريكا الشمالية ...

انتهت من حمامها الصباحي الدافئ وخرجت ثم وقفت أمام المرآة تسرح شعرها وتجففه ، كانت تملك عينان بندقية ساحرة وشعر أسود طويل وملامح وجه رقيقة وصغيرة لا تناسب أم أبدًا بل فتاة مراهقة مازالت في سنها الثامن عشر ، حتى جسدها الممشوق والمثير يعطيها لمسة أنوثية مذهلة .
رغم مرور أربع سنوات على زواجها ولكنها لا تزال محتفظة بنضارتها وجمالها ، لم تترك الهموم والحزن يؤثر عليها ويغير من طبيعتها ووجهها ، وقفت صامدة أمام أقوى الظروف ولا تزال بقوتها .. لم يكن بالنسبة لها زواج بالمعنى الحقيقي ، بل هو صفقة عمل كما وصفها أبيها " نشأت الرازي " رجل الأعمال المشهور والكبير عندما تسنت له الفرصة حتى يحافظ على علاقاته العملية وصفقاته وأمواله مع إمبراطورية الشافعي الضخمة لم يتركها تضيع هباء .. وكانت موافقتها على الزواج من عدنان الشافعي أحد نجاح مخططاته في الوصول لمستوى مرموق وأكبر يرضي به اهوائه وجشعه ، أجبرها على الموافقة من رجل متزوج ويرغب في الزواج مرة أخرى حتى يحصل على الطفل الذي لم يحصل عليه من زوجته الأولى ، وكانت هي الوسيلة لحصوله على الطفل وحتى الآن هي بالنسبة له ليست سوى آلة تزوجها للإنجاب فقط ، ووالدها يرضى بهذه الوضع المهين الذى وضعها به ولكن السجينة خرجت عن طوع سجانها بعدما طفح كيلها وقررت أن تعلن تمردها ولا تقبل بالإهانة ! .
جلنار الرازي .. المرأة صاحبة الجمال الصارخ كما وصفها بعض الرجال ، ترعرعت ونشأت في بلاد الغرب حتى أصبحت تأخذ من طباعهم وحتى جمالها يقارب لجمالهم المثير ، طالما وصفتها قريناتها من النساء بصاحبة الأنف المرتفع ! .. أي المتعجرفة .

انتهت من ارتداء ملابسها وهتفت بصوت مرتفع بعض الشيء :
_ هنا تعالي يلا ياحبيبتي عشان تلبسي
ركضت الصغيرة نحو والدتها وكانت هي قد ارتدت ملابسها كاملة معادا حذائها فقالت جلنار بضحكة مندهشة :
_ إنتي لبستي وحدك شطورة ياحبيبتي
جلست الصغيرة على المقعد وبدأت في ارتداء حذائها وأمها تساعدها في ارتدائه بشكل صحيح ، لكنها تصلبت بأرضها عندما سمعت سؤال صغيرتها وعيناها حزينة تقول :
_ هو إمتى بابا هياجي يامامي ، وحشني أوي
ثبتت نظرها على ابنتها وتنهدت الصعداء بخنق ثم مدت يدها وملست على شعرها مغمغمه بوداعة :
_ بابا مش هياجي دلوقتي يا هنا
ما يقارب الشهرين وهي كلما تسأل والدتها عن أبيها تجيبها بإجابات غامضة وناقصة هكذا لا تفهمها ، وكأنها بدل أن تجيب تطرح عليها الأسئلة ! .
زمت هنا شفتيها للأمام بيأس وقالت :
_ طيب ليه مش بيكلمنا ؟!
ليتها تستطيع الإجابة .. ليتها تتمكن من العودة له لأجل طفلتهم فقط ، ولكن ارتيعادها يزداد كلما تتذكر عزمه على أن يأخذ ابنتها منها فور طلاقهم ، مما دفعها للهروب بها ! .
ابتلعت جلنار ريقها وقالت بإيجاز وهي تهب واقفة :
_ يلا بينا اونكل حاتم مستنينا تحت ، كدا هنتأخر عليه

استقامت هنا واقفة وسارت مع أمها إلى الخارج وعلى ملامحها العبوس والحزن لا ترفع نظرها عن الأرض ، خرجت واستقبلت حاتم الذي كان بانتظارهم ، لفت نظرها الصغيرة التي لم تلقي عليه التحية بحرارة وتعانقه بسعادة ككل مرة ، بل اتجهت إلى السيارة واستقلت بالمقعد الخلفي بمكانها دون أن تنتطق وكانت معالم وجهها الحزينة تحكي بدلًا عنها .

نظر إلى جلنار وهز رأسه باستغراب بمعنى " ماذا بها ؟! " لتتنهد الأخرى بضيق وتهز كتفيها لأعلى بعدم حيلة فيفهم فورًا السبب ويقول بخشونة :
_ عدنان مش كدا !!
_ ايوة مبقتش عارفة اقولها إيه تاني ياحاتم بتسأل علي باباها كل يوم وأنا زهقت .. ومقدرش اخليها تكلمه كمان ، أنا خايفة يلاقينا وياخدها مني ياحاتم .. خايفة أوي مش هقدر اعيش من غيرها

رأى الدموع المتجمعة في عيناها الجميلة ونبرتها العاجزة آثرت قلبه فلم يتمكن من الصمود أمامها حيث لف ذراعيه حولها يضمها لصدره متمتمًا بصوت رخيم ويداه تملس على شعرها :
_ متخافيش أنا معاكي ومش هيقدر ياخدها منك
سكنت بين ذراعيه للحظات قصيرة لكن عصفت بذهنها صورة عدنان وأدركت الوضع الذي يحدث الآن فابتعدت عن حاتم بهدوء وجففت دموعها تقول بجدية بسيطة :
_ يلا عشان منتأخرش على الشغل
أجابها مازحًا وهو يتجه نحو السيارة :
_ نتأخر إيه بقى ما انتي مع المدير نفسه وبياجي وياخدك كمان
سارت خلفه وهي تطرح عليه سؤالها بالإنجليزية وبنظرات ماكرة :
_ what do you mean ? . ( !ماذا تقصد ؟ )
تمتم يرد عليها بضحكة بسيطة :
_ nothing babe ( لا شيء يا عزيزتي )
استقلت بجواره في المقعد الأمامي بالسيارة والقت نظرة على ابنتها التي تنظر من النافذة بسكون تام دون أي حركة ، فتصدر زفيرًا حارًا في بؤس وتتابع الطريق من أمامها .

***
يمسك بيده فرشاة ويجلس على مقعد خشبي طويل مخصص للرسم ، وأمامه لوحته المميزة التي يعمل عليها منذ أيام طويلة بإتقان وتركيز حتى يكون الشكل النهائي لها مذهل كباقي أعماله الفنية ، كرس حياته منذ تخرجه من كلية الفنون الجميلة لممارسة هوايته المفضلة وهي الرسم ، حتى أنه افتتح معرضه الفني الخاص به والذي يأتي إليه الناس من مختلف الأماكن حتى يقتنوا لوحاته المذهلة ، بعدما تمكن وبفترة قصيرة أن يصنع اسمه في المجال الفني ويتصدر الصدارة .

آدم الشافعي .. الشاب اليافع الذي يبلغ من العمر خمسة وعشرون عامًا ، كانت تتسابق الفتيات في جامعته على التقرب منه ليس لجمال مظهره وشكله فقط ، بل حتى لثقافته ولطفه مع الجميع وموهبته الفريدة .. لكنه لم يكن من هواة النساء والتسكع .. الأمر الذي جعلهم ينفرون منه بالنهاية بعدما يأسوا من محاولاتهم الفاشلة معه ! .

طرقت الباب عدة طرقات صغيرة قبل أن تفتحه وتدخل لتتسع على شفتيها ابتسامة عريضة .. ثم اقتربت ووقفت خلف أبنها تطالع لوحته التي لم تكتمل بعد بإعجاب شديد ، بينما هو فالتفت برأسه نحوها يحدقها بثغر مبتسم ليخرج همسها أخيرًا :
_ إنت مش ناوي تخلصها ولا إيه ياحبيبي ، أنا متشوقة جدًا اشوفها بعد ما تكمل
_ هانت خلاص ياماما فاصل فيها شوية لمسات صغيرة وتبقى انتهت تمامًا .. بس إيه رأيك فيها ؟
أجابته بانبهار بعدما أعادت النظر فيها من جديد تتفحص تفاصيلها الدقيقة والمذهلة :
_ جميلة أوي يا آدم .. قولي بقى هو إمتى هيكون افتتاح المعرض

تمتم وهو يمسك بالفرشاة من جديد ويستكمل ما توقف عنده قبل دخولها :
_ خلال الاسبوعين الجايين إن شاء الله
انحنت وطبعت قبلة على شعره ثم هتفت بحنو :
_ ربنا يوفقك ياحبيبي .. أنا هروح اعملك فنجان قهوة من اللي بتحبه عشان تعرف تبدع كدا يافنان
قهقه بخفة وأجابها وهو يغمز لها بمداعبة :
_ ربنا يخليكي ليا ياسمسم يافهماني إنتي
بادلته الضحك وهي تتجه نحو الباب لتنصرف وتتركه يستأنف عمله .

أسمهان الشافعي .. والدة عدنان وآدم ، تبلغ من العمر خمسة وخمسين عامًا ، رغم تقدمها في السن إلا أنها لا تزال بكامل صحتها وجمالها .. عرفت بالمرأة المتسلطة والصارمة ، لديها من النرجسية ما يكفي لجعل الكثير يبغضها ويبتعد عنها ، ولديها طبع حاد لا يتحمله أحد خصوصًا مع من تكرهه ، لكنها تكون بكامل حنانها ولطافتها مع أولادها وربما بعض الشيء مع زوجة ابنها ( فريدة ) ، نظرًا لأن علاقتهم جيدة وأشبه بالأصدقاء لكن جلنار لم تحصل منها سوى على الكره والمكائد والنفور لأنها لم تكن موافقة على هذا الزواج منذ البداية .

***
بولاية كاليفورنيا ....
تجلس بمكتبها على الأريكة الصغيرة وبيدها كوب القهوة الخاص بها تحتسيه بهدوء وعقلها مشغول بالتفكير في زوجها ، بالتأكيد أنه لم يترك مكان إلا وبحث فيه عنهم ، ولابد أنه الآن يعاني أشد العناء من فراق ابنته ويتوعد لها بعقاب عسير عندما يجدها .
قذفت بذهنها ذكرى مأسوية لهم من شجارتهم الدائمة وكانت هذه هي آخر مشاجرة بينهم قبل أن تأخذ ابنتها وتذهب لأمريكا .

_ عايزة أطلق يا عدنان !
كانت جملة صريحة منها تحمل الغضب والانفعال بينما هو فأجابها بكامل هدوئه دون أن يعير انفعالها أي اهتمام :
_ واحنا اتكلمنا في الموضوع ده ميت مرة ياجلنار وكان ردي واضح
صاحت به بنبرة مرتفعة وسخط :
_ نتكلم تاني وتالت وعاشر وللمرة المليون كمان .. لغاية ما تفهم إني مبقتش عايزاك خلاص وعايزة أطلق
جز على أسنانه بغيظ فقد بدأ الغضب يستحوذ عليه هو الآخر حيث صرخ بها بصوته الجهوري :
_ وعايزة تتطلقي ليه .. ما إنتي عايشة ملكة وكل اللي بتعوزيه بيكون عندك
_ عشان أنا مش هقبل أكون على الرف تاني كفاية أوي اربع سنين عشتهم معاك وأنا بتعذب من عدم اهتمامك بيا وكأني نكرة مش موجودة .. أنت حياتك كلها عبارة عن أسمهان هانم وشغلك وأخوك وبنتك وطبعًا من هننسى فريدة هانم دي أهم حاجة ، وجلنار ملهاش أي جزء من حياتك ، ومتحاولش تقول أي حاجة لإني عارفة كويس اوي إنك عمرك ما حبتني ولا هتحبني ، أنت قلبك وعقلك مستحوذة عليه مراتك وأنا مليش مكان فيه

بقى صامتًا يستمع لحديثها كامل حتى انتهت فيجيبها بعند :
_ مش هطلقك غير بمزاجي ياجلنار متتعبيش نفسك
ثم تركها واتجه نحو الباب فركضت هي خلفه وامسكت بذراعه ترغمه على الوقوف وتهتف بإصرار :
_ هتطلقني ياعدنان غصب عنك فاهم ولا لا
حدقها بصمت لثواني معدودة ثم نفض يدها عن ذراعه وأكمل طريقه نحو باب المنزل لينصرف ، لكنه توقف عند الباب لدقيقتين تقريبًا ثم التفت برأسه نحوها وكأنه تحول مائة وثمانون درجة حيث تمتم بجمود مزيف :
_ تمام طالما دي رغبتك ومصرة عليها يبقى تستحملي النتائج ، هطلقك ياجلنار موافق
ألقى بجملته النارية عليها وانصرف ليتركها تتطرح الأسئلة عن معنى كلماته وماهي النتائج التي يقصدها ؟ ، ولم تحصل على إجابتها إلا عندما عرفت بمخططه هو وأبيها ! .

أفاقت من ذكرياتها عندما أحست بالماء الدافئة التي تجري على وجنتيها ، فمدت أناملها وجففتهم بسرعة وهي تهمس بصوت مسموع :
_ مس هسمحلك تاخد بنتي مني ياعدنان

***
عودة إلى القاهرة ....
وصلت إلى منزل خالتها ووقفت بالحديقة تتطلع لأعلى تحديدًا لنافذة غرفته ، فرأت ظلًا يتحرك في الغرفة ، عرفت فورًا أنه بالمنزل .. أخذت نفسًا عميقًا وقالت بارتباك :
_ أهدى خالص يازينة مش هتتوتري زي كل مرة فاهمة ولا لا ، اتصرفي بطبيعية جدًا .. ده آدم يعني مش حد غريب !
قادت خطواتها المرتبكة إلى الداخل ، فقد حدثتها خالتها بالهاتف وطلبت منها أن تأتي إليها حتى تتحدث معها تحت مسمى الشوق ، وأنها اشتاقت لها .
وقفت أمام الباب ورفعت يدها حتى تطرق على الباب ولكن دهشت بأسمهان التي فتحت لها قبل أن تطرق حتى ، ضيقت زينة عيناها باستغراب من أفعال خالتها الغريبة ، وباللحظة التالية فورًا كانت أسمهان تضمها معانقة إياها بحرارة وهي تتمتم بحب :
_ عاملة إيه ياوزة وحشتيني يابنت !
خرجت من حالتها المتعجبة ليتمكن منها الغضب وهي تهتف محتجة :
_ وبعدين ياخالتو كام مرة هقولك متقوليش الاسم المستفز ده .. إيه وزة ده كمان !!
قهقهت أسمهان بملأ شدقيها ثم دفعتها للداخل وأغلقت الباب وهي تهتف :
_ طيب ادخلي يلا
دارت زينة بنظرها في أرجاء المنزل وكأنها تتأكد من عدم وجوده ثم تنهدت بارتياح وسألت بريبة :
_ هو في حاجة ياخالتو ولا إيه ؟!
جذبتها من ذراعها واجلستها على الأريكة أمامها ثم همست بصوت منخفض :
_ آدم بيجهز في المعرض
سرت برودة في جسدها بمجرد سماعها لاسمه وبدأ قلبها ينبض كالمطرقة ، ثم أجابت على خالتها بصوت مرتبك :
_ بجد .. أنا كنت فاكرة أنه لسا فاضل وقت عليه
_ اتلحلحي كدا وروحي ساعديه واقفي معاه .. قربي منه واتكلموا مع بعض
اتسعت عيناها وأشارت بسابتها على نفسها تهتف مندهشة :
_ أنا !!!
لكزتها أسمهان في كتفها ثم استكملت همسها وهي تغمز لها بمكر :
_ أيوة إنتي ، هتعملي نفسك مش فهماني
_ أحم .. إنتي فاهمة غلط يا أسمهان هانم على فكرة ، الموضوع مش كدا خالص
كادت أن تجيبها ولكن صوت آدم الذي كان ينزل الدرج جعلها تبتلع جملتها في جوفها ، حيث كان يهتف بعذوبة :
_ إيه ده وزة بنفسها عندنا !
ظلت تحدق بها بهيام وهي مبتسمة وهمست لنفسها بصوت غير مسموع بعدما سمعته يقول لها بنفس الاسم الذي سمعته من خالتها للتو :
_ لا إنت تقول اللي عايزه براحتك !
وصل لها أخيرًا ومد يده وهو يقول بابتسامته المذهلة :
_ عاملة إيه يازينة ؟
توترت وتزايدت نبضات قلبها حتى أحست أنه يسمعها ، كانت قد عزمت على أنها لن تتوتر عندما تراه ولكن سرعان ما فعلت العكس ! .
مدت يدها بعد ثواني مرت كالسنين بالنسبة لها وصافحته بخجل مفرط تجيب عليه بصوت متلعثم :
_الحمدلله كـ..ويسة
قررت أسمهان أن تنقذ ابنة اختها من الوضع المرهق للأعصاب التي هي فيه حيث ثبتت نظرها على ملابس ابنها وسألت :
_ إنت خارج ولا إيه يا آدم ؟
قال بإيجاب :
_ آه ورايا كام مشوار كدا هخلصهم وبعدين هروح الشركة عند عدنان
_ طيب ياحبيبي خلي بالك من نفسك
اكتفى بابتسامته ثم نظر لزينة مرة أخرى وقال بلطافة مألوفة عليه :
_ عايزة حاجة يازينة ؟
كلما يوجه لها الحديث يعود توترها وارتباكها ليصبح الضعف وتسير رعشة في جسدها ، حتى أن وجنتيها تصعد الحمرة إليهم ، أبت الرد عليه حتى لا تتفوه بحماقات وسط تعلثمها وخجلها واكتفت بهز رأسها بالنفي وهي ترسم على شفتيها ابتسامة مرتبكة .

***
_ يعني إيه مطلعتش هيا !!
كانت صيحة عنيفة انطلقت منه فأجابه الطرف الآخر هاتفيًا :
_ ياعدنان بيه حصل لبس في الأسماء مش أكتر واختلط علينا الأسم ، لكن اسم زوجة حضرتك مش موجودة في سجلات المطار نهائي ، والمعلومات اللي وصلت لحضرتك عن الاسم كان خطأ وتشابه اسماء في الاسم الأول فقط

لم يتمكن من الرد عليه أو حتى تكملة المكالمة حيث ألقى بالهاتف على الأريكة وهو يخرج من بين شفتيه سباب لاعنة وألفاظ نابية على الجميع ، شهرين كاملين وهو يبحث عن زوجته وابنته ولا أثر لهم وكأن الأرض انشقت وابتلعتهم ، لم يعد يحتمل التوتر والخوف أكثر من ذلك .. قلبه يعتصر ألمًا وشوقًا لابنته يخشى أن يصيبها مكروه ، وعقله لا يتوقف عن بث الأفكار السيئة في ذهنه حول هروب زوجته مع رجل آخر وأخذها لصغيرته معها .. كلما تقذف هذه الأفكار في عقله يشعر وكأنه على وشك أن يتحول لبركان سيقضى على الأخضر واليابس .
جذبه من موجة غضبه العاتية طرق الباب ودخول نشأت الرازي ، طالعه عدنان مبتسم بعدوانية وقال بنظرة مريبة :
_ أهلًا يا نشأت بيه .. ولا اقولك ياحمايا .. نورت المكتب والله ، لا ده الشركة كلها نورت
هتف نشأت بحزم :
_ بلاش الاسلوب ده ياعدنان .. أنا جاي اسألك لو عرفت حاجة عن جلنار أنا دورت في كل مكان ومفيش أثر ليها
ضحك عدنان وأجابه باستهزاء وأعين ثاقبة :
_ أشك إنك دورت أصلًا عليها
استشاط نشأت غيظًا وهتف بتحذير :
_ متنساش إنها بنتي كمان .. وأكيد هبقى خايف عليها زيك واكتر
هتف عدنان بوجه جامد خالي من المشاعر وبنبرة غليظة :
_ ومين قالك إني خايف عليها أساسًا .. أنا كل اللي يهمني بنتي ، أما بنتك فحسابها هيكون عسير أوي معايا لما الاقيها
اندفع نحوه نشأت ورفع سبابته في وجهه يقول بنبرة منذرة لأول مرة تكون حقيقية ويرى الغضب ومشاعر الأبوة الحقيقية في عيناه :
_ احنا اتفاقنا كان إنك هتطلق بنتي زي ما هيا عايزة وهتاخد بنتك ، لكن لو إيدك لمست شعرة واحدة منها هوديك ورا الشمس ياعدنان
خرجت ضحكة عالية من عدنان كانت تحمل السخرية والشر ثم أجابه من بين ضحكه :
_ إيه مشاعر الأبوة الجديدة دي اللي ظهرت عليك مرة واحدة مش هي دي برضوا بنتك اللي ما صدقت تجوزها ليا لما لقيت أن هيكون في مصلحة حلوة ليك من ورا الجوازة دي .. دلوقتي جاي بتهددني وإني مقربش منها .. ثم إن اتفاقنا ده كان قبل ما الهانم بنتك تاخد بنتي وتهرب بيها ، ونصيحة مني واحد زيك ميحقلهوش أنه يهددني أصلًا لأن انا اللي اقدر اوديك ورا الشمس بحركة واحدة مني

لم ينكر نشأت أن شعور الخوف بداخله بدأ يتفاقم من تهديد عدنان له بالأخص وهو يعرف أنه يعي تمامًا ما قاله وأنه بإمكانه بالفعل أن يطيح به إلى الهاوية ، لكن أبى أن يظهر له مشاعر التوتر التي تملكته واكتفى بنظراته النارية له وجملته قبل أن يستدير وينصرف :
_ أنا قولت اللي عندي ياعدنان

***
في أمريكا ....
توقفت سيارته أمام المنزل ، ثم نظرت جلنار إلى ابنتها النائمة في المقعد الخلفي وظهر الحزن على محياها ، فشعرت بكف حاتم وهو يملس على ظهر كفها متمتمًا بنظرة ذات معنى :
_ متقلقيش لما تصحى هتبقى كويسة ، طبيعي تزعل بالشكل ده خصوصًا إنها متعلقة بأبوها جدًا

اعتدلت في جلستها وزمت شفتيها للأمام بعبوس وغمغمت :
_ أحيانًا لما بقعد مع نفسي ، بفكر وأقول هو أنا غلطت لما اخدتها وهربت بيها وحرمته منها رغم إني عارفة أن روحه فيها وأكيد هو حاليًا بيتعذب عذاب بشع من كتر خوفه وشوقه عليها ، وفي نفس الوقت برجع وبقول ما هو كمان كان هيحرمني منها ومهمتش بيا ولا أني ازاي هقدر أعيش من غيرها
أجابها حاتم بنظرات حازمة :
_ مش هيفرق دلوقتي اللي حصل ده كان غلط أو صح ، أهم حاجة إنك مسكتيش عن اللي بيحصلك وطلبتي الطلاق واصريتي عليه ، واحد زي عدنان ميستهلكيش ولا يستاهل بنته حتى
بدت على ملامحها الاستياء من آخر جملة تفوه بها وقالت بحدة :
_ حاتم أنا مطلبتش الطلاق بسبب أن عدنان وحش .. هو عمره ما كان بني آدم مش كويس معايا ، أنا طلبت الطلاق ليه لأني مستحملتش أكون مهملة بالشكل ده اكتر من كدا
حاتم بعصبية شديدة :
_ ولما هو مش وحش اتفق مع ابوكي أنه يطلقك وياخد بنتك منك ليه ياجلنار .. فوقي وفتحي عينك ، شكله قلبك لسا متعلق بيه رغم كل اللي عمله وبيعمله معاكي
_ أنت عارف كويس أوي ياحاتم أني مبحبش عدنان فبلاش تتكلم بالأسلوب ده معايا
ابتسم بغضب واجابها باستنكار :
_ آه فعلًا واضح جدًا إنك مش بتحبيه وخصوصًا وإنتي بتدافعي عنه قدامي
انفعلت بشدة وظهر الأحمرار في عيناها فنزلت من السيارة وفتحت الباب الخلفي ثم حملت ابنتها على ذراعيها وقالت وهي تبتعد عن السيارة :
_ I think إن انت محتاج ترتاح شوية ياحاتم لأن شكلك مرهق وتعبان
نزل من السيارة وصاح مناديًا عليها بسخط :
_ جلنار استني !
أتاه صوتها الجاف وهي تقول دون أن تلتفت له :
_ نتقابل بكرا في الشغل ياحاتم إن شاء الله ، روح وارتاح في بيتك وبعدين نتكلم

تأفف بقوة حتى وصل صوته لأذنيها ثم استقل بسيارته مرة أخرى وانطلق بها وهو مشتعل بنيران الغيظ والغضب .

***
عودة إلى القاهرة مرة أخرى ...
داخل منزل عدنان الشافعي كانت تجلس كل من أسمهان وفريدة بالصالون ويتحدثون بين بعضهم البعض عن جلنار ، حيث هتفت فريدة بسخرية ولهجة تحمل السعادة :
_ لغاية دلوقتي مفيش أي خبر عنها ياماما كأنها فص ملح وداب !
أجابت أسمهان بنبرة محتدمة :
_ ياخوفي لتطلع هربانة مع راجل تاني .. مش بعيد عليها مش بنت نشأت الرازي هتطلع لمين
التزمت فريدة الصمت لدقائق معدودة وهي تفكر بأمر زوجها ، تخشى أن تكون تلك المرأة قد تمكنت من قلبه والأمر ليس مجرد خوفه على ابنته فقط ! .
خرج صوت فريدة المختنق :
_ خايفة يكون عدنان الموضوع مش موضوع بنته بس
ظهر الغل والحقد في عيني أسمهان التي هتفت فورًا :
_ وإنتي فكرك إني هسمحلها تكمل مع ابني اكتر من كدا الحقيرة دي .. أنا معنديش غير مرات ابن واحدة وهي إنتي يافريدة

لاحت ابتسامة كلها ثقة وغرور على ثغر فريدة وفي صميمها تحمل الوعيد والضغينة لجلنار .
قطع حديثهم انفتاح الباب ودخول عدنان وذهابه نحو غرفته فورًا دون أن ينظر لهم حتى وكانت معالم وجهه تكشف عن حالته ، تبادلا الاثنين النظرات المتعجبة بينهم وهبت فريدة واقفة ولحقت به لأعلى في غرفتهم .. فتحت الباب ودخلت ثم اغلقته خلفها ببطء ، وقعت عيناها عليه وهو يقف أمام النافذة ويشعل سيجارته ثم يضعها في فمه ويخرجها لينفث دخانها بشراسة من بين شفتيه .
اقتربت منه بخطوات رقيقة مدروسة ثم وقفت خلفه ومدت يدها تملس على شعره متمتمة بهمس أنوثي :
_ عدنان !
اتاها صوته المتحشرج وهو يقول :
_ سبيني لوحدي يافريدة من فضلك
تحركت ووقفت أمامه ثم جذبت السيجارة من بين أنامله وهي تبتسم باغواء ، وتهمهم برقة ونظرات عاطفية تعرف أثرها عليه :
_ وهو في مرة كنت مضايق بالشكل ده وفريدتك سابتك وحدك ، مقدرش أسيبك ياحبيبي .. قولي مالك ؟
نجحت في امتصاص غضبه بسهولة حيث علت الابتسامة المحبة على وجهه وأمسك بكفها يرفعه إلى شفتيه ليثلمه متمتمًا :
_ كفاية وجودك جمبي ياحبيبتي .. إنتي وبنتي أهم اتنين بنسبالي دلوقتي
ها هي تنجح تدريجيًا في نزع كل جزء جيد يكنه في قلبه لتلك الزوجة المتمردة ، حتى تعود من جديد هي الفريدة من كل شيء ولا نظير لها .
ارتمت بين ذراعيه وهي تهمس بهيام :
_ أنا بحبك أوي ياعدنان
_ وأنا كمان بحبك ياروح عدنان
جالت بعقلها جملة قالتها لها " أسمهان " ذات مرة ( ستظلين الأولى في كل شيء بالنسبة لعدنان ، لطالما حافظتِ على الصدارة ولم تخسريها ! ) .

***
أشعة الشمس المتسللة من النافذة اخترقت جفنيها فسببت لها الازعاج في نومها ، تململت في الفراش بضيق وهي تدفن وجهها في الوسادة حتى تختبأ من أشعة الشمس ولكن دون فائدة .. فتحت عيناها وهي تزفر بخنق ثم نظرت إلى جانب الفراش الفارغ من ابنتها فقطبت جبينها ، ثم استقامت جالسة وهي تفرك عيناها لتزيح أثر النوم وترجع بخصلات شعرها الناعمة إلى خلف أذنيها ، ثم نزلت من الفراش وسارت إلى خارج الغرفة وهي تصيح منادية على ابنتها :
_هنا !
لم تجد إجابة منها ، فكانت وجهتها الأولى نحو التلفاز فلم تجدها ، عادت و اتجهت نحو غرفة صغيرتها ولا يوجد لها أثر أيضًا بها .. انقبض قلبها وبدأ الخوف يتسلل لقلبها وزاد تدفق هرمون الادرينالين في جسدها حيث اندفعت تبحث عنها في باقية المنزل وهي تصيح


رواية كيان الفهد كاملة جميع الفصول ( الفصل الثانى 2 ) 


انقبض قلبها وبدأ الخوف يتسلل لقلبها وزاد تدفق هرمون الادرينالين في جسدها حيث اندفعت تبحث عنها في باقية المنزل وهي تصيح بارتعاد :
_ هنا .. هنا !!!
بينما هي تمر من جانب الشرفة لمحت شيء بالحديقة ، فعادت مرة أخرى ونظرت من النافذة وإذا بها تجد ابنتها مع حاتم ويلعبون معًا ، أصدرت تنهيدة حارة بارتياح ثم ابتعدت عن الشرفة واتجهت لتغادر المنزل بأكمله وتقترب منهم وهي على وجهها ابتسامة معاتبة فنظر لها حاتم وقال بإحراج :
_ عارف إننا اتخانقنا إمبارح .. أو هي متعتبرش خناقة بس حبيت أجي واعتذر منك لو ضايقتك
ضحكت باستهزاء ثم اقتربت ونكزته في كتفه وهي تقول بمداعبة :
_ مفيش زعل بينا ياحاتم ، مقدرش ازعل منك أصلًا ..ثم انك فسرت نظرتي غلط أنا ببصلك كدا لأنك جيت ومصحتنيش واخدت " هنا " وبتلعبوا انت وهيا هنا وأنا لما صحيت وملقتهاش جمبي اتخضيت
غمز لها بعيناه في مغازلة صريحة وهمس :
_ سلامتك من الخضة ياجميل أنت !
كبحت ابتسامتها الخجلة من الظهور وضربته على ذراعه بخفة تهتف في جدية شبه مصطنعة :
_ احترم نفسك
خرج صوت هنا وهي تقول بتذمر :
_ ماما أنا جعانة
انحنت عليها جلنار وطبعت قبلة على شعرها وهي تهتف بحنو امتزج بالمزح :
_ حاضر ياحبيبتي هروح احضر breakfast بس عمو حاتم مش هيفطر معانا
احتجت الصغيرة وتشبثت بقدم حاتم وهي تقول بغضب :
_ لا هيفطر معانا
قهقه حاتم وقال ضاحكًا :
_ ظهر الحق .. عشان بتأجي عليا ياظالمة ده أنا حتى غلبان .. اخص على الندالة اخص ، هي مفيش غير البنت هنا دي حبيبتي

ثم رفعها من على الأرض وحملها ليلثم وجنتها بحب فتتعالى ضحكات جلنار وتتركهم وتتجه للداخل حتى تقوم بتحضير الفطار بينما حاتم نظر لهنا وقال يترقب :
_ يعني إنتي عايزاني أقعد
هزت رأسها بإيجاب في ابتسامة جميلة فيقول هو بحزن مزيف :
_ انا بقول امشي افضل بكرامتي لاحسن مامتك تطردني
ظهر الغيظ على ملامح هنا الطفولية لتقول بلهجة مثيرة للضحك :
_ مش تمشي ياعاتم
حاتم :
_ عتمتيني ليه يا ام لسان مقطوع .. عارفة يابت ما اسمعك بتقوليلي عاتم تاني لامسكك السلك عريان
أخفت هنا ضحكتها الخجلة بكفها وهي تضحك على سخطه ونطقها الخطأ لاسمه .
***
كان كل من آدم وأسمهان يجلسون على مائدة الطعام والصمت يغلف المكان من حولهم إلا عند نزول فريدة من غرفتها وهي ترتدي ملابسها تستعد للخروج ، فنظرت لها أسمهان باستغراب فتقول فريدة بابتسامة صفراء بعض الشيء :
_ أنا خارجة هشتري كام حاجة وراجعة بسرعة ياماما
أسمهان بتعجب :
_ مش هتفطري طيب ياحبيبتي !
_ لا لا مش جعانة لما ارجع هبقى أكل
ثم اندفعت مسرعة إلى خارج المنزل مما جعل أسمهان تحدق بها بريبة ، أما آدم فهتف ببرود وهو يلقي بقطعة خيار في فمه :
_ مش ملاحظة إن خروج فريدة زاد أوي الفترة دي ، وكل مرة بتخرج لنفس السبب .. هو عدنان عارف بخروجها المستمر ده !!
رمقته أسمهان بتهكم ولم تجيب عليه بينما هو فاستكمل أسألته وهو يطرح هذه المرة السؤال بخصوص زوجة أخيه الثانية :
_ لسا مفيش أخبار عن جلنار وهنا
أسمهان بصيحة عنيفة :
_ متجبليش سيرتها يا آدم .. أنا مش ناقصة حرقة دم على الصبح
ابتسم بسخرية وهب واقفًا دون أن يكمل طعامه ثم قال بنظرة مميتة :
_ هتفضلي كدا دايمًا يا أسمهان هانم مش بتقتنعي غير باللي على مزاجك .. ولعلمك بقى فريدة فيها حاجة مش مظبوطة وصدقيني لو طلع اللي في دماغي صح مش هسكت

***
انتهت كل حلوله للوصول إليها ولم يعد يعرف كيف يصل إليها بعد محاولات لا تعد من كثرتها وجميعها باتت بالفشل .
وقرر بالأخير أن يلجأ للورقة الأخيرة وهي صديقتها المقربة لعلها تكون تعرف مكانها وتخبره ، ترجل من سيارته أمام مقهى صغير ومعروف ملكًا لها ثم قاد خطواته إلى الداخل ووقف بين الطاولات ينقل نظره بين الجميع يبحث عنها .. حتى وجدها تقف مع أحد العاملين بالمكان ، فتحرك نحوها حتى وقف خلفها وهتف بصوت رجولي قوى :
_ ازيك يا هبة
التفتت بكامل جسدها للخلف مفزوعة على أثر الصوت وبمجرد ما وقعت عيناها عليه تمتمت بدهشة :
_ عدنان !
_ أنا كنت جاي اسألك لو تعرفي حاجة عن جلنار ، هي ملهاش اصدقاء غيرك تقريبًا
ارتبكت بشدة وهمت بالابتعاد عنه وهي تقول بعجلة :
_ معرفش حاجة عنها
أمسك برسغها قبل أن تذهب وقال بحدة :
_ هبة إنتي قريبة من جلنار جدًا وأكيد هتكون قالتلك حاجة قبل ما تختفي أو يمكن لسا بتتواصل معاكي كمان
حاولت إفلات يدها من قبضته وهي تقول باضطراب :
_ قولتلك معرفش عنها حاجة ياعدنان ، وسبب إيدي لو سمحت
التفت عدنان برأسه ينظر للزبائن التي بدأت تلاحظ الوضع المشحون بالتوتر بينهم فجذبها من ذراعها عنوة إلى خارج المقهي وهتف بشبه صيحة وهو يضغط على ذراعها بقوة:
_ قولي اللي تعرفيه ياهبة
تأوهت بألم وقالت بسخط ونبرة مرتفعة :
_ سيب إيدي أنت اتجننت !!
ترك يدها ورفع كفيه لأعلى كدليل على أنه لن يلمسها مجددًا ثم قال بنظرات مشتعلة :
_ اديني سبتها أهو .. يلا اتكلمي
أجابته بنظرات مستاءة وهي تدلك ذراعها موضع قبضته المؤلمة عليه :
_ معرفش غير إنها برا مصر وهي مقالتش ليا حاجة غير ده وآخر مرة أشوفها أو اكلمها كان قبل ما تسافر ومن وقتها معرفش عنها حاجة ..خلاص عرفت وياريت بقى متجايش تاني الكافيه عندي

ثم تركته ودخلت إلى المقهى مرة أخرى ، بينما هو فأخذ يطرح الأسئلة على ذهنه بحيرة ودهشة .. كيف خارج مصر ، وهي ليس لها أثر في سجلات المطار نهائي ؟ .

***
وقفت أمام المعرض مترددة .. اتستمع لنصيحة خالتها أم تستدير وتعود مرة أخرى من حيث أتت ، رؤيتها له تثير الكثير من العبث في نفسها المتيمة به .
منذ سنين وهي تعاني من عذاب الهوى ، ولا تتمكن من الاعتراف أو حتى الأقتراب منه .. كلما تأخذ خطوة وتبرر أنها ستتقرب منه أكثر لعله يشعر بمشاعرها تجاهه خجلها يرجع بها للخلف ألف خطوة ، لكنها هذه المرة عزمت على أن تتخلي عن هذه الخجل أو ربما القليل منه ! .
رأته وهو يخرج من المعرض فارتبكت واستدارت فورًا متخلية عن قرارها ولكن صوته الهادئ وهو ينده عليها جمدها بأرضها :
_ زينة !
لعنت نفسها ألف مرة وهمست بندم :
_ يارتني ما سمعت كلامك ياخالتو
أخذت نفسًا عميقًا ثم استدارت له مرة أخرى. بجسدها وانتظرته حتى اقترب ووقف أمامها لتهتف متلعثمة كالعادة :
_ أااصل ..أصل أنا كـ.. كنت معدية بالصدفة من قدام المعرض وقولت ادخل اسلم عليك بس خوفت تكون مش فاضي ولا حاجة فكنت هرجع تاني
أجابها آدم ضاحكًا :
_ لا فاضي .. تعالي ادخلي هفرجك على التجهيزات اللي خلصت ونقعد نشرب فنجانين قهوة مع بعض
زينة بابتسامة متوترة :
_ مبحبش القهوة !
آدم :
_ خلاص هنشرب شاي يازينة .. ادخلي يابنتي مالك متصنمة كدا ليه !
سارت معه للداخل باستحياء ثم بدأ هو يعرض عليها ويريها كل مكان بالمعرض وكل لوحة سيتم عرضها وهي تتابع فقط بصمت وتكتفي بكلمة واحدة على كل شيء تراه من فرط خجلها ( جميلة ! ) .
لم يكن آدم بأحمق حتى لا يفهم مشاعرها تجاهه ولكنه كان يتصرف بطبيعية تمامًا وكأنه لا يدري بأي شيء .

***
في أمريكا ....
غربت الشمس وحل الظلام وكانت جلنار تجلس مع ابنتها على الأريكة أمام التلفاز يشاهدون أحد أفلام الأطفال المحببة لهنا .. لكنها لم تكن في حالتها المعتادة عندما تشاهد هذا الفيلم ، حيث كانت تجلس بجوار والدتها وتضع كفها أسفل وجنتها وعيناها معلقة على التلفاز دون أن تظهر أي تعبير وجه أو تفاعل ، فقط العبوس يستحوذ عليها .
كانت جلنار تلقى نظرة عليها كل آن وآن ، قلبها يتمزق ألمًا كلما تراها حزينة هكذا من فراق أبيها وشوقها له ، وبنفس اللحظة تخشي أن تتصل به فيعرف مكانهم .. الهروب ليس من شيمها أجل لكن حين يتعلق الأمر بصغيرتها هي على استعداد أن تفعل أي شيء من أجلها .
حين يتصرف الولدين بأنانية وعدم حكمة ورزانة يكون الضحية الوحيدة بينهم هو الطفل .
وهذا ما حدث بالضبط .. كل منهم فكر في طريقة تروق له حتى يكون مع صغيرته ولم يفكروا بماذا تريد هي ، وكانت النتائج هكذا ، تجلس الطفلة حزينة تعاني من اشتياقها لأبيها ولا تقوى على فعل شيء سوى الاستماع لحجج والدتها الواهية في غياب أبيها عنهم وابتعادهم عن منزلهم لكل هذه الفترة الطويلة ! .

تنهدت جلنار بعدم حيلة واقتربت من ابنتها تقول بخفوت :
_ هنا .. هنكلم بابا بس بشرط
تهللت أساريرها فورًا وقالت بفرحة غامرة :
_ إيه هو ؟
_ مش هنقوله احنا قاعدين فين .. لأن كدا المفاجأة اللي احنا عاملينها ليه هتبوظ
هنا باستغراب :
_ مفاجأة إيه ؟
أجابت جلنار بابتسامة عذبة :
_ مش بابا عيد ميلاده قرب احنا هنعمله مفاجأة حلوة وهنرجع البيت في يوم عيد ميلاده عشان يتفاجيء بينا ، لكن لو قولناله مكانا هياجي هو والمفاجأة هتبوظ

وثبت الصغيرة فرحًا على الأريكة بمجرد سماعها لجملة والدتها حول عودتهم القريبة إلى منزلهم الأصلي وقالت بإيجاب في ابتسامة ماكرة وهي تغمز لها :
_ مش هنقوله
أمسكت جلنار بهاتفها وطالعت صغيرتها بابتسامة متوترة ، بدأت دقات قلبها تتسارع وصوت بعقلها يلح عليها بطريقة مرهقة للأعصاب ( تراجعي لا تفعليها !! .. ستندمين صدقيني ) ، كانت على وشك التراجع بالفعل لكنها لم تفعلها على آخر لحظة فقط من أجل صغيرتها التي تتحرق شوقًا لمحادثة والدها بعد غياب شهرين ، وربما حتى هي التفكير بأنها ستحادثه بعد كل هذا الغياب أربكها .

كان عدنان بمكتبه الخاص في المنزل يمسك بصورة لابنته يحدق بها في أسى وشوق ، ثم رفعها لشفتيه وقبلها بحنو وقد لمعت عيناه بالدموع .. كانت دمعة تقف على أعتاب جفنيه وما منعها من النزول سماعه لصوت رنة مميزة خرجت من هاتفها ، كانت رنة أحد تطبيقات السوشيال ميديا ، ضيق عيناه بريبة وأمسك بالهاتف يحدق في اسم المتصل بدهشة حيث كان الملف الشخصي الخاص بزوجته ، رفرف قلبه بتلهف امتزج بالغضب المدمر وأجاب فورًا بصوت جهوري :
_ جلنار أااا ...
توقف عن الكلام ودخلت السكينة لصدره وكأن الحياة أعطته فرصة جديدة ليحيا وهو يستمع لصوت فتاته وهي تهتف بفرحة :
_ وحشتني أوي يابابا
لاحت الابتسامة الأبوية والحانية على شفتيه ليحيبها بصوت ضعيف بعد أن تلألأت العبرات في عينه :
_ وإنتي كمان ياهنايا وحشتيني أوووووي .. عاملة إيه ياقلب بابا .. إنتي كويسة ؟
أخذت جلنار الهاتف من على أذنها وضغطت على زر فتح محادثة الفديو ثم أعطتها الهاتف مرة أخرى وهمست في أذنها بصوت منخفض :
_ قوليله افتح الفديو يابابا
قالت هنا بحماس طفولي وصله في صوتها تردد ما قالته لها والدتها :
_ افتح الفديو يابابا
انزل الهاتف من على أذنه فور سماعه لجملتها وضغط هو الآخر على زر محادثة الفديو فانفتح الفديو .. رأى صغيرته وهي تحدق بشاشة الهاتف التي تراه فيها وهي تضحك بسعادة فاتسعت ابتسامته أكثر ، وكانت جلنار تجلس بجانب صغيرتها تتابع انفعالات وجهه ، لوهلة شعرت بالندم الحقيقي والإشفاق على وضعه ، ترك لحيته حتى نموت وكبرت وظهرت الهالات السوداء أسفل عيناه التي توضح عدم نومه المنتظم من فرط التفكير والحزن .

لكنه لا يزال تمامًا كما اعتادت أن تصفه كالعُقاب قوى في نظراته وصلب وشامخ حتى في أشد لحظات ضعفه ، ولطالما كانت ترى عيناه الواسعة تشبه عيني العُقاب في حدة نظرها وفي لونها البنى الغامق وحاجبيه المقطبين مما يعطيه مظهرًا رجوليًا مثيرًا .
هتف عدنان بتلهف :
_ إنتوا فين ياحبيبتي ؟
_ مش هينفع عشان المفاجأة
_ مفاجأة إيه ؟!
نظرت هنا لأمها التي هزت سبابتها ورأسها بالنفي تحذرها من أن تخبره بشيء ، لاحظ عدنان وجود جلنار بجانب ابنته فقال بصوت غليظ ومستاء :
_ اديني ماما يا هنا
حولت شاشة ناحية أمها فانتفضت جلنار فورًا من مكانها تبتعد عن الكاميرا ثم جذبت الهاتف من يد ابنتها واخفت الكاميرا بكفها فسمعت صوته الخشن وهو يحاول تمالك أعصابه حتى لا تسمعه ابنته ويقول بلهجة صارمة :
_ ابعدي ايدك من على الكاميرا ياجلنار
هبت جلنار واقفة واتجهت إلى الغرفة وأشارت لأبنتها أن تنتظرها بمكانها وستعود لها ، أغلقت الباب وازاحت يدها من على الكاميرا ولكنها أبعدت الهاتف من أمام وجهها وقالت بصوتها الرقيق المعتاد :
_ انا اتصلت بس عشان هنا .. كانت زعلانة وعايزة تشوفك وتكلمك لأنك وحشتها
_ اخدتي بنتي ورحتي بيها فين ؟
كان سؤال صريح ومحتدم منه لتجيبه هي بهدوء مستفز :
_ والمفروض إني اقولك عشان تاجي وتاخدها مني زي ما اتفقت مع بابا
سمعت صيحته العالية التي خرجت من سماعة الهاتف :
_ مش إنتي رغبتك كانت الطلاق وصمتتي عليه .. كنتي متوقعة إني هسيبلك بنتي
انفعلت هي الأخرى لتصرخ به في عصبية :
_ دي مش بنتك وحدك .. دي بنتي أنا كمان ، وأنا أمها ومن حقي تعيش بنتي معايا خصوصًا وهي في السن ده
استشاط غيظًا وصرخ بها مغتاظًا :
_ جيبي الزفت التلفون ده على وشك مش بكلم نفسي أنا
عدلت الهاتف ووجهت الكاميرا على وجهها لتصيح به في وجه أحمر من فرط الغيظ :
_ متزعقليش فاهم ولا لا
تمعن للحظات في صورة وجهها الظاهرة أمامه في الهاتف وشعرها الناعم الذي ينسدل على كتفيها بانسيابية ووجهها الأبيض البريء والجميل ، وبعد أن امتصت رؤيته لها غضبه عاد يظهر على ملامحه من جديد وهو يهتف بنظرة نارية بعد أن وقعت عيناه على شفتيها المزينة بأحمر شفاه من اللون البنفسجي :
_ حاطة الروج ده ليه !
قالت بقرف وهي تقصد إشعال نيرانه أكثر :
_ عشان بخونك
خرجت صيحة عنيفة منه كانت كافية لتوضح أنها نجحت بكلمتين فقط أن تثير جنونه :
_ جـــلـــنـــار
صاحت هي الأخرى باندفاع :
_ في إيه !! .. مش لما تسأل أنت الأول أسئلة منطقية هبقى ارد عليك كويس
مسح على وجهه وهو يتأفف بقوة وبنفاذ صبر ليسأل للمرة الثالثة على التوالي :
_ آخر مرة هسألك .. إنتي فين ؟
جلنار بعناد وبنظرة متشفية :
_ مش هقولك ياعدنان وخليك كدا عشان تجرب الاحساس اللي كنت هتخليني احسه لما تاخد بنتي مني ، ولما تعرف أن الله حق وإنك أناني ومش بتفكر غير في نفسك سعتها هبقى اقولك احنا فين
ولما تنتظر أن تستمع لرده الذي كان سيستمر في صياحه عليها حيث ضغطت على زر إنهاء المحادثة والقت بالهاتف على الفراش ثم عقدت ذراعيها أمام صدرها وقالت بابتسامة متشفية ومتغطرسة :
_ احسن أنت تستاهل أصلًا تقعد محروم من بنتك كدا لفترة عشان تبطل نرجسيتك دي ، خليك على نار لغاية ما تتربي شوية .. مبقاش أنا جلنار الرازي أما ربيتك ياعدنان

بينما هو فألقي بالهاتف بعنف على سطح المكتب وهتف بوعيد حقيقي وهو يجز على أسنانه بغيظ :
_ ماشي ياجلنار وحياة أمي لأوريكي النجوم في عز الضهر بس الاقيكي

***
في مساء ذلك اليوم....
تتابع الطريق بصمت من نافذة السيارة .. وكل آن وآن تلقى نظرة خاطفة على الجالس بجوارها في مقعد القيادة ، لا تصدق أنها قضت اليوم كاملًا معه تساعده في كل شيء ويتبادلون أطراف الحديث بتلقائية لم تكن تصدق أنها ستتحلى بها أمامه .. رغم أنها كانت ساعات مرهقة للأعصاب إلا أنها سعدت جدًا بها وبقربها الجديد منه .. وكعادته كان لطيفًا ومرحًا يشعر بارتباكها منه فيحاول امتصاصه بشكل غير مباشر ، حتى تمكن بالأخير من فك قيود حيائها ! .
سمعت صوته الرخيم ليجذبها من شرودها :
_ زينة تلفونك بيرن !!
انتبهت لاهتزاز هاتفها في يدها وصوته الصاخب فأجابت فورًا على والدتها :
_ أيوة ياماما
_ إنتي فين يازينة .. ليه اتأخرتي كدا ؟!
نظرت لآدم بابتسامة صافية ثم أجابت على أمها بصوت خافت :
_ كنت مع آدم يا ماما في المعرض ، وجاية في الطريق أهو معاه
_ طيب ياحبيبتي وسلميلي عليه أوي الندل ده
وصل صوتها في الهاتف إلى أذنه فقهقه عاليًا وقال بصوت عالي حتى يصل لها :
_ ربنا يخليكي ياخالتو ياحبيبتي .. جهزي عشا حلو بقى من إيدك الحلوة عشان الندل هيتعشى معاكم النهردا
انزلت زينة الهاتف وفتحت مكبر الصوت ليسمع صوت خالته وهي تقول بفرحة :
_ ده بجد ياولا .. تتحسد يا آدم ، من عنيا هجهزلك احلى عشا وخلي أسمهان تولع فيا وفيك بقى
_ لا متقلقيش عدنان وفريدة هيتعشوا معاها النهردا مش هتتعشى وحدها
_ طيب الحمدلله .. يلا توصلوا بالسلامة
أعادت زينة الهاتف إلى أذنها وودعت والدتها ثم اغلقته ، وبذهنها صراعات عنيفة ، ستقضي المزيد من الوقت معه وهذا يعني المزيد من الاضطراب .. جذبها بصوته للمرة الثانية ولكن بنبرة متعجبة :
_ إنتي لحقتي تسرحي تاني يابنتي !
ابتسمت وهتفت بتلعثم :
_ مـ.. معلش أصل بفكر في كام حاجة فعشان كدا سرحت .. صحيح قولي مفيش أخبار عن جلنار وهنا يا آدم ؟
تنفس الصعداء وهتف بعبوس :
_ للأسف مفيش .. محدش عارف يوصلهم وعدنان من كتر الهم والزعل بقى شخص تاني تمامًا
زمت شفتيها وقالت بإشفاق :
_ طبيعي هو متعلق بهنا أوي ، وجلنار غلطانة جدًا في اللي عملته
آدم بخنق :
_ أنا رغم ضيقي منها وغضبي على اللي عملته ، إلا إني برضوا مديها العذر وشايف إن عدنان يستاهل يجرب بعده عن بنته بيتعب إزاي بعد ما كان عايز ياخد بنتها منها
أصدرت زينة زفيرًا حارًا وقالت بنبرة رقيقة وكلها ثقة :
_ هترجع أنا واثقة هي شكلها بس محتاجة تاخد شوية وقت عشان تعرف هتتصرف إزاي بعدين مع أخوك
خرجت تنهيدة قوية من آدم وهو يجيب بتمنى :
_ يارب يازينة .. البنت المفعوصة الصغيرة وحشتني أوي والله

طالعته بابتسامة واسعة في حب غير منتهبة لنظرتها وسرعان ما اشاحت بوجهها للجهة الأخرى بتوتر بعدما وجدته لاحظ نظرتها .

***
قبل أربع سنوات ....

_ في عريس متقدملك
لاحت بشائر الابتسامة العريضة على شفتيها لترد على أبيها بحياء بسيط :
_ عريس مين ده يابابا ؟
خرج صوت نشأت خشن وصلب :
_ عدنان الشافعي
سكنت للحظات تستعيد ذلك الاسم في ذاكرتها .. أين سمعته ومتى رأته ؟! ، فقذفت صورته في ذهنها فورًا ولترتفع الصدمة على محياها وهي تقول :
_ مش ده اللي كنت شريك معاه في صفقة من فترة .. واعتقد أنه متجوز صح ؟!
هز رأسه بإيجاب وقال بحزم :
_ آه بس مراته مش بتخلف
تمتمت جلنار بنظرات كلها ريبة وحيرة ، من طريقة أبيها وهدوئه الغريب :
_ وإنت بتعرض عليا حاجة زي إزاي يا بابا أنا لا يمكن اوافق واتجوز واحد متجوز

يبدو أنها فهمت صيغة الحديث بشكل خاطيء ، فهو لم يكن يعطيها حرية الموافقة أو الرفض بل كان يخبرها بما سيحدث خلال الأيام القادمة .. فرصة كهذه مع إمبراطورية الشافعي لن يضيعها مهما حدث ، ولا يهتم بنقطة زواجه .. كل ما يهمه أن ذلك الزواج سيعود عليه بالنفع ولن يسمح لابنته بأن تخربه .
نشأت بصوت جاف لا يحمل الرفق :
_ أنا مش بخيرك يا جلنار .. أنا رديت عليه وخلاص كتب الكتاب هيكون بعد يومين
_ what !! .. يعني إيه رديت عليه يابابا إزاي توافق هو انا مليش رأى .. أنا لا يمكن اتجوز البني آدم ده
قبض على ذراعها وصاح بها في صوت جهوري نفضها في أرضها وهو يقول بلهجة لا تقبل النقاش :
_ هتتجوزيه ياجلنار غصب عنك .. أنا معنديش استعداد اضيع فرصة زي دي من إيدي عشان دلع البنات بتاعك ده ، الجوازة دي هتخلي اسم نشأت الرازي في مكان تاني خالص ، وإنتي عايزة تضيعي الفرصة اللي جات لابوكي بسهولة عشان متجوز وكلام فارغ

انهمرت دموععها غزيرة على وجنتيها من قسوة أبيها .. لطالما كانت تعاني من إهماله لها ومعاملته الجافة في كل شيء وبالأخص بعد وفاة والدتها ، حيث أصبحت بمفردها في مواجهة قسوة أب لا يعرف الشفقة ولا كيف تكون مشاعر الأبوة حتى ، لكن أبدًا لم تكن تتوقع أن يصل به الحد ليجبرها على الزواج من رجل لا تعرفه ولم تراه قط .. فقط كانت تستمع للأحاديث التي تروى عنه ، وفوق كل هذا متزوج ! .
ترك ذراعها وهتف يلقي بجملته الأخيرة غير مباليًا بانهيارها ودموعها ، ليعطيها أوامره التي لا تقبل النقاش وهو يصدر مرسوم قتلها :
_ جهزي نفسك وخدي صحبتك وانزلي اشتري فستان لكتب الكتاب يليق ببنت الرازي .

***
عودة للوقت الحاضر ...
فتحت أسمهان باب المكتب ودخلت ، لتلقي نظرة على ابنها الجالس على الأريكة وبيده سيجارة يضعها في فمه ثم يخرجها ويزفر معها الدخان بشراسة ، كلما تخطر بذهنه احتمالية أن تكون جملتها ( عشان بخونك ) حقيقة تشتعل النيران بداخله ويشعر وأنه على وشك أن يطيح بكل شيء يراه أمامه ، تلك الحمقاء تختبر صبره وهي تعلم أن خروجه عن أطار الهدوء والثبات المزيف الذي يدعيه يعني وقوع كوارث .
جلست أسمهان بجواره وملست على كتفه هامسة بتوتر :
_ مالك ياعدنان ؟
أتاها صوته المتحشرج وهو يجيب :
_ بنت الرازي اتصلت أخيرًا
اتسعت عيني أسمهان بصدمة وسألت بحماس :
_ وقالتلك مكانها ؟!
اخرج السيجارة من فمه وقال بنبرة ملتهبة :
_ مقالتش بس هلاقيها هتروح مني فين ، وسعتها هعرفها بطريقتي ازاي تاخد بنتي وتهرب بيها تاني
_ طيب وهنا اطمنت عليها هي كويسة
هز رأسه بالإيجاب فتنهدت الصعداء بارتياح ، ولاحت ابتسامة شيطانية على شفتيها لتهمس في براءة مزيفة :
_ طيب إنت متعرفش صديق ليها ، ساعدها في الهرب تقدر من خلاله توصلها
رقمها بنظرة مميتة ليهتف بعصبية بعدما اخترقت اذناه كلمة " صديق " :
_ أنا على أخرى وأنتي بتقوليلي صديق وزفت يا أمي ، إنتي عايزة تجننيني !!
تصنعت الحزن وقالت باعتذار وملامح وجه عابسة :
_ أنا مقصدش حاجة ياحبيبي .. أنا بس بفكر وبقول بما أن ابوها ميعرفش حاجة عنها ولا صحابها ولا أي حد ، فازاي هتقدر تهرب لوحدها من غير ما حد يكون معاها عشان يساعدها
نجحت بكلماتها أن تثير الشك في نفسه أكثر حيث نظر لها بتفكير وبعينان مشتعلة بنيران الغيرة والشك ، اقسم في نفسه أنه لو كان هذا الاحتمال صحيح وأنها بصحبة رجل آخر الآن ، سيذيقها الوان العذاب المختلفة .
استقام واقفًا واتجه نحو النافذة يقف أمامها ومازالت بيده السيجارة ووجه تحول للأحمر القاتم من شدة السخط .. لمح زوجته ( فريدة ) تقف في الحديقة بالخارج وتتحدث في الهاتف وتضحك بملأ شدقيها ، نظر في ساعة يده ووجدها الثانية عشر بعد منتصف الليل ! ... مع من تتحدث في ذلك الوقت المتأخر !!

أطفأ السيجارة والقاها في منفضة السجائر ثم اتجه إلى خارج المكتب تمامًا وسط نظرات أمه المستغربة التي نهضت فورًا واتجهت إلى النافذة لتنظر إلى ما كان ينظر إليه للتو وجعله يندفع للخارج بسرعة هكذا ! .

رواية كيان الفهد كاملة جميع الفصول ( الفصل الثالث 3 ) 



انتفضت واقفة بفزع على أثر صوته من خلفها .. انزلت الهاتف فورًا من على أذنها والتفتت له بجسدها تهمس بنظرات مرتبكة جاهدت في إظهارها طبيعية :
_ نعم ياحبيبي
عدنان بصوت رجولي حازم :
_ بتكلمي مين ؟
نظرت إلى الهاتف وفورًا قذفت كذبة في عقلها فعادت بالهاتف بأذنها مرة أخرى وهي تقول بابتسامة صفراء :
_ طيب سلام دلوقتي يا لميا هبقى اكلمك بعدين ياحبيبتي
وسرعان ما أنهت الاتصال بعد جملتها لتتطلع في وجهه الذي يعطي علامات استفهام فقالت وهي تقترب منه وتلف ذراعيها حول عنقه هاتفة بغنج :
_ دي لميا كان عندها شوية مشاكل واتصلت بيا تحكيلي وتفضفص معايا شوية ، هو بقى ممنوع اكلم صحابي ولا إيه ياعدنان بيه !!
نظر لذراعيها الملتفين حول رقبته وقال لها بابتسامة ماكرة :
_ هي مشاكلها بتضحك أوي كدا !
انطلقت منها ضحكة أنثوية متأججة لتجيبه بمشاكسة :
_ لا انا اللي كنت بفرفشها شوية عشان أخرجها من المود
انكمشت معالم وجهه بعد ضحكتها العالية ودار بنظره في الأرجاء من حولهم ثم قال بحزم :
_ ميت مرة أقولك متضحكيش بالشكل ده واحنا مش في اوضتنا !
كتمت فمها بكفها وظهرت علامات الدهشة على وجهها ثم همسات بدلال وهي تقترب لتطبع قبلة رقيقة على وجنته :
_ أسفة ياحبيبي مخدتش بالي
لمعت عيناه بوميض خبيث .. ومال برأسه عليها يهتف في نظرات راغبة :
_ بتاكلي بعقلي حلاوة بالبوسة الناشفة دي يعني
رجعت برأسها للخلف وهي تبتسم بجراءة لكنها لمحت أسمهان التي تقف في مكتبه أمام النافذة وتتابعهم ، فعادت بنظرها له وهمست بضحكة خفيفة :
_ أسمهان هانم بتراقبنا في صمت شكلها
التفت برأسه للخلف ناحية مكتبه ليرسل لأمه ابتسامة صفراء لترد عليه بضحكة بسيطة ، ثم يعود بنظره لزوجته من جديد ويقول وهو يلف ذراعه حول كتفيها :
_ امممم انا بقول نطلع أوضتنا ونكمل كلامنا على رواق فوق براحتنا أفضل
ثم انحنى وخطف قبلة سريعة من جانب ثغرها فضحكت هي وسارت معه للداخل ثم لأعلى نحو غرفتهم بالطابق العلوي من المنزل .

***
مائدة صغيرة متوسطة في منتصف الحديقة ، وتقف هي أمامها تنظمها بشكل راقي وجميل وابنتها تدخل للداخل ركضًا ثم تخرج وهي تحمل الصحون واللمسات الصغيرة التي ستزين بها والدتها المائدة .
فقد أعدوا مفاجأة صغيرة ولطيفة لحاتم بمناسبة يوم ميلاده ، وكانت " هنا " أكثر من مرحبة بالفكرة وتحمست لها كثيرًا وظلت تجهز كل شيء مع والدتها من بداية اليوم حتى أنها قامت بشراء هدية لطيفة مثلها بمساعدة جلنار بالطبع .
لم تنسى جلنار معروفه حين طلبت مساعدته ولم يتأخر عنها ، ساعدها في السفر والقدوم لأمريكا ومن ثم اسكنها بمنزله القديم وعرض عليها العمل معه بشركته الصغيرة ، كان خير صديق في لحظات احتياجها للمساعدة ، وخلال الشهرين الماضيين تعمقت صداقتهم أكثر وأصبحت تراه ربما أكثر من مجرد صديق بل أخًا لها أيضًا ، ولا يزال حتى الآن يثبت لها أنها لم تخطئ حين لجأت له للمساعدة .
ركضت " هنا " نحو والدتها وهي تهتف بحماس طفولي جميل :
_ ماما عمو عاتم جه
انحنت جلنار عليها وهتفت بحماس مماثل لها :
_ طيب انا هدخل جوا وزي ما اتفقنا هاا
هزت رأسها بالإيجاب وغمزت لأمها بخبث فضحكت جلنار وطبعت قبلة سريعة على شعرها ثم ذهبت لداخل المنزل مسرعة قبل أن يدخل ويراها .
لحظات قصيرة وظهر حاتم من بوابة المنزل وهو يسير للداخل فركضت " هنا " نحو وهي تصيح بسعادة :
_ عااااتم
توقف على أثر صوتها الصغير والتفت بجسده ناحيتها وفورًا انفجر بالضحك وهو يراها تركض نحوه وتهتف باسمه بطريقتها العجيبة ، انحنى وحملها على ذراعيه بمجرد وصولها إليه ولثم وجنتها هاتفًا بمداعبة :
_ يعني بتنهديني حاف من غير اي حاجة وكمان بتقولي اسمي غلط .. ارحميني يا هنا
أظهرت عن سخطها اللطيف وهي تقول بقرف :
_ إنت اسمك وحش .. أنا اسمي جميييل
قهقه عاليًا وهتف بتقبل اهانتها الصريحة لاسمه :
_ أنا اسمي وحش !! .. طيب ياستي شكرًا على ذوقك

لفت نظره الطاولة الصغيرة والمزينة وفوقها صحون مسطحة مزخرفة على الحافة بأشكال جميلة ومنظمة بطريقة فخمة ، وكاد أن يتكلم يكمل حديثه المرح مع الصغيرة ويسألها عن سبب تزين الحديقة والطاولة ، لكن خروج جلنار من المنزل وهي تحمل فوق يديها كعكة عيد الميلاد ذهب بكل كلمة كان سيتفوه بها ، جمالها سرق عقله بنظرة واحدة .. ترتدي فستان ضيق من اللون الأسود يصل إلى أسفل ركبتيها وبأكمام طويلة ، وحذاء من اللون الأبيض بكعب عالي يعطيها لمسة أنوثية صارخة ، وشعرها الأسود الناعم ينسدل على كتفيها بحرية دون أي مجهود منها لتجمله بالتسريحات العصرية ، وتضع القليل من مساحيق الجمال التي لا تحتاجها أساسًا ! .. كانت تمامًا ككتلة من الإثارة تسير على الأرض باتجاهه .

ازدرد ريقه بتوتر يحاول التحكم في ذاته ، ثم انزل " هنا " من على ذراعيه لتبدأ في الهتاف كما تقول والدتها لكن بطريقتها الطفولية والخاطئة كالعادة لنطق الكلمات بالأخص أنها إنجليزية ! :
_ Happy birthday to you
وقفت أمامه وقالت برقة جذابة :
_ كل سنة وإنت طيب ياحاتم
أجابها بنظرات تحمل معانى جمة :
_ وإنتي طيبة .. إيه المفاجأة الحلوة دي بس
_ دي أقل حاجة .. كفاية وقفتك جمبي أنا وبنتي
أمسكت " هنا " ببنطاله وهي تشده برفق حتى ينتبه لها وتقول بتشويق :
_ عاتم .. عاتم تعالى شوف الهدية
تغاضي عن اسمه ونظر لها مبتسمًا ثم نقل نظره لجلنار بنظرات مستفهمه ، كان كالذي يقف مسلوب الوعي ، بجد صعوبة في إدراك كل كلمة توجه إليه .. والفضل يرجع لتلك الأنثى الفاتنة التي تقف أمامه ! .
هتفت جلنار بصوتها الانوثي :
_ جايبالك هدية ياسيدي ، وفرحانة بيها أوي من الصبح وقاعدة على نار مستنياك عشان تدهالك
قهقه ببساطة ثم حملها على ذراعيه مرة ويقول بعذوبة وحنو بعد أن طبع قبلات صغيرة على وجنتيها :
_ ده هتبقى أحلى هدية جاتلي في حياتي
ركضت " هنا " إلى داخل المنزل ثم بعد دقائق عادت ركضًا وهي تحمل في يد هديتها وبالأخرى هدية والدتها ، مدتهم لحاتم وهي تقول بإشراقة وجه رائعة :
_ دي تاعتي ( بتاعتي ) .. ودي تاعت ماما
التقطهم من بين يديها ثم بدأ بفتح خاصتها أولًا ، وكانت ربطة عنق من اللون الفصي المنقط بالاسود .. انبهر بها وأعجبته بشدة ...

اتجه للعلبة الثانية الخاصة بجلنار وقام بفتحها ، فوجد بداخلها إحدى الكتب الخاصة بالادب الانجليزي وللكاتب المفضل له ، لاحت ابتسامة خفيفة على شفتيه وهو يمسك بالكتاب بين يديه ويحدق في اسمه ، حتى سمعها تقول باستحياء يليق بها :
_ مكنتش عارفة اجبلك ايه الصراحة وكنت محتارة جدًا ، فلما افتكرت إنك من محبي القراءة وخصوصًا في الأدب الإنجليزي جبت ده .. يارب يعجبك
رقمها بأعين لامعة بوميض غريب لم تراه في عيناه من قبل ، ثم مد كفه ليضعه فوق كفها متمتمًا بعاطفة :
_ كفاية إن إنتي اللي جيباه ياجلنار .. اكيد عجبني هو والمفاجأة اللي مكنتش متوقعها دي الصراحة
ارتبكت من لمسته ليدها فبادلته ابتسامة مضطربة وسحبت يدها ببطء من أسفل يده ، ثم بدأوا جلستهم المرحة كالعادة وهم يتبادلون الأحاديث بينهم والصغيرة لا تتوقف بالطبع عن الكلام واللهو والمزاح معهم .
لم ينتبهوا للأعين التي تراقبهم من بعيد وتلتقط الصور لهم في كل وضعية تلقائية ليست مناسبة تحدث بينهم .

***
داخل غرفة عدنان وفريدة ....
ساكنة تمامًا بين ذراعيه ، وهو يعبث بأنامله في خصلات شعرها برقة وعيناه معلقة على السقف يفكر بأكثر من شيء أولهم ابنته ، ولم يكن وضعها هي أفضل منه حيث تعصف بذهنها ذكرى اليوم التي أخبرته بأنها لن تتمكن من إنجاب الأطفال له ، ورغم اختلاف أشكال العلاج التي تلقتها حتى تتمكن من الإنجاب لكن كانت النتائج سلبية بكل مرة .. بالتأكيد أنها ودت لو أنجبت طفل حتى يحمل اسم إمبراطورية الشافعي الكبيرة ، وتصبح هي الآمرة والناهية في كل شيء حتى من تتمكن كسر أنف تلك المتعجرفة " أسمهان " ، فلو أنجبت ولي العهد المنتظر لكانت الآن ستكون السلطانة الكبيرة لقصر الشافعي .. ولكن ظهرت تلك المعضلة دون أي حسبان ، وسرقت منها عرشها .. لتتربع هي فوقه بمجرد انجابها لطفلة تافهة ، وهي الآن تفكر بالحال الذي سيؤول إليه وضعها إذا أنجبت له ولي العهد ! .. لكنها لن تسمح بهذا حتى لو اضطرت للتخلص نهائيًا منها .

... قبل خمس سنوات ...

شعرت بلمسته الدافئة على شعرها ثم جلس بجوارها وهي توليه ظهرها ويهمس في حب :
_ مالك ياحبيبتي ؟
بكت ولم يكن بكاءًا مزيفًا ، بل ربما لأول مرة تبكي من أعماقها .. لكن السؤال هنا ما السبب الخفي وراء بكائها ؟! .
ضيق عيناه بدهشة عند سماعه بكائها وأدارها ناحيته فورًا ، ثم قال باهتمام :
_ بتعيطي ليه يافريدة !
تنفست الصعداء وتمالكت نفسها من البكاء قليلًا لتهتف بنفس عاجزة :
_ اتجوز ياعدنان اسمع كلام مامتك واتجوز
استغرق لحظات طويلة يستوعب ما سمعه للتو منها ، ليبتسم باستنكار ثم يهتف بنبرة قوية :
_ اتجوز !!!!
_ أيوة وأنا بنفسي بقولك اتجوز .. ده حقك طالما أنا مش هقدر اجبلك الطفل اللي نفسك فيه و....
لم يدعها تستكمل ثرثرتها ، فكلما تطرح عليه أمه تلك الفكرة يستشيط غضبًا .. والآن تلك الحمقاء تطلبها بذاتها ، رغم معرفتها أن الأمر بات طبيعيًا بالنسبة له ولم يعد يهتم به كثيرًا .
صاح بها بعصبية :
_ أنا عندي استعداد إننا نصبر لعشر سنين قدام كمان لغاية ما ربنا يكرمنا بالطفل اللي بنتمناه ، لكن إنتي معنكديش أمل يافريدة وبتدوري على الحل الأسهل ، واللي أنا لا يمكن اوافق بيه
أطرقت رأسها أرضًا وأغمضت عيناها بقوة تستجمع شجاعتها وقوتها الهشة لتستكمل ذلك الحديث ، فلولا " أسمهان " التي أجبرتها وهددتها لما كانت الآن تجلس أمامه وتحاول أقناعه بالزواج من أخرى ! .
تمتمت بصوت مبحوح وهي تمسك بيديه :
_ احنا لينا سنين بنحاول ومفيش فايدة ، ومتحاولش تقولي إن موضوع الأطفال مش فارق معاك ، أنا عارفة وحاسة إزاي أنت نفسك في طفل يشيل اسمك .. وأنا مش هقبل إنك تتحرم من الاحساس ده بسببي ، أرجوك وافق ياحبيبي
اشتدت حدة ملامحه الرجولية ، وقرر عدم المجادلة معها بأمر مفروغ منه بالنسبة له .. حيث هب واقفًا وانحنى على شعرها يطبع قبلة كانت قوية بقدر رقتها وحملها لمشاعر العشق الذي يكنه لها في قلبه .. وخرج صوته حازم لا يقبل النقاش أكثر من ذلك :
_ نامي ياحبيبتي وارتاحي .. والموضوع ده متفتحهوش معايا تاني وطلعيه من دماغك
ثم انتصب في وقفته واستدار وغادر الغرفة ليتركها تتخبط قهرًا وغيظًا ، تتوعد لتلك الشيطانة " أسمهان " المتسببة بكل شيء وبالوضع الذي هي فيه الآن !! .

...عودة للوقت الحاضر ...
استفاقت من ذكرياتها وقد احتدم وجهها بنيران الحقد والغل .. الآن هي لم تعد تلك الفتاة الصغيرة الحمقاء وقليلة الخبرة ، بل أصبحت أكثر شراسة وشرًا .. لم تعد تهتم بأي شخص سوى هدفها ، وستبدأ أول شيء بالزهرة الضعيفة " جلنار " ومن ثم ستتفرغ للأفعى الكبرى " أسمهان " .

***
في صباح اليوم التالي بإحدى المناطق العشوائية بالقاهرة ....

يسير طفل في العاشرة من عمره يحمل أكياس بها أصناف مختلفة من الخضار ومستلزمات المنزل ، وكل خطوتين ينزل الاكياس على الأرض حتى يريح عضلات ذراعيه من ثقلها ، وإذا به فجأة يشعر بكف ينزل على عنقه من الخلف فينتفض واقفًا ثم يلتفت لها ويقول بغضب :
_ متضربيش مش كفاية شايلك الأكياس بتاعتك
جذبته من ملابسه وانحنت عليه تهتف بنظرة خبيثة وابتسامة عريضة :
_ هتشيل وأنت ساكت ولا افضحك واروح اقول لعمي مدحت أن أنت اللي سرقت كيس السكر
زفر بغضب وقال مغلوبًا على أمره وهو ينحنى ليحمل الأكياس مرة أخرى :
_ هشيل بس متضربيش
ضحكت وقالت بمرح :
_ أنا برضوا بقول هو مفيش غير الواد ميدو في الحارة دي كلها حبيبي ، يعني قولي كدا أنا من غيرك كنت هلاقي مين يشلي الطلبات
صاح بعصبية وهو يشير بعيناه على قرنائه اللذين يلهون ويلعبون من حولهم :
_ ماهو العيال كتير ولا هو مفيش غيري
ضربت على رأسه بخفة وهي تهتف مستكملة مزاحها :
_ يالا ياعبيط .. دول أطفال أبرياء لكن أنت مش طفل ، ومتكترش في الكلام معايا احسن الف وارجع لعمي مدحت
_ خــلاص ياعم
وصلت أمام باب بنايتها الصغيرة المكونة من طابقين .. تسكن هي وجدتها العاجزة بالطابق الثاني وجارتها الست " سميحة " بالطابق الأول .
سمعت صوت جارتها الفضولية التي تطل من نافذة منزلها :
_ يامهرة
التفتت لها بجسدها كاملًا ثم أشارت للفتى الصغير أن يترك الأكياس ويذهب ، اقتربت من نافذتها ووقفت أمامها تقول بلهجة كوميدية :
_ نعم ياخالة سميحة
نظرت سميحة لشعر مهرة الناعم والذي يعطي لونًا بنيًا بعض الشيء وترفعه بذيل حصان ، ثم قالت :
_ بتحطي إيه لشعرك .. ده أنا شعري جربت فيه كل حاجة ومفيش فايدة
انحنت برأسها عليها وهمست في جدية ظنتها حقيقية :
_ اقولك على الحل
هتفت بنظرات متشوقة ومتحمسة :
_ قولي
_احلقيه وسبيه ينبت من أول جديد
ألقت بجملتها ثم هرولت مبتعدة عنها لتحمل أكياسها وتتجه بهم نحو شقتها فتسمع صوت جارتها وهي تهتف بغيظ ممكسة بخصلات شعرها المعقدة تفك العقد :
_ احلقه قال ، ده أنا شعري حرير !

***
كان عدنان جالسًا على مقعده أمام المكتب في شركته وينهي بعض الأعمال المهمة ويرتدي نظارته الطبية الخاصة بالقراءة ، ولم يرفع نظره عن الأوراق إلا عندما وجد الباب ينفتح ليظهر من خلفه شاب في اوآخر عقده الثالث ، طويل البنيه ولديه جسد رياضي مثير ، مع عينان عسلية وبشرة قمحية .
عاد بنظره مرة أخرى إلى اوارقه وقال بجدية بعدما رأى ابتسامته الواسعة :
_ المرة دي اعتبر نفسك مرفود لو قولتلي مخلصتش الملف لسا يابشمهندس
ارتفعت صوت ضحكته العالية وتحرك باتجاه المقعد المقابل لمكتبه ليجلس عليه ويلقى بالملف أمامه على سطح المكتب وهو يقول بغرور :
_ عيب عليك يا بوص هو أنا برضوا بتاع الحركات دي
ضحك عدنان بخفة ثم التقط الملف وقال بنظرة ماكرة من أسفل نظارته :
_ متنفخش نفسك أوي كدا لما اشوف الأول هببت إيه بس
قطع حديثهم دخول آدم المكتب ولكن بمجرد رؤيته لصديق أخيه المقرب في العمل وهو يجالسه ، تقوست معالم وجهه ورسم الابتسامة المتكلفة على وجهه بصعوبة وهو يهتف بحزم :
_ عايز اتكلم معاك شوية ياعدنان .. على انفراد !
كان عدنان على وشك أن يجيب على أخيه برد يستحقه بعد طريقته الفظة في الحديث لكن نادر هز رأسه لعدنان بهدوء يرسل لها إشارة لا بأس ، ثم استقام واقفًا وقال :
_ نبقى نكمل كلامنا بعدين
ثم تحرك باتجاه الباب ومر من جانب آدم ثم رتب على كتفه وقال بابتسامة كانت تماثل الابتسامة التي أرسلها له منذ قليل :
_ مبروك على المعرض يا فنان
لم يجيب آدم بل اكتفى بنظرته السمجة له وانتظره حتى انصرف لينظر لأخيه الذي هتف به بغضب :
_ إيه الطريقة اللي بتتكلم بيها دي يا أستاذ
سار باتجاه الأريكة المتوسطة في منتصف المكتب ليجلس عليها ويقول بقرف :
_ ده بني آدم مستفز مش عارف أنا أنت مستحمله إزاي
_ اخلص يا آدم عايز إيه ؟
كان ردًا عنيفًا من أخيه يوضح له استيائه من مجرى الحديث وإشارة له بأن لا يتخطى حدوده أكثر من ذلك ، فقال ببرود ونبرة تحمل المشاكسة :
_ بني آدم واخلص يا آدم .. لا تصدق حلوة وماشية على نفس الوزن !
_أه أنت جاي تستظرف بقى !!
أصدر ضحكة عالية ليقول بمرح :
_ ده جزاتي إني بحاول افرفشك يعني
ابتسم عدنان ونزع نظارته عنه ثم هتف بلؤم يرمي بتلميحاته الوقحة :
_ لا أنت كدا بتحاول تعمل حاجة تاني
استغرق الأمر ثلاث ثواني بظبط حتى فهم مقصده فانفجر ضاحكًا وهتف :
_ ولد عيب في أخ يقول لأخوه الصغير حجات مش لطيفة زي كدا .. عايز تبوظ أخلاقي
ضحك عدنان وقال بمشاكسة :
_ أنا برضوا اللي هبوظها ولا هي جاهزة .. يإما تقعد محترم ومتستفزنيش بأفشاتك واستظرافك ده يإما تمشي
_ ماشي هقعد محترم يا عم المحترم هااا !
انهي جملته بغمزة خبيثة منه فيجد صوت أخيه الصارم وهو يهتف محاولًا إخفاء ابتسامته :
_ اظبط يا آدم بدل ما اظبطك
تعالت صوت ضحكته الرجولية ثم استكملوا حديثهم في أمور مختلفة ، وتجنب آدم تمامًا الحديث عن جلنار وهنا حتى لا يعيد العبوس على وجه أخيه مرة أخرى .. حيث أنه جاء إليه لكي يخرجه من حالته الغريبة هذه ! .

***
خرج نشأت من الحمام بعد أن أخذ حمامًا صباحي دافيء واتجه نحو المنضدة الصغيرة ليتلقط الهاتف الذي لا يتوقف عن الرنين منذ دقائق ويجيب على المتصل بانفعال :
_ في إيه يا متخلف أنت .. رن رن رن طالما مردتش يبقى مش فاضي
أجابه الآخر باعتذار وخوف :
_ حقك عليا ياباشا مقصدش .. أنا اتصلت بس عشان اقولك على الأخبار اللي تخص بنت حضرتك
جذب كامل انتباه عندما هتف باسم ابنته وأجاب عليه بغلظة صوته الرجولي متلهفًا :
_ ومستني ايه اخلص اتكلم !
هتف الطرف الآخر يطلعه بكافة المعلومات التي توصل إليها :
_ شكك طلع في محله ياباشا هي فعلًا قاعدة مع اللي اسمه حاتم الرفاعي ده في أمريكا
لاحت الابتسامة السعيدة على شفتيه وقال بلهجة آمرة :
_ خلال أربعة وعشرين ساعة عايز اعرف كل حاجة عن حاتم بيته فين ومكان شغله كل التفاصيل ، والأهم تعرفلي عنوانها
_حاضر يا باشا بكرا هتكون كل المعلومات عندك

انهي معه الاتصال والقاه على الفراش والإبتسامة لا تزال تزين ثغره ، هاهو أخيرًا سيجد ابنته بعد رحلة بحث مرهقة لمدة شهرين عنها .. لا يعرف كيف لم يفكر بذلك الشاب من البداية واحتمالية وجودها معه التي ثبتت بالفعل .. كانت والدته صديقة زوجته من سنوات طويلة منذ أن كانت ابنته تبلغ من العمر الخامسة عشر ، وتعرفا على بعضهم واصبحوا اصدقاء مقربين منذ ذلك الوقت ، ولكنه الآن حين كان عليه أن يفكر به هو أول شخص ويضع احتمالية اختباء ابنته معه لم يخطر على ذهنه إلا مؤخرًا ! .

***
بمنزل جلنار في أمريكا ....
تمسك بهاتفها تتصفح مواقع التواصل وهي جالسة على الأريكة في الصالون ، وبيدها كوب اللبن الصباحي الخاص بها .. ترتشف منه القليل ثم تضعه على المنضدة الصغيرة التي أمامها وتكمل تصفحها ومن ثم تعود وتلته لترتشف منه مرة أخرى وهكذا على هذا الوضع الوضع .. حتى ظهرت أمامها فجاة على الهاتف صورة لفريدة وكانت بين أحضان عدنان على متن مركبة صغيرة ( يخت ) ، ومن حولهم المياه .. توقفت أصابعها عن التقليب وبقت تحملق بالصورة بوجه خالي من التعابير ، فقط قسمات وجهها تشجنت وعيناها ثابتة على الصورة تتفحص كل تفصيلة بها .. ابتسامتهم العريضة والطريقة التي يضمها بها واحتوائه لها بحب يظهر في عيناه .. نزلت بعيناها على تاريخ نشر الصورة فوجدتها في صباح اليوم ! ، ارتفعت ابتسامة ساخرة على ثغرها وهي تهتف باستنكار :
_ واضح أوي غضبه وزعله على بعد " هنا * عنه واختفائنا
كانت على وشك أن تعود وتستكمل تفحصها للصورة لكنها نزلت بأصبعها لأسفل على شاشة هاتفها اللمس حتى تمر هذه الصورة وهي تهتف بغضب :
_ بلا قرف أنا مالي .. كدا كدا هطلق غصب عنه
خرجت " هنا " من غرفتها وهي تركض باتجاه أمها وتمسك بالمجسم الصغير الذي صنعته بمكعابتها الخاصة وترفعه أمام أعين والدتها تقول بفرحة طفل أنجز عملًا مبهرًا بالنبسة له :
_ بصي مامي الهرم اللي عملته
اطالت النظر في المجسم الذي ترفعه ابنتها أمامها بشرود للدرجة التي جعلتها لم تراه حتى فقط تحدق به بعدم وعي ، لكن شعرت بكف صغيرتها وهي تهزها في قدمها وتهتف :
_ مامي
عادت لواقعها ونظرت مرة أخرى للمجسم وهذه المرة أدركت الشكل البسيط التي صنعته صغيرتها ، فارتفعت الابتسامة لشفتيها وقالت بانبهار حتى تعلي من معنويات طفلتها :
_ الله جميل أووي ياحبيبتي .. عملتيه إزاي ؟
جلست " هنا " على الأرض وبدأت بفك المجسم وهي تهتف بحماسة لتعلم أمها الطريقة التي فعلته بها :
_ هوريكي
تابعتها وهي تعيد بنائه من أول وجديد وتبتسم بحنو أمومي ، ومن دون أن تشعر وجدت عيناها تذرف الدموع ، لا تعرف لما بكت ولكن هناك غصة مريرة بحلقها وقلبها يؤلمها بشدة .. لم تكن يومًا تتوقع أن جلنار الرازي سيحدث فيها هكذا ، تلجأ لبلاد غريبة هي وابنتها هربًا من ظلم أبيها وزوجها لها .. لم يعد لديها أحد ، هي فقط بمفردها بصحبة حاتم .
رفعت الصغيرة رأسها لأمها بعد أن انتهت حتى ترى ردة فعلها فوجدت وجهها مملتيء بالدموع ، اختفت ابتسامتها ودفن حماسها في لحظة ، لتهب واثبة من الأرض وتجلس بجوار أمها تقول بعينان حزينة :
_ انتي بتعيطي ليه يامامي ، الهرم اللي عملته وحش !!
جففت دموعها فورًا ونظرت لها تقول بحب وهي تحتضن وجهها الصغير بين كفيها وتلثم وجنتيها :
_ لا بالعكس ده رائع ياقلب مامي .. أنا تعبانة شوية ياحبيبتي بس
ارتمت الصغيرة عليها تتعلق برقبتها وتقول بعبوس وضيق :
_ طب مش تعيطي ، نروح الدكتور عشان تبقي كويسة
ضحكت ببساطة وزدات من ضم صغيرتها إليها لتقول بمداعبة :
_ حاضر مش هعيط تاني .. أنا كويسة .. إيه رأيك نعمل آيس كريم

ابتعدت " هنا " عن أحضان أمها وهي تطالعها بملامح وجهها الحزينة ، وعندما رأت جلنار الدموع متجمعة في عيني ابنتها استقامت واقفة وحملتها على ذراعيها وهي تلثم كل جزء في وجهها وتقول بمشاعر جيَّاشة محاولة التحكم في زمام دموعها :
_ حبيبة قلبي أنا مقدرش اشوف دموعك .. أنا كويسة والله وهنروح نعمل آيس كريم جميل دلوقتي أنا وإنتي .. هاا إيه رأيك ؟

اماءت لها " هنا " بالموافقة وقد بدأت الابتسامة ترتفع لشفتيها تدريجيًا ثم اقتربت من وجنة أمها وطبعت قبلة رقيقة مثلها وهي تخرج همسة لطيفة تسرق القلب :
_ بحبك أوي يا مامي
_ وأنا كمان بحبك أوي ياروحي

ثم اتجهت بها نحو المطبخ وبدأت جلنار في تحضير الآيس كريم بمساعدة " هنا " بالتأكيد التي عادت إشراقة وجهها بسرعة إليها وضحكتها الساحرة .

***
كانت هي تقف بالمطبخ تقوم بتحضير الغذاء وترتدي بنطال منزلي أسود اللون وأعلاه تيشرت رجالي لا يناسب فتاة مطلقًا وترفع شعرها الحريري بمعلقة خشبية ! .
.. وتتمايل على الحان اغنية شعبية وتردد معها .
تمتلك عينان خضراء وبشرة بيضاء ناعمة مع شفاه صغيرة وأنف رفيعة ، وجسد أنوثي مثير برغم الملابس التي لا تناسب الفتيات أبدًا التي ترتديها دومًا .
صك سمعها صيحة عالية باسمها انبعثت من الغرفة الخاصة بجدتها فتركت ما بيدها فورًا وركضت باتجاهها لتقول بسخط مزيف :
_ في إيه يا ولية سرعتيني .. هو أنا في الشارع التاني
لم تبالي فوزية بردها وقالت بحدة وهي تشير لها أن تقترب منها :
_ خدي هنا يا بنت الهبلة
ضربت مهرة على صدرها وأجابت بامتنان على إهانة جدتها لها :
_ طالعة زي العسل من بوقك والله يا زوزا
_ يابت قربي متتعبنيش عايزة اتكلم معاكي في موضوع
اقتربت وجلست بجوارها وهي تقول بتصنع الرقة والأدب :
_ قولي يانينا .. أنا كلي آذان صاغية
طالعتها فوزية بنظرة مستنكرة وتمتمت بسخرية :
_ نينا !! .. طيب ركزي ياختي معايا ، ابن ممدوح الأعور طلب إيدك وأنا وافقت وجايين بكرا بليل عشان يتقدموا
انحنت على جدتها وقالت بهمس ساخر :
_ انهي واحد في ولاده .. العبيط ولا الاهطل !
صاحت بها فوزية مغتاظة :
_ طاب عليا النعمة الشريفة مافي حد اهطل غيرك .. ده ابنه اللي اسمه صابر ، الله اكبر عليه طول بعرض وحلاوة وكمان حالتهم مرتاحة ماشاء الله يعني هيريحك
مهرة بنبرة مختنقة تحمل المزاح :
_ لا أنا عايزة واحد اسمه مراد عشان اقوله مراد بيك لا تتركني هيك .. زي المسلسل التركي اللي بسمعه
استشاطت فوزية غيظًا ومالت على الأرض وجذبت الشبشب وقبل أن تلقيه عليها كانت الأخرى قد وثبت واقفة وركضت نحو الباب وتفادت ضربة الشبشب وهي تتلاعب بحواجبها وتقول متعمدة إثارة جدتها أكثر :
_ كبرتي وخيبتي يا زوزا .. لو مش عارفة تنشلي عليا قولي وانا اعلمك
صرخت بها بعصبية :
_ خلاصة الكلام .. عارفة يامهرة ما تعملي حركة من حركاتك اللي علطول بتعمليها كل ما ياجي عريس وتطفشيه لاطفشك أنا من البيت
وقفت وعقدت ذراعيها في خصرها وتقول باحتجاج ولهجة كوميدية :
_ طيب انتي ترضهالي .. اتجوز واحد اسمه صابر الأعور وبعدين اخلف عيل ويعايروه العيال يقولوله يا أعور يا ابن الأعور ، وشوية كمان ويبقى اسمي مهرة العورة

مالت للمرة الثانية على الأرض تلتقط الفردة الثانية وتقذفها بها وهي تصرخ بانفعال :
_ امشي يابت غوري من وشي .. هتجلطيني ، وجهزي نفسك لبكرا .. قال مهرة العورة ، ده انتي المفروض يسموكي مهرة الهطلة .

ضحكت بقوة وهزت كتفيها بعدم اكتراث لتشبيه جدتها لها ثم انصرفت وتركتها تضرب كف على كف من جنان حفيدتها ! .

***
_ أيوة واخرتها هتفضلي لغاية امتى كدا مش عارفة تتكلمي يازينة ؟!
كانت جملة صريحة ومستاءة من صديقتها وهم يجلسون معًا في غرفتها بعد جاءت لزيارتها وقضاء بعض الوقت معها .
تنهدت زينة بيأس وقالت :
_ خايفة يا سمر يكون أصلًا أنا مش في باله وهو ده اللي أنا متوقعاه ، وفي نفس الوقت خجلي منه بيصعب عليا الوضع
انتصب صديقتها في جلستها وقالت بجدية تسألها بوضوح :
_ دلوقتي مش إنتي بتحبيه ؟!
هزت زينة رأسها بإيجاب في استحياء بسيط لتستكمل صديقتها حديثها من عند أجابتها وتقول بصرامة :
_ يبقى مفيش حاجة اسمها بتكسف وخايفة ومعرفش إيه .. بتحبيه يبقى قربي منه واكسبي قلبه ماتفضليش قاعدة مكانك زي الهبلة كدا ومستنياه يحبك ، شوفي هو اهتماماته إيه مثلا وشاركيه فيها ، أو هو بيحب إيه واعملهوله .. اعرفي هو بينجذب للبنات اللي من نوع إيه واتصرفي بالشكل ده
هتفت زينة برفض وتذمر :
_ لا أنا مش هغير نفسي .. أنا عايزاه يحبني زي ما أنا
_ طيب يابنتي ما تتحركي واتصرفي على الاقل قربي منه هو مش ابن خالتك برضوا يعني الموضوع هيكون سهل .. بعدين لما تاجي واحدة تخطفه منك متزعليش بقى
هتفت زينة بتهكم وبؤس :
_ الله في إيه ياسمر .. يعني أنا بشكيلك وبفضفضلك وإنتي تقوليلي واحدة تخطفه منك !!
كادت أن تجيب عليها لكن زينة ضربتها على فخذها بخفة بعدما سمعت صوت الباب ينفتح وهمست بتوتر :
_ بس خلاص ماما جات
دخلت والدتها وهي تحمل على صينية كلاسيكية راقية فوقها كأسين من عصير المانجا وتهتف بوجه بشوش :
_ منورانا ياسمر والله ياحبيبتي
أجابت سمر بضحكة وسعادة صافية :
_ ده نورك ياطنط ميرفت والله .. ربنا يعلم وحشتيني قد إيه ، يمكن كمان اكتر من البنت زينة النكدية دي
قهقهت ميرفت بصوت عالي بينما زينة زمت شفتيها وقالت بغيظ تجيب على صديقتها :
_ أنا نكدية .. ماشي ياسمر
تعالت ضحكاتهم معادا زينة التي كانت تحدجهم باغتياظ ولكن سرعان ما اندمجت في الحديث معهم وشاركتهم الضحك وحوارهم الذي بدأ يأخذ منحنى مرح ولطيف .

***
هب عدنان واقفًا من مقعده بعد ساعات طويلة من العمل أرهقت جسده وعقله ، جذب سترته وارتداها ثم مفاتيح سيارته وكذلك هاتفه ولكن قبل أن يضعه بجيبه ارتفع صوت رسالة وصلت إليه للتو .. كان سيتجاهلها لكن ارتفع الصوت أكثر من مرة مما يشير إلى أن الراسل ارسل أكثر من رسالة في وقت واحد .
فتح هاتفه ودخل على الرسائل وكانت رسالة من رقم مجهول لا يعرفه ، فتح الرسالة وكانت عبارة عن صورتين انتظر لثواني قليلة حتى تظهر الصور ، وإذا بالصدمة تتملكه تمامًا وهو يرى أن الصور لجلنار وهي تجلس بجانب رجل وتضحك بملأ شدقيها وأمامهم كعكة عيد ميلاد والصورة الأخرى كان يمسك بيديها وينظر لها ويبتسم بنظرة تشبه نظرة رجل عاشق .

رواية كيان الفهد كاملة جميع الفصول ( الفصل الرابع 4 ) 


يحدق في الصور ويده تقبض على الهاتف بعنف حتى كاد أن يهمشه إلى أجزاء بين قبضته ، لا يفكر بأي شيء سوى بما تراه عيناه أمامه الآن ! .. كيف أنها تبتسم لذلك الجالس بجوارها .. وكيف سمحت له أن يلمسها ! ، كلما تعصف بذهنه احتمالية خيانتها له وأن قد يكون هناك رجل آخر .. يصاب بالجنون وتتملكه حالة من الغضب المدمر ، والآن تلك الفكرة تستمر في التردد بذهنه دون توقف حتى أوشكت على سلبه لما تبقى من عقله .
مسح على وجهه وهو يزأر من بين شفتيه كالوحش الجائع لالتهام فريسة ، ويجز على أسنانه بقوة .. نظر لهاتفه وفتح إحدى تطبيقات السوشيال ميديا التي قامت مؤخرًا بمحادثته عليه ، وضغط على زر الاتصال بها ، يضع الهاتف على أذنه وينتظر ردها ومعالم وجهه مرعبة ، وعيناه حمراء تمامًا كنيران ملتهبة .
لم تجيبه بعد رنات طويلة فعاد مرة أخرى يتصل ومن بين شفتيه يطلق الفاظ نابية يتوعد لها بمجرد أن تفتح الاتصال .
على الجانب الآخر كانت جلنار تمسك بهاتفها ورنينه يرتفع أكثر فأكثر بين يديها ، وسؤال واحد تطرحه في ذهنها بتردد ( هل أجيب عليه أم لا ! ) .. وبعد لحظات طويلة من الوقت قررت أن تجيب وترى ماذا يريد .. فتحت الاتصال ووضعت الهاتف على أذنها وبمجرد ما أن فتحت افحمها بصيحة جهورية منه :
_ وياترى الهانم مبتردش عليا ليه بقى !!
ضيقت عيناها بدهشة وهتفت بخفوت مضطرب :
_ في إيه ياعدنان ؟!
عاد يصرخ ولكن هذه المرة بنبرة ارعبتها حقًا :
_ مين اللي متصورة معاه ده في عيد الميلاد يا مدام
سكتت لبرهة من الوقت لا تفهم ما يقصده ، أي عيد ميلاد يقصد !! .. ومن هو الذي التقطت معه الصور !! .. ( حاتم !!! ) همستها لنفسها بصدمة ، ثم هتفت بهدوء بسيط تجيب عليه :
_ قصدك على مين بظبط ؟
ضحك من بين حالته المخيفة وهتف بعصبية :
_ على مين !! .. ليه هو في كام واحد يا بنت الرازي ، اقسم برب العزة لو طلعتي بتخوينني لأكون .....
انفعلت هي الأخرى وصرخت به تقاطعه :
_ بخونك إيه أنت مجنون !!
_ جاوبي على **** السؤال
كانت صرخة عنيفة منه بعثت القليل من الرهبة في نفسها لتجيبه باستياء :
_ ده صديق ليا وهو اللي بيساعدني هنا ، مفيش حاجة اكتر من كدا
كور قبضة يده وقال محاولًا تمالك أعصابه :
_ اممممم صديق وبيساعدك
شعرت بغصة مريرة في حلقها من اتهامه المؤلم لها وصاحت بسخط :
_ والله العظيم ما في حاجة بينا كفاية شك ياعدنان حرام عليك
_ إنتي وبنتي فين ؟
سقطت دمعة حارة على وجنتيها ولم تجيبه خشية من أن يظهر اهتزاز صوتها ويكتشف بكائها ، فوجدت صرخة نفضتها بأرضها تخرج من الهاتف لاذنيها وهو يقول :
_ بقولك إنتي فين
تمتمت بصوت يحمل بحة البكاء :
_ مش هقولك ومش هتعرف وحتى لو عرفت مش هتقدر تاخد بنتي مني
عدنان بوعيد حقيقي ونبرة مرعبة :
_ تمام براحتك ، بس قريب اوي هلاقيكي وصدقيني هوريكي النجوم في عز الضهر وهخليكي تشوفي مين هو عدنان الشافعي على حق
انهمرت دموعها بغزارة على وجنتيها ولكنها جاهدت في عدم اظهار هزة صوتها وهي تهتف بقوة مزيفة وباحتدام :
_ بكرهك ياعدنان .. بكرهك

وفور انتهاء جملتها أنهت الاتصال فورًا والقته على الفراش ثم جثت على الأرض بجواره ودفنت وجهها بين راحتي كفيها تبكي بحرقة وبألم ، تبكي كل شيء في حياتها .. على زواج فاشل يقف على أعتاب الانتهاء ، وعلى ابنة ستعيش مصير مجهول وحزين لا تستحقه ، وعلى أب قاسي لا يبالي بشيء سوى بمصالحه الشخصية وأمواله ، وأخيرًا على قلب مهشم يدعي القوة .

بينما هو فكان يقف كالبركان الذي تطفح حممه البركانية على سطحه وأمامه لحظات قصيرة قبل أن يعلن انفجاره ، ولم يتمكن من التحكم في انفعالاته أكثر من ذلك حيث نظر إلى محتويات سطح مكتبه وازاحها بيديه كلها دفعة واحدة لتنزل على الأرض محدثة ضجيجًا عاليًا .

***
بقصر الشافعي .....
كانت أسمهان تجلس على المقعد الهزاز في الحديقة وبيدها كوب القهوة خاصتها ترتشف منه ببطء وبجانبها مسجل كلاسيكي جميل يصدح صوته بفيروزات الصباح ، حتى ارتفع صوت رنين هاتفها بجوارها ، فمدت يدها على المسجل واغلقته ثم أمسكت بالهاتف وأجابت بحزم :
_ ايوة عملت إيه ؟
_ كله تمام ياهانم .. الصور وصلت لعدنان باشا وهو شافها
ارتفعت الابتسامة الشيطانية على شفتيها وهدرت بحدة :
_ اوعي تكون عملت حركة غبية كدا ولا كدا وعرفته مكانها ، عارف لو ده حصل هعمل فيك إيه
هتف بثقة تامة وغطرسة :
_ عيب يا هانم هو أنا مبتدأ .. ده أنا تربيتك ، بس بيني وبينك الست جلنار دي وتكة عنده حق الباشا يغير عليها
خرجت صيحة صارمة من أسمهان وهي تهتف بقوة :
_ اخرص ياحيوان .. أنت ملكش دعوة بأي حاجة غير اللي بطلبه منك بس وتنفذه من غير كلام
لوى الرجل فمه بتهكم وقال بخنق :
_ حاضر ياست هانم .. وأنا تحت امرك
انزلت الهاتف من على اذنها وأنهت الاتصال وهي تهتف باشمئزاز :
_ جاتك القرف
ثم عادت الابتسامة تعلو شفتيها من جديد وتهمس بسعادة ووعيد :
_ مبقاش أنا أسمهان الشافعي أما خليت ابني يطلقك ويرميكي برا زي الزبالة
رأت آدم وهو يخرج من باب المنزل ويتجه نحو سيارته فقالت بحنو وصوت عالي نسبيًا :
_ رايح فين يا آدم
توقف للحظات وأجابها بابتسامة هادئة :
_ رايح المعرض ياماما عايزة حاجة اجبهالك معايا
_ لا ياحبيبي عايزة سلامتك .. خلي بالك من نفسك

ارسل لها قبلة في الهواء وهو يبتسم ثم أكمل طريقه نحو سيارته ليستقر بها وينطلق نحو معرضه الخاص .

***
في مساء ذلك اليوم ....
وصلت زينة أمام باب المعرض وهي تحمل بين يديها طعام ! .. تارة تنظر للمعرض وتارة للكيس الذي يحتوي بداخله على ورق عنب ! .. وتفكر بينها وبين نفسها هل أخطأت عندما جاءت له بالطعام أم أنها فكرة رائعة .. فتجيب على نفسها بصوت مسموع بعض الشيء :
_ مش سمر قالتالي شوفي هو بيحب إيه واعملهوله .. هو بيحب ورق العنب !!
وكالعادة كلما تكون تقف تتشاور مع نفسها في حوار يخصه يقطع هو حوارها مع نفسها .. سمعت صوته وهو يخرج من الباب ويقول بوجه بشوش :
_ زينة واقفة كدا ليه تعالي !
اقتربت منه ووقفت أمامه تمامًا ثم قالت بابتسامة عريضة تحاول التحلي بالثقة وعدم الخجل :
_ عامل إيه يا آدم ؟
نظر للكيس الذي بين يديها رافعًا حاجبه باستغراب ثم نظر لها وقال بلطف :
_ كويس الحمدلله .. إيه الكيس ده ؟!
ابتسمت بحياء وقالت وهي تتجه لداخل المعرض وتقول :
_ تعالى هقولك جوا
دخل خلفها وهو يبتسم بحيرة فوجدها تجلس فوق أحد المقاعد وتجذب الطاولة الصغيرة أمامها ثم تبدأ بإخراج علبة بلاستيكية صغيرة شكلها رقيق وتضعها على الطاولة وهي تقول بحماس :
_ عملت ورق عنب وقولت لازم تدوقه فجبتلك معايا منه ، عشان تدوقه وتقولي رأيك
قهقه بصوت عالي على طريقتها وقال بنظرات مشتهية :
_ طال والله انتي بنت حلال .. تعرفي كان نفسي فيه
_ يلا ياعم عد الجمايل بقى
اقترب وجذب مقعد آخر ليجلس قبالتها ويفتح العلبة ثم يلتقط الشوكة الموضوعة بالداخل ويغرزها في واحدة ثم يرفعها لفمه ويأكلها ، ظهر الإعجاب على وجهه بعد أن تذوق طعمه ثم القى بالشوكة على الطاولة وقال ساخرًا :
_ لا شوكة ايه بقى ده مش عايز شوكة
خرج صوتها الرقيق وهي تقول برقة :
_ عجبك ؟
أجابها وهو يأكل بنهم واستمتاع :
_ اممم جميل أوي يازينة .. انتي اللي عملاه ؟
ابتسمت باستحياء وقالت بخفوت :
_ أيوة
_ تسلم ايدك
اتسعت ابتسامتها وبقت تتأمله وهو يأكل وعيناها تطلق شرارات العشق ، وبذهنها تعصف أفكار منحرفة .. لكم تود معانقته الآن وتقبيله لكن لو قتلوها لن تفعلها بالتأكيد ، لماذا لا يفعلها هو !! .
لاحظ هو نظراتها إليه فتوقف عن الأكل وتنحنح بإحراج بسيط لتنتصب في جلستها وتقول بتلعثم :
_ بــ .. بالهنا والشفا
هز رأسه بابتسامة بسيطة ثم قال بجدية :
_ اخبار كليتك إيه ؟
_ أهو فاضل شهرين وامتحن واتخرج واخلص خالص
آدم بنبرة رزينة ورائعة :
_ هانت خلاص شدي حيلك واستحملي الشهرين دول
اماءت لها بتفهم وهي تبتسم باضطراب ملحوظ ، ثم بدأت تلاحظ التجديدات التي طرأت على المعرض ولفت انتباهها إحدى لوحاته الفنية لتقول بانبهار :
_ الله جميلة أوي اللوحة دي يا آدم
التفت برأسه للخلف ينظر إلى ما تنظر إليه ثم عاد برأسه إليها مرة أخرى وقال بغمزة :
_ اعتبريها هدية مني ليكي في احتفالية المعرض
زينة بصدمة :
_ بتهزر !!
_ لا طبعًا مش بهزر .. طالما عجبتك يبقى حلال عليكي
وثبت واقفة ومن دون أن تشعر وجدت نفسها ترتمي عليه ونعانقه وهي تهتف كالمتغيبة عن الواقع :
_ ميرسي أوي يا دوما بجد
فور انتهائها من جملتها ، علت الصدمة الحقيقية لمعالمها وهي لا تزال متعلقة برقبته ( فعلتها .. عانقته ، كيف !! ، يبدو أنني فقدت عقلي ) .. ارتدت للخلف بسرعة وقالت بنظرات زائغة وصوت مرتبك ومتلعثم :
_ ااا... آسفة مـ .. مقصدش
ابتسم آدم بطبيعية وقال بعذوبة ومرح محاولًا امتصاص خجلها رغم أنه هو أيضًا اندهش من فعلتها ولم يكن يتوقعها أبدًا :
_ في إيه عادي يابنتي .. تعالي هفرجك على بقية اللوح اللي جوا
هزت رأسها بالنفي وقالت بتوتر ملحوظ :
_ لا لا أنا همشي عشان متأخرش
_ متخافيش أنا هوصلك
_ خليني امشي افضل احسن أنت عارف خالتك لما بتتعصب وأنا قولتلها إني مش هتأخر
تنهد بهدوء وقال بلطف :
_ طيب براحتك يلا هوصلك
هتفت برفض سريع ولهجة خجلة وقد ارتفعت الحمرة لوجنتيها :
_ لا مش عايزة اتعبك أنا هروح وحدي
آدم بصوت رجولي خشن وحاد :
_ مش هسيبك تمشي وحدك طبعًا يازينة ، يلا بلاش كلام كتير وشكرًا على ورق العنب
لانت نبرته في جملته الأخيرة لتظهر بشائر الابتسامة على ثغره وهو يقولها فتبادله الابتسامة بأخرى مضطربة دون أن تجيب ! .

***
استقامت جلنار واقفة من على الأريكة بعدما سمعت صوت طرق الباب ، جففت دموعها التي لم تتوقف منذ مكالمتها مع عدنان .. حملت ابنتها النائمة على قدميها وذهبت بها إلى غرفتها لتضعها على فراشها برفق ثم دثرتها بالغطاء وعادت للخارج في اتجاه الباب .
فتحت الباب وهي تقف بثبات لتواجه أمامها حاتم الذي كان يبتسم باتساع ولكن تلاشت ابتسامته تدريجيًا عندما رأى وجهها الشاحب وعيناها المنتفخة من أثر البكاء ودخل فورًا ثم اغلق الباب وقال بزعر :
_ مالك ياجلنار ؟
تكلفت الابتسامة وقالت بصوت جاهدت في إخراجه طبيعيًا :
_ مفيش حاجة مرهقة شوية بس ياحاتم .. تعالى نتكلم جوا
ثم سبقته هي بالسير إلى الداخل وكان هو خلفها ، ثم جلس بجوارها على الأريكة وقال باهتمام ونبرة حانية :
_ احكيلي في إيه ؟!
تنفست الصعداء بخنق وقالت بخفوت :
_ عدنان كلمني
قطب حاتم حاجبيها باستغراب فكيف اتصل بها ورقمها تغير منذ أن جاءت هنا .. هتف بحيرة :
_ اتصل بيكي إزاي يعني ؟!!
_ على الانترنت شاف صورنا في عيد الميلاد وكلمني واتخانق معايا
رمش بعيناه عدة مرات في عدم فهم ثم اعتدل في جلسته وقال بهدوء ونبرة بدأت تتحول للغلظة :
_ واحدة واحدة ياجلنار .. صور إيه اللي شافها وإزاي شافها وعرف يكلمك على الانترنت إزاي أصلًا !!!
أحست بأن دموعها على وشك الانهمار مجددًا فشدت على محابسهم وقالت بثبات مصطنع :
_ واضح إن في حد اخدلنا صور ليا أنا وأنت وبعتها ليه وهو اتجنن طبعا لما شافها وافتكرني بخونه
ظهرت الغيرة في عينان حاتم الذي قال بغضب :
_ ما يتنيل يفتكر اللي يفتكره .. إنتي زعلانة ليه ، مش هتطلقي منه لما ترجعي إيه اللي مضايقك
جلنار باستياء :
_ لازم اضايق ياحاتم .. لما يتهمني بحاجة زي كدا يبقى لازم اضايق ، أنا من ساعة ما اتجوزته ومبصيتش لراجل غيره وكنت محترمة جوازنا حتى لو كان فاشل وكنت مجبرة عليه
ازعجه بشدة اعترافها حول محافظتها على قلبها من أجل زوجها وهذا يوضح شيء واحد وهو حبها له .. وأنها لم تفكر بالجالس أمامه هذا أبدًا من قبل ! .
تمتم بصوت متحشرج :
_ وكلمك إزاي برضوا ؟
_ أنا كلمته مرة فديو على نفس التطبيق فهو اتصل بيا عليه النهارده
خرجت صيحة قوية منه حاتم وهو يهتف بسخط :
_ نعم كلمتيه ليه !!!
جلنار بنظرات صارمة وصوت تبدلت نبرتها الهادئة إلى أخرى محتدمة :
_ مكلمتهوش عشان سواد عيونه ياحاتم .. " هنا " كان واحشها أوي وفضلت زعلانة ومضايقة إنها مش عارفة تكلمه ولا هو بيتصل فاضطريت اتصل بيه عشانها
حاتم بغضب تعجبت منه :
_ وهو احنا مش اتفقنا أن إنتي مش هتتواصلي معاه ولا تكلميه خالص ياجلنار إلا لما ترجعي وتتطلقي منه
جلنار :
_ مقدرتش ياحاتم اشوف بنتي زعلانة بالشكل ده .. ثم إن كدا كدا هيعرف مكاني سواء هو أو بابا مش هفضل هربانة منهم كتير ، أنا كنت بحاول اكسب وقت بس بعيد عنهم عشان افكر هتصرف إزاي لما ارجع
هتف بنظرة ساخرة لا يصدق ما يسمعه من فمها وكأنها على وشك التراجع في قرارها الذي جاءت إلى هنا وهي مصرة عليه :
_ليه هو إنتي ناوية ترجعي في كلامك وتتراجعي عن الطلاق ولا إيه !!
لا تفهم سبب حرصه الشديد على طلاقها هذا ولماذا كل هذا الغضب والانفعال بمجرد أن أخبرته أنها حدثت عدنان ، لكنها لم تهتم كثيرًا حيث قالت بإصرار وعناد شديد :
_ مستحيل اتراجع .. هيطلقني غصب عنه .. أنا سكت عن حجات كتير بس مش هسكت على شكه فيا

لم يعجبه حديثها مطلقًا واحس أنه على وشك خسارتها وأن ذلك " العدنان " سيعود ويسلبها عقلها فتصبح مسيرة بأوامره وبقلبها الذي سبنبض من أجله فقط .
زفر الهواء من فمه بحنق ظاهر ومسح على وجهها متأففًا دون أن ينظر لها بينما هي فظلت تتابع انفعالاته الغرببة بتعجب !! .

***
هرولت فوزية مسرعة نحو باب الشقة بعد سماعها لرنة الجرس ، وعلى وجهها ابتسامة مشرقة وعريضة .. فقد وصل العريس ومعه عائلته .
فتحت الباب وكانت في المقدمة والدة العريس التي اقتربت وعانقت فوزية بعناق حار وهتفت فوزية بسعادة :
_ أهلًا وسهلًا .. اتفضلوا
ابتعدت عنها والدة العريس ودخل من خلفها الحاج ممدوح الأعور ( والد العريس ) وهو يتنحنح بأدب ويحمل بين يديه علبة مستطيلة من التفاح الأحمر :
_ ازي الصحة ياحجة فوزية
_ بخير الحمدلله ياحج اتفضل اتفضل .. ولا كنش له لزوم والله التعب ده ياحج
أجابها ممدوح بوجه مبتسم :
_ يزيد فضلك .. ولا تعب ولا حاجة دي حاجة صغيرة كدا
وأخيرًا كان آخرهم يدخل صابر ( العريس ) ويحمل على ذراعيه قفص كبير من المانجا .. القى التحية على فوزية التي رحبت به ترحيب حار وببشاشة .
كانت مهرة من داخل غرفتها تدور يمينًا ويسارًا منتظرة شيء معين ، حتى سمعت صوت صافرة من أسفل شرفتها .. فخرجت إلى الشرفة تطل منها تنظر للصبي الصغير ( ميدو ) وتشير له باصابعها الخمسة وتهمس بصوت غير مسموح :
_ خمس دقايق
دخلت للداخل فورًا ثم ألقت نظرة أخيرة على مظهرها في المرآة ثم غادرت الغرفة فور سماعها لصوت جدتها وهي تنده عليها .. اتجهت نحوهم وكانت نظراتهم مستنكرة ومدهوشة لما ترتديه .. حيث ترتدي بنطال بني اللون واسع وعريض يخص جدها المتوفي وأعلاه تيشرت من اللون الأبيض ولم تبذل أي مجهود في تسريح شعرها جيدًا رغم نعومته .. جلست بجانب جدتها دون أن تصافحهم حتى وظلت تنقل نظرها بينهم بابتسامة بلهاء وهي ترى الاشمئزاز على وجههم والغضب الذي سيطر على ملامح جدتها .. لتقول بمزاح وهي تضحك :
_ لا مؤاخذة أصل البنطلون غسلته الصبح ومنشفش .. والجيش قال اتصرف
تبادلوا النظرات المنصدمة بين بعضهم البعض بينما فوزية انحنت على حفيدتها وهمست بوعيد حقيقي وهي تستشيط غيظًا :
_ والنعمة الشريفة لاربيكي يامهرة .. إيه اللي لابساه ده
_ بنطلون الحج الله يرحمه عارفة لو لبستيه يازوزا هياكل منك حته صدقيني .. تحبي اروح اغيره وتلبسيه
تمالكت أعصابها واشاحت بنظرها عنها تنظر للضيوف وهي تبتسم بتصنع ونيران الغيظ مشتعلة بداخلها .. هم ممدوح بأن يتحدث متجاهلًا منظر مهرة لكنها قاطعته وهي تهب واقفة وتقول :
_ يوه يقطعني .. لا مؤاخذة نسيت الشربات ، وحياة قرعتك اللي بتلمع دي ياحج ما أنت قايل حاجة غير لما تشربوا الشربات الأول
رفع ممدوح يده إلى رأسه يتحسس ملمسها الأملس والناعم لعدم وجود أي شعر بها ونقل نظره بين الجميع بوجه مكتوم من الغيظ .. بينما والدة العريس فاقتربت على فوزية وهتفت بنظرات ساخرة بعد رحيل مهرة :
_ هي مالها بنت بنتك يافوزية !!
ابتسمت فوزية بتكلف وقالت بإحراج :
_ معلش صغيرة بقى وهي بتحب تهزر كدا كتير .. دمها خفيف ماشاء الله
ظلت مهرة تجوب في المطبخ إيابًا وذهابًا وهي تهتف باغتياظ :
_ ماشي ياميدو الكلب .. وحياة امك لاربيك
ثم صك سمعها صوت طرق الباب العنيف ولم يكن لايدي واحدة فركضت للخارج فورًا حتى تفتح الباب ودخلت مجموعة من أطفال المنطقة ثم أشارت لهم على الداخل وهي تغمز .. فركضوا فورًا متصنعين أنهم في طريقهم للغرفة الداخلية التي سيأخذوا فيها الدرس المزيف لكن توقفوا عند مرورهم من أمام الصالون الذي موجود به العريس وعائلته وصاح واحدًا منهم وهو يشير على صابر :
_ الحقوا
نظروا جميعهم إلى إشارة اصبعه واسرعوا إلى الداخل ووقفوا جميعهم وهم يرددون ويتراقصون بأجسادهم الصغيرة ويخرجون لسانهم :
_ ياصابر ياجزمة يالي ملكش لزمة
نظر صابر وتبادل النظرات النارية مع والديه فوزية ، بينما مهرة هرولت راكضة من الخارج إلى الأطفال وهي تصيح عليه بغضب مزيف حتى تدفعهم للغرفة الداخلية ، بينما صابر نظر لفوزية وقال باحتدام :
_ إيه ياحجة فوزية هو احنا جايين بيتك نتهزق ولا إيه
هبت فوزية واقفة وصاحت في الأطفال بعصبية وهي تدفعهم للخارج بينما مهرة فقالت وهي تهتف محدثة صابر بابتسامة مستفزة :
_ لا مؤاخذة ياجزمة .. اقصد ياصابر اصل انا بقيت بدي دروس والنهردا معاد الدرس
صرخت فوزية بانفعال :
_ دروس إيه دي ومن امتى ؟!
هزت مهرة أكتافها بعدم مبالاة وقالت ببرود :
_ من النهاردة
استقام ممدوح واقفًا وهو يقول بوجه محمر من الغضب :
_ لا ده كدا زادت قوي .. قوم بينا ياصابر ويلا ياحجة وهات علبة التفاح وقفص المانجا ده معاك كمان
استقاموا وحملت والدته علبة التفاح وهو القفص واتجهوا للخارج وسط محاولات فوزية للإعتذار منهم عن ما صدر عن حفيدتها بينما مهرة فهتفت وهم على الباب وتقول ببرود وهي تكتم ضحكتها :
_ طاب سيب كيلو مانجا حتى اتسلى عليه وهندفعلك حقه
ثم همست لنفسها وهي تلوي فمها بقرف :
_عيلة نتنة بصحيح
ثم رفعت نظرها لجدتها التي طردت الاطفال وصرخت فيهم بصوتها المرتفع ثم أغلقت الباب ونظرت لمهرة وعيناها حمراء كالدم من الغضب ثم التقطت حذائها من قدمها وقالت بوعيد :
_ شايفة الجزمة دي .. هنزل بيها على نفوخك وهدعكك بيها
شهقت مهرة بفزع وأسرعت ركضًا نحو غرفتها وأغلقت الباب عليها لتسمع صوت جدتها من خلف الباب وهي تصرخ :
_ أما ربيتك يابنت رمضان الأحمدي مبقاش أنا فوزية
سمعت صوتها الساخر وهي تهتف ببرود ضاحكة :
_ طلقني .. لو مش عاجبك طلقني
_ الصبر من عندك يارب .. هتجلطيني يابنت ****
ارتفعت ضحكات الأخرى من الداخل بينما فوزية فظلت تحاول فتح الباب ولكن باءت كل محاولاتها بالفشل فجذبت مقعد وجلست أمام الباب تقول بنبرة متوعدة :
_ طيب اديني قعدالك اهو أما اشوف هتعرفي تطلعي ازاي من جوا .. خليكي قاعدة عندك

***
فتح عدنان الباب ودخل فوجد أمه تجلس على الأريكة أمام التلفاز وتشاهد أحد المسلسلات الكلاسيكية ، تنهد بقوة واقترب منها من الخلف وانحنى على رأسها يطبع قبلة حانية عليه ويهتف بوجه واضح عليه الهم والضيق :
_ عاملة إيه ياست الكل
التفتت له أسمهان بجسدها وطالعته بنظرة قلقة وهمست :
_ كويسة ياحبيبي .. إنت مالك شكلك مضايق من حاجة ؟!!
عدنان بخفوت فهو ليس في مزاج أبدًا للحديث :
_ مفيش حاجة متقلقيش تعبان بس من الشغل ، هطلع اريح في اوضتي شوية
هزت رأسها بأيجاب وقالت بحنو وهي تضغط على كفه بحب :
_ ماشي ياحبيبي ريح دلوقتي وبكرا نبقى نتكلم
هز رأسه بالموافقة في ابتسامة باهتة ثم استدار واتجه نحو الدرج وقبل أن يصعد أول درجاته هتفت أسمهان بنبرة ليست طبيعية :
_ صحيح فريدة مش فوق
تسمر بأرضه على أثر جملتها .. كيف ليست بالأعلى ، الساعة الآن تجاوزت الثانية عشر بعد منتصف الليل !! .. التفت بجسده ناحية أمه وهتف بنبرة غليظة :
_ إزاي يعني مش فوق .. امال فين ؟!!
أسمهان بنبرة واضح عليها الحنق :
_ هي مقالتلكش !! .. طلعت من الصبح وقالت إن في واحدة صحبتها عملت حادث وهتروح تزورها في المستشفى واحتمال تتأخر ولغاية دلوقتي مرجعتش ورنيت عليها مش بترد
عدنان بوجه بدأت تظهر عليه بشائر حالته المرعبة :
_ مش بترد .. وقاعدة برا لغاية الوقت ده ! .. تمام لما ترجع قوليلها إني مستنيها فوق
ثم استدار وصعد الدرج متجهًا إلى غرفته وهو يخرج هاتفه ويجري اتصال بها ولكن بلا إجابة منها .. مما هيج عواصفه أكثر ، فما فعلته جلنار والغضب المكبوت بداخله منذ لحظتها يبدو أنه سيكون من نصيب فريدة وستحظى بضعف حالته العصبية بالصباح .
فتح الباب على مصراعيه ودخل ثم جلس على الفراش وقدماه تهتز بشدة من فرط السخط .. ينتظر عودتها حتى تنال عقابها المستحق .
دقائق مرت حتى أصبحت ساعة كاملة !! ، وأخيرًا وصلت وكانت وجهتها فورًا إلى غرفتها بالاعلى بعد أن أخبرتها أسمهان بأن زوجها بانتظارها بالأعلى وكانت يبدو عليها الحنق والقرف منها وهي تحادثها مما أكد لها أن عدنان هو عبارة عن قنبلة موقوتة بالأعلى وتنتظرها حتى تنفجر بها ! .
فتحت الباب ببطء وخوف ثم دخلت وهي تنظر للجالس على الفراش وهيئته مرعبة ، رمقها بنظرة دبت الرعب في أوصالها فظلت واقفة مكانها لا تتحرك كالصنم تمامًا ، حتى سمعت همسة متحشرجة خرجت منه وهو يسأل بهدوء ما قبل العاصفة :
_ إنتي عارفة الساعة كام دلوقتي ! .. الساعة واحدة يا مدام يامحترمة
ابتلعت ريقها بتوتر وقالت بخوف بسيط :
_ أنا أسفة بس صحبتي كانت تعبانة أوي ياعدنان واضطريت اقعد معاها وأنا مرجعتش وحدي .. باباها وصلني
وثبت واقفًا وغار عليها كالثور الهائج وهو يصرخ بصوت جلجل في أرجاء القصر كله حتى أن آدم الكامن بغرفته سمع صوت صياح أخيه :
_ أنا مليش دعوة بالزفت اللي بتقوليه ده ولا بصحبتك ولا قرف .. أنا ليا دعوة بمراتي اللي قاعدة برا البيت لغاية الساعة واحدة بليل من غير ما تقولي ومبتردش على تلفونها كمان
كانت أسمهان من الأسفل تسمع صوت صياح ابنها وتبتسم بشماتة في تلك الشيطانة الصغيرة .. بينما فريدة بالاعلى فصابتها نفضة فور صرخته العنيفة بها وقالت بارتعاد :
_ التلفون كان في الشنطة والله ياعدنان ومسمعتهوش
قبض على ذراعها بقسوة وجذبها إليها وهو يهتف بنبرة مرتفعة وانفعال :
_ أنا ليا فترة سايبلك السايب في السايب وبتطلعي وتدخلي براحتك من غير ماتقوليلي وأنا مطنش بمزاجي عشان مش عايزة ازعلك مني .. بس لغاية هنا وكفاية أوي ، قسمًا عظمًا يافريدة لو رجلك عتبت برا عتبة القصر من غير أذني لتشوفي اللي عمرك ماشوفتيه مني فاهمة ولا لا .. واللي حصل النهارده ده اعتبريه اول تحذير مني ليكي
ثم سكت لبرهة وهدأت نبرة صوته قليلًا ليقول بصوت أشبه بفحيح الأفعى :
_ مش معنى إني بحبك وإنك اغلي حاجة عندي يبقى تستغلي النقطة دي وتعملي اللي على هواكِ ، أنا صبري ليه حدود وإنتي عارفة ده كويس ، متضطرنيش إني اتصرف معاكي بالطريقة دي تاني ياريت
ثم ترك ذراعها بجفاء ونزع سترته وهو يستدير ويلقيها على الفراش وهو متجه نحو الحمام .. تاركًا إياها تقف بصدمة لا تصدق أن هذا هو عدنان الذي طالما كان مثال في الحنان والحب ولم يعاملها بهذه الطريقة قط منذ زواجهم ، لابد أن تلك الأفعى جلنار هي السبب ! .

***
أجاب نشأت على الهاتف بتلهف ليسمع صوت الطرف الآخر وهو يقول بحماس :
_ عايز الحلاوة الاول بقى ياباشا على الأخبار السكرة اللي جبتهالك دي
_ اخلص ياحيوان .. اتكلم وإلا اقسم بالله أااا ....
قاطعه وهو يقول بخوف وضيق :
_ خلاص وعلى إيه ياباشا من غير إلا .. بنت سيادتك موجودة في أمريكا مع الواد اللي اسمه حاتم الرفاعي .. بس مش قاعدة معاه في نفس بيته هو في بيت وهي في بيت وبتشتغل معاه في شركته
_ والعنوان ؟
_ العنوان في كاليفورنيا ( .......)
هتف نشأت بفرحة :
_ استنى اتصال منى عشان اقولك تاجي وتاخد بقية فلوسك
أجاب الآخر بنظرات جشعة وصوت مسرور :
_ تسلم ياباشا .. وأنا هستنى اتصالك
انهى معه الاتصال وألقى بالهاتف بجواره وهو يبتسم بسعادة .. وبدأ يعد الخطط الجديدة من الآن فعثوره على ابنته خير فرصة له بكل شيء وليس عمله فقط ! .

رواية كيان الفهد كاملة جميع الفصول ( الفصل الخامس 5 ) 


كانت جلنار تجلس في حديقة المنزل وتتصفح هاتفها وتشرب كوب اللبن الصباحي الخاص بها وبجانبها صغيرتها كذلك تمسك بكوب اللبن وترتشف منه ببطء .. حتى صاحت فجأة بسعادة طفولية :
_ مامي .. خلصت اللبن
نظرت لها جلنار وشهقت بدهشة مصطنعة وهي تبتسم ثم قالت :
_ بالسرعة دي
هزت " هنا " رأسها بإيجاب بينما جلنار فانحنت عليها وطبعت قبلة عميقة على وجنتها وهتفت بحنو :
_ شطورة ياحبيبة مامي
ثم ابتعدت عنها وضيقت عيناها بذهول وهي تحدق في الجهة التي أمامها وتهمس بوجه معالمه جادة ومريبة :
_ إيه اللي هناك ده
التفتت الصغيرة فورًا برأسها للجهة التي تنظر منها أمها وبمجرد ما التفتت برأسها غارت جلنار عليها تدغدغها في جسدها الصغير بقوة فتنطلق منها ضحكات عالية وهي تحاول الفرار من أمها وتارة يمتزج ضحكها بصراخ .. حتى تركتها وهي تبادلها الضحك ، وثبت " هنا " جالسة بعد أن التقطت أنفاسها من شدة الضحك وقالت وهي تلتصق بأمها :
_ هو احنا مش هنكلم بابي تاني !!
اختفت ابتسامة جلنار وقالت بخفوت :
_ بابي أول مايفضى هيكلمنا ياحبيبتي
_ طيب احنا إمتى نرجع بيتنا ؟
اطالت النظر في أعين ابنتها الحزينة وقالت بأسى :
_ مش عارفة
أطرقت الصغيرة رأسها لأسفل بيأس ثم عادت تستكمل اسألتها :
_ بابي قاعد مع تيتا وطنط فييدة ؟
تأففت جلنار بصوت مسموع بعد سماعها لاسم فريدة من ابنتها واعتدلت في جلستها لتقول بحدة بسيطة :
_ هنا أنا قولتلك كذا مرة ياحبيبتي طنط فريدة مش بتحبنا خالص
اتسعت عيني الصغيرة وقالت بتعجب :
_ يعني طنط فييدة وحشة
مسحت جلنار على وجهها وهي تزفر بخنق ثم أجابت على ابنتها بحزم :
_ أيوة .. ويلا بينا ندخل عشان الجو برد وكدا ممكن تتعبي
استقامت " هنا" واقفة وامسكت بيد أمها وسارت معها إلى الداخل ، وهي تفكر متى سيعود والدها فلقد اشتاقت له كثيرًا .

***
تمسك بيدها كوب شاي وباليد الأخرى قطعة بسكوت تغمرها في الشاي وتخرجها لتضعها في فمها وهي تشاهد التلفاز على إحدى قنوات المسلسلات التركية المدبلجة .. زاد انتباهها وتركيزها على المشاهدة عندما جاء مشهد بين أبطال المسلسل وهم يتشجارون ، فظلت محدقة بالتلفاز وهي تلوي فمها بقرف من شخصية البطل في المسلسل .. ثم التقطت قطعة بسكوت أخرى وفعلت معها كما فعلت بالأخرى وهتفت بقرف وهي تلقيها بفمها قاصدة بطل المسلسل :
_ طاب والله العظيم الواد مراد ده بني آدم براس كلبة
سكتت للحظات تستمع لرد البطلة على البطل في التلفاز ثم هتفت بخنق :
_ هما إيه المتخلفين عقليًا دول .. يابت سبيه هما كلهم صنف عرة والله
وفجأة شعرت بكف قوى نزل على رقبتها من الخلف فانتفضت واقفة والتفتت بجسدها للخلف فوجدتها جدتها ، صاحت في ضيق :
_ هو حد جه جمبك ياحجة بتضربي ليه
اقتربت منها فوزية وهي تشمر عن أكمامها وتقول بوعيد وابتسامة متشفية :
_ لتكوني فاكرة عشان غلب عليا النوم امبارح وهربتي مني هسيب اللي عملتيه يعدي بسهولة كدا
ظلت مهرة تتقهقر للخلف وهي تقول بنبرة خائفة:
_ استهدي بالله بس وهنتفاهم .. طب بزمتك إنتي كنتي ترضهالي .. ده عبيط جاي يتقدم ولأبس بنطلون فسفوري ، اللون رشق في عيني جابلي حول والله
فوزية بغيظ :
_ ياختي بركة !
ابتسمت مهرة ببلاهة بعدما أحست بهدوء انفعال جدتها قليلًا ثم تحركت بحذر وخبث نحو جدتها حتى قفزت بجوارها ولفت ذراعيها حول أكتافها تقول بمكر :
_ يازوزا أنا مواصفات فتى أحلامي مختلفة
_ أكيد اهطل زيك
مهرة بشفتين مزمومتين :
_ لا لا انتي مش هتفهميني وبتستهزئي بأحلامي التافهة
تنهدت فوزية بعدم حيلة ثم اتجهت وجلست على الأريكة لتقول بصوت مرهق :
_ يابنتي حرام عليكي عايزة اطمن عليكي وافرح بيكي قبل ما اموت .. انتي أمانة امك الغالية الله يرحمها لو حصلي حاجة هسيبك لمين
إجابتها بسخافة وهي تضحك :
_ سبيني لضميري
انحنت فوزية وهمت بالتقاط شبشبها لكن مهرة قفزت وجلست بجوارها فورًا وهي تحتضنها وتهتف بضحك ومرح :
_ تموتي فين بس ده انتي صحتك زي البومب ، ده أنا قرب يجيلي كساح وإنتي بتجري زي الخيل
دفعتها فوزية بخفة هاتفة بسخط بسيط :
_ نقي عليا يا بنت رمضان مش كفاية فقعالي مرارتي عايزة تجيبي اجلي كمان
انحنت عليها وطبعت قبلة عميقة على جبهتها وهي تقول بعذوبة :
_ ربنا يديكي الصحة يازوزا ويخليكي ليا .. هو أنا أقدر أعيش من غيرك برضوا
طالعتها فوزية بحنان ثم جذبتها لأحضانها وهي تملس على شعرها وتطبع قبلات متفرقة عليه بحب ...

***
داخل منزل شقيقة أسمهان ....
سارت باتجاه أسمهان وهي تحمل كأسين من العصير الطازج ثم وضعتهم على منضدة صغيرة أمامهم وجلست بجوار شقيقتها وهي تسأل باهتمام :
_ لسا مفيش خبر عن جلنار يا أسمهان ؟
هتفت أسمهان بخنق محدثة شقيقتها :
_ يعني أنا جيالك يا ميرفت عشان تجبيلي سيرة اللي ما تتسمى دي
ميرفت بعدم فهم :
_ أنا نفسي افهم إنتي مش طيقاها ليه .. هي البنت عملتلك إيه ، دي حتى جيبالك حفيدة زي القمر ماشاء الله
أسمهان بغل وحقد :
_ مش طيقاها عشان بنت نشأت الرازي .. ده راجل قذر وكل يوم مع ست شكل .. وكل همه الفلوس ومصلحته وبس واهي بنته زيه لما لقت مفيش فايدة من ابني ومش هتعرف تاخد حاجة منه قالت اطلب الطلاق ولما رفض خدت البنت وهربت والله اعلم بقى قاعدة مع مين دلوقتي ولا بتعمل إيه
ميرفت بلطف وإشفاق :
_ يا أسمهان حرام عليكي متظلميش البنت .. جلنار كويسة وتستاهل أفضل حاجة .. متحسسنيش إن عدنان ملاك نازل من السما ، ماهي البنت هربت لما عرفت أنه عايز ياخد بنتها منها ومش كفاية معذبها معاه ومهملها ، و كل اهتمامه مديه لفريدة ولبنته ، وبعدين مش إنتي اللي كنتي عايزاه يتجوز تاني عشان يخلف وفضلتي تزني عليه لغاية ما تعب من الزن ووافق
أجابتها وهي تعتدل في جلستها وتقول بنظرات مشتعلة :
_ كنت هجوزه بنت سليم العايد ، نسب نتشرف بيه مش نشأت القذر ده .. لكن تقولي إيه بقى في عمته .. عارفة لو كانت عايشة لغاية دلوقتي أنا كنت اكلتها بسناني
تنهدت ميرفت بعدم حيلة مش حقد شقيقتها وبغضها للجميع الذي لا ينتهي أبدًا وقالت بتهكم :
_ده بدل ما تدعي للست بالرحمة وتقولي ربنا يرحمها
_ ماتت وسابتلي البلوة اللي اسمها جلنار دي بعد ما اقنعت عدنان أنه يتجوزها
ميرفت بنفاذ صبر :
_ طيب اشربي العصير يا أسمهان وخلينا نتكلم في حاجة تاني
زفرت أسمهان بعصبية بسيطة ثم التقطت كأس العصير وبدأت ترتشف منه بهدوء وهي تفكر في طريقة للتخلص من زوجة ابنها الثانية حتى تتفرغ بعد ذلك لفريدة .

***
دخلت إلى غرفة قديمة بالقصر لا يدخلها أحد إلا نادرًا ثم وقفت على عتبة الباب وأخرجت رأسها وجعلت تتلفت يمينًا ويسارًا لتتأكد من عدم وجود أحد ثم أغلقت الباب جيدًا ودخلت لتجيب على الهاتف وهي تهتف باستياء :
_ أنا مش قولتلك مليون مرة متتصلش بيا خالص إلا لو في حاجة ضروري
أتاها صوت الآخر وهو يهتف بهيام :
_ ماهو في حاجة ضروري وهي إنك وحشتيني ياديدي
ارتفعت الابتسامة المحبة على شفتيها وقالت بدلال :
_ هو إنت لحقت ما أنا كنت معاك امبارح اليوم كله
_ إنتي بتوحشيني كل دقيقة ياحبيبتي .. طمنيني عملتي إيه امبارح لما رجعتي
تنفست الصعداء بضيق وقالت :
_ حصلت مشكلة كبيرة وعدنان كان على أخره ومن امبارح مش بيتكلم معايا
_ وبعدين مع عدنان أنا قولتلك اديني بس الإشارة وصدقيني هنرتاح منه خالص يافريدة
صاحت بصوت مرتفع نسبيًا :
_ أنت اتجننت نرتاح منه إيه .. أنا مقدرش اعمل حاجة زي كدا ، واحدة واحدة نخلص من جلنار دي الاول وبعدين هشوف هتصرف إزاي مع عدنان
_ زهقت يافريدة عايزاك تخلصي منه أو تتطلقي حتى عشان تكوني ليا لوحدي .. مبقتش قادر استحمل

سكتت لبرهة من الوقت وهي تستعيد في ذهنها كافة الأحداث منذ زواجه بجلنار وحتى الآن .. كيف كانت فرحته وهي تراه يحمل ابنته بين ذراعيه لأول مرة ونظراته الدافئة لجلنار منذ ولادتها ، خوفه وجنونه عليها الآن وهي بعيدة عنه وغيرته المفرطة عليها .. لقد اشبعها من كلماته حول حبه الوحيد لها وأن جلنار لا تعنيه بشيء ولكن أفعاله أظهرت العكس تمامًا .
هتفت فريدة بقسوة :
_ اطمن عدنان أصلًا مبقيش ليه أي مكان في قلبي .. أنا مستنية الوقت المناسب وبعدها صدقني هكون ليك لوحدك ومفيش حاجة هتقدر تفرقنا
ثم هتفت فورًا باضطراب بسيط :
_ أنا هقفل عشان ممكن حد يسمعني وانا مش ناقصة مصايب مش عايز ادي فرصة لعدنان أنه يشك فيا حتى
_ طيب ياحبيبتي خلي بالك من نفسك
_ وإنت كمان .. سلام

أنهت معه الاتصال ثم جلست على الفراش الذي خلفها وبقت تحملق أمامها بعينان تطلق شرارات الغضب والغيظ ....

***
داخل مكتب عدنان في القصر ...
جالسًا على الأريكة ويمسك بصورة صغيرة بين يديه ويحدق بها في أعين مشتاقة ومتألمة .. لم يعد يحتمل فراق صغيرته عنه أكثر من ذلك .. قلبه يصرخ شوقًا لها ، وروحه تائهة في الفضاء تبحث عن مستقرها ، ولن تعود له إلا عند عودة فتاته إليه .
جلنار اختارت العِقاب الأمثل له ، بدلًا من أن تعذبه بأي شيء آخر اختارت الأكثر ألمًا بالنسبة له وهو إبعاد ابنته عنه .. والآن هو يتخبط بيأس باحثًا عن أبرة في كومة من القش ولا يتمكن من إيجادهم .. من جهة ابنته وخوفه عليه واشتياقه لها ومن جهة أخرى تلك الماكرة التي تفعل كل ما بوسعها حتى تثير جنونه وغيرته ، لم يتمكن من إخراج صورتها من عقله مع ذلك الرجل منذ أمس .. وكلما تعصف بذهنه يظهر الاحمرار في عيناه ويزداد وعيده لها أكثر ، وليت عقله اللعين يتوقف عند هذا الحد فقط بل يستمر في طرح أسئلة وتخيلات تزيد من جنونه أكثر .. ماذا كان رد فعلها هل كانت سعيدة بلمسة ذلك الوغد لها أم أنها نفضت يده عنها ؟ .. من يكون ذلك الرجل ؟ .. هل الأمر تخطى مجرد لمسة يد ؟! .. ( ماذا تفعلين ياجلنار ، اقسم لكِ إنني حين أجدك ستنالين العقاب الذي تستحقينه مني وسأجعلك تتوسلين أن ارحمك ولن أشفق عليكِ )
كانت جملة قاسية وجافة يهمسها لنفسه تعبر عن مدى دماره الداخلي من كل شيء تفعله تلك المتمردة .
عاد ينظر إلى الصورة التي بيده من جديد ويبتسم بصفاء ثم تقذف بذهنه فجأة ذكرى له مع صغيرته .

فتح باب غرفتها ببطء شديد ثم ادخل رأسه أولًا فوجدها تجلس على الأرض ومنشغلة باللعب بألعابها الخاصة ، وحين فتح الباب كاملًا ودخل بجسده كله فالتفتت هي برأسها نحو الباب ووثبت واقفة بفرحة وركضت نحوه تتعلق بقدميه وهي تهتف بصوت طفولي :
_ بابي
انحنى إليها وامطرها بوابل من قبلاته الحانية على وجهها كله وهو يهمس بصوت ينسدل كالحرير ناعمًا :
_ ياروح بابي .. جبتلك حاجة حلوة معايا
لمعت عيناها بوميض متشوق وقالت بحماس :
_ شوتلاته ؟ ( شوكولاته )
قهقه عاليًا وهز رأسه بإيجاب ثم هتف بخبث جميل :
_ بس مش هتاخديها إلا بشرط
اختفت ابتسامتها وحل محلها اليأس فوجدته يميل بوجهه للجانب يشير إلى وجنته هامسًا :
_ عايز بوسة كبيرة اوووووي
ارتمت عليه تعانقه وهي تعطيه قبلة قوية وعميقة على وجنته فيهتف بضحكة بسيطة وبهيام :
_ الله .. احلى بوسة في حياتي
ثم مال بوجهه للجانب الآخر وأشار لوجنته الأخرى :
_ وحدة هنا كمان
فعلت بالمثل وبقوة أشد على وجنته الآخرى ثم ابتعدت ووقفت تنظر له منتظرة أن يخرج لها الحلوى .. فمد يده في جيبه سترته وأخرج قطعة شوكولاته كبيرة نسبيًا مغلفة بورقة جميلة فصاحت " هنا " بسعادة وجذبتها من يده ثم فورًا بدأت تزيل الغلاف عنها ووضعت جزء منها في فمها وهي تأكلها بفرحة ولطخت فمها كله ويديها بها ، ثم نظرت لأبيها الذي يتابعها بحنو وحب وكسرت قطعة صغيرة منها ومدت يدها بها إلى فمه ثم لفت ذراعيها حول عنقه وعانقته وهي تطبع قبلة صغيرة على وجنته وتهمس :
_ بحبك أوي يابابي
لم تمهله اللحظة ليجيب عليها حيث بمجرد ما ابتعدت عنه ورأت الشوكولاته التي طبعت على وجهه بسبب فمها الملطخ بها .. انفجرت ضاحكة بصوت عالي ، ضيق هو عيناه باستغراب ثم تحسس وجنته بانامله فاتسعت عيناه بدهشة وغيظ مزيف ، وباللحظة التالية كان يحملها ويلقي بها على فراشها الصغير ويتولي مهمة دغدغتها بوجهه كله في جسدها ورقبتها وهي تطلق ضحكات جلجلت أرجاء المنزل كله حتى وصلت لأذن أمها التي سمعتها وهي بالمطبخ وابتسمت بحب ....

جذبه من ذكرياته الجميلة مع ابنته ، صوت انفتاح الباب ودخول فريدة ، وضع صورة ابنته على المنضدة الصغيرة التي بجانب الأريكة ، وتصنع تجاهله لها تمامًا حتى وجدها تجلس بجواره وهي تهتف بأسف :
_ أنا آسفة يا عدنان .. اوعدك إنها مش هتتكرر تاني
رمقها بنظرة دبت الرعب في أوصالها وقال بشراسة :
_ أنا مش هنتظر منك توعديني يافريدة .. إيه اللي حصل امبارح ده واللي كنتي بتعمليه وخروجك من غير أذني مش هيتكرر غصب عنك لأن لو حصل واتكرر أنا مش مسئول عن تصرفاتي بعد كدا
هتفت بنظرات مستاءة ووجه يعطي احمرار مريب :
_ أنت بتتصرف معايا بالطريقة دي ليه ياعدنان .. أنت عمرك ما عاملتني كدا ، أكيد بسبب الحقيرة اللي اسمها جلنار
مسح على وجهه وهو يزفر بحنق ثم أجابها بنظرة قوية :
_ إنتي عارفة إنك بنسبالي متتحطيش في مقارنة لا مع جلنار ولا غيرها .. لكن إنتي اللي شكلك مش قادرة تتقبلي خطأك وإنك لازم تتعاقبي ، متقارنيش نفسك بحد .. إنتي غلطتي وكان لازم تتعاقبي
تنفست الصعداء وهي بداخلها تشتعل بنيران الغضب ، أتت للإعتذار منه فقط حتى تحافظ على المتبقى من علاقتهم بالنسبة لها إلى حين تتخلص منها ومنه نهائي .
خرجت صوتها مكتوم بالغيظ :
_ واللي عملته معايا إمبارح مكنش عقاب كفاية بنسبالك !!
عدنان بحزم :
_ انفعالي عليكي امبارح إنتي السبب فيه لأنك استنفذتي كل طاقة صبري على تصرفاتك في الفترة الأخيرة
فريدة بوجه محتدم :
_ وعقابك ليا ده هيستمر لغاية إمتى ؟!
عدنان بجفاء وبرود :
_ لغاية ما احس إنك اتعلمتي من غلطك واشوفك بتنفذي اللي قولت عليه
لم تبذل أي مجهود في محاولة استعطافه أو جعل قلبه يلين لها قليلًا ، رغم معرفتها أنها إذا حاولت وبمجرد كلمات بسيطة منها ستنجح في الأمر لكنها لم تهتم كثيرًا للحصول على مسامحته أو غيره من الأساس .. استقامت واقفة وقالت بمضض :
_ انا هطلع اوضتي لو احتجت حاجة انده عليا
ثم اندفعت من المكتب بسرعة وهي عبارة عن جمرة من النيران الملتهبة ولا تتوقف عن الوعيد لتلك المدعوة بجلنار !! .. بينما هو فظل يحملق على اثرها وهو يغضن حاجبيه بحيرة من أمرها !! .

***
عبر آدم من بوابة الشركة واتجه إلى المصعد الكهربائي واستقل به .. ثم ضغط على زر الصعود للطابق الثالث حيث يوجد مكتبه ومكتب أخيه ، لحظات عابرة وتوقف المقعد ثم انفتح الباب ليخرج ويتجه نحو مكتبه لكنه لمح نادر وهو يقف أمام باب مكتب أخيه ويهم بفتحه للدخول ، فغير وجهته فورًا وتحرك نحو مكتب أخيه وهتف بصوت مرتفع بعض الشيء :
_ نادر !
تصنم الآخر بأرضه وأخذ نفسًا عميقًا قبل أن يلتفت له بجسده كاملًا وهو يبتسم ببرود فوقف آدم أمامه وقال بخشونة :
_ خير واقف عند مكتب عدنان ليه ؟
نادر بنبرة ممتعضة :
_ كنت داخل احط الملفات دي على مكتبه عشان لما ياجي يشوفهم
آدم بصرامة :
_ تقدر تدهاني أنا وهوصلها ليه متقلقش
ابتسم نادر بسخرية وقال بضجر :
_ هو في إيه بظبط يا آدم .. أنت مضايق مني في حاجة وأنا معرفش !!
أجابه بشموخ واضعًا كفيه في جيبي بنطاله وهتف بصراحة مألوفة عليه .. دون أن يتردد لحظة في نطق أي كلمة سيقولها :
_ في إني مش مستلطفك يانادر ولا طايقك وده من غير أي سبب سبحان الله .. وأنا لما يكون مش مستلطف حد يبقى أكيد الشخص ده مش تمام فخليك حذر عشان أنا عيني عليك ، ومكتب عدنان طول ما هو مش موجود يبقى الافضل متدخلهوش خالص
ثم أخرج كفه من جيب بنطاله ورتب على كتف نادر بابتسامة باردة وهو يقول بنظرات ذات معنى :
_ يلا روح كما شغلك يابشمهندس
ثم استدار وعاد يتجه نحو مكتبه مرة أخرى بينما نادر فظل واقفًا وهو يتابعه بعيناه الملتهبة ويهتف بنظرة شيطانية :
_ شكلك مش هتجبها لبر معايا يا ابن الشافعي

***
في مساء ذلك اليوم .....
خرجت جلنار من الحمام وهي تلف حول جسدها منشفة وتمسك بأخرى صغيرة تجفف بها شعرها .. ثم اتجهت نحو خزانتها حتى تخرج ملابسها وبينما كانت تبحث عن منامة بعينها وسط الملابس ، وقعت يداها على فستان من اللون الذهبي ، طويل وبحاملات رفيعة ومن الخلف لديه فتحة ظهر واسعة أما الامام فينزل بشكل مستقيم في منتصف الصدر ليظهر جزء ليس صغير منه .. تجمدت يداها وهي تحدق به ، لا تعرف لماذا أخذته معها حين غادرت المنزل ولكنها لن تنسى حين أهداه لها بمناسبة عيد ميلادها منذ سنتين وكيف فرحت أنه تذكرها بشيء وسط إهماله الدائم لها .
أخرجته من الخزانة ومدت أناملها تتلمسه برقة وإعجاب ، ورغبت بشدة أن ترتديه مجددًا .. ولم تتردد كثيرًا حيث سرعان ما شرعت في ارتدائه ثم وقفت أمام المرآة وهي تتفحص نفسها بنظرها ، كان مثالي تمامًا ويسرق الأنفاس على جسدها الأنوثي للدرجة التي جعلها تقف تحملق بنفسها في إعجاب ، شردت فجأة بذهنها متذكرة اللحظة الأولى التي ارتدته فيها عندما أهداه لها .

تتلفت حول نفسها يمينًا ويسارًا أمام المرآة وهي تبتسم حتى تجمدت مكانها حين شعرت به من خلفها وهو يلف إحدى ذراعيه حول خصرها بتملك والآخر يضعه على ذراعها وينظر الانعكاس وجهها في المرآة وثم إلى الفستان الذي حبس أنفاسه وهمس :
_ كأنه متفصل خصيصًا ليكي
أحست بتسارع نبضات قلبها وتمتمت باستحياء بسيط ورقة :
_ ميرسي ياعدنان شكله جميل أوي وعجبني جدًا
سمعت همهمته بالقرب من أذنها التي أثارت في جسدها رعشة بسيطة وهو يحملق بها بنظرات خبيثة ويبتسم :
_ أنا مش قادر أشيل عيني من عليكي
بادلته الابتسامة ثم التفتت له بجسدها و.......

انتشلها من شرودها صوت رنين الهاتف الصاخب ، نظرت لنفسها بصدمة فكأنها كانت بعالم آخر لا تشعر بشيء ، نفضت عن رأسها تلك الذكرى وأفكارها كلها ثم أمسكت بالهاتف وأجابت على المتصل بصوت خافت :
_ أيوة ياحاتم
_ عاملة إيه ياجلنار ؟
سؤال بالتوقيت المناسب تمامًا .. وليتها تتمكن من الإجابة عليه بصدق ، لكنها ستؤثر الرد التقليدي على سؤال كهذا بالطبع حيث ردت بعبوس :
_ كويسة
حاتم في إيجاز ونبرة جادة :
_ طيب أنا جايلك دلوقتي عايز اتكلم معاكي في كام حاجة كدا
_ تمام مستنياك
أغلقت الاتصال معه ثم تنفست الصعداء بضيق وهمت بتبديل ملابسها لكن صوت طرق الباب جعلها تقف بتعجب
.. لا يعقل أن يكون وصل بهذه السرعة بالطبع ، لحظة أخرى وعاد الطرق من جديد لكن بقوة أشد فخافت من أن تستيقظ ابنتها من الصوت المزعج ، ألقت بشال قصير على كتفيها حتى يخفي نصف جسدها العاري من الأعلى وغادرت الغرفة متجهة نحو الباب وفتحت بوجه مضطرب وغاضب بنفس اللحظة .

تجمدت الدماء في عروقها وهي ترى أبيها أمامها ..
كيف وصل وعرف مكانها كل هذا لا يهم .. الأهم أن الآن لم يعد هناك مجال للهرب مرة أخرى وحتمًا ستعود لما فرت هاربة منه .. شعرت بصفعته القوية التي نزلت على وجنتها وهو يدخل ويغلق الباب ويصيح بها :
_ بتاخدي بنتك وتهربي بيها .. هي دي آخرة التربية اللي ربتهالك ياجلنار
وضعت كفها على وجنتها ورمقت أبيها بنظرة نارية ثم قالت بسخط :
_ إنت إيه اللي جابك !!
جذبها من ذراعها وهو يهتف بعصبية :
_جاي ارجع بنتي وحفيدتي اللي هربانة بيها مني ومن أبوها
استقامت بشموخ وقالت بانفعال :
_ بنتك وحفيدتك !! .. كانت فين بنتك دي لما أجبرتها على الجواز .. كانت فين لما فضلت تتوسلك عشان تطلقها منه وأنت مكنتش بتوافق .. كانت فين لما اتفقت مع عدنان إنه ياخد بنتي مني ويطلقني .. هااا كانت فين اتكلم يا نشأت الرازي
تمتم نشأت بهدوء مستفز :
_ أنا كلمت عدنان قبل ما اركب الطيارة وآجي وهو أكيد ركب في الطيارة اللي بعدي وجاي دلوقتي
ثم سكت لبرهة من الوقت واقترب منها يمسك بذراعيها بكلتا يديه ويقول بنبرة مهتمة ورخيمة :
_ طلعي الطلاق ده من دماغك ياحبيبتي .. أنا مش هقدر على عدنان الشافعي ، تراجعي ولو مراته التانية هي اللي مسببة ليكي المشكلة ، أنا واثق إنك تقدري تخليه يطلقها ويبقى ليكي لوحدك .. صدقيني كدا أفضل ليكي
ابتسمت بعدم استيعاب لما يخرج من بين شفتيه ،لا تصدق أن ذلك الرجل هو أبيها .. هو لا يصلح حتى أن يطلق عليه اسم أب !! .
دفعت يديه بعيدًا عنها بعنف وتراجعت للخلف وهي تقول بسخرية وأعين دامعة :
_ قصدك أفضل ليك أنت .. عشان مصالحك وشغلك معاه ميوقفش ومتخسرش مشاريعك وصفقاتك يا نشأت بيه الرازي .. صح ولا لا ! .. أنت لا يمكن تكون أب ، أنا أصلًا بعتبرك ميت ومليش أب
صاح بها في صوت مرتفع :
_ المشاريع والصفقات دي هي اللي هترجع اسم الرازي تاني في السوق .. احنا على عتبة الإفلاس لو مش حاسة ، لما تتطلقي منه فكرك إنك هترجعي تعيشي في قصر ابوكي وفي الهنا والعز اللي كنت عايشة فيه .. لا وقتها هنكون افلسنا ياجلنار يمكن حتى القصر هيتحجز عليه ومش هيفضل معانا ولا أي حاجة

انهمرت دموعها على وجنتيها بحرقة .. ليتها ولدت يتيمة من دون أب حتى لا ترى كتلة القسوة والجفاء المتجسدة أمامها في هيئة أب ، ظلت تتقهقر للخلف وهي تشهق ببكاء حار حتى اصطدمت بالأريكة من خلفها وارتدت جالسة عليها ثم قالت بصوت موجوع :
_ ملعون الفلوس كلها اللي تخليك تبيع بنتك عشانها .. وترميها لراجل قاسي ومبيحبهاش عشان مصلحتك وشغلك
اقترب منها وجثى أمامها ثم أمسك بكفها وهتف في نظرة تحمل الوعيد ونظرات دافئة :
_ عدنان مش. هيقدر يأذيكي حتى لو رجعتيله مش هيقدر .. وطول ما ابوكي عايش متخافيش مش هسمح لحد أن يمس شعرة منك
اندفعت صارخة به بهستريا وهي تجذب يدها من بين يديها :
_ أنت مش ابويا .. أنت بنسبالي نشأت الرازي وبس .. وصدقني لو اقدر اغير هويتي واشيل اسمك من حياتي كلها هعملها ، كان نفسي ماما تكون موجودة دلوقتي وتشوف اللي بتعمله فيا عشان مصلحتك وفلوسك .. بس خلي في علمك أنا مش هسكت اكتر من كدا .. سكت لاربع سنين وأنا مستحملة جشعك وطمعك وإهمال عدنان ليا وكأني نكرة مش موجودة ، بس كفاية أوي لغاية كدا وهتشوفوا جلنار الرازي اللي على حق من هنا ورايح
كان سيجيب عليها لكن صوت الرنين الباب أوقفه .. استقام واتجه نحو الباب ليفتح فوجد حاتم أمامه ،ابتسم له باستهزاء وقال :
_ أهلًا أهلًا
اطال حاتم النظر فيه بصدمة وسرعان ما دفعه من طريقه ودلف للداخل وهو يهتف :
_ جلنار فين !!
وجدها جالسة على الإريكة وتحدق في اللاشيء أمامها بوجه مهموم وممتلئ بالدموع .. هرول نحوها وجثى أمامها يهتف بتلهف وقلق :
_ جلنار إنتي كويسة ؟ .. عملك حاجة ؟!
هزت رأسها بالنفي دون أن تتفوه ببنت شفة بينما نشأت فهتف باستياء وغضب وهو يجذب حاتم من أمام ابنته :
_ أنت تبعد عن بنتي خالص ومتقربش منها نهائي فاهم ولا لا ياواطي
دفع حاتم يده عنه وصاح به بانفعال :
_ أنا برضوا اللي واطي .. ياراجل يامهزق ، وليك عين كمان تتكلم وتقولي متقربش منها
نشأت بعينان التهبت بالنيران :
_ لا ده أنت كدا عايز يتقرص على ودنك كويس يا ابن الرفاعي عشان تعرف بتتكلم مع مين
_ بتكلم مع واحد حقير باع بنته وحفيدته عشان مصلحته والفلوس .. أنا اللي حايشني عنك إنك راجل كبير بس مش اكتر

هم نشأت بأن يندفع نحوه ليضربه لكن جلنار وثبت ووقفت في المنتصف بينهم صارخة بانهيار :
_ بس كفاية
ثم نظرت لحاتم وقالت بوجه منفتر :
_ ملوش لزمة ياحاتم خلاص عدنان جاي في الطريق

لجمت الدهشة لسانه وظل يحملق بها للحظات طويلة دون أن يتحدث وفجأة ارتفع صوت جرس الباب للمرة الثالثة ، وهذه المرة كان الطارق معروف .. نظرت جلنار لحاتم الذي اندفع نحو الباب بعصبية ووجه يشع غضب ونقم ، فاندفعت خلفه وهي تهتف برجاء :
_ حاتم استني ارجوك متفتحش .. حاتم !

لكن لا حياة لمن تنادي حيث وقفت هي على مسافة بعيدة منه وهي تراه يفتح الباب ليظهر من خلفه عدنان بهيئته المعتادة ووجهه كان يظهر عليه مدى ثورانه الداخلي .


رواية كيان الفهد كاملة جميع الفصول ( الفصل السادس 6 ) 


لحظات مرت كالساعات وعدنان لا يزال يقف يحدق بذلك الواقف أمامه ، وحين دقق النظر في ملامح وجهه تذكره جيدًا ، أنه نفس الرجل الموجود بالصور مع زوجته ، التهبت عيناه وباللحظة التالية فورًا وغار على حاتم وهو يوجه له عدة لكمات عنيفة ويصيح :
_ أنت بتعمل إيه هنا يا ****
تصلبت جلنار بأرضها وهي فاغرة شفتيها لا تصدق ما تراه أمامها أما نشأت فكان يقف بهدوء تام ونظرات متشفية في حاتم .. الذي وقف من على الأرض ورد اللكمة لعدنان فسالت الدماء من فمه على اثرها وهتف بنظرات نارية :
_ امشي بالذوق ياعدنان بدل ما اتصل بالبوليس واخليه ياجي ياخدك
مسح عدنان بإبهمامه الدماء من جانب فمه وهي يرمقه بنصف نظرة مميتة ثم اندفع نحوه كالثور الهائج وقبض على رقبته ودفعه بقوة ليصطدم بالحائط ويحاصره وهو ممسكًا برقبته ويهتف في وجه مخيف ونظرة دبت الرعب في أوصال جلنار :
_ طيب اسمع انت بقى ياشاطر .. هتبعد عن مراتي وبنتي ومتقربش منهم وإلا اقسم برب العزة ادفنك في أرضك دلوقتي ولا أنت ولا البوليس بتاعك يقدر يعملي حاجة
ركضت جلنار نحوهم وامسكت بعدنان تحاول إبعاده عن حاتم وهي تصيح بخوف :
_ أنت اتجننت .. ابعد عنه ياعدنان
استقرت نظرة في عيناه قذفت الرعب في نفسها جعلتها تتراجع خطوة للخلف ، بينما حاتم فأفلت نفسه من بين براثن عدنان بصعوبة وهم بالانقضاض عليه مرة أخرى لولا جلنار التي هرولت نحوه ووقفت أمامه تهتف بتوسل :
_ امشي ياحاتم ابوس إيدك عشان خاطري .. متقلقش عليا ااا.....
أطلقت شهقة عالية وهي تشعر بقبضة عدنان التي قبضة على ذراعها بعنف وجذبها إليه وهو يصرخ بها بصوته الجهوري :
_ إنتي تعالي هنا .. لسا حسابك جاي معايا
كور حاتم قبضته بقوة حين رآه وهو يمسكها بهذه الطريقة ويصرخ بها لكن نظرة جلنار المتوسلة له جعلته يتراجع مجبرًا واستدار وانصرف متوعدًا لعدنان .
بمجرد انصرافه دفعت عدنان بعيدًا عنها وهي ترمقه بنظرة مشتعلة كلها غضب وغل ، بينما الآخر فعاد يجذبها من ذراعها وهو يصيح بصيحة هادرة :
_ بيعمل إيه الحيوان ده هنا !
تدخل نشأت وأبعد عدنان عن ابنته وهو يهتف بحدة :
_ احنا اتفاقنا كان إني هقولك على مكان بنتك بس متقربش من بنتي ياعدنان
انطلقت ضحكة عالية من جلنار التي هتفت بهستريا :
_ اتفاق !!! .. اتفاق تاني إنتوا أقذر اتنين عرفتهم في حياتي ، أنا لو اقدر اقتلكم كنت عملتها من زمان .. بس للأسف واحد بابايا والتاني أبو بنتي ومقدرش احرمها من باباها
صرخ بها عدنان بصوت نفضها بأرضها :
_ اخرسي مسمعش صوتك خالص
ثم نظر لنشأت وقبض على ذراعه وجذبه معه إلى إحدى الغرف وأغلق الباب عليهم .. بينما هي فجففت دمعة حارقة سقطت من عيناه ودخلت إلى الصالون وجلست على الأريكة وقدماها تهتز بقوة من فرط سخطها .
استمر حديثهم لثلاث دقائق تقريبًا حتى خرج عدنان أولًا من الغرفة يتبعه نشأت الذي القى نظرة عاجزة على ابنته واتجه النحو الباب وانصرف .. ضحكت جلنار باشمئزاز وهتفت لعدنان الذي تحرك نحوها :
_ إيه اديته قرشين وسكته بيهم !! .. ما هو أنتوا الاتنين أحقر من بعض
وصل عدنان إليها وانحنى عليها بنصف جسده العلوي وهمس بفحيح أشبه بفحيح الأفعى ونظرة متوعدة :
_ هدخل اشوف بنتي وبعدين هفضالك
طالعته بقرف وغيظ امتزج بابتسامه ساخرة منها بينما هو فانتصب في وقفته واندفع يبحث عن ابنته في أرجاء المنزل .

***
فتح باب إحدى الغرف المزين برسومات أطفال من الخارج ، وادخل رأسه فقط فيجد صغيرته نائمة في فراشها وضوء الغرفة بني خافت مريح للأعصاب وتنام محتضنة بين أحضانها دمية جميلة قام بشرائها هو لها .. وقف على عتبة الباب يحملق بها بسكون وقلبه يتراقص فرحًا من الداخل .
دخل وأغلق الباب ثم اقترب من فراشها وجثى أمامها متأملًا ملامحها الصغيرة التي يعشقها .. الآن فقط يشعر بأن روحه التائهة عادت لمستقرها من جديد وهو يرى فتاته بخير أمامه ، تجمعت الدموع في عيناه وانحنى على رأسها يطبع عدة قبلات متتالية في شوق شديد وبيده يملس على شعرها بحنو هامسًا في دفء وصوت مبحوح :
_ وحشتيني أوي ياهنايا .. لو تعرفي أنا كنت بتعذب إزاي في بعدك عني .. إنتي النفس اللي بتنفسه ومقدرش أعيش من غيرك لحظة واحدة ، بس اوعدك إن مش هسمح لحد ياخدك مني تاني أو يبعدك عني ياروح بابا

سقطت دمعة صادقة من عيناه وهو لا يتوقف عن تقبيلها بحذر حتى لا تستيقظ .. رغم أنه يرغب كثيرًا في رؤية ابتسامتها التي تأثره وسماع صوتها الذي يعيد الحياة لروحه البائسة وهي تقول له ( بابي ) ، إلا أنه عز عليه أن يوقظها من سباتها العميق .. فاكتفى ببث شوقه لها عن طريق قبلاته على شعرها ووجنتيها وكفها .
خرجت همسة تحمل الاعتذار وصوته واضح عليه البكاء :
_ أنا آسف ياحبيبتي
تململت في فراشها بانزعاج بسيط فابتعد فورًا عنها حتى لا يوقظها وانتظر للحظات قصيرة حتى تعمقت في النوم من جديد وعاد يطبع قبلته الأخيرة على وجنتها بعمق وعلى شفتيه ابتسامة أبوية حانية ثم استقام واقفًا على قدميه ورفع أنامله مجففًا دمعته ليعود لطبيعته الشامخة والقوية في لحظة قبل أن يغادر غرفة صغيرته .

***
دخلت جلنار غرفتها وجلست على فراشها وهي تطرق بحذائها على الأرض في عنف وبيدها تمسح على وجهها زافرة بعصبية محاولة تمالك نفسها حتى لا تنزل دمعة واحدة منها فتظهر ضعيفة أمامه .
نزعت ذلك الشال الذي يخنقها أكثر والقت به بانفعال على الفراش في عشوائية متأففة بقوة ، وفجأة انفتح الباب على مصراعيه ودخل هو ثم اغلقه خلفه .. استقامت على قدميها تقف أمامه بشموخ ، فوجدته يتحرك نحوها بخطواط بطيئة ونظرات لا تبشر بخير أبدًا ، حتى أصبح أمامها تمامًا وتمتم بصوت بعث القليل من الرهبة في نفسها :
_ مين الحقير اللي كان موجود برا ده !
ابتسمت ببرود قاصدة استفزازه وتمتمت بنبرة مثلجة :
_ انهي واحد فيهم أصل كان في حقراء كتير برا وفي واحد منهم لسا واقف قدامي أهو
أحمر وجهه وظهرت عليه بشائر فقدانه لصوابه تمامًا ، فأطلقت صرخة مكتومة حين جذبها من شعرها وهمس في أذنها بهمس قاسي وعينان ملتهبة :
_ متخلنيش اوريكي الحقارة اللي على حق ياجلنار .. هروبك ببنتي واختفائك طول الفترة دي كوم وجودك مع راجل غريب وسماحك ليه إنه يلمسك ويقربلك دي كوم تاني ، عارفة لو طلعتي بـ....
صرخت به بعصبية وهي تحاول أفلات شعرها من قبضته :
_ هتعملي إيه يعني هااا .. هتقتلني مثلًا !
_ يعني هو صح إنتي بتخونيني !!!
تمكنت أخيرًا من الأفلات من قبضته وصاحت به بهستيريا :
_هو إيه اللي صح ! .. إنت مجنون ومريض نفسي ، أنا لو عايزة اخونك هقولهالك في وشك ومش هخاف منك لكن مش أنا اللي أعمل كدا ، حاتم صديق ليا من واحنا صغيرين وأنا اللي طلبت منه إنه يساعدني وهو ساعدني في السفر لهنا وساعدني في كل حاجة حتى البيت ده بيته .. كان خير صديق وأخ ليا ، عارف يعني إيه تكون حاسس بالآمان مع حد غريب عنك .. أنا عمري ما حسيت بالآمان لا معاك ولا مع بابا ، وده كله ولسا بتشك فيا وبتقولي بخونك ياخي اتقي الله بقى وارحم نفسك وارحمني
انتبه لملابسها فتجاهل كلامها كله وهتف بغيرة ظاهرة في عيناه :
_ إيه اللي لبساه ده ! .. إزاي تطلعي بالشكل ده قدام الـ **** اللي كان موجود برا ده
اطالت النظر في وجهه بجمود تام وهي تجز على أسنانها بغيظ وقالت بصوت قوي :
_ اطلع برا يا عدنان مش عايزة اشوفك .. مش طيقاك

نزل بنظره على جسدها المرسوم ومعالمه ظاهرة بوضوح حتى أن فتحة الصدر تظهر عن داخلها ، التهبت نيرانه أكثر وجلجلت نيران الغيرة في صدره ، فتقدم خطوة منها واستقرت في عيناه نظرة مريبة اربكتها جعلتها تتراجع للخلف وهو لا يزال يتقدم إليها حتى وجدت نفسه تصطدم بالحائط من خلفها ومحاصرة بين جدارين أحداهما حقيقي والآخر كان هو يقف كالسد المنيع بهيئته المريبة .. وضع كفه على الحائط بعنف مصدرًا صوتًا عاليًا أثار وغزة بسيطة في جسدها ويده الأخرى نزلت لخصرها يمسكها منه بتملك ويجذبها إليه في قوة ويهتف أمام وجهها مباشرة بتحذير حقيقي :
_ عارفة لو شفتك لابسة البتاع ده قدام حد تاني .. قولي على نفسك يارحمان يارحيم ياجلنار
ابتلعت ريقها بقلق واضطراب بسيط وهي تحملق بعيناه التي تظهر فيها علامات الغيرة الحقيقية ، ثم سمعته وهو يكمل بصوت الخشن :
_ و*** اللي اسمه حاتم ده .. انسيه تمامًا ومش عايز اشوفك بتتكلمي معاه مجرد كلام فاهمة ولا لا ، وإلا قسمًا عظمًا اخليكي تشوفي النجوم في عز الضهر يابنت الرازي

ثم عاد ينزل بنظره مرة أخرى إلى ذلك الفستان الذي ترتديه ثم دفعها بعيدًا عنه بنفور مزيف وهتف بقسوة :
_ وغيري القرف اللي لابساه ده
شعرت بالراحة عندما حررها من بين براثينه وتمتمت بقرف وهي تفتح الخزانة وتجذب من ملابسها ما تجده أمامها وتتجه نحو الحمام متمتمة بقرف :
_ هو فعلًا مقرف زي اللي جايبه
ثم دخلت الحمام وأغلقت الباب واستمرت في التمتمة المرتفعة نسبيًا والتي وصلت لمسامعه في الخارج فسمعته وهو يهتف بصوت غليظ :
_ من غير برطمة

***
نزلت الدرج بهدوء حتى وصلت لآخر درجاته ووقفت تهتف محدثة أسمهان التي تجلس على مقعد وثير وبيدها كتاب تقرأ به :
_ هو عدنان فين ياماما ؟
أسمهان ببرود :
_ ومسألتهوش ليه قبل ما يطلع !؟
_ اصل كنت تعبانة شوية ونمت ويدوب دلوقتي اللي صحيت
لوت أسمهان فمها باستنكار وقالت بعدم اكتراث وهي تعيد نظرها إلى الكتاب مرة أخرى :
_ جاله تلفون فجأة وطلع على فوق غير هدومه ونزل ومشي ومردش عليا حتى لما سألته رايح فين

ضيقت فريدة عيناها باستغراب وظلت مكانها تفكر بتدقيق محاولة تخمين السبب الذي يجعله يخرج هكذا مهرولًا وسرعان ما ظهرت علامات الدهشة على محياها وهي تقترب من أسمهان وتقول :
_معقول يكون عرف مكان جلنار
ألقت أسمهان الكتاب من يدها بعنف وصاحت في انفعال :
_ متجبليش سيرة المقرفة دي .. ان شاء الله تكون غارت في داهية ولا ماتت وريحتنا منها
هتفت الأخرى بتمنى ونظرة مستنكرة أمنية أسمهان :
_ ياريت بس هو اللي زي دي بيحصلهم حاجة .. دي بسبع أرواح
تأففت أسمهان بخنق وامسكت بكتابتها مرة أخرى تعيد القراءة من جديد محاولة عدم التركيز على الجملة التي نطقت بها تلك الجالسة بجوارها .. حول معرفة عدنان لمكان زوجته ! .

***
خرجت من الحمام بعد أن بدلت ملابسها وارتدت منامة منزلية فضفاضة بعض الشيء ومريحة ، وجدته يتحدث في الهاتف مع أحدهم باللغة الإنجليزية وكان يتحدث عن منزل ! .
وقفت بمكانها لدقيقة حتى انتهى من اتصاله والتفت بجسده ناحيتها فقالت هي في وجه محتدم :
_ بيت إيه اللي بتتكلم عنه ده ؟
تفحص ملابسها الجديدة بنظرة ذات معنى ثم أجاب على سؤالها بإجابة مختلفة تمامًا :
_ جهزي نفسك ولمي هدومك يلا .. هنروح نقعد في بيت صغير لغاية ما نمشي
اندفعت نحوه بعصبية وهتفت بعناد :
_ أولًا أنا مش هرجع معاك .. ثانيا ماله البيت ده منقعدش فيه ليه
انحنى برأسه عليها وهمس محاولًا تمالك أعصابه حتى لا ينفجر بها كالبركان :
_ هو مش ده برضوا بيت الحيوان اللي كان بيساعدك
جلنار بشجاعة ونظرات مشتعلة :
_ متغلطش فيه !
تستفزه عمدًا وهو أفضل شخص يمكنه معاقبتها على طريقتها الفظة في التعامل معه .. ابتسم بوجه غريب وهمس بصوت رجولي مريب :
_ بلاش تختبري صبري عليكي عشان هتندمي ياروحي
جلنار بنبرة محتقنة ونظرات مستاءة :
_ جيت ليه ياعدنان .. لو فاكر إنك هتقدر تاخد بنتي مني يـ ....
توقفت عن الكلام عندما سمعته يلتقط بقية العبارة من فمها ويختمها هو بأسلوب متفنن وبنظرة ثاقبة وقوية كالعُقاب تمامًا :
_ تؤتؤ أنا هاخد بنتي ومراتي مش بنتي بس
انغمست في نظرته وتاهت بها ولكن سرعان ما عادت لوعيها فقالت بحزم وإصرار :
_ بس أنا عايزة أطلق
عدنان ببرود مستفز :
_ اعتقد إنك معجبكيش إن لو أطلقنا هاخد بنتي ، فالأفضل إنك تنسي الموضوع ده .. وإنتي تفضلي مع بنتك وأنا كذلك وهي تعيش وسط أبوها وأمها
_ إنت بتلوي دراعي يعني !!
ابتسم بعدم مبالاة ثم مد يده إلى شعرها وارجع إحدى خصلاتها المتمردة التي تثير جنونه إلى خلف أذنها وهمس بخفوت :
_ أبدًا .. أنا بالعكس بديكي احتمالات وبخيرك والاختيار ليكي إنتي يارمانتي
أحمر وجهها بغيظ بعد سماعها لآخر كلماته التي طالما كان يقولها لها بسبب أسمها وأن جلنار هي زهرة الرمان .. دفعت يده عنها بعنف وصاحت :
_ متلمسنيش ومتقوليش رمانتي فاهم ولا لا
عدنان بابتسامة جانبية خبيثة وبصوت هاديء تمامًا :
_ روحي لمي هدومك إنتي وهنا يلا عشان نمشي

ظلت مستمرة بأرضها تحدجه بعينان ملتهبة من الغيظ والبغض على تسلطه والضغط عليها من جهة ابنتها في قرار طلاقهم ، لكنها لن ترضخ له ! .. تنهدت بعد لحظات من التحديق ببعضهم البعض هو نظراته كلها برود وعدم مبالاة وهي تستشيط غيظًا وغلً ، قالت بقوة :
_ هاجي معاك دلوقتي بس عشان مليش وش أقعد في بيت حاتم بعد اللي عملته إنت وبابا معاه
تمكنت بلحظة من بث الضجر في نفسه حيث تحول إلى جمرة ملتهبة وقبض على ذراعها يهتف بنبرة مرتفعة ومنذرة :
_ ولو جبتي سيرته قدامي تاني ياجلنار هتروحي تحضري جنازته بكرا

طالعته من فوق لأسفل باستهزاء ثم انتشلت ذراعها من قبضته وغادرت الغرفة بكل ثبات وهدوء ، وتركته يقف يشتعل ويتوعد لها بعقاب عسير على تصرفاتها المتعمدة وأسلوبها معه ! .

***
تجلس زينة بجوار أمها على طاولة صغيرة مكونة من مقعدين لهم فقط ، وتتجول بنظرها بين الوجوه في ذلك الزفاف الممل .. فقد احضرتها والدتها رغمًا عنها معها إلى هنا ، متحججة بأنه زفاف ابنة صديقتها المقربة وأنها قامت بدعوتها دعوة خاصة وأصرت على حضورها هي وابنتها .
نظرت ميرفت لابنتها وهتفت بحزم :
_ في إيه يازينة !
ردت عليها بخنق وتزمر :
_ كان لازم يعني ياماما تخليني آجي معاكي
ميرفت :
_ يابنتي نيرمين أصرت عليا أني آجي واجيبك معايا وعيب لما متجيش ،افردي وشك بقى شوية يازينة الله مش كدا ! .. ده حتى العروسة قمر ماشاء الله عقبال ما افرح بيكي كدا ياحبيبتي
همست زينة لنفسها بيأس وهي تزم شفتيها :
_ مش لما يتلحلح ابن اختك ويحس بيا شوية الاول
هتفت أمها بحاحب مقتطب واستغراب عندما سمعت منها همهمة غير مسموعة :
_ بتقولي حاجة !
زينة بابتسامة صفراء :
_ بقول أيوة حلوة فعلا العروسة ربنا يسعدهم
ثم عادت بنظرها تتابع الزفاف والفتيات وهم يرقصون مع العروس ، والعريس الذي أخذ جزء له هو وأصدقائه يرقصون فيه .. وفجأة ظهر أمامها شاب يافع وطويل البينة ووسيم ، يبدو أنها لم تلاحظه وهو يقترب منهم بسبب اندماجها في متابعة العروسين .. وجدت يمد يده ويصافح أمها بحرارة ويهتف ببشاشة :
_ ازيك ياطنط ميرفت
ردت عليه ميرفت بابتسامة عريضة وبعذوبة :
_ أزيك يارائد .. عاش من شافك كبرت ماشاء الله ، مبروك لنورهان ربنا يسعدها يارب
_ آمين يارب
التفت بنظره ناحية زينة التي كانت تحدقه بجمود وفهمت من خلال الحديث أنه شقيق العروس وابن صديقة والدتها ( نرمين ) فقالت ميرفت مبتسمة :
_ دي زينة بنتي
ابتسم بإعجاب وطال النظر في زينة بينما هي فارتبكت من نظرته ، ثم هتف بنظرة لها تأثير خاص :
_ عقبالك
اكتفت بالابتسامة الخجلة ، وفجأة بدأت موسيقى رومانسية لطيفة فوجدته يلتفت برأسه نحو أمها وكأنه يرسل لها إشارة مبهمة لم تفهمها هي ثم رأته يعود برأسه ناحيتها وينحنى بجزعة للأمام ثم يبسط يده أمامها فتبادلت النظرات مع والدتها باستغراب ، لتجد الرد من أمها وهي توميء لها بالموافقة .. نظرت في عينان ذلك الرجل الغريب الذي تراه لأول مرة ويعرض عليها أن تشاركه الرقص ، تنهدت بعدم حيلة ثم شبكت يدها بيده في استحياء شديد ووقفت وسارت معه إلى ساحة الرقص التي امتلأت بضيوف الزفاف وكل رجل معه امرأة اصطحبها للرقص معه .
وقفت في منتصف الساحة ووقف هو أمامها ثم شعرت بإحدى ذراعيه تلتف حول خصرها واليد الأخرى أمسك بكفها الرقيق .. انحبست أنفاسها عندما شعرت بيده على جسدها وتلفتت حولها بخجل ووجنتان حمراء كالدم ، وبتلقائية وضعت كفها على كتفه وعيناها تدور بكل مكان إلا على وجهه وبداخلها تدعو ربها أن تنتهى هذه الموسيقى سريعًا .
رائد بنبرة هادرة وابتسامة جذابة :
_ أنا رائد عندي 28 سنة وخريج كلية هندسة
اضطرت للنظر له وقالت بصوت خافت وحياء ملحوظ :
_ تشرفت بمعرفتك
_ أنا أكتر أكيد
هتفت زينة تسأل بصراحة دون أن تتردد .. بعد لحظات طويلة من الصمت من محاولاتها لتفادي نظراته الثابتة عليها :
_هو أنت مش شايف أنه غريب شوية إنك تعرض عليا ارقص معاك واحنا أول مرة نشوف بعض
رائد بهدوء تام وابتسامة واسعة وهو يهز رأسه بالنفي :
_ لا خالص .. بعدين أنا اعرفك من بدري إنتي بس اللي متعرفنيش
رفعت حاجبها بدهشة واحست بأن خجلها تلاشي كله وحل محله الذهول فسألته بفضول شديد :
_ تعرفني إزاي ؟!!
نظر حوله وهو لا يزال مبتسم ثم قال بنظرة أعادت الخجل لوجهها مجددًا :
_ الموسيقى خلصت وتقريبًا مبقيش غيرنا اللي واقف
تلفتت حولها بصدمة فلم تجد أحد بالفعل غيرهم .. ابتعدت عنه بوجه مسيطر عليه لون الدماء الأحمر ثم نزلت من على المسرح ولحق هو بها ليوقفها قبل أن تصل لطاولتها عند أمها .. التفتت بجسدها نحوه لتجده يقف ويهتف بثقة واضعًا كفيه في جيبي بنطاله :
_هنتقابل كتير الأيام الجاية وسعتها هقولك اعرفك إزاي
طالعته باستغراب وبنظرة متوترة قليلًا ولكنها آثرت عدم الرد وفقط استدارت من جديد وسارت باتجاه والدتها التي كانت تتابعهم مبتسمة .

***
في أمريكا .....
دخلت جلنار لغرفة صغيرتها واتجهت نحو فراشها ثم جلست بجوارها على الحافة وهزتها برفق تهتف :
_ هنا ياحبيبتي قومي يلا عشان هنمشي
فتحت الصغيرة جزء من عيناها بتكاسل وهمست بصوت سمعته جلنار بصعوبة وهي تدفع يد أمها عنها بخنق :
_ لا
ابتسمت جلنار ثم انحنت على أذنها وهمست بجملة كانت تعرف جيدًا كيف سيكون نتائجها عليها :
_ بابا جه وقاعد برا مش هتقومي تشوفيه
استيقظت جميع حواسها فور سماعها لاسم أبيها وفتحت عيناها كلها دفعة واحدة بصدمة فضحكت جلنار بقوة ثم قالت :
_ قومي يلا اجري روحي شوفيه
هبت الصغيرة جالسة ونزلت من فراشها وغادرت غرفتها وهي تفرك عيناها لتزيح أثر النوم عنها وتتمكن من الرؤية في الضوء بوضوح ، وصلت إلى الصالون ورأت أبيها يقف في الشرفة متكيء على السور بساعديه .. فاتسعت عيناها بذهول أشد وصاحت بفرحة غامرة :
_ بابي
صك صوتها أذنيه فالتفت فورًا للخلف بتلهف وباللحظة التالية فورًا .. كانت هي تركض نحوه في سعادة حتى وصلت إليه فانحنى وحملها على ذراعيه وعاد يمطرها بوابل من قبلاته المشتاقة والحنونة بينما هي فهتفت بفرحة :
_ وحستني ( وحشتني ) أوي
دفن وجهه بين شعرها يشم رائتحها التي تعيد لروحه الحياة من جديد ويهمس بصوت يحمل في طياته كل الشوق والحب الأبوي :
_ وإنتي وحشتيني أوووووي ياهنايا
نظرت له بابتسامة عريضة فاتسعت هو الآخر ابتسامته على أثر ثغرها الجميل المبتسم وقال باهتمام وحب :
_ عاملة إيه يا سلطانة بابي ؟
_ كويسة
ردت عليه بلطافة تسرق القلوب والعقول ثم سألت بحماس ووجه مشرق :
_ هنرجع البيت ؟!
عدنان بعدم تردد :
_ طبعا ياروحي هنرجع بيتنا .. لا يمكن اسيبك تاني ولا ابعدك للحظة عني
_ وماما ؟!
رفع نظره عن ابنته ونظر لجلنار التي تقف على مسافة منهم وتستند بكتفها على الحائط وتتابعهم مبتسمة بصفاء ، لكن سرعان ما اختفت ابتسامتها حين وقعت عيناه عليها .. بينما هو فهمس لابنته بنبرة تحمل المرح البسيط :
_ مامي هتاجي معانا طبعًا هي تقدر تقول لا أصلًا

التفتت هنا برأسها نحو أمها وارسلت لها ابتسامة مشرقة وسعيدة فبادلتها إياها جلنار بنظرات دافئة .

***
في صباح اليوم التالي .......
توقف آدم بسيارته في أحد المناطق الشعبية يدخلها للمرة الأولى .. ضغط على زر في باب السيارة ونزل الزجاج ليكشف له بوضوح عن طبيعة الحياة في هذه المنطقة .. أطفال يرتدون ملابس متسخة ويركضون ويلهون ، بعضهم ينحنى ويضم يده في الأرض ويملأ قبضته بالتراب ثم يقف ويليقها على قرينه الذي كانوا يلعبون مع بعضهم للتو وتشاجروا على شيء .. نساء تسير حاملة بيديها أكياس ومستلزمات منزلها من السوق .. ضجة وأزعاج رهيب بهذا المكان !! .
تلفت برأسه يمينًا ويسارًا بتعجب محاولًا إيجاد أي شيء من الذي وصفه له صديقه .. تنهد بالأخير بخنق وأخرج هاتفه من جيبه واجري اتصال بصديقه الذي أجاب عليه بعد ثواني معدودة :
_ أيوة يا آدم أنت فين ؟
آدم بنفاذ صبر :
_ اوصف الزفت المكان كويس يازياد .. أنا شكلي توهت ودخلت في منطقة غلط !
قهقه صديقه بصوت مرتفع وقال :
_ توهتي يانوغة
آدم بتحذير وانفعال من استهزاء صديقه به :
_ احترم نفسك عشان مغلطش فيك وأنا لساني قليل الأدب
زياد ضاحكًا :
_ طيب ياعم خلاص اوصفلي أنت دخلت فين بظبط عشان اقولك ترجع وتاجيلي إزاي
هدأ آدم قليلًا وبدأ يصف له المكان الذي هو فيه وينظر إلى أعلى المحلات يقرأ اسمائها ويخبره بها .. لكن فجأة وجد طفل صغير يمد يده من زجاج السيارة ويجذب الهاتف من يده ويركض !! .

***
فتح عدنان عيناه ببطء في الصباح الباكر وهو يشعر بعضلات جسده كلها متشنجة ، فقد جلس طوال الليل على مقعد بجوار فراش صغيرته بعدما ذهبوا للمنزل الجديد وظل يقرأ لها القصص حتى نامت ولم يشعر بنفسه إلا وهو يذهب بالنوم معها .
اعتدل في جلسته ورفع ذراعيه لأعلى يتمطع بألم وأسند الكتاب الصغير الذي كان يقرأ منه القصص لابنته على المنضدة الصغيرة بجواره ، ثم هب واقفًا وفرك عيناه وانحنى عليها يطبع قبلة رقيقة على شعرها قبل أن يرفع الغطاء عليها ويدثرها جيدًا .
اتجه نحو باب الغرفة وفتحه بحذر شديد حتى لا يزعجها في نومها وغادر وتركه مواربًا .. رفع كفه لرقبته يفركها بألم ويحركها على الجهتين برفق ، أصدر تأففًا حارًا ثم وقع نظره على الغرفة المقابلة له والتي لازمتها جلنار منذ قدومهم بالأمس ، تحرك بخطواته الثابتة نحوها ثم فتح الباب ودخل فوجدها نائمة في فراشها ووجها مقابل للباب وشعرها مفرود بجوارها على الوسادة ، ترتدي منامة منزليه تصل لركبتيها ولكن ارتفعت قليلًا لما فوق الركبة دون أن تشعر وهي نائمة .
مالت شفتيه درجة واحدة لليسار وهو يتأملها قبل أن يقترب منها بخطواته في بطء حتى لا تشعر به ويقف أمام الفراش ينظر لها وهي منكمشة بجسدها من البرد ، انحنى عليها قليلًا ومد يده إلى منامتها حتى ينزلها ولكنها انتفضت جالسة كالتي لدغتها عقرب بمجرد ما شعرت بلمسة يده ، وقالت بغضب :
_ بتعمل إيه !!
عدنان بنظرات ثاقبة ونبرة جافة :
_ مالك اتخضيتي كدا ليه
_ المفروض متخضش يعني لما اكون نايمة وأحس بلمسة حد على جسمي
مالت برأسها للخلف في ارتباك بسيط عندما وجدته ينحنى بجسده ووجهه عليها ليهمس في نبرة غليظة :
_ أولًا أنا مش حد .. ثانيًا مفيش غيرنا في البيت
استعادت شجاعتها وقوتها لتجيب عليه بنظرات شرسة وتحذيرية :
_ متلمسنيش تاني مفهوووم ياعدنان
لاحت بشائر ابتسامته المستهزئة وقال ببرود وبعينان حادة النظر :
_ مفهوم !!!! .. ولو لمستك بقى هتعملي إيه !

همت بأن تجيب عليه لكن رنين الباب أوقفها وجعلها تتبادل معه النظرات باستغراب .. ثم انتصب هو في وقفته واستدار مغادرًا الغرفة متجهًا نحو الباب وهي لحقت به .
أمسك بالمقبض واداره ثم جذب الباب إليه ليجد أمامه ضباط شرطة يرتدون الزي العسكري الأمريكي .. اتسعت عينان جلنار بصدمة وهرولت تقف خلفه وهي تنظر إلى الضباط بدهشة ! .

رواية كيان الفهد كاملة جميع الفصول ( الفصل السابع 7 ) 


كانت في طريقها إلى منزلها بعد عودتها من يومها الأول في العمل بإحدى المكتبات ، وتحمل بيدها كيس يحتوي على علب اقراص الدواء الخاص بجدتها .. وإذا بها تجد الكيس يسقط من يدها بعدما اصطدم بها أحد أطفال جارتها وهو يركض بخوف ، قبضت على الطفل وامسكته من ياقة قميصه وهتفت بغيظ هي تنحنى عليه :
_ وبعدين معاك يا ....
لم يدعها تكمل جملتها حيث حاول إفلات يدها عن قميصه وهو يصرخ :
_ابعدي يامهرة هيمسكني
التفتت برأسها للخلف لم تجد أحد فعادت له وقبل أن تتفوه ببنت شفة انتبهت إلى الهاتف الذي بيده فصاحت به وهي تضربه بخفة على رأسه :
_ تلفون مين ده .. أنت محرمتش يالا ، هات التلفون ده
صرخ بها وهو يتململ بين قبضتها محاولا الهرب :
_لا وابعدي بقى بدل ما اضربك
مهرة بضحكة ساخرة :
_ تضرب مين يا ابن الهبلة وأنت قد عقلة الاصبع كدا .. ده أنا لو دوست عليك هفعصك ، هات التلفون عشان نرجعه لصاحبه
لمح الصغير آدم وهو يقترب منهم بخطواته السريعة فصاح بمهرة وهو يحاول الإفلات منها :
_ جه يامهرة ابعدي ابو شكلك
شهقت بصدمة ثم رفعته من قميصه بكف واحد لأعلى وقالت أمام وجهه بنظرات مغتاظة :
_ ابو شكلي أنا ! .. ده أنا هعملك زعافة يابن سعاد القرعة
وصل آدم ووقف أمامهم وهو يغلي من الغضب وعلى وشك أن يمسك بذلك الطفل ويخنقه ، بينما مهرة فانتفضت واقفة بفزع وانزلت الصغير وهي تهتف بفزع :
_ بسم الله حد يخض حد كدا ياعم أنت
انتبهت لهيئته الفخمة وملامح وجهه الوسيمة وعيناه الخضراء وملابسه التي تعكس طبيعة حياته ، ابتسمت ببلاهة ثم نظرت الصغير وهتفت بنظرات زائغة :
_ مين ده ؟!
أجابها بقرف وضيق :
_ صاحب التلفون
اتسعت عيناها والقت نظرة على آدم الذي كان يقف ويحدقهم بنظرات نارية ثم عادت بنظرها للصغير وضربته بخفة على رقبته بغيظ :
_ وأنت من امتى بتسرق الناس الحلوة دي !
خرج صوت آدم الخشن والمنفعل وهو يجذب هاتفه من يد الصغير :
_ اه ده انتوا عصابة بقى .. طيب أنا هعرفكم إزاي تسرقوا كويس بعد كدا
ضغط على شاشة هاتفه يجري اتصال بالشرطة وقبل أن يضغط على زر اتصال .. هتفت مهرة مسرعة بابتسامة بسيطة :
_ اهدى في إيه ياعم .. وحقك علينا ده ولد صغير وغلط واحنا هنشد عليه كويس أوي
_ وإنتي مين أصلًا ؟!
همت بأن تجيب وهي تمد يدها له بثقة حتى تصافحه وبابتسامتها الواسعة لكن الطفل هتف قبلها بابتسامة شيطانية :
_ مهرة الهطلة !
وجد الصغير كفها ينزل على رقبته بعنف حتى أسقطه على الأرض وهي تهتف جازة على أسنانها بغيظ :
_ اكتم ياجحش
ثم عادت ترسم ابتسامتها من جديد في وجه آدم وتقول بضحكة بلهاء :
_ لا مؤاخذة أصل احنا عندنا في الحارة خراتيت صغيرة كتير أمثال الخرتيت ده
نزل آدم بنظره إلى كفها الممدود ونظر لها باشمئزاز قبل أن يهتف بصوت رجولي غليظ وغضب :
_ لولا أنه طفل بس كان زماني دلوقتي اتصلت بالشرطة وبلغت عنكم
_معلش امسحها فينا يا يابـ.....
لم تكمل جملتها ووجدت الولد يمسك بملابسها ويمسح أنفه بها فدفعته بعيدًا عنها وهي تصيح به باشمئزاز :
_بتعمل إيه يامبقع يا ابن المبقعة
الطفل بابتسامة باردة وهو يتلاعب بحاجبيه قاصدًا استفزازها :
_بمسحها فيكي
رمقهم آدم بقرف ثم استدار وانصرف وهو يجيب على صديقه في الهاتف الذي يستمر في الرنين ، وصاح به بغضب :
_ وحياة أمي لاظبطك يا زياد لما اشوف خلقتك بس
زياد ضاحكًا :
_ليه ياعم بس حصل إيه .. أنت قفلت فجأة ليه من شوية
_ اقفل اخلص أنا على اخري

بينما مهرة فنظرت مكان آدم ولم تجده ثم نزلت إلى الصغير ووجدته يركض بعيدًا عنها فصاحت عليه بوعيد :
_ هتروح مني فين يعني مسيري هجيبك
ثم نظرت لملابسها وكانت على وشك التقيء فأخذت تلعن وتسب بذلك الولد .. انحنت على الأرض والتقطت كيس الدواء واكملت طريقها نحو منزلها وهي تهتف بتحسر :
_ منك لله يا ابن سعاد القرعة .. فضحتني قدام الواد التركي ، ده بينور في الضلمة من حلاوته .. على سيرة الضلمة كنت هنسى والله أما اروح اشتري لمبة للمطبخ احسن فوزية تعلقني في السقف بدالها

***
تجوب الغرفة إيابًا وذهابًا وهي تفرك وجهها بتوتر .. منذ قليل ذهب زوجها مع الشرطة بعدما أخبروه أن حاتم الرفاعي قام بتقديم شكوى ضده نتيجة لأعتدائه عليه بالضرب في منزله .
حسمت أمرها بنهاية الأمر فليس لديها خيار آخر حتى تخرجه به .. اتجهت نحو خزانتها وأخرجت بنطال أبيض اللون فضفاض يعلوه توب دون أكمام وتركت شعرها منسدل على ظهرها واكتافها ثم غادرت غرفتها واتجهت إلى غرفة صغيرتها وايقظتها من نومها وهي تهزها برفق :
_ هنا قومي ياحبيبتي يلا
فتحت الصغيرة عيناها ونظرت لأمها بعينان ناعسة بينما جلنار فاستقامت واقفة وأخرجت ملابس مناسبة لابنتها وعادت لها وهي تساعدها على الوقوف وتهتف بعجلة :
_ يلا فوقي بقى عشان رايحين لاونكل حاتم
فركت " هنا " عيناها بتكاسل وجلنار حملتها على ذراعيها واتجهت إلى الحمام وهي تهتف :
_ نغسل وشنا عشان نبقى حلوين وبعدين نلبس
وقفت أمام المرحاض وغلست لها وجهها جيدًا ثم عادت بها مرة أخرى إلى الغرفة وبدأت تساعدها في ارتداء ملابسها ، ثم خرج صوت الصغيرة الخافت والناعس :
_ بابي فين ؟
أجابتها جلنار بطبيعية وكأن كل شيء على ما يرام وهي تمسك بذراعيها وتضعهم في أذرع الجاكت :
_ بابي راح مشوار وجاي
جلست هنا على الفراش بعدما وجدت أمها تحملها وتجلسها فوقه وتمسك بقدمها وتلبسها حذائها ثم تلتقط فرشاة الشعر وتسرح لها شعرها سريعًا برفق ، وأخيرًا أمسكت بيدها وهي تهتف بعجلة شديدة :
_ يلا
كانت هنا تسير بخطوات غير متزنة ومتمايلة بفعل تأثير النوم الذي يستحوذ عليها إلى الآن فوقفت جلنار عند باب المنزل وارتدت حذائها وعلقت حقيبتها على كتفها ثم انحنت وحملت ابنتها على ذراعيها وغادرت بها المنزل بأكمله .

***
خرجت أسمهان من غرفتها وكانت في طريقها إلى أسفل لكن اخترقت اذناها همهمات قادمة من غرفة عدنان .. ضيقت عيناها باستغراب ثم تحركت ببطء شديد حتى لا تثير أي ضجة .. وقفت أمام الباب ثم وضعت أذنها عليه تستمع لجملة فريدة الأخيرة وهي تهتف ضاحكة :
_ خلاص هاجي حالًا حاضر ملوش لزمة العصبية دي كلها
ثم توقفت عن الكلام لثواني تستمع لرد الطرف الآخر وردت بعدها :
_ باي باي
انتصبت أسمهان في وقفتها وظهر الشر في عيناها فمدت يدها لمقبض الباب وفتحته بقوة دون أذن وندفعت نحوها تهتف بحدة :
_ رايحة فين ؟
رفعت فريدة حاجبيها بدهشة وهتفت بابتسامة مرتبكة بعض الشيء خشية من أن تكون سمعت حديثها :
_ إيه ياماما مش تخبطي بس خضتيني
أسمهان بنظرات ساخرة ولهجة صارمة :
_ تعليمات ابني كانت واضحة أوي لما قالك مفيش خروج من البيت إلا بإذنه
ابتسمت فريدة ببرود وهتفت محاولة تمالك أعصابها :
_ بس ابنك مش موجود ومش عارفين هو فين أصلًا ومش بيرد على حد
أسمهان بصوت مرتفع :
_ يبقى تستني لغاية ما ياجي يامدام يامحترمة وبعدين تطلبي منه الأذن عشان تخرجي
تحركت خطوة نحوها وهمست بنظرات مستنكرة تحكماتها الجديدة بها :
_هو في إيه يا أسمهان هانم .. من امتى وإنتي بتتحكمي فيا وفي خروجي ودخولي !
أسمهان بنظرة متقدة وتحمل إشارات تحذيرية وصلت لفريدة جيدًا :
_ من وقت من بدأت أتساءل على اتصالاتك المستمرة وخروجك وحججك
لم تنكر أن الخوف تسلل لها من تهديدها وشكها الصريح بها الذي اوضحته في كلماتها .. لكنها قررت بإلقاء ورقتها الرابحة حتى تحسم المنافسة بينهم .. انحنت على أسمهان وهمست لها بغمزة ماكرة ونظرات استفزازية :
_ أنا بقول إنك تطلعيني من دماغك أفضل عشان لا أنا ولا إنتي حابين عدنان يعرف إنك تعرفي مكان جلنار وإنك إنتي اللي بعتيله صورها .. والكبيرة محاولتك لقتل حفيدتك لما كانت في بطن مامتها وأنا اللي نقذتك وخليت الدكتور يقول إنه مجرد تسمم وإنها أكلت أكل فاسد
تشنجت عضلات وجه أسمهان وأحمرت عيناها من فرط الغضب والغيظ .. وفجأة قبضت على ذراع فريدة وجذبتها إليها وهي تهمس أمام وجهها بعينان نارية ونبرة منذرة تحمل الشر الحقيقي :
_ جربي كدا وقوليله وشوفي هعمل فيكي إيه ياقذرة لتكوني نسيتي أصلك يابيئة ياتربية الشوارع .. لولا ابني كان زمانك في مكانك الطبيعي في الشارع ، عيشتي عيشة الملكات في القصور ولبستي انضف لبس ونضفتي على حسابنا .. حساب أل الشافعي ، اللي إنتي متطوليش ضفر أصغر واحد فيهم
اشتعلت عيني فريدة بغيظ وقهر ثم دفعت يد أسمهان عنها وقالت بنظرات غريبة وبابتسامة لئيمة :
_ غلطانة أنا طولت قمة أل الشافعي .. ابنك وقدرت اخليه يعشقني وبقى روحه فيا وحتى لما اتجوز عليا مقدرش يحب جلنار بسبب حبه ليا .. ثم أني صحيح تربية شوارع وتصرفاتي اللي مش بتعجبك قد تكون بسبب تربيتي والبيئة اللي جيت منها .. لكن إنتي إيه يا أسمهان هاااانم !!!
تلون وجهه أسمهان وأصبح أحمر كالدم من فرط غيظها وهي تستمع لاهانتها الصريحة لها .. رفعت كفها في الهواء وهوت به على وجنتها في قوة وهي تصيح بها :
_ أنا هعرفك أنا مين كويس أوي يابنت فاطمة الخدامة

ثم استدارت واندفعت لخارج الغرفة وهي تستشيط غيظًا وتتوعد لها بأن لن تدع أهانتها لها تمر مرار الكرام .. ومن الواضح أن يجب عليها أن تبدأ في التخلص من فريدة أولًا ومن ثم تتفرغ لابنة الرازي .. اصطدمت بآدم الذي كان خارجًا من غرفته ومتجه لأسفل حتى يذهب لمعرضه .
آدم بنظرات متعجبة وهو يرى وجهها المحتدم :
_ مالك ياماما ؟
أسمهان وهي تحاول تمالك انفعالاتها أمام نجلها الأصغر وتهتف بطبيعية مصطنعة :
_ مفيش ياحبيبي .. معرفتش أخوك راح فين ؟
آدم وهو يهز رأسه بالنفي :
_ لا بس متقلقيش عليه هو تلاقيه ظهرله شغل مفاجيء أو حاجة .. مش جديد على عدنان الاختفاء فجأة كدا يعني ، بكرا ولا بعده هيرجع ونعرف كان فين
مسحت على كتفه بحنو وهمست بابتسامة دافئة :
_ ربنا يستر .. خلي بالك من نفسك ياحبيبي
انحنى وخطف قبلة سريعة من وجنتها وهو يجبها بمزاح :
_ حاضر يا أسمهان هانم
اكتفت بابتسامة حانية رسمتها بصعوبة بسبب النيران المشتعلة في داخلها من حديثها مع فريدة .. بينما آدم فتركها وأكمل طريقه إلى خارج القصر تمامًا ليستقل بسيارته ويرحل .

***
وقفت أمام الباب وطرقت عدة طرقات متتالية و ابنتها تقف بجانبها وتتجول بنظرها في أرجاء الحديقة بنظرات طفولية لمكان جديد تراه للوهلة الأولى .
لحظات قليلة وفتح الباب لتظهر الخادمة التي يبدو عليها تقدم العمر فهتفت جلنار بجدية تامة تحدثها باللغة الأنجليزية :
_ أين السيد حاتم ؟
أجابتها الخادمة برسمية :
_ موجود بمكتبه ياسيدة جلنار تفضلي
دخلت ولحقت بها الصغيرة ورأسها لا تتوقف عن التلفت بكل جزء في المنزل .. وقفت جلنار قبل مكتب حاتم واستدارت باتجاه ابنتها وانحنت عليها تهمس بحنو :
_ خليكي هنا ياهنون أنا هدخل أقول حاجة لعمو حاتم وهطلع .. اقعدي على الكرسي ومتتحركيش تمام
تمتمت هنا بتذمر :
_ دخليني معاكي
طبعت قبلة عميقة على وجنتيها وهتفت بلطف :
_ لا ياحبيبتي مش هينفع خليكي هنا ، أنا عارفة هنا شطورة وحبيبة مامي هتسمع الكلام مش كدا

زمت شفتيها بيأس وأماءت لها بالإيجاب في خنق ثم استدارت وتحركت باتجاه المقعد التي أشارت لها عليه أمها وجلست فوقه .. بينما جلنار فذهبت ووقفت أمام الباب وطرقت بخفة لتسمع صوته وهو يسمح للطارق بالدخول .
فتحت الباب ودخلت ثم أغلقته خلفها ، رفع هو عيناه عن الورق الذي أمامه ظنًا منه أنها الخادمة الخاصة بمنزله لكن لجمت الدهشة لسانه عندما وجد جلنار أمامه خصوصًا أنها المرة الأولى لها التي تخطو فيها منزله الخاص .. استقام واقفًا وهتف باستغراب :
_ جلنار !
ظلت متصلبة بأرضها تحدق به بنظرات معاتبة ومتضايقة ، ولم يكن هو بحاجة لوقت طويل حتى يفهم سبب زيارتها الأولى والمفاجئة وحتى نظراتها الغريبة هذه .. تحرك من مكانه واقترب بخطواته حتى وقف أمامها مباشرة واستمر في التحديق بها بصمت وبأعين ثاقبة كالصقر فخرج صوتها مستاءًا :
_ ليه عملت كدا يا حاتم ؟!!
أجابها بثبات انفعالي وباستنكار واضعًا كفيه في جيبي بنطاله :
_ لا متقوليش إنك مضايقة عليه !!!
جلنار باندفاع :
_ مهما كان اللي بيني وبين عدنان ومشاكلنا ورغبتي في الطلاق ، لا يمكن أقبل أن يتسجن ياحاتم .. هيفضل أبو بنتي وأكيد مش هكون حابة إن بنتي تشوف أبوها في الموقف والوضع ده
رفع أنامله لذقنه الخفيفة يحكها بغيظ ثم هتف في نظرات مشتعلة :
_ متتحججيش بهنا ياجلنار .. إنتي اللي مش قادرة تتقبلي الفكرة عشان للأسف بتحبيه
ضربته في صدره بعصبية وهي تصرّ على أسنانها وتصرخ :
_ قولتلك مليون مرة مش بحبه .. ثم إن حتى لو بحبه إنت إيه مشكلتك مش فاهمة !! ، إنت عايز تساعدني ولا ....
قبض على رسغها الذي ضربته به على صدره وفي عيناه نظرة رجولية صارمة وقوية ، ولم يتردد للحظة في البوح بما يضمره لها في قلبه .. فلا مجال للإخفاء أكثر من ذلك :
_ أنا بحبك !
ارتخت عضلات يدها وكذلك وجهها الذي تحول من الغضب إلى الجمود الممتزج بالصدمة من الذي تفوه به .. أبدًا لم تكن تتوقع أنه يكن لها مشاعر كهذه ، وإلا كانت وضعت الحدود بينهم منذ قدومها إلى أمريكا هنا .
انتشلت يدها من بين قبضته بقوة وتراجعت خطوة للخلف وهي ترمقه بذهول بينما هو فاستكمل بجراءة لم تعهدها منه من قبل :
_ بحبك أوي يا جلنار من زمان وزاد حبي لما قعدتي الشهرين دول معايا .. ومستعد اعوضك عن كل حاجة شوفتيها في حياتك ، عن عدنان الحقير وعن ابوكي القذر اللي كل همه الفلوس .. لكن إنتي رغم كل اللي عمله معاكي عينك مش شايفة غيره .. اللي بهدلك واللى انتي أصلًا متهمهوش في شيء وأهم حاجة عنده مراته وبنته ، تعرفي إني كنت منتظر اللحظة اللي هتتطلقي فيها منه عشان اعرض عليكي الجواز ، ولما لقيت الفرصة إني اخلص منه نهائي واسجنه مترددتش .. وده هيكون في صالحك إنتي كمان لأنه كدا ممكن يتحط في موقف صعب وميقدرش يرفض طلبك للطلاق ويطلقك بالإجبار وغصب عنه

تلألأت العبرات في عيناها ، لا تعرف السبب لكن هناك مشاعر متضاربة اختلطت في نفسها .. جميعهم اندرجوا أسفل كلمة " انكسار " ، أهي دموع على سنين من حياتها اهدرتهم مع رجل لا يحبها ولا يراها أساسًا .. أم على حبيب خفي لم يظهر في اللحظات الأسطورية كالأفلام قبل أن تذبل الزهرة بفعل العواصف القاسية التي دمرتها وكانت تقف هي بمفردها أمامها .
انهمرت دمعة حارقة موجوعة على وجنتيها ثم تمتمت بألم :
_ ولما أنت بتحبني كدا ومن زمان .. كنت فين ياحاتم قبل ما يحصلي كل ده .. كنت فين قبل ما بابا يستغلني كورقة رابحة ليه عشان شغله وفلوسه ، قولي كنت فين قبل ما اتجوز عدنان .. مكنتش موجود مش كدا ومكنتش هتكون لولا إني أنا اللي طلبت مساعدتك .. ياريتك قولت الكلام ده في وقت غير الوقت ومكان غير المكان بس للأسف ملوش لزمة دلوقتي .. أنا فعلا هطلق من عدنان ومش بحبه بس لسا مراته وأنا مش خاينة عشان ادخل في علاقة وأنا على ذمة راجل

ثم استدارت وهمت بالرحيل لكنها توقفت عند الباب وتمتمت دون أن تلتفت برأسها له في نبرة عادت لقوتها من جديد :
_ مش هقولك لو بتحبني ، هقولك لو بتحب هنا ويهمك مصلحتها اسحب شكوتك

ولم تنتظر رده حيث اندفعت إلى خارج المكتب فورًا واتجهت إلى ابنتها التي وجدتها تقف أمام النافذة تتابع الحديقة من الداخل .. أمسكت بكفها وهتفت :
_ يلا ياهنا
ذهبت مع أمها التي تسحبها خلفها والتفتت برأسها إلى حاتم الذي وقف عند باب مكتبه ولوحت له بكفها الصغير وعلى وجهها ابتسامة عريضة صافية ليبادلها هو بابتسامة بسيطة وآخر ماتفوهت به جلنار قبل رحيلها بتردد في ذهنه دون توقف .

***
تجلس على الأريكة أمام التلفاز تشاهد أحد الأفلام الأجنبية وتمسك بيدها صحن ممتلئ بالفشار وكل ثانية والأخرى تلتقط حبة وتلقيها في فمها وهي لا تحيد بنظرها عن شاشة التلفاز .. حتى أنها لم تلاحظ انضمام أمها معها على الأريكة وجلست تشاهد معها حتى هتفت بعد لحظات طويلة من الصمت :
_ مقولتيش صحيح يازينة إيه رأيك في رائد ؟
كانت تمسك بحبة فشار وتسير بها في طريقها لفمها لكنها توقفت بيدها في منتصف الطريق ونظرت لأمها بصدمة وغمغمت :
_ رائد !! .. إيه السؤال الغريب ده ياماما ، ده إنتي عمرك ماعملتيها
ميرفت بابتسامة جانبية خبيثة :
_ يعني أصل شوفتكم اندمجتوا مع بعض وكمان في خبر تاني كدا
_ خبر إيه ؟!!
اعتدلت ميرفت في جلستها وقالت بسعادة واشراقة وجه جميلة :
_ نيرمين كلمتني الصبح وقالتلي إن رائد طالب إيدك
وضعت زينة صحن الفشار على الطاولة بعنف وصاحت بدهشة :
_ نعم وهو شافني إمتى غير إمبارح أصلًا عشان يطلب إيدي
ثم استكملت بحزم ووجه مختنق :
_ مش موافقة طبعا
ميرفت بسخط :
_ هو إيه اللي مش موافقة هو كل ما يجيلك عريس ترفضي كدا .. في إيه !! .. ليكون في حد وهو اللي مخليكي ترفضي العرسان كدا

علت معالم وجهها الارتباك وظهر الاضطراب في صوتها وهي تجيب على أمها بعصبية محاولة إخفاء اضطرابها :
_ حد مين يعني ! .. مفيش حد طبعا ياماما ، كل ما في الموضوع إني مش حابة ارتبط واتجوز دلوقتي وبعدين رائد ده محبتهوش خالص ومستريحتلهوش
قبضت ميرفت على ذراعها بقوة وقالت بحدة :
_ نعم ياختي مش حابة ارتبط واتجوز .. اتكلمي يازينة بالذوق بدل ما اتصل بأبوكي واخليه هو يتصرف معاكي بطريقته
افلتت ذراعها من قبضة أمها بصعوبة ووثبت واقفة وهي تهتف بتذمر وخنق ممتزج بتوترها :
_ اووووف ياماما قولتلك مفيش حد طبعًا .. أنا داخلة انام تصبحي على خير

ثم اندفعت نحو غرفتها فورًا بسرعة البرق وأغلقت الباب عليها و استندت بظهرها عليه مصدرة تنهيدة حارة بارتياح ، فلو كان استمر جدالها مع أمها لفترة طويلة كانت اعترفت بكل شيء ، لكنها تمكنت من الهرب منها قبل أن ينفضح الأمر .

***
_ طيب والأشكال النضيفة دي بتعمل إيه في المنطقة عندنا !!
كان سؤال عشوائي دون تفكير من صديقتها المقربة وهي تسألها فنظرت لها مهرة باستنكار وهتفت :
_ يعني بالعقل كدا يا اذكى اخواتك هعرف منين الأشكال النضيفة دي بتعمل إيه في المنطقة !! .. بعدين قولتلك متفكرنيش بالولا الاخضريكا ده لاحسن ارزعك بالطبق اللي في إيدي اخلي وشك زي قفاكي
انتصبت صديقتها في جلستها وضربتها على ذراعها بخفة وهي تجيب بغيظ :
_ لمي لسانك اللي عايز قطعه ده .. وبعدين إيه اخضريكا دي !!
مهرة بهيام وابتسامة رُسمت بتلقائية على شفتيها :
_ أصل عيونه خضرا وحلوة أوي يابت .. أهو ده اللي يتقاله مراد بيك لا تتركني هيك .. كل ما افتكر اتحسر واقول بت يامهرة ما كان عندك البنطلون الاصفر والبلوزة البيضة ملبستهمش ليه الهي تنشكي .. كان زمانا دلوقتي بنغني أنا والولا الاخضريكا كان يوم حبك اجمل صدفة
_ نعم ياختي يوم حبك .. هو انتي لحقتي !!
مهرة بنظرة مشتعلة وبغيظ :
_ بتخيل إيه متخيلش ! .. بس هو تقريبًا كان قرفان مني معرفش ليه هو أنا فيا حاجة تقرف !!
نظرت لها صديقتها بنظرة متفحصة تحمل الاستهزاء ثم قالت بوجه مبتسم ببرود :
_ أه لبسك يقرف .. والبسي زي البنات بقى ياشيخة قرفتيني
طالعتها مهرة بأعين مريبة ثم نظرت إلى ملابسها ببؤس وسرعان ما رسمت ابتسامة متغطرسة على ثغرها ورجعت بظهرها على الأريكة وبسطت ذراعيها على أعلى الأريكة ووضعت ساق فوق الأخرى هاتفة بغرور :
_ اللي منعجبهوش بطبيعتنا ميلزمناش
قهقهت الأخرى وأجابت ضاحكة :
_ لا والله .. لا يبقى هتفضلي قاعدة جمبك جدتك كتير
مهرة بمرح :
_زوزا دي روحي .. فكرك يعني إني لو اتجوزت هسيبها ده أنا هاخدها معايا وانومها وسطنا كمان
رفعت صديقتها حاجبها بدهشة وتمتمت تجيب عليها بسخرية :
_ وسطكم !! .. جاتك هطل على هطلك ، أنا هقوم اطمن على خالتي فوزية وبعدين همشي وخليكي إنتي في الاخضريكا بتاعك
ثم استقامت واتجهت إلى الغرفة الداخلية حيث تجلس فوزية .. بينما مهرة فنزلت بنظرها مرة أخرى إلى ملابسها زامة شفتيها بيأس ثم وثبت واقفة وركضت نحو غرفتها ووقفت أمام المرآة تنظر لهيئتها وملابسها ، فابتسمت بحب وقالت وهي ترسل لنفسها قبلات في المرآة :
_ ياختي عسل خدي بوسة يابت يامهرة وإنتي قمر كدا
ثم قلدت طريقة صديقتها بطريقة كوميدية ورسمت معالم وجهها بشكل مضحك لتهتف بقرف :
_أه لبسك يقرف .. بنت رزلة بصحيح

***
تجلس في الشرفة الخارجية على مقعد واسع ومريح وعيناها معلقة على بوابة المنزل .. منذ الصباح لا تعرف أي أخبار عنه ، ولا تدري هل حاتم تراجع عن شكوته أم أنه أصر عليها رغم طلبها .. لكنها تنتظر على أمل عودته ولا تعرف كيف .
ظلت " هنا " مستيقظة لوقت طويل ترفض النوم إلا عندما يعود والدها حتى يسرد لها قصتها المعتادة قبل النوم وينام بجوارها ، ووسط محاولات جلنار الكثيرة معها حتى تجعلها تخلد للنوم موضحة لها أن والدها سيتأخر بالخارج ولن يعود الآن .. لكن الصغيرة صممت على قرارها وبقت جالسة على الأريكة بالصالون بانتظار والدها ، ومرت ساعة وأكثر حتى بدأ النوم يصعد لعيناها وسيطر عليها تمامًا فلم تتمكن من مقاومته وخلدت للنوم مكانها على الأريكة .. فحملتها جلنار وذهبت بها إلى الغرفة الصغيرة ووضعتها على الفراش برفق ثم دثرتها بالغطاء وطبعت قبلة حانية على شعرها قبل أن تستدير وتغادر .. وتولت هي المهمة بدالها حيث لازمت الشرفة منذ نومها متأملة أن حاتم قد تراجع .
جلست بإريحية أكثر ورفعت قدماها على المقعد لتغير وضيعة جلستها إلى الجانب الآخر مستندة على ذراعها الأيسر وعيناها تتجول بكل مكان وبالأخص على البوابة .. لفت ذراعيها حول قدماها وضمتها لصدرها كنوع من بث الدفء لجسدها ، وبقت على وضعيتها هذه لما يقارب الساعة حتى وجدت عيناها تغلق رغمًا عنها ودون أن تشعر غرقت بالنوم .

وصل أخيرًا إلى المنزل .. فتح الباب ودخل ثم نزع حذائه ودار بنظره في الأرجاء يبحث عن وجودها هي أو ابنته ، ولوهلة ظن أنها هربت مرة أخرى فاندفع إلى الداخل يبحث عنها بالغرف لكن لا أثر لها .. حين فتح باب الغرفة الصغيرة ووجد ابنته نائمة في فراشها هدأت نفسه الثائرة وزفر بقوة ببعض الراحة ، ثم دخل واقترب من فراشها وانحنى عليها يلثم وجنتها وشعرها بعدة قبلات رقيقة وحانية قبل أن ينتصب في وقفته ويغادر بحذر شديد حتى لا يوقظها .. اندفع يبحث عن جلنار بكل جزء في المنزل فإذا به يجدها بالشرفة جالسة على مقعد بوضيعة الجنين وشعرها تلفحه نسمات الهواء الباردة فيغطي وجهها كله ، تقدم إليها في خطوات هادئة جدًا حتى وصل إليها ثم انحنى عليها بنصف جسده ومد أنامله يزيح خصلات شعرها بوداعة من على وجهها ، ليظهر جمال وجهها وملامحها الساحرة وهي غارقة بالنوم وانفاسها الدافئة لفحت باطن كفه .. اطال التأمل بها للحظات في عينان تحمل لمعة مختلفة ثم حرك ظهر أنامله برقة شديدة بداية من وجنتها نزولًا إلى رقبتها .. تحركت برأسها بعدما ازعجتها لمساته ، وفتحت عيناها ببطء وبمجرد ما وقعت عيناها عليه انتفضت في جلستها فورًا وقالت بصدمة :
_ إنت جيت إمتى ؟!
عدنان :
_ دلوقتي
استقامت واقفة وقالت باهتمام أسرعت في إخفائه مسرعة بعد جملتها :
_ أنت كويس طيب ؟ .. اقصد طلعت إزاي ، حاتم سحب الشكوى ؟!

كادت أن ترتفع الابتسامة على ثغره من اهتمامها الواضح به لكن سرعات اندثرت وحل محلها الصرامة وهو يهتف بنظراته الشرسة :
_ حاتم ! .. لا متراجعش وأنا مش محتاج إنه يسحبها أصلًا ، مش حتة عيل عبيط زي ده هيعرف يسجني .. بس أنا عارف هعرفه مقامه إزاي عشان ميفكرش بعد كدا أنه يلاعبني أو يقرب من مراتي وبنتي
جلنار بعصبية واندفاع :
_ مش هتقربله ياعدنان فاهم ولا لا .. أنا اتكلمت معاه وهو خلاص مش هيقربلي تاني ولا أنا هكلمه
أخطأت فيما قالته عن دون قصد حيث ألهبت نيرانه المرعبة وهتف بصوت رجولي يحمل لمسة مريبة :
_ كلمتيه !!!
اربكتها نبرته وقسمات وجهه التي تحولت لكنها أجابت عليها بثبات وشجاعة دون أي خوف ظاهر :
_ أيوة روحتله بيته عشان اقوله يتراجع عن شكوته ومش عشانك ده عشان هنا بس عملت كدا
قبض على ذراعها بعنف وجذبها إليه صائحًا بها بصوت جهوري وعينان مشتعلة بالغيرة :
_ يعني إيه روحتيله بيته ! .. إنتي بتكسري كلامي ياجلنار ، سبق وحذرتك إن عقابك هيكون عسير لو عرفت إنك كلمتي ال*** ده تاني .. بس شكلك حابة تجربي
تململت بين قبضته ودفعت يده عنها بصعوبة صارخة به :
_ أنت ملكش حق تتدخل في حياتي ، وأعمل اللي أنا عايزاه .. ومتنساش إننا أول ما نرجع مصر هتطلقني
صاح بها بعنف وعينان بها نظرات مرعبة ومنذرة :
_ انسي الطلاق ده نهائي وطلعيه من دماغك .. طلاق مش هطلق

ظهرت في عيني جلنار نظرات مشتعلة اندمجت بالتحدي وهي تجيبه بثقة واستنكار :
_ هنشوف ياعدنان .. لأن باختصار لو مطلقتنيش هخلي عيشتك سودا ، وهعرفك جلنار الرازي تقدر تعمل إيه .. هروبي بهنا ده كان أول تحذير مني ليك ، بعد كدا مش هتكون تحذيرات لا أفعال .. وصدقني أنا لو عايزة ادمرك هعملها وبسهولة جدًا
علت صوت ضحكته وهو يجيبها مستهزئًا :
_ تدمريني ! .. كبيرة أوي الكلمة دي وإنتي مش قدها
جلنار بتحدي وغضب :
_ هتشوف قدها ولا لا
ثم اندفعت إلى خارج الشرفة في طريقها إلى غرفتها لكن قدمها التوت فجأة فاصدرت صرخة عالية بألم وسقطت على الأرض جالسة تتأوه بتوجع شديد ممسكة بكاحلها ، ذهب إليها وجلس القرفصاء أمامها ثم هم بإمساك قدمها لكنها دفعت يده بعنف وصاحت به بسخط :
_ Don't touch me ( لا تلمسني )
رمقها بنظرة باردة وتابعها وهي تحاول النهوض مرة أخرى على قدمها ولا تستطيع ، فتنهد بابتسامة مخفية ووقف ثم انحنى عليها وحملها على ذراعيه متجهًا بها نحو الغرفة ، رأت ابتسامته الجانبية على شفتيه فقالت بخنق :
_ اعتقد أن مفيش حاجة تضحك
طالعها بطرف عيناه في وجه مبتسم بمكر امتزج بالسخرية :
_ بعد الوقعة دي إنتي اخرك تدمري مجسم مكعبات مش تدمريني
جلنار بقرف :
_ it's not funny ( أنه ليس مضحك )
على فكرة .. ونزلني

لم يبالي بكلمتها الأخيرة فصاحت به مرة أخرى باستياء :
_ نزلني ياعدنان
وكان رده عليها بالتجاهل حتى وصل إلى الغرفة ودخل ثم وضعها على الفراش وجلس على حافة الفراش بجوارها ممسكًا بكاحلها ويقول بهدوء :
_ الألم هنا ؟
دفعت يده عنها وصاحت به بانفعال :
_ قولتلك متلمسنيش
عدنان بحدة :
_ اسكتي ومتعصبنيش .. معانا سفر بكرا الصبح مش هتصحى وتقوليلي مش قادرة أقف على رجلي
سكتت مجبرة فالألم لا يحتمل حقًا ولا تستطيع تحريكها حتى فكيف ستقف عليها ! .. بدأ هو يقوم بتمرين بسيط لقدمها بحركات مدروسة وغير عشوائية ، لكنها أصدرت تأوهًا مرتفعًا وهي تبعد يده هاتفة بتألم :
_ أه .. ابعد ياعدنان بتوجعني اكتر
_ لازم هتوجعك
قالها بجمود ووجه خالي من التعابير ثم استكمل ما كان يفعله وهي تتأوه بصمت وألم شديد ، ثم نهض واتجه إلى الحمام وفتح صيديلة الحمام الصغيرة المعلقة فوق المرحاض وأخرج منها ضمادة مرنة بيضاء .. ثم عاد لها وبدأ بلفها في بطء حول كاحلها ويضغط عليها ، بينما هي فكانت بمكان آخر تتأمل بلحيته التي نمت كثيرًا وأصبحت كثيفة ، وملامح وجهه المتغيرة بعض الشيء حتى شعره الكثيف تغير .. وجدت نفسها تهتف بدون وعي وهي تسحب قدمها من بين يديه وتقول بسخرية :
_ كنت فاكرة إنك على الأقل مهتم ببنتك ومضايق على فراقها بس اتضح العكس لما شوفت صورك مع فريدة
ضيق عيناه وسأل باستغراب :
_ صور إيه ؟!
جلنار بنظرات جانبية وبامتعاض :
_ صوركم مع بعض وانتوا على اليخت .. كانت منزلاها من يومين
زاد التعجب أكثر على ملامحه وهتف :
_ أكيد صور قديمة .. أنا مكنتش فاضي ولا فيا دماغ للخروجات اساسًا اليومين اللي فاتوا
جلنار بعينان متسعة بذهول :
_ يعني هي منزلاها قصد عشان تغيظني
عدنان :
_ تغيظك !!
قالت بغرور تصحح له مفهومه الخطأ :
_ أيوة لأن زي ما قولت كنت فاكرة إنك مهتم ببنتك وبينا مش بتخرج وتتفسح معاها
هتف مبتسمًا بلؤم وببعض الدهشة حيث أنها المرة الأولى منذ زواجهم التي توضح له انزعاجها من فريدة وقربه منها :
_ إنتي غيرانة ياجلنار ؟!!!
بادلته الابتسامة ولكن بأخرى مستهزئة جملته السخيفة ثم تحاملت على قدمها ونهضت من على الفراش وأجابت وهي تثبت نظراتها على عيناه وتقول بقوة وجفاء :
_ أغير !! .. اعتقد إن الغيرة دي بتكون على شخص بتحبه وأنا لا حبيتك ولا هحبك
ثم تحركت ببطء وهي تسير برفق وحذر على قدماها باتجاه الحمام ، بينما هو فعض على شفاه السفلى بغيظ محاولًا تمالك أعصابه وبعيناه الملتهبة يتابعها وهي تسير باتجاه الحمام .

***
في صباح اليوم التالي .....

توقفت فريدة بسيارتها أمام أحد البنايات الضخمة والمرتفعة ثم نزلت من السيارة وقادت خطواتها إلى الداخل بعدما القت التحية على حارس البناية الذي رد عليها التحية بترحيب حار .. واتجهت نحو المصعد الكهربائي لتستقل به وينغلق عليها بمجرد ضغطها على زر الطابق الخامس .. بعد لحظات طويلة قليلًا توقف أمام الطابق المطلوب وانفتح فخرجت وتحركت باتجاه الشقة المقابلة ، ثم طرقت الباب عدة طرقات بسيطة ووقفت تنتظر الرد وعلى وجهها ابتسامة واسعة ، ثواني بسيطة حتى انفتح الباب وظهر هو من خلفه .......

رواية كيان الفهد كاملة جميع الفصول ( الفصل الثامن 8 ) 


ثواني بسيطة حتى انفتح الباب وظهر هو من خلفه .. قابلها بوجهه المشرق ثم أفسح لها المجال للدخول واغلق الباب خلفها ، ارتمت عليه تعانقه بحب حقيقي وتهتف :
_ وحشتني أوي ياحبيبي
لثم رقبتها بعدة قبلات متفرقة ثم اتجه لوجنتها ويهمس من بين قبلاته :
_ وإنتي كمان ياروحي
ابتعدت عنه واتجهت إلى الداخل نحو الأريكة ثم ألقت بحقيبتها في عشوائية على المنضدة وجلست هاتفة بضيق :
_ أنا جيت بصعوبة يعني مش هقدر اطول ممكن ساعتين وامشي
ظهرت علامات اللؤم على ملامحه فاقترب وجلس بجوارها هامسًا بنظرة وقحة :
_ وهما الساعتين دول قليلين ياحبيبتي
ارتفعت ضحكتها لتجيبه بدلال وهي تقترب وتخطف قبلة سريعة منه :
_ مش وقته خالص يانادر أنا جيت عشان نتفق أنا وأنت هنعمل إيه في جلنار
_ هي رجعت ؟!!
فريدة بجدية :
_ لا بس أنا حاسة أن سفر عدنان المفاجئ ده وراه حاجة ومش بعيد يكون عرف مكانها وراح يجبها
نادر بقرف وعدم اهتمام :
_ أنا مش عارف إنتي شاغلة بالك بيها ليه يافريدة .. كدا كدا هتطلقي من الزفت ده قريب ، فكك منها ياحبيبتي
فريدة بعصبية :
_ إيه اللي بتقوله ده .. عايزني اسيبها تاخد كل حاجة هي وبنتها على الجاهز ، على جثتي لو طالت حاجة من عدنان ، كل ده من حقي أنا
غمز لها بعيناه في نظرات شيطانية وغمغم بمكر :
_ هتاخدي كل حاجة ياحياتي .. بس سبيني اتصرف معاهم بطريقتي ، صنف جلنار دي أنا عارفه كويس أوي .. أما عدنان فده محوشله التقيلة من زمان
اعتدلت في جلستها وطالعته بنظرات راجية ثم هدرت بقلق :
_ نادر بلاش تعمل حركة غلط تودينا في داهية ارجوك ، عدنان لو شك مجرد شك هيقتلك ويقتلني
همس لنفسه ساخرًا وعلى وجهه ابتسامة تحمل الغل ( ده لو لحق أصلًا !! ) .. ثم أجاب عليها بصوته الطبيعي :
_ متخافيش أنا يعتبر مظبط كل حاجة فاضل بس التنفيذ وقريب أوي هيتم
ثم اطال النظر في وجهها بعينان راغبة وفجأة وثب واقفًا وحملها على ذراعيه متجهًا بها نحو الغرفة وهو يتمتم بابتسامة خبيثة :
_ أنا بقول نخطفلنا ساعة ساعتين كدا مع بعض عشان انتي وحشتيني أوي
هتفت ضاحكة باعتراض بسيط :
_ مش هينفع يانادر نزلني بقولك مستعجلة ولازم امشي
_ هو دخول الحمام زي خروجه ياقلب نادر

ثم فتح باب الغرفة بقدمه ودخل بها ثم اغلقه بطرف قدمه وانغمسوا معًا في ملذاتهم المحرمة غير مباليين لأي شيء ! .. غابوا ببحر المحرمات منذ أربع سنوات ولم يضعوا بالحسبان لحظة العقاب الكبرى أمام ربهم !!! ...

***
تقف بالمطبخ تقوم بتحضير وجبة الإفطار وتجلس صغيرتها فوق رخام المطبخ وتتلاعب بقدماها الصغيرة في الهواء وتمسك بيدها قطعة شيكولاتة تأكلها باستمتاع ، حتى هتفت بصوت طفولي حماسي :
_ احنا راجعين بيتنا ياماما
تنهدت جلنار بخنق وأجابت على ابنتها بمضض حاولت إخفائه :
_ امممم للأسف ياحبيبتي
هنا بتشويق وسعادة :
_ يلا نلبس
جلنار بنفاذ صبر :
_ لما نفطر الأول ياهنا بعدين هنلبس ونمشي
نظرت الصغيرة لخارج المطبخ تتأكد من عدم وجود أبيها ثم اقتربت وانحنت على أذن أمها وهمست بصوت فرح :
_ بابي قالي هنروح عند تيتا لما نرجع .. بس اوعي تقولي إني قولت ليكي
رمقتها جلنار بنظرة نارية وهتفت بغيظ مكتوم :
_ هو قالك كدا ؟!
هزت رأسها بإيجاب وهي لا تزال تبتسم باتساع فنظرت جلنار للطماطم التي تقوم بتقطيعها ونزلت السكين عليها في عنف تهمس بصوت غير مسموع وأعين مشتعلة بوعيد :
_ ده بعينه إن شاء الله .. قال تيتا ، أمه القرشانة دي هو أنا ناقصة

صاحت هنا بصوت عالي في حب عندما وجدت والدها يدخل المطبخ فاقترب هو منها وحمله على ذراعيها ومد يده يعبث بخصلات شعرها الحريرية ويهمس في مداعبة :
_ إيه الحلاوة دي بس يابابا
ابتسمت الصغيرة باستحياء بسيط في وجه طفولي يسرق القلب ليقهقه هو بخفة ثم ينحني عليها ويطبع قبلة عميقة على وجنتها ، بينما جلنار فالتفتت نصف التفاتة برأسها له ورمقته بنظرة مشتعلة ثم اشاحت بنظرها عنه عندما وجدته ينظر نحوها .. اختفت ملامحه اللينة وظهر محلها الصرامة حيث هتف بغلظة صوته الرجولي :
_ مالك ؟!!!
تجاهلته تمامًا ولم تجب ولم تنظر له حتى مما استفزه بشدة فأنزل ابنته من على ذراعيه وهتف بابتسامة رسمها بصعوبة :
_ روحي ياهنايا استنيني برا وأنا هاجي وراكي

رفعت هنا نظرها إلى أمها الواقفة وتوليهم ظهرها منشغلة بما تفعله أو تتصنع هذا ثم عادت بنظرها لأبيها وتنهدت بيأس لتستدير وتتجه لخارج المطبخ متمثلة لأوامر والدها .
تحرك خطوة إليها حتى كاد يكون ملتصق بها وهتف بلهجة غريبة :
_ لما اكلمك تردي عليا
قالت بعد مبالاة واشمئزاز :
_ مش طايقة اكلمك أو اسمع صوتك أساسًا
جز على أسنانه بغيظ ثم قبض على أعلى ذراعها بقبضته الفولازية وتتمتم بتحذير :
_ أنا لغاية دلوقتي هادي معاكي ياجلنار رغم اللي عملتيه ، فاتكلمي باحترام وبأسلوب مظبوط بدل ما اظبطك أنا بأسلوبي
تحاملت الألم ولم تظهرهه على ملامحها حيث استقرت بعيناها نظرة حاقدة وهمست بصوت أنوثي شرس :
_ سيب إيدي ومتقربش مني .. وتهديداتك الفارغة دي روح هدد بيها حد غيري مش أنا
أحست وأنه لوهلة ستخرج النيران من عيناه وتحرقها بأرضها من فرط سخطه ، ووجدته يزيد من ضغطه على ذراعها بعنف فلم تتمكن من أخفاء المها أكثر حيث أغمضت عيناها في محاولة بائسة لعدم الظهور ضعيفة أمامه ، ووجدته يقترب منها وينحنى على أذنها هامسًا بصوت يشبه فحيح الأفعى :
_ لولا أن البنت برا كنت وريتك التهديدات الفارغة دي كويس

لانت قبضته تلقائيًا على ذراعها حين دخلت لأنفه رائحة عطرها المثير فأغلق عيناه محاولًا تمالك انفعالاته الداخلية حتى لا يضعف ، وكان على وشك أن ينصاع خلف رغبته لكنه استفاق فورًا وترك ذراعها ثم نظر بعيناها وقال في صوت خشن وجاف :
_ بعد الفطار ادخلي خدي دش والبرفان ده متحطهوش تاني .. وإياكي تحطيه وإنتي خارجة
ثم القى عليها نظرة قاسية أخيرة قبل أن يبتعد عنها ويرحل بينما هي فظلت ملتفة برأسها للخلف تتابعه وهو ينصرف بغضب وممسكة بذراعها ثم همست بغل :
_ حقير .. بس ورحمة ماما لأخليك تندم على كل حاجة عملتها معايا ياعدنان
تركت ذراعها وعادت تكمل تحضير الفطار وهي تهتف بقرف :
_ لو اقدر احط سم كنت حطيته عشان تطفحه واخلص منك نهائي

***
كانت زينة بأحد المقاهي المشهورة والمطلة على النيل ، تجلس على أحد المقاعد وأمامها طاولة مستديرة ومتوسطة الحجم ويقابلها مقعد آخر فارغ .. وبيدها تمسك كوب عصير مانجا طازج وتتأمل منظر الماء من أمامها بشرود ، وبداخلها خلافات عنيفة .. وسؤال تطرحه باستمرار على نفسها .. لماذا تجلسِ بمفردك ولم تذهبِ له بدلًا من الجلوس هكذا كالحمقاء .. لكنها باتت تشعر أن كرامتها على حافة الهاوية ، ولا تستبعد أن يكون قد فهم مشاعرها تجاهه ويتجاهلها بتصرفاته الطبيعية معها ، لا مجال لمزيد من الركض خلف أحلام واهية .. ستترك كل شيء يسير كما هو مقدر له ! .
فجأة وجدت أحدًا يجلس مقابلًا لها على المقعد الفارغ فالتفتت برأسها فورًا له وعندما وقعت عيناها عليها ظهرت الدهشة والخنق حيث بقت تحدق به لفترة وجيزة بعدم فهم حتى هتفت بحزم :
_ أنت بتراقبني !!!
ابتسم رائد وقال بخفوت ضاحكًا :
_ أكيد لا .. أنا شفتك بالصدفة وقولت اسلم عليكي ونتكلم شوية لو مفيش عندك مانع طبعًا
احتدم وجه زينة بغيظ ثم التقطت هاتفها وأشيائها من فوق سطح الطاولة واستقامت واقفة وهي تقول باعتذار صارم :
_ أسفة بس أنا ورايا مشوار ومستعجلة وكنت ماشية قبل ما حضرتك تاجي
همت بالانصراف لولا قبضته التي أمسكت برسغها في لطف وهتف بوداعة :
_ لحظة بس إنتي متعصبة مني ليه كدا ! .. لو قولت حاجة ضايقتك من غير قصد سواء دلوقتي أو يوم الفرح أنا آسف مقصدش والله
زينة باقتصاب :
_ مفيش زعل يا أستاذ رائد أنا زي ما قولتلك مستعجلة بس وبخصوص الموضوع اللي والدتك فاتحت ماما فيه فـ.....
رائد مقاطعًا إياها بنظرات ذات معنى وجذابة :
_ أنا مجيتش اتكلم معاكي عشان اسألك موافقة أو لا .. خالص بالعكس أنا كنت حابب نتكلم وندردش مع بعض مش أكتر

أحست أنها قست قليلًا عليه في حدة كلامها فتنهدت بهدوء وتمتمت في صوت رخيم وابتسامة بسيطة :
_ مرة تاني إن شاء الله .. عن أذنك
ثم سحبت يدها من قبضته واندفعت إلى خارج المقهى بأكمله مسرعة دون أن تلتفت خلفها ، بينما هو فتنهد بقوة ورفع يده يمسح على وجهه بيأس ! .

***
يقف أمام المرآة يقوم بتسريح شعره بعد ارتدائه لملابسه ويستعد للمغادرة ثم أمسك بزجاجة العطر الخاص به ونثر على ملابسه بكثرة حتى امتلأت الغرفة كلها برائحته .. انفتح الباب وظهرت من خلفه أسمهان التي وقفت للحظات تتطلع إلى ابنها الأصغر في حنو ، كلما تنظر له يذكرها بأبيه يمتلك نفس عيناه ووسامته الساحرة ، وشغفه وحبه للحياة والمرح .. لم تنسى يوم ولادتها عندما قال زوجها ( سيكون آدم الأحن بيننا أما عدنان فهو عُقاب يصعب ترويضه ) ! .
اقتربت ووقفت خلفه ثم وضعت كلتا كفيها على كتفيه من الجهتين وقالت بنظرة جانبية خبيثة وحانية :
_ مش ناوي تفرحني كدا يابني وتخليني اشوفلك عروسة وافرح بيك
التفت لها بجسده وقال ضاحكًا بمشاكسًا :
_ لا ريحي نفسك ياست الكل لما احب اتجوز أنا اللي هختارها
أسمهان رافعة حاجبها باستنكار ووجه جاد :
_ لا والله !
آدم ببشاشة وبرود متعمد :
_ طبعًا يا سلطانة .. اعذريني مش هسمحلك تتولي المهمة دي بذات ، ده جواز مش لعبة
_ أنت هتعمل زي أخوك !!
زم شفتيه بعدم اكتراث وتمتم :
_ ماله عدنان !
أسمهان بقرف وغيظ :
_ مش لو كان سابني انقيله عروسته على مزاجي كان زمانه دلوقتي عايش مبسوط ومتهني في حياته ، لكن البيه لعبت بعقله حلاوة بنت فاطمة الخدامة وخلته مش شايف غيرها .. ولما جات الفرصة إنه يتجوز تاني راح واتجوز بنت نشأت غصب عني
مسح آدم على وجهه متأففًا وقال بصوت غليظ واستياء حقيقي :
_ عدنان هيكون مبسوط ياماما لما تتخلي عن تصرفاتك ومحاولاتك في إنك تتخلصي من جلنار ودلوقتي بقت فريدة ، سبيه ومتدخليش في حياته ومتخقليش مشاكل بينهم
ثم اندفع لخارج الغرفة بأكملها فصرخت هي منادية عليه في سخط :
_ آدم
ثم أكملت بعينان ملتهبة بالغيظ والغل عندما لم يجب عليها :
_ مش كفاية ساحرة لعدنان بنت الرازي كمان حتى ابني التاني مش بيستحمل يسمع عليها كلمة .. ماشي يا جلنار مبقاش أنا أسمهان الشافعي أما طردتك من حياة ابني ومن حياتنا كلها

***
انتهت من ارتداء ملابسها وكل شيء استعدادًا لعودتها إلى وطنها ، ثم جلست على الفراش وامسكت بالهاتف وبحثت بقائمة الأسماء عن رقمه وظلت تحدق به بتردد .. تتصل به وتخبره أنها راحلة أم لا ؟! ، قذفت بذهنها كلماته وهو يعبر لها عن حبه الخفي لها ( بحبك أوي ياجلنار ) .. نفضت عن ذهنها تلك الكلمات وهزت رأسها بالنفور وهي تحسم قرارها بعدم الاتصال به وبل وعدم التواصل معه تمامًا .
انفتح الباب ودخل عدنان ثم وقف للحظات قصيرة يحملق بها وقال بخشونة :
_قاعدة كدا ليه يلا
طالعته بعينان محتقنة بالدماء ثم استقامت واقفة وجذبت حقيبتها الصغيرة والقت نظرة أخيرة على الغرفة بأكملها تتأكد من عدم نسيانها لشيء ما .. ثم اتجهت نحوه وقبل أن تعبر من الباب بجانبه قبض على ذراعها ليوقفها ورفع كفها الأيمن لأعلى ينظر إلى أناملها الخالية من خاتم زواجهم ، فاستقرت في عيناه نظرة قوية مردفًا :
_ خاتمك فين ؟!
سحبت يدها من بين يده بهدوء وهي تزفر بخنق وتهتف باقتضاب :
_ في الشنطة
_ طلعيه
كانت كلمة صارمة صدرت منه لا تقبل الجدال بنظرات حادة ، فتنهدت هي بنفاذ صبر ووضعت كفها في الحقيبة الصغيرة تفتش عن خاتمها ولم تجده أو هي من أرادت هذا حيث أجابت عليه بالامبالة وهي تهم بالانصراف :
_ مش لاقياه بعدين هبقى اشوفه وألبسه
جذب حقيبتها من يدها بعدما فهم حيلتها وتصنعها ثم فتحها ونظر فيها يفتش بنظره عنه حتى وجده ، التقطه وامسك بكفها يرفعه ثم يلبسها الخاتم ويهتف في صوت رجولي ساخط :
_ ده ميتقلعش تاني مفهوم ولا لا
جلنار بسخرية :
_ ليه بقى !!
أجابها في شيء من الغرابة وبعينان ثاقبة :
_ عشان يفكرك دايمًا إنك هتفضلي مراتي ومفيش طلاق ياجلنار

استشاطت غيظًا وغلً فاقتربت بوجهها منه وقالت في ثبات وأعين تشع شرارة الشر والمكر :
_ هطلق سواء طالت أو قصرت مسيرك هتطلقني ، واوعى عقلك الباطن يصورلك إنك حتى لو مطلقتنيش لما نرجع هسمحلك تقرب مني أو تلمسني ، بعينك ياعدنان أنه يحصل

رغم اشتعال نيران الغيظ في داخله من كلماتها إلا أنه أظهر العكس تمامًا حيث ابتسم ببرود وهمس بخبث وهو يقترب بشفتيه منها ليستفزها :
_ هنشوف يارمانتي الموضوع ده لما نرجع إن شاء الله
رمقته بقرف وتمتمت :
_ بكرهك
عدنان بوجه مبتسم في نظرات مثلجة :
_ عارف وعشان كدا مش هطلقك
احتدم وجهه وتحول إلى الأحمر القاتم من شدة الغيظ وهي تطالعه باستياء مكتوم .. تود لو تلكمه وتفرغ شحنة غيظها به .. أو تخنقه بيديها ، لكنها أثرت عدم الاصطدام معه الآن في شجار هي ليست في مزاج لتحتمله .. حيث اندفعت إلى الخارج وهي تتمتم بعض الكلمات الغاضبة ، بينما هو فخرج خلفها وكانت الصغيرة تنتظر في الحديقة وهي تلهو بدميتها ، وعندما رأت والديها باتجاه السيارة ركضت هي قبلهم واستقلت بالمقعد الخلفي في مكانها المخصص وثواني واستقل عدنان بمقعد القيادة وجلنار بجواره ثم التفتت برأسها للخلف لابنتها وهتفت في لؤم قاصدة إثارة ضيقه :
_ استعدي بقى ياهنون عشان أول ما نرجع هنروح نقعد عند خالتو إنتصار
استعت مقلتي الفتاة بدهشة وقفزت فرحًا في مقعدها تقول بفرحة :
_ هييييه
بينما هو فحدقها بنظرة مشتعلة وهتف :
_ مين اللي قال هتروحوا !
جلنار ببرود يماثل بروده معها منذ قليل :
_ أنا قولت ! .. وبعدين حتى هنا عايزة تروح وفرحت أهي .. إيه هتكسر بنفس بنتك !
عض على شفاه السفلى محاولًا تمالك أعصابه وهمس في غيظ :
_ ده أنا اللي هكسر دماغك
وثبت الصغيرة على مقعد والدها وهي تعانقه من الخلف وتقول برجاء :
_ نروح عند خالتو يابابي .. اردوك ( أرجوك )
نظر مطولًا لابنته فلم يتمكن من المقاومة أمام نظراتها المستعطفة والحاحها فقال بمضض :
_ ماشي ياحبيبتي خلاص هنروح
اشاحت جلنار بوجهها للجانب الآخر تخفي ضحكتها الشامتة والخبيثة بكفها ثم رجعت برأسها نحوه بعدما انطلق بالسيارة وقالت في خفوت مستفز :
_ سوق على مهلك يا بيبي
رفع حاجبه مستنكرًا كلمتها الأخيرة ورمقها بنظرة متوعدة وهو يتمتم بصوت منخفض سمعته :
_ ماشي لما نرجع بس اصبري عليا
ابتسمت في عدم مبالاة وتمتمت لنفسها في نشوة ووعيد ماكر :
_ أنت لسا شفت حاجة .. دي البداية بس !
ثم التفتت برأسها مرة أخرى إلى ابنتها وظلت تتحدث معها وتضحك وهي تشاكسها ، بينما هو فيتابعهم بعيناه في مرآة السيارة العلوية .. يتأمل ضحكهم واندماجهم الجميل الذي يدخل السرور على قلبه ودون أن يشعر انحرفت شفتاه قليلًا لليسار مفترة عن ابتسامة دافئة ومحبة !! .

***
خرجت من الحمام وهي تلف حول جسدها منشفة كبيرة وتمسك بمنشفة صغيرة أخرى تجفف بها شعرها .. بعد لحظاتها الغرامية مع عشيقها السري ، وبينما تسير في اتجاه المرآة رفعت نظرها بتلقائية فارتدت للخلف في زعر عندما رأت عدنان أمامها يقف عند الباب ويطالعها بعيناه المرعبة والمعاتبة .. فرت الدماء من عروقها واحست بأنها ستفقد وعيها بعدما ظنته لوهلة حقيقيًا ، لكن سرعان ما اختفى شبحه من أمام عيناها .. التقطت أنفاسها المتسارعة في فزع وألقت بالمنشفة الصغيرة على الفراش ثم شرعت في ارتداء ملابسها فورًا حتى تغادر ، وبعد انتهائها سمعت صوت رنين هاتفها فأجابت بصوت جاهدت في أظهاره طبيعيًا :
_ خير ياسمير ؟!
أجابها الآخر في مكر وشيطانية :
_ الست أسمهان هانم طلبت مني النهاردة اراقبك وإنتي خارجة وأنا عملت الواجب
يبدو أن اليوم هو يوم الصدمات المخيفة ، هتفت في ارتعاد :
_قولتلها إيه انطق !!
_ اطمني ياست الكل قولتلها إنك في النادي روحتي تشوفي واحدة صحبتك
فريدة بانفعال :
_ غبي ممكن تبعت حد على هناك عشان تتأكد ده لو مرحتش هي بنفسها .. اقفل اخلص خليني ارجع قبل ما تعملي مشكلة الحرباية دي
أنهت معه الاتصال ووضعت الهاتف في حقيبتها ثم اندفعت إلى الخارج وكان نادر يجلس على الأريكة أمام التلفاز ينتظرها حتى تخرج من الحمام وعندما وجدها قد ارتدت ملابسها ومستعدة للرحيل فقال بحيرة وهوويهب واقفًا ويقترب منها :
_ رايحة فين ؟!
فريدة :
_ ماشية يانادر اتأخرت أوي وأسمهان مش هتجبها لبر معايا .. بعتت سمير ورايا عشان يراقبني والغبي معرفش يتصرف ولو مرجعتش دلوقتي ممكن كل حاجة تتكشف
تأفف بقوة في حرارة ثم أجابها بخنق مغلوبًا على أمره :
_ تمام يافريدة خلي بالك من نفسك ولما توصلي كلميني وطمنيني

انحنت برأسها عليه وخطفت قبلة سريعة من وجنته متمتمة بعجلة في ابتسامة عاشقة :
_ حاضر ياحبيبي هكلمك .. سلام

أنهت جملتها واندفعت إلى خارج المنزل بأكمله ومنه إلى المقعد الكهربائي حتى ينزل بها للطابق الأرضي ، بينما هو فظل واقفًا بأرضه ورفع كفه إلى شعره يمسح عليه بحنق .

***
خرجوا من إحدى البنايات بعد زيارتهم للطبيب الخاص بجدتها وكانت فوزية تستند عليها وتقول الأخرى بمشاكسة :
_ أنا مش فاهمة إيه اللي بيعصبك بس يازوزا .. الدكتور قالك بلاش العصبية وإنتي برضوا مفيش فايدة ، حد معاه ملاك زي ويتعصب
فوزية بشيء من العصبية :
_ بت متنرفزنيش اكتمي خالص ومسمعش حسك
قهقهت بخفة وقالت في نبرة شبه جادة :
_ أنا هروح اجيب العلاج من الصيدلية دي وجيالك استنيني هنا يازوزا
هزت رأسها بالإيجاب بعدم حيلة وتابعتها وهي تتجه نحو الصيدلية .. فبقت واقفة للحظات طويلة بانتظارها وعندما تأخرت فكرت بأن تذهب وتشير لسيارة أجرة إلى حين خروجها ، سارت بخطواتها الهادئة إلى الشارع وتلفتت حولها تتابع حركة السيارات منتظرة أن يخف اكتظاظها قليلًا وعندما وجدت الفرصة فسارت بسرعة تعبر الطريق ولكن فجأة كان هناك سيارة تسير مسرعة وقبل أن تصطدم بها توقفت بقوة ، كادت فوزية أن تسقط من أثر الصدمة .. وباللحظة التالية فورًا نزل منها شاب في منتصف عقده الثالث وركض نحوها يمسك بذراعها هاتفًا بزعر :
_ إنتي كويسة يا حجة
فوزية بصوت خافت به بعض الزعر :
_ كويسة يابني الحمدلله متقلقش
آدم باعتذار ونظرات مرتعدة :
_ أنا آسف جدًا والله مخدتش بالي
_ ولا يهمك يابني حصل خير
خرجت مهرة من الصيدلية ووقفت تبحث بنظرها عن جدتها وإذا بها تجدها تقف ويمسك بذراعها شاب ويبدو على ملامحها الزعر وأنها كانت على وشك الاصطدام بسيارة ، فهرولت راكضة نحوها غير مكترثة بحركة السيارات وعندما وصلت إليها أمسكت بها وقالت في ملامح وجه مزعورة :
_ تيتا إنتي كويسة ؟!
هزت فوزية رأسها بإيجاب وقالت بابتسامة باهتة :
_ كويسة والله يامهرة متخافيش ياحبيبتي
صاحت مهرة بعصبية وهي توجه حديثها لآدم :
_ مش تركز في الطريق ولا البعيد اعمى ومبيشوفش
ادرك آدم أنها نفس الفتاة التي قابلها في المنطقة الشعبية فاستشاط غضبًا وقال بانفعال مكتوم :
_ احترمي نفسك يابت
مهرة بصوت مرتفع نسبيًا وسخط هادر :
_ بت في عينك ياجربان
_ أنا جربان !!!!
قبضت فوزية على ذراع حفيدتها وهتفت باستياء ونظرات تحذيرية :
_ مهرة بس اكتمي إيه اللي بتعمليه ده
ثم نظرت إلى آدم وقالت بصوت مختقن :
_ وأنت يا أستاذ خلاص قولتلك حصل خير ، اركب عربيتك وامشي
تنهد آدم وقال معتذرًا وهو ينظر لمهرة بقرف :
_ حقك عليا ياحجة .. لو تحبي اتفضلي معايا اوصلكم في طريقي
ردت مهرة بنبرة فظة وهي تطالع سيارته بسخرية :
_حتى عربيتك جربانة زيك
عض آدم على شفاه السفلى بغيظ يحاول تمالك أعصابه حتى لا يرتكب بهذه الفتاة جريمة ، بينما فوزية فصاحت بها بنبرة مرتفعة بعض الشيء :
_ بس مسمعش صوتك
فوزية محدثة آدم بإحراج بسيط :
_ حقك علينا احنا يابني .. وشكرًا مش عايزة اتعبك واعطلك على شغلك ، عن أذنك
ثم جذبت مهرة من ذراعها معها ووقفت تشير إلى إحدى السيارات الأجرة وفتحت الباب ثم أدخلتها هي أولًا ودخلت هي من بعدها وتحركت بهم السيارة فورًا ، وبعد دقائق من نظرات جدتها النارية لها وهم مازالوا في السيارة وبعد أن هدأت عصبيتها تدريجيًا ، فلوت فمها بندم وهمست لنفسها بغيظ :
_ كان لازم تتعصبي أوي كدا يعني وتقوليله جربان ! ، بقى بزمتك واحد زي ده يتقاله جربان .. طيب هزقيه بحاجة صح حتى ! ، اوووف لا عيد الخناقة تاني لو سمحت

***
توقفت السيارة أمام المطار وترجلا منها وتولى أحد الرجال حمل حقائبهم ، بينما زوجها كان يمسك بكف فتاته الصغير ويسيرا معًا إلى الداخل وهي بجواره .. ظلت تسير لمسافة طويلة حتى وصلا إلى الطائرة وكانت صغيرة بعض الشيء ليست طائرة لركاب مطلقًا ، ضيقت عيناها بدهشة وظلت تتحرك دون أن تتفوه ببنت شفة فقط منظر الطائرة يثير ذهولها .. متى قام بشراء طائرة خاصة ؟!! ، سؤال تطرحه في ذهنها بحيرة ولكنها تجاهلته وفضلت تصنع اللامبالاة .
كانت ترتدي فستان قصير بعض الشيء من اللون الأبيض ويعطي اتساعًا جذاب من منطقة الوسط حتى آخره وتترك الحرية لشعرها الأسود الحريري وترتدي فوق عيناها نظارة سوداء وحذائها العالي الذي من نفس لون الفستان يعطيها لمسة أنثوية صارخة .
كان بانتظارهم أمام الطائرة رجل يرتدي زي رسمي وبمجرد وصول زوجها انحنى برأسه في احترام وابتسامة مشرقة فاكتفى عدنان بإماءة رأسه البسيطة ووقف قبل أن يصعد على الدرج المتدلي من الطائرة ينتظر صعودها هي أولًا ، طالعته بنظرة خالية من أي تعابير ثم صعدت هي أولًا وانحنى هو على ابنته يحملها على ذراعيه ويصعد بها الدرج حتى وصلا ودخلا ، تحركت في الردهة الصغيرة للطائرة حتى وصلت للمقاعد وكانت مقاعد محدودة وقليلة بعض الشيء لكنها رائعة من اللون البني والجلد الطبيعي .
ركضت هنا باتجاه أحد المقاعد المجاورة للنافذة وقالت بانبهار وسعادة :
_ اقعد هنا يابابي
ابتسم وانحنى عليها يلثم وجنتها هامسًا بدفء وحب :
_ اقعدي في المكان اللي تحبيه ياروح بابي .. الطيارة كلها بتاعتك
تعلقت برقبة والدها وقبلته من وجنته بقوة في حب نقي يلمع بعيناها البندقية الصغيرة فزاد هو من ضمها بحنان ثم ابتعدت وعادت تلازم مقعدها الخاص بجوار النافذة بينما جلنار فجلست على أحد المقاعد المجاورة لمقعد ابنتها على الجانب الآخر بعدما جلس عدنان هو بالمقعد المجاور لابنته تمامًا .
نزعت عنها نظارتها ورفعت ساق تضعها فوق الأخرى وامسكت بهاتفها تتصفحه ، بينما هو فأخرج إحدى المجالات وفتحها وبدأ في القراءة .. وقعت عيناه بالصدفة عليها ورأى قدمها العلوية عارية إلى أعلى الركبة نسبيًا بفعل فستانها الذي بالطبيعي يصل إلى الركبة وبعد الوضعية التي اخذتها في جلوسها ارتفع لأعلى أكثر ، ظلت عيناها ثابتة علي ساقها وتطلق شرارات نارية يحاول تمالك أعصابه .. انتبهت بعد ثواني لنظراته فمرقته بطرف عيناها ونظرت إلى مستقر عيناه فتنهدت بخفوت ومدت يدها تسحب الفستان للأمام ، لكنه لا يزال ينظر وكأنه لم يعجبه حتى الآن ومازال ظهور ساقها يثير جنونه ، فتجاهلته وعادت بنظرها إلى هاتفها تتصنع عدم الاكتراث بنظراته الملتهبة .. حتى سمعت صوته المريب وهو يهتف بلهجة آمرة :
_ نزلي رجلك
نظرت له وقالت بهدوء مستفز :
_ نعم !
تأفف بقوة في عصبية مكتومة وألقى بالمجلة التي بيده على المقعد وهب واقفًا ثم اقترب منها ومد يده يسحب فستانها على قدمها بعنف ليسترها ويقول بنظرة قاتلة وحادة :
_ ياتقومي تدخلي الحمام وتغيري الزفت اللي لابساه ده يا تقعدي مظبوط
جلنار بسخط محاولة خفض نبرة صوتها :
_ وإنت إيه اللي مضايقك اعتقد مفيش غيرنا في الطيارة
عدنان بنبرة رجولية ونظرة متقدة :
_ طاقم الطيارة كله رجالة ياهانم وممكن في أي لحظة حد يدخل
انزلت ساقيها وجلست بطبيعية وهي تجيبه بتأفف وخنق امتزج بانفعالها :
_ أهووو .. حلو كدا !!
استقرت في عيناه نظرة ثاقبة وهو يتفحصها بنظرها من من قمة رأسها حتى أطراف أصابع قدمها ، هدأت حدة نظراته قليلًا وانتصب في وقفته ثم عاد إلى مقعده وسط نظراتها المستاءة له .. كانت هنا تتابع بعيناها الحديث المنخفض المشحون بطاقة سلبية بين والديها دون أن تتمكن من سماع ما يقولون ، وعندما جلس أبيها بجوارها مرة أخرى ابتسمت بلطافة ليبادلها هو بابتسامته المعتادة التي تنضج بالدفء والحب .

دقائق قصيرة مرت حتى بدأت الطائرة في الإقلاع وبلحظة ارتفاعها عن الأرض قبضت جلنار بيدها على ذراع مقعدها وارجعت رأسها للخلف مغمضة عيناها بقوة بعدما داهمها الدوار فجأة وتسارعت أنفاسها ونبضات قلبها بشكل مريب أثار القلق في نفسه .

رواية كيان الفهد كاملة جميع الفصول ( الفصل التاسع 9 ) 


دقائق قصيرة مرت حتى بدأت الطائرة في التحرك وبلحظة ارتفاعها عن الأرض قبضت جلنار بيدها على ذراع مقعدها وارجعت رأسها للخلف مغمضة عيناها بقوة بعدما داهمها الدوار فجأة وتسارعت أنفاسها ونبضات قلبها بشكل مريب أثار القلق في نفسه .. علق نظره عليها يتابع تغيراتها المفاجئة ، وحدة أنفاسها تزداد وبدأت تجد صعوبة في التقاطها ، فور رؤيته لها على هذا الوضع هب من مقعده ووقف أمامها منحنيًا بجزعة للأمام ويقول بأعين قلقة :
_ جلنار إنتي كويسة ؟
لم تجيبه فقط فتحت عيناها وهي تطالعه بأعين ضعيفة وتحاول تهدئة أنفاسها المتسارعة ، تملك منه الزعر وصاح مناديًا على أحد من طاقم العمل بالطائرة الذي جاء فورًا مسرعًا ، وسمع عدنان يهتف دون أن ينظر له فقط منشغل بزوجته :
_ هات مايه بسرعة
امتثل لطلبه فورًا بينما هو فهتف بأعين تحمل القلق الملحوظ ويحتضن وجهها بين كفيه :
_ خدي نفس ياجلنار
ثم أخذ شهيقًا طويل وأخرجه زفيرًا متهملًا حتى تفعل مثله .. ففعلت هي بصعوبة وسط نبضاتها العنيفة ، لحظات معدودة بالضبط ووصل الماء .. التقط الكأس منه وأعطاه لها هامسًا باهتمام :
_ خدي اشربي
جذبت الكأس منه بيد مرتعشة ورفعته إلى شفتيها تشرب بتمهل وهو يساعدها في إمساك الكوب ، ثم مد أنامله يبعد خصلات شعرها عن عينيها بلطف حتى لا تزعجها ويتابعها بعيناه المترقبة حتى انزلت الكأس من فمها وقد ظهر على ملامحها هدوء أنفاسها قليلًا ، سألها بخفوت مهتم وقلق ممسكًا بكفها :
_ هااا احسن دلوقتي ؟
هزت رأسها بالإيجاب في أعين ضعيفة وقسمات وجه بريئة تسرق القلب .. تنهد بارتياح واستطرد بحزم يوبخها في عنف بسيط ، وبإبهامه يملس على ظهر كفها الذي يحتضنه بين قبضته .. كأن نبرته وقمساته الغليظة تقسو ولمساته تحنو ! .
_ أكيد نسيتي تاخدي المهدئ قبل ما تركبي الطيارة صح !
جلنار بخفوت رقيق :
_ أيوة
عدنان باستياء من إهمالها :
_ الإهمال ده ميتكررش تاني ياجلنار .. المفروض إنك عارفة أن إنتي مش بتستحملي الارتفاع والطيارة وعندك رهاب منها وبتجيلك النوبات دي يبقى مش محتاجة حد يفكرك أو يقولك خدي المهدئ

اقتربت هنا من أمها ووقفت بجوار مقعدها تقول بنظرة مرتعدة ونبرة طفولية حزينة بعدما تابعت بعيناها حالة والدتها المريبة وزعر والدها وهو يحاول تهدئتها :
_ إنتي كويسة يامامي ؟
نظرت لها بعين كلها دفء وحب ثم انحنت بجزعة من على مقعدها وحملتها على قدميها تلثم وجنتها بحنو متمتمة بابتسامة ساحرة :
_ أنا كويسة ياروح مامي متخافيش
ابتسمت لها هنا بارتياح بسيط ظهر على ملامحها الصغيرة ، بينما هو فظل نظره معلقًا عليها يتفحصها بنظراته جيدًا كأنه يتأكد من انتظام أنفاسها وعودتها لطبيعتها ، وبعد ثواني من التحديق بها وهي منشغلة بالحديث مع ابنته ومداعبتها ، انتصب في وقفته ووجد نفسها بتلقائية ينحني على رأسها ويطبع قبلة على شعرها بلطف ثم يبتعد عنهم ويتجه نحو حمام الطائرة .. رفعت هي رأسها عن ابنتها بدهشة بعدما أحست بقبلته والتفتت برأسها للخلف إليها تتابعه بنظراتها المتعجبة وهو يتجه نحو الحمام ، فزمت شفتيها بحيرة ولم تشغل عقلها بالتفكير كثيرًا حيث سرعان ما عادت بنظرها إلى ابنتها تستكمل حديثها المرح معها ! .

***
تجلس أسمهان على الأريكة بغرفتها والتساؤلات والشكوك تنهش عقلها .. لم تصدق الكذبة التي قالها لها " سمير " ، لابد أن الأفعى الصغيرة " فريدة " تعد مكيدة دون علمهم ، ولن يهدأ لها بال إلا حينما تكشف مكيدتها ويتسنى لها التخلص منها .
لن تترك أرث إمبراطورية الشافعي لابنة الخادمة أو لابنة ذلك الحقير نشأت .. لقد صبرت وتحملت فريدة لسبع سنوات بل وتظاهرت بالود والحب معها فقط حتى لا تخسر ابنها ، لكن الآن هي على يقين أنها إن لم تتخلص من الأفاعي المحيطة به فبالتأكيد ستخسره بالفعل ! .
ستخلصه من جشع تلك الفقيرة " فريدة " وكذلك مكر ابنة الرازي .. ومن ثم ستزوجه هي من امرأة يستحقها تكون له خير الزوجة والأم ، وكذلك امرأة تليق بمركز عائلتهم الكبيرة ومركزه ! .
انتشلها من شرودها صوت توقف سيارة بالاسفل فهبت واقفة واقتربت من النافذة تنظر منها وإذا بها تجد فريدة تخرج من الباب الخلفي للسيارة وهي ترتدي نظارة شمس وملابسها الفخمة وتتجه نحو الداخل ، فابتسمت أسمهان بمكر وهي تهمس :
_ كان لازم تاخدي حذرك الأول قبل ما تعرفي بتلعبي مع مين يابنت الخدامة .. استحملت قرفك كتير عشان ابني بس لغاية هنا وكفاية ، جهزي نفسك عشان الأيام الجاية دي آخر أيامك في العز وبعدين هترجعي للشارع والزبالة اللي جيتي منها
ثم دخلت إلى الداخل مجددًا والتقطتت هاتفها تحاول اجراء اتصال بابنها المختفى منذ أيام وبعدما أتاها نفس الصوت الذي يخبرها بكل مرة أن الهاتف مغلق .. تأففت بقوة وصاحت في سخط امتزج بالقلق :
_ روحت فين بس ياعدنان ! .. ياخوفي لتكون لقيت اللي ما تتسمى بنت نشأت !

***
وصلت زينة إلى منزل خالتها بعدما طلبت منها أن تمر عليها وهي ذاهبة للمنزل .. لبت طلب خالتها على مضض حينما توقعت نوع الحديث الذي تريد مشاركتها فيه ، فهي منذ أيام تحاول التعافي من مشاعرها الوهمية وليست في حالة تسمح لها بالانخراط مجددًا في أوهامها أو مجرد لمعة أمل بسيطة تدفعها إليها خالتها بكلماتها التي لا فائدة منها .
خرجت أسمهان من غرفتها فور رؤيتها لابنة أختها واستقبلتها بحرارة وحب كعادتها بينما زينة فكانت جامدة لا تظهر أي معالم حتى أنها لم تتجول بنظرها في المنزل بحثًا عنه ككل مرة تذور منزل خالتها فيه .. مما أثار الشك في نفس أسمهان التي جذبتها من ذراعها واجلستها على الأريكة وسألتها بريبة :
_ مالك يازينة ؟!
_ مليش ياخالتو مرهقة شوية بس
سكتت أسمهان لبرهة من الوقت وهي تمعن النظر في ملامحها تحاول توقع سبب ضيقها وبؤسها فهتفت بترقب :
_ آدم زعلك في حاجة !!
رمقتها زينة بيأس وتمتمت لأول مرة بصوت مبحوح دون خجل أو ارتباك كعادتها :
_ خالتو بليز متكلمنيش عن آدم .. أنا وإنتي عارفين إنه مبيحبنيش ومش هيحبني
تنهدت أسمهان وقد ظهرت القوة على ملامحها فقالت بنظرة جانبية لئيمة :
_ ومين قالك إنه مبيحبكيش !
وقع أثر جملتها على أذنها وقع الرعد .. حيث حدقت بخالتها في صدمة امتزجت بالفرحة الداخلية والأمل الذي سرعان ما عاد يلمع في عيناها وهي تهتف بتلهف وعدم تصديق :
_ هو قالك إنه بيحبني ؟!
ضحكت أسمهان وقالت بهدوء في نظرة تنضج بالخبث :
_ مقالش وحتى لو مبيحبكيش بس أنا عارفة ابني كويس وعارفة هو بيعزك إزاي .. يعني لو استغليتي النقطة دي لصالحك هتكسبي قلبه بسهولة وآدم مش زي عدنان خالص ، آدم بأبسط الأشياء والأفعال تقدري تكسبيه وتخليه يحبك
انطفأ اللمعان في عيناها من جديد واجفلت نظرها أرضًا بحزن متمتمة :
_ أنا مش في باله أساسًا ياخالتو وخلاص مبقيش عندي طاقة أحاول تاني حاسة إني بهين نفسي ، ومش بعيد يكون بيحب واحدة تاني عشان كدا مش ملتفت ليا خالص
أسمهان بحزم ونبرة جادة :
_ وفكرك إني هقبل إنه يتجوز واحدة غيرك
زينة بابتسامة منطفئة :
_ أنا اللي مش هقبل لو مكنش بيحبني
أسمهان بثقة وعينان كلها خبث :
_ هيحبك متقلقيش
لم تنظر لخالتها فقط استمرت في التحديق بالفراغ أمامها في بؤس ، وتحاول منع الأمل من التمكن منها من جديد ، حتى لا تعطى لنفسها آمال واهنة مبنية على حججة وهمية ! .

***
رنين الهاتف لا يتوقف منذ لحظات وهو منشغل بآخر التجهيزات لافتتاح معرضه الذي سيكون بعد يومين ، لكن الرنين الصاخب يشتت ذهنه وبدأ يزعجه فترك ما بيدها واتجه نحوه والتقطه وكان على وشك أن يجيب على المتصل بعصبية وانفعال لكنه هدأ فور رؤيته لاسم أخيه يصدح على الشاشة .. أجاب مسرعًا وتمتم :
_ إيه الأخبار يا Boss
عدنان بصوته الخشن :
_ أنا وصلت مصر وجاي في الطريق .. إنت فين ؟
آدم باندهاش بسيط :
_ وصلت مصر ! .. طيب اتصل بيا حتى وقولي ، على العموم أنا في المعرض
_ جبت سيرة لماما ولا فريدة على حاجة ؟
هتف آدم ضاحكًا بخفة :
_ عيب عليك أصلًا ماما كل يوم بتسألني عليك وأنا بسببك هتحدف في نار جهنم من الكدب اللي بكدبه عليها
ثم استكمل وهو يسأله بجدية واهتمام هذه المرة :
_ المهم طمني جلنار وهنا كويسين ؟
كان يقف مستندًا بظهره على السيارة فالتفت برأسه للخلف حيث كانت جلنار تجلس في المقعد المجاور لمقعده الخاص بالقيادة بينما صغيرته فقد غفت بالمقعد الخلفي ونامت .. عاد يشيح بنظره عنهم وأجاب على آدم :
_ كويسين .. استناني في البيت عشان عايز نتكلم شوية
آدم باقتصاب بسيط ممزوج بمرح :
_ لازم دلوقتي !
انتصب عدنان في وقفته والتفت حول السيارة ليفتح باب مقعده ويجيب على أخيه بصرامة :
_ دلوقتي يا آدم .. سلام
اغلق الاتصال واستقل بالسيارة بجوارها وسط نظراتها الدقيقة له وهي تقول بخفوت :
_ آدم ده ؟
رد عليها دون أن ينظر لها في صوت أجشَّ :
_ امممم .. هنروح عند ماما الأول عشان تشوف هنا وبعدين هوديكي البيت
اشتعلت نيران الغيظ في عيناها فهتفت في صوت حاولت خفضه :
_ مش هروح البيت ده أنا .. مامتك عايزة تشوف هنا يبقى تاجي في بيتي
_ هتروحي ياجلنار .. أنا مش بخيرك ، بعدين هما كلهم كام ساعة وهتمشي
جلنار بعصبية وتصميم :
_ ولا دقيقة حتى ، مش كفاية هستحمل مامتك كمان هستحمل فريدة وحركاتها المستفزة

عدنان ببرود تام :
_ خلاص يبقى اوصلك البيت واخد بنتي واروح بيها تشوف جدتها

ضحكت ساخرة وقالت بشراسة :
_ بنتي مش هتبعد عني لحظة واحدة .. أنا إيه اللي يضملي إنك تاخدها ومترجعهاش ليا تاني أو مراتك الحرباية دي تعمل حاجة في بنتي
استقرت في عيناه نظرة متقدة حدقها بها لكنها لم تكترث وهتفت باستهزاء :
_ إيه لتكون اضايقت عشان غلطت في سفيرة الأفاعي بتاعت سيادتك !

أوقف السيارة جانبًا وانحنى بوجهه عليها يهمس في نبرة مريبة وغضب مكتوم :
_ أنا مش عايز اتعصب واعلي صوتي عشان البنت نايمة .. خلي يومك يعدي علي خير ويا تيجي معايا من غير كلام كتير .. يا تروحي على البيت وتستنينا هناك

صرت على أسنانها بغيظ تحاول تمالك أعصابها وهي تطيل النظر في وجهه وبالأخص عيناه القاسية ، فبادلته نظرته القاسية بأخرى خالية من المشاعر فقط البغض الذي يظهر .. بينما هو فهدأت نفسه الثائرة قليلًا وقال وهو يعود وينتصب في جلسته ليبدأ في تشغيل محرك السيارة من جديد :
_ أفهم من سكوتك ده إنك هتيجي خلاص

لم تجيبه فقط ظلت تضرب بمشط قدمها على أرضية السيارة في شكل متتالي بغيظ واحتدام جعل وجنتيها البيضاء إلى حمراء ، واستمر اهتزاز قدمها هكذا للحظات طويلة وهو يتابعها بعيناه حتى وجدته يضع كفه على فخذها يمنعها من الحركة أكثر ويقول بحدة :
_ اثبتي عصبتيني !!
دفعت يده عن جسدها ورمقته بنظرة شرسة لم تغضبه بقدر ما أعجبته وجعلته يبتسم بتلذذ ، وكانت صيحتها المنذرة فور نظرتها تمامًا :
_ قولتلك مليون مرة متلمسنيش
رمقها بنظرة جانبية في ابتسامة كانت شبه باردة لكنها في الحقيقة تضمر خلفها سخط مكتوم ووعيدًا لها حين ينفرد بها بمنزلهم ، ستكون قد حانت لحظة عقابه الحقيقي لها ! .

***
في مساء اليوم وفقًا لفرق التوقيت بين مصر وكاليفورنيا .
كان بإحدى الحانات المشهورة يجلس على المقعد المرتفع أمام البار .. وبيده كأس قصير بيضاوي يمده إلى الشاب الذي يقف على البار فيملأ جزء صغير منه ، ليعود هو بالكأس إلى فمه ويبتلع النبيذ كله دفعة واحدة .
لا يأتي إلى هنا إلا نادرًا واليوم شعر بأنه في حاجة ليتغيب عن الواقع لساعات ويتناسى همومه ، وصلته الأخبار برحيلها صباح اليوم معه .. لم تخبره حتى ومنذ آخر مقابلة بينهم أو بالأحرى منذ عودة ذلك الشيطان لم تسأل عنه وتجاهلت وجوده تمامًا ، هل كل ما فعله من أجلها ذهب هباءًا هكذا بلحظة واحدة ! .. لكنه هو المخطئ ، كان عليه أن يتفهم من البداية حنينها وعشقها الدفين للرجل الذي كان سببًا في تدمير زهرته المتفتحة ، هو من أوهم نفسه ومنح ذاته آمال حمقاء مثله وصدقها .. والآن يتسكع ويتخبط في أحزانه الساذجة.. كما وصفها !! .
بدأ يفقد توازنه شيئًا فشيء وكذلك وعيه من فرط كمية النبيذ التي تناولها ، وكان على وشك أن يمد الكأس مرة أخرى حتى يملأه له لولا اليد الرقيقة التي قبضت على رسغه أولًا ثم انتزعت الكأس من قبضته وهتفت في عتاب باللغة الإنجليزية :
_ حاتم .. لقد بحثت عنك بكل مكان ، ماذا تفعل هنا ؟!
رفع نظره لها وابتسم ببلاهة ثم أمسك بالكأس مرة أخرى ورفعه أمامها يريها ما الذي يفعله وهم بأن يقربه من فمه لكنها انتشلته من يده بحدة وقالت :
_ يكفي .. يبدو إنك شربت كثيرًا ، هيا سأصطحبك للمنزل
أجابها بصوت ثملًا بعدم اكتراث وهو برفض النهوض :
_ سأبقى لبعض الوقت .. اذهبِ إنتِ
اخرجت من حقيبتها نقودًا ودفعتهم لصاحب الحانة ثم أمسكت بذراع حاتم تساعده على النهوض وهي تهتف بغضب :
_ هيا سنذهب لن اتركك أكثر من ذلك .. ستؤذي نفسك
نهض من على المقعد وسط جذبها له وبمجرد وقوفه اختل توازنه وكان على وشك السقوط لولا أنها لحقته وحاوطت خصره بذراعها فرفع هو ذراعه بتلقائية يضعه على كتفه ليستند عليها وسارا معًا للخارج .
همهم في نبرة مهمومة :
_ ذهبت وتركتني !
لم تجيب عليه فقط ظلت تحاول مساعدته على السير حتى لا يسقط وتتجه به نحو سيارتها حتى اصبحا على بضع خطوات صغيرة منها فسمعته يهتف للمرة الثانية بعدم وعي وهو يبتسم بابتسامة لعوب :
_ إنتِ جميلة جدًا اليوم ، ما رأيك في أن نقضى بعض الوقت اللطيف معًا !
رفعت رأسها لها وحدقته بدهشة ثم قالت بابتسامة جانبية في حدة متحدثة بلغتها الأم اللبنانية :
_ ما راح حاسبك هلأ مشان شكلك مو بوعيك أبدًا ، بالصبح بس تفيق بيكون النا كلام تاني
قهقه بخفة ثم وصلا إلى السيارة ففتحت هي باب المقعد الخلفى وساعدته على الدخول والجلوس وقبل أن تغلق الباب وتتجه إلى مقعد القيادة الخاصة بها ، هتف هو يستكمل كلماته الغير واعية وهو يغمز :
_ لن اتركك اليوم .. فليكن بعلمك !
أجابته بغيظ محاولة كتم ابتسامتها من كلامه الغريب :
_ اصمت ولا تجعلني اندم على قدومي إليك ياوقح

ثم أغلقت الباب واتجهت إلى مقعدها وحركت محرك السيارة منطلقة بها نحو منزله الخاص بينما هو فأرجع رأسه للخلف واغمض عيناه بعدما بدأ النوم يصعد لعيناه ولا يستطيع مقاومته ...

***
خرج نادر من مكتبه وقاد خطواته نحو مكتب عدنان ، وقف أمام المكتب والتفت برأسه يمينًا ويسارًا يتأكد من عدم ملاحظة أحد له ، فمد يده وهم بأن يمسك بالمقبض لولا الصوت الأنوثي الذي استوقفه ، فالتفتت بجسده للخلف ناحيتها لتهتف الفتاة في تعجب :
_ نادر هو إنت داخل مكتب عدنان بيه ليه ؟!
رفع حاجبه مستنكرًا سؤالها وأجابها بحزم وغطرسة :
_ نعم !
الفتاة في رسمية وجدية :
_ مستر آدم منبه إن محدش يدخل مكتب عدنان بيه طول ما هو مش موجود
نادر بأعين ساخرة وشرسة وغير مكترثًا بما قالته :
_ وأنا مش أي حد يا ليلي ياحبيبتي .. الأوامر دي تمشي على الموظفين كلهم في الشركة إلا أنا
ثم التفت بجسده مرة أخرى ناحية الباب وفتحه ودخل وأغلقه خلفه ، واندفع فورًا نحو مكتب عدنان .. حاول فتح الإدراج ولكن كلها كانت بأقفال فأخرج من جيبه المفاتيح التي أعطته لها فريدة بعدما أخذتهم من عدنان ، وفتح واحدًا تلو الآخر يبحث بكل واحد منهم عن ملف بعينه حتى أخيرًا عثر عليه .. رفعه لأعلى أمام عيناه يحدق به بنظرات شيطانية ويقول بسعادة ولؤم :
_ أخيرًا لقيتك .. خلينا نتفرج ونستمتع بمشاهدة الامبراطور الأكبر لأل الشافعي وهو بيخسر تعب ومجهود سنين
أخفى الملف في سترة بذلته واتجه نحو الباب وانصرف لكنه نسى أن يغلق الأدراج كما كانت بالمفاتيح ! .

***
توقف بالسيارة أمام قصر الشافعي وبمجرد وقوف السيارة فتحت " هنا " عيناها ببطء لتسمع صوت أبيها وهو يهتف باسمًا :
_ يلا ياهنايا عشان نشوف نينا
اعتدلت جالسة وتلفتت بعيناها الناعسة حولها حتى أدركت المكان فابتسمت بعفوية وأخذت تفرك عيناها لتزيح أثر النوم عنهم .. بينما هو فنزل من السيارة وفتح باب المقعد الخلفي ومد ذراعيه لها فتعلقت به وحمله هو على ذراعيه بعدما لثم شعرها بعدة قبلات حانية ، ثم نظر إلى جلنار التي مازالت جالسة بمقعدها ولم تنزل وقال بنبرة باردة :
_ هتفضلي قاعدة في العربية ولا إيه !
هزت رأسها بإيجاب في مضض فهي ليست في مزاج يسمح لها لمقابلة والدته وفريدة ، لم يظهر أي تعبير فقط اغلق باب المقعد الخلفي واستدار متجهًا بابنته إلى الداخل بينما هي فقالت قبل أن يبتعد عنها في خنق :
_ متتأخروش
لم يجبها فقط استمر في طريقه للداخل حتى وقف أمام الباب الرئيسي وانزل ابنته من على ذراعيه لتتولى هي مهمة الطرق على الباب في حماس برئ لرؤية جدتها ، وبعد لحظات قصيرة فتحت لهم سيدة في نصف الأربعين من عمرها ولجمت الدهشة لسانها وهي تحدق بعدنان وهنا التي تقف أمامه .. وسرعان ما ارتسمت البسمة المشرقة على شفتيها وقالت بفرحة عذبة :
_ حمدلله على السلامة ياعدنان بيه
وانحنت قليلًا على هنا وقبلتها بحب وهي تقول بمشاكسة :
_ وحشتينا ياهنون
ابتسمت هنا بخجل بسيط على خادمة منزل والدها التي تعرفها وتحبها كثيرًا وردت عليها برقة :
_ وإنتي كمان ياطنط
ضحكت السيدة وضمتها إليها معانقة إياها بينما عدنان فرد مبتسمًا بود وهو يدخل ويغلق الباب :
_ ماما فين يا أم ياسين ؟
انتصبت في وقفتها وصاحت بصوتها المرتفع في سعادة :
_ يا أسمهان هانم .. عدنان بيه وصل ومعاه هنا
وصل صوتها إلى فريدة أولًا التي اتسعت عيناها بصدمة فور سماعها لاسم " هنا " .. هذا يعني أنه وجد جلنار ! ، وثبت واقفة من فراشها كالذي لدغتها عقرب وهرولت إلى الخارج وعند خروجها كانت أسمهان قد خرجت أيضًا من غرفتها وعلى وجهها ابتسامة فرحة بعودة حفيدتها رغم الدهشة التي اجتاحتها بالبداية مثلها بسبب عودة جلنار ، إلا أن فرحتها بعودة حفيدتها انستها الأمر مؤقتًا .
كانت أسمهان متقدمة وفريدة خلفها في نزول الدرج ، حتى وصلا أخيرًا فاقتربت أسمهان من الصغيرة وحملتها تطبع قبلاتها الحانية على وجنتيها متمتمة :
_ وحشتيني ياقردة .. عاملة إيه ياحبيبتي ؟
هنا بلطافة معهودة منها وهي تبتسم باستحياء :
_ كويسة يانينا .. إنتي كمان وحستيني ( وحشتيني )
عادت تلثم وجنتيها بشوق وهي تضحك بخفة .. بينما فريدة فتحركت باتجاه عدنان وعانقته بضيق ملحوظ متمتمة بخفوت :
_ حمدلله على السلامة
طبع قبلة سريعة على شعرها دون أن يلاحظ أحد وبالأخص ابنته وقال بنظرة دافئة بعدما أدرك سبب ضيقها :
_ أنا آسف .. اضطريت إني اسافر فجأة
فريدة بتذمر وصوت خافت :
_ إنت حتى متصلتش بيا ياعدنان وقولتلي .. أنا متفهمة خوفك على بنتك ولهفتك أكيد أول ما عرفت مكانها بس كنت قولي على الأقل
القى نظرة على أمه ووالدته ووجدهم مندمجين مع بعضهم وغير منتبهين لهم تمامًا فانحنى عليها مجددًا وهذه المرة سرق قبلة عميقة من وجنتها وتمتم غامزة بمداعبة :
_ طيب خلاص مش وقته الكلام ده دلوقتي .. أنا هصالحك ياجميل بعدين
ابتسمت بابتسامة جانبية بسيطة وعقدت ذراعيها أمام صدرها بينما أسمهان فأخيرًا تحدثت وقالت بقرف واضح :
_ امال بنت نشأت فين ؟
تنهد الصعداء وهتف بصوته اصبح غليظًا :
_ برا مستنية في العربية
فريدة بغضب :
_ هو إنت ناوي ترجع معاها ولا إيه !
_ هوصلها البيت هي وهنا يافريدة وهرجع في إيه !!!
جزت على أسنانها بغل بينما أسمهان فهتفت في لؤم ووعيد لمحه بعيناها :
_ طيب ما تخليها تاجي عشان اشوفها وارحب بيها كويس
مسح على وجهه متأففًا وقال بحزم :
_ مش وقته ياماما .. أنا في دماغي مية حاجة ومش عايز مشاكل ولا خناق
انتبهت فريدة أخيرًا إلى هنا فتحركت باتجاهها ومدت يدها لتصافحها في ابتسامة متكلفة :
_ عاملة إيه ياصغننة ؟
طالعتها هنا مطولًا في تفكير وسرعان ما هرولت نحو والدها وتشبثت بقدمه تقول بنفور واحتدام :
_ مامي قالتلي إنتي وحشة ومس ( مش ) بتحبينا
رفعت فريدة نظرها إلى عدنان وحدقته بحاحبان مرفوعان بابتسامة ساخرة فانحنى هو على ابنته وحملها هامسًا لها في صوت حازم يحمل بعض الرفق :
_ عيب ياحبيبتي .. طنط فريدة بتحبك طبعًا ، اعتذري منها يابابا يلا
هزت رأسها بالنفي ودفنت وجهها الصغير بكتفه العريض فهتفت أسمهان وهي تحاول إخفاء ابتسامتها :
_ سيبها ياعدنان خلاص على راحتها متغطش عليها
زفر بحرارة وعصبية بدأت ترتفع لمحياه ثم انزلها على الأرض وقال بخشونة :
_ أنا هطلع اغير هدومي فوق ونازل

***
أخبرته بألا يتأخر ولكنه تجاهلها تمامًا وهاهو بالداخل منذ وقت طويل وحتى محاولاتها للاتصال به لا يجيب عليها ، استشاطت غيظًا وغضبًا ونزلت من السيارة ثم رفعت نظارتها لأعلى تثبتها عند مقدمة شعرها وقادت خطواتها نحو الداخل وهي عبارة عن جمرة نيران متوهجة .. وقفت أمام الباب وطرقت عدة طرقات متعددة على الباب ففتحت لها بعد ثواني معدودة أسمهان التي طالعتها بابتسامة خبيثة وقالت بحقد :
_ أهلًا ببنت الرازي
جلنار بعدم مبالاة بنظراتها وبتجاهل تمامًا تجولت بنظرها في أرجاء المنزل وهي تقف على عتبة الباب وهتفت :
_ بنتي فين ؟
التهبت عيني أسمهان فقبضت على ذراعها بعنف وجذبتها إليها تقول بوعيد ونظرات تنضج بالشر :
_ إنتي فاكرة نفسك مين عشان تاخدي حفيدتي وتهربي بيها .. لا وكمان بتتسرمحي مع الرجالة
دفعت يدها عنها بعنف وصاحت بها بعصبية دون أي خوف أي اكتراث لأي شيء :
_ حاسبي على كلامك معايا يا أسمهان هانم
قهقهت أسمهان بقوة في استهزاء وكانت على وشك أن تجيب عليها لولا فريدة التي اقتربت منهم ووقفت أمام جلنار بالضبط وقالت في مكر وأعين مشتعلة :
_ معلش اعذريها يا ماما .. تلاقيها جات مغصوبة ومكنتش قادرة تسيب حبيب القلب اللي هربت معاه
ثم اقتربت بوجهها منها كثيرًا وهمست في خبث قاصدة استفزازها :
_ صراحة مندهشتش وواضح إنه مش جديد عليكي .. أنا قولت من الأول إن إنتي ****
نزل عدنان على أثر الصوت المرتفع بينما كانت جلنار تقف شامخة كالجبل أمامها بكل قوة وصلابة لكن آخر ما توفهت به من إهانة فظة وجهتها إليها جعلها تخرج عن إطار هدوئها المزيف وانفجر بركانها الخامد ، فرفعت كفها في الهواء وهوت به بكل قوة فوق وجنتها ثم تمتمت في نظرات نارية وتحذير مريب ومخيف :
_ مفضلش إلا واحدة بيئة زيك تغلط فيا .. اعرفي مقامك كويس يافريدة ومتنسيش أنا مين

رواية كيان الفهد كاملة جميع الفصول ( الفصل العاشر 10 ) 


خرج صوت جهوري أسكتهم جميعًا :
_ إيه اللي بيحصل ده !
نظرت فريدة إلى جلنار شزرًا وتحولت عيناها إلى الأحمر القاتم ، وحرارة غضبها كانت تخرج منها كلهيب النيران ، أوشكت أن تنقض على جلنار وتجذبها من خصلات شعرها لتفرغ بها شحنة غيظها .. لولا صيحة عدنان المهيبة للأبدان وهو يندفع نحوهم :
_ فـريـــدة
توقفت بأرضها مجبرة بعد صيحته بها ، بينما جلنار فوقفت بصمود وقالت في قوة وشراسة تليق بها :
_ من هنا ورايح مش هسكت عن أي إهانة ليا ، وأي حد هيتخطى حدود معايا هيشوف حقيقة بنت الرازي و.....
توقفت عن الكلام عندما جذبها من ذراعها بعنف وهو يرمقها بنظراته المميتة ووجهه الذي لا يختلف كثيرًا عن وجه فريدة ، وخرج منه صوت مريب يدوب الرعب في الأبدان :
_ اكتمي ومسمعش صوتك .. تعالى
كان على وشك أن يستدير ويغادر بها المنزل وهو يجذبها من ذراعها لولا فريدة التي أوقفته بصوتها الملتهب وهي تصيح :
_ إنت ماخدها على فين من غير ما تخليها تعتذر !
استقرت في عيني عدنان نظرة غريبة ، كانت قوية وصارمة مما جعلها تتركه بتلقائية في تعجب من نظرته .. وأسمهان كانت تتابع ما يحدث بابتسامة ماكرة .
سار بها في اتجاه السيارة وهي تحاول التملص من قبضته هاتفة بعصبية :
_ سيب إيدي ياعدنان
لم يعيرها اهتمام واستمر في جذبها بقسوة حتى وصلا إلى السيارة ففتح باب المقعد المجاور له وادخلها ثم اغلق الباب بعنف مما أحدث صوتًا عاليًا ، أثار نفضة بسيطة في جسدها .. خرجت هنا من المنزل بعدما ارتدت حذائها وهرولت راكضة نحو سيارة أبيها واستقلت بمقعدها الخلفي المخصص لها ، وباللحظة التالية كان هو ينطلق بالسيارة متجهًا نحو منزله الثاني .

***
ظلت تجوب الغرفة إيابًا وذهابًا وهي عبارة عن جمرة مشتعلة وتزأر من بين شفتيها بغضب عارم .. كيف تجرأت ورفعت يدها عليها ، وما جعل النيران تزداد اشتعالًا بداخلها أكثر نظرته لها عندما طلبت أن يجعلها تعتذر ، ومن ثم مغادرتها بها ، دون أي ردة فعل منه على فعلتها ! .
ارتفع رنين هاتفها باللحظة المناسبة تمامًا فأمسكت به وأجابت على المتصل الذي كان نادر :
_ أيوة يانادر
نادر بمغازلة :
_ وصلتي كويسة ياحبيبتي ؟
هتفت في هدوء لا يتناسب مع وضعها أبدًا :
_ إنت مش قولتلي إنك هتتصرف مع الحقيرة اللي اسمها جلنار وتخلصني منها نهائي
_ هي رجعت ولا إيه ؟!!!
سألها باستغراب ودهشة فهتفت هي بانفعال بدأ يظهر في نبرة صوتها :
_ أيوة .. هتساعدني ولا اتصرف معاها واخلص منها لوحدي
نادر بحيرة وعدم فهم :
_ طيب فهميني حصل إيه الأول ؟!
فريدة بصيحة مرتفعة وعصبية :
_ من غير ما يحصل زفت .. أنا خلاص جبت أخري منها وهخلص منها بأي شكل كان
_ طيب خلاص اهدي ياحياتي ، وسيبهالي أنا وهريحك منها تمامًا

أخرجت زفيرًا حارًا وبعيناها نظرات كلها وعيد وغل ، وكلما تتذكر صفعتها لها تشتعل أكثر من الغيظ ...

***
توقفت السيارة أمام ڤيلا صغيرة لكنها مذهلة ، تحيط بها من جميع الجهات حديقة ارضها كلها عشب أخضر والأشجار العالية تزيد من جمال المنزل .
نزلت جلنار أولًا من السيارة وقادت خطواتها السريعة للداخل ووجهها الابيض يعطي لونًا أحمر من فرط الغضب ،بينما الصغيرة فنزلت من السيارة وقفزت بفرح وهي تهتف :
_ هييه أخيرًا ردعنا (رجعنا ) بيتنا
التفتت إلي أبيها الذي فتح حقيبة السيارة ليخرج حقائب سفرهم واقتربت منه لتقف بجواره وتقول بنظرات عابسة :
_ بابي إنت هترجع عند نينا تاني ؟
عدنان بهدوء وهو يخرج الحقائب ويضعهم على الأرض :
_لا ياحبيبتي هروح الشغل
حدقته بعينان راجية وتمتمت برقة تذيب القلب :
_ خليك معانا .. بليييز
خفض نظره إليها وابتسم بحنو ثم انحنى عليها ومد يده يملس على شعرها بلطف ويقول بصوت ينسدل كالحرير ناعمًا :
_ مش هينفع يابابا لازم اروح الشغل ، بليل أول ما اخلص هاجي تاني
هنا زامة شفتيها بحزن :
_ وعد !
ضمها إليه ولثم جانب شعرها بعدة قبلات متمتمًا :
_وعد ياهنايا .. يلا ادخلي جوا وأنا هجيب الشنط واجي وراكي

هزت رأسها بالموافقة في وجه ظهرت عليها الابتسامة المشرقة فور حصولها على الوعد منه ، واستدارت وهرولت راكضة للداخل بينما هو فحمل الحقائب وسار بهم خلفها .
دخل المنزل واتجه إلى أعلى حيث غرفة نومه ، فتح الباب بقدمه ودخل ثم وضع الحقائب على الأرض واغلق الباب ، ووقف لثلاث ثواني بالضبط يتطلع لجلنار الجالسة على فراشها وساقيها تهتز بعنف كدليل على سخطها الشديد ثم تحرك بخطواته الواثقة نحوها وانحنى عليها يهمس في نظرة قوية وصوت خشن :
_ اللي حصل ده ميتكررش تاني فاهمة ولا لا !
وكأنه سكب الماء على النار فزاد من اشتعالها حيث انفجرت به صائحة في شراسة :
_ صدقني ده ولا حاجة .. لو غلطت فيا تاني سعتها مش هيكون مجرد قلم لا ده أنا هخليها .....
جز على أسنانه بغيظ مكتوم وهتف بهدوء ما قبل العاصفة مقاطعًا إياها :
_ صوتك ميعلاش
صرخت بأعلى نبرة لديها :
_ وميعلاش ليه .. جاي تحاسبني وتقولي اللي حصل ده ميتكررش .. المفروض القلم ده كنت إنت اللي تدخولها مش أنا بعد اللي قالته ، لكن إزاي دي حبيبة القلب وقلبك ميطاوعكش تمد أيدك عليها ، لكن جلنار عادي مش كدا
أجابها بخفوت مريب وهو يحاول تمالك أعصابه :
_ جلنار أنا هادي معاكي متخلنيش اتعصب .. عارف وسمعت اللي قالته فريدة وليها حساب معايا لما ارجع البيت ، فبلاش تنرفزيني عليكي عشان أنا على أخري أساسًا
ضحكت بخفة في استهزاء ثم وقفت على قدميها وتحركت نحوه حتى أصبحت شبه ملتصقة به ، فمدت سبابتها إلى وجهه تمررها على وجنته نزولًا إلى لحيته وتهمس بنبرة تحمل في طياتها الوعيد وبعين مظلمة وثاقبة كعينه تمامًا :
_ لا وعلى إيه أنا خدت حقي خلاص بنفسي وعرفتها قيمتها .. وقريب أوي هاخد حقي وحق بنتي من الكل وأولهم إنت وبعديك علطول هتكون أسمهان هانم أصلها أذتني أوي وليا حساب تقيل معاها ، خلاص جلنار الضعيفة والمكسورة مبقتش موجودة من هنا ورايح اللي هيفكر إنه يدوس عليا أنا أو بنتي هنسفه من على وش الأرض .
صمتت للحظة ثم استأنفت حديثها بخبث وابتسامة جانبية كلها نقم :
_ والافضل إنك تطلقني بالذوق عشان لو مطلقتنيش اوعدك إنك هتندم وبعد ما اندمك هرفع عليك قضية خلع وهكسبها وهتطلقني غصب عنك ، وتبقى طلعت من المولد بلا حمص زي ما بيقولوا

ثم ابعدت يدها عنه والقت عليه نظرة نارية بابتسامتها الباردة قبل أن تستدير وتهم بالابتعاد عنه ، لكنها أصدرت شهقة مرتفعة عندما وجدته يجذبها من ذراعها إليه فاصطدمت به بقوة ملتصقة بصدره ونزلت يده إلى خصرها يحاوطها منه بتملك وقسوة ويهمس باسمًا بازدراء ونظرة متقدة :
_ وهترفعي عليا قضية من فين بقى .. من فلوس أبوكي اللي تحت إيدي ولا من فلوسي
ضحكت وقالت ساخرة بثقة :
_ مشكتلك إنك مستهون بيا بس عندك حق أنا اللي كنت ساذجة وضعيفة وسمحتلك تذلني وتهيني وتهمشني لغاية ما وصل الوضع بيا لكدا ، بس اوعدك إني هغيرلك نظرتك الخاطئة عني دي

شدد من ضغطه عليها وهو يقربها منه أكثر كأنه يثبت لها ملكيته عليها وأنها ستظل ملكيته الخاصة طالما يريد هذا ، أكمل همسه بنبرة مثلجة ومستنكرًا تهديداتها :
_ لو فاكرة إن كدا بتلوعي دراعي مثلًا أو بتجبريني فتبقى فعلًا ساذجة .. طول ما أنا مش عايز اطلقك مش هتطلقي لو عملتي إيه ، والصراحة حمستيني عشان أشوف انتقامك وحقك هتاخديه إزاي مني أو هتخليني اندم إزاي يارمانتي

مازالت ترتدي حذائها العالي حتى الآن لم تنزعه ، وملامسته لها بهذا الشكل الحميمي ازعجتها بشدة ، فرفعت قدمها من على الأرض ونزلت بها على قدمه تضغط بحذائها بقوة عليه ، فارتد هو للخلف بحركة تلقائية منه بألم وحررها من قبضته ، فقالت هي بوجه مبتسم في حدة :
_ دي عشان حذرتك كذا مرة متلمسنيش
أيقظت الوحش النائم وآخر كلماتها استفزته بشدة ، قد كان يجاهد أن يبقى هادئًا بكل مرة تظهر فيها نفورها منه بكلمتها " متلمسنيش " لكن فاض الكيل .. جذبها إليه للمرة الثانية منحنيًا على وجهها وهذه المرة كان على وشك أن ينقض عليها ليعاقبها على كلمتها التي تكثر منها عمدًا حتى تستفزه وليشبع شوقه إليها الذي لم يستطيع إنكاره منذ اللحظة التي وجدها فيها بعد غياب لشهرين وأكثر .. لكن الطرق اللطيف على الباب قطع اللحظة وصوت هنا وهي تهتف من خلف الباب :
_ بابي .. ادخل ؟
توقف على بعد سنتي مترات لا تحسب وأغمض عيناه بغيظ مكتوم بينما هي فدفعته بعنف وطالعته بنظرة نارية ، ثم اتجهت إلى الباب وفتحت لصغيرتها التي طالعت أمها بضيق وقال بعبث :
_ أنا وحدي برا !
انحنت وحملتها على ذراعيها تهتف بحنو أمومي مبتسمة :
_ أنا آسفة ياروحي .. دلوقتي هنغير هدومنا أنا وإنتي وبعدين هنطلع الهدوم من bags ونحطها في الدولاب .
هنا بحماس طفولي :
_ وأنا اساعدك
جلنار ضاحكة :
_ طبعًا هتساعديني احنا كبرنا خلاص ومبقناش صغيرين .. right ؟
هزت رأسها بإيجاب في إشراقة وجه ساحرة ، ثم نظرت لوالدها الذي جلس على الفراش وأخذ يتابعهم بعيناه مبتسمًا فوضعت باطن كفها على فمها ضامة شفتيها ثم ابعدت كفها وارسلت له قبلة في الهواء ، قهقه هو على حركتها ورفع كفه ثم ضمه ممسكًا بالقبلة في نوع من المشاكسة اللطيفة وقرب كفه من جيب سترته العلوية ووضع قبلتها به ثم غمز لها بخبث فارتفع صوت ضحكتها العفوية على مداعبته لها ولعبهم ، نزلت من على ذراع أمها وهرولت راكضة إليه ثم قفزت عليه فتلقاها هو والقى بها على الفراش وانحنى عليها بجسده يدغدغها فانطلقت منها ضحكات عالية وهي تتلوى بين ذراعيه وتهتف بصوت غير واضح من فرط ضحكها الهيستيري :
_ خلاث يابابي .. شيبت ( شربت ) مايه كتير وبتتحرك
توقف عن دغدغتها وأجابها ضاحكًا باستغراب :
_ بتتحرك إزاي !
أخذت أنفاسها بصعوبة ورفعت كفيها لأعلى تهزهم يمينًا ويسارًا هاتفة بثغر مبتسم في نعومة :
_ كدا بق بق بق بق
انطلقت منه ضحكة رجولية مرتفعة على طريقتها اللطيفة وكذلك جلنار التي علت صوت ضحكتها بالغرفة ، بينما الصغيرة فاستقامت جالسة وتعلقت برقبة والدها تقول بمشاغبة في رجاء :
_ إيه رأيك نلعب لعبة حلوة .. بس من غير زرزغة ( زغزغة )
ضحك مرة أخرى بقوة على كلمتها الأخيرة ولثم وجنتها بقوة في حب وهتف لها من بين ضحكاته :
_ طيب نخليها بليل وهنلعب كتيييير أوي عشان دلوقتي أنا مستعجل ياروحي واتأخرت على الشغل
عبس وجهها وزمت شفتيها للأمام بضيق فعاد ولثم وجنتيها مرة أخرى هامسًا باعتذار محب وحاني :
_ لا مقدرش على زعلك ياهنايا .. معلش ياحبيبتي ، ووعد تاني مني هنلعب كتير أوي اول ما آجي بليل ، خلاص ؟!
رفعت كفها وقالت بسخط طفولي وهي تلقي بأوامرها عليه :
_ هنلعب خمسة لعبة .. لا عشرة كمان
_ إن شاء الله نلعب للصبح هو احنا ورانا حاجة
اتسعت ابتسامتها معبرة عن رضاها أخيرًا فانحنى عليها يمد وجنته إليها هامسًا :
_ يلا بوسة كبيرة لبابي بقى قبل ما يمشي

طبعت بشفتيها الصغيرة قبلة قوية على وجنته ثم اتجهت لوجنته الأخرى وفعلت المثل بقوة أشد .. بينما جلنار فكانت تتابعهم بابتسامة الصافية ، رغم الخلافات الذي بينهم ونقمها عليه إلا أنها تحب كثيرًا حبه وتعلقه بصغيرتهم وتعشق رؤية لحظاتهم معًا .. ربما لحظاته وحبه وحنوه على ابنتهم هو من جعلها تستمر معه حتى الآن على أمل أنه قد يأتي يوم وتنل من هذا الحب بعضًا ، لكن اتضح أنها كانت تتوهم وتتبع سراب ! .

***
سار باتجاه الباب وهو يفرك جبهته بقوة من الألم الذي يجتاحه منذ أن فتح عيناه .. يحاول تذكر تفاصيل الأمس ولكن لا يوجد بذهنه شيء سوى بعض الاشياء الناقصة أهمهم " نادين " ! .
فتح الباب مضيقًا عيناه من قوة الضوء ، وظهرت هي من خلف الباب .. كانت امرأة فاتنة بشدة ، متوسطة الطول تمتلك جسد انوثي جذاب وشعر بني اللون مع عينان كلون العسل وشفاه صغيرة وردية .. كل من يراها يفتن بها .

ابتسم بعذوبة وافسح لها المجال للدخول وهو يهتف بترحيب :
_ ادخلي يانادين عاملة إيه ؟
دخلت وأجابت عليه في نظرات مهتمة :
_ منيحة وإنت ؟
أغلق حاتم الباب وتوجه نحو الأريكة المتوسطة والقى بجسده جالسًا ممسكًا بجبهته ومرجعًا رأسه للخلف متمتمًا بألم :
_ صداع هيفرتك دماغي يانادين
تحركت نحوه ثم جلست بجواره وقالت في شيء من السخط :
_ أي طبيعي بعد كل هاد الشرب يالي شربته مبارح بتحس بهيك صداع .. من متى وإنت عم تشرب ياحاتم !!
مسح على وجهه متأففًا وأجابها بخنق :
_ نادين ارجوكي أنا مش مستحمل تأنيبك ليا أو كلامك اللي على علطول بتسمعهوني
اتسعت عيناها بدهشة امتزجت بالاستياء ثم غمغمت تعيد عليه جملته بعدم تصديق :
_ مو متحملني !! .. أي تسلم أنا عن جد غلطانة إني جيت لألك حتى اطمن عليك
ثم استقامت واقفة وهمت بالرحيل لكنه أسرع وقبض على ذراعها يوقفها هاتفًا باعتذار صادق وضيق :
_ أنا آسف والله مقصدش .. أنا بس الايام دي مضغوط وإنتي عارفة ، اقعدي يا نادين حقك عليا
نادين بنظرة قوية وهي تنتزع يدها من قبضته :
_ لا نحنا الاتنين بنعرف كتير منيح إنك مانك مضغوط ولا شيء ، إنت .....
قاطعها مبتسمًا بساحرية وتمتم بهدوء :
_ طيب بلاش نفتح السيرة دي دلوقتي واقعدي يلا وشوفيلي حل للصداع ده بدل ما إنتي قافشة عليا كدا
صاحت به في انفعال :
_ وليش لأشوفلك حل .. حدا خبرك إني والية امرك ! ، كل شيء نادين تعي سوى هاد .. بتنام متأخر بليل وبتيجي تقول لا تنسي تفيقيني بالصبح مشان ما أتأخر على الشغل .. نادين بدي ياكي تساعديني لأختار شو بلبس بهاي المناسبة .. نادين شو بسوى مع جلنار .. نادين .. نادين .. نادين ، لك نادين طهقت أنا ماني امك

قهقه عاليًا بصوته العالي ثم غمز لها في مشاكسة يجيب عليها بلهجتها اللبنانية :
_ يقبرني هاد العصبي
_ احترم حالك .. أنا لحد هلأ ما حاسبتك على اللي قلته مبارح
تغيرت ملامحه وأخذت الجدية ليقول بإحراج بسيط :
_ اللي قولته !! .. هو أنا خرفت في الكلام أوي !
ضيقت عيناها وسألت بعدم فهم :
_ شو يعني خرفت ؟!
حاتم بنبرة حادة وبوجه يعطي تعبيرات الاعتذار مقدمًا :
_ يعني قولت كلام مش لطيف يانادين !
هزت رأسها بإيجاب وتمتمت بصرامة ونظرات شرسة :
_ اممم مو لطيف أبدًا ، ولولا إنك ما كنت بوعيك كنت بهدلتك
زم شفتيه وقال معتذرًا بأدب ورقة :
_ أنا آسف بجد .. بس نفسي أفهم إيه اللي جابك ليا من الأساس
نادين بزمجرة :
_ كنت بتركك مثلًا وإنت بهاي الحالة !
ابتسم لها بمشاعر نقية وامسك بكفها يتمتم في ود جميل :
_ ربنا يخليكي ليا .. أنا بجد من غيرك معرفش كنت هعمل إيه يانادين ، من غير زعل بس أنا بحسك امي بجد
صرخت به بغيظ وعصبية وهي تسحب كفها :
_ لك لا تجنني .. شو امك !! ، شايفني عجوزة لتقولي امك

عاد يضحك مجددًا وتمتم يصحح لها الفكرة ببساطة :
_ مش المعنى كدا .. مش عارف افهمالك إزاي ، بس انا بعتبرك كدا بسبب إنك قريبة جدًا مني وتقريبا معتمد عليكي في كل في حياتي .. شغلي وحتى حياتي الخاصة انتي اللي بتظبطي ليا كل حاجة فيها ، يعني لو ماما كانت عايشة مكنتش هتهتم بيا زيك كدا
هدأت ثورتها ولانت نظراتها فهتفت برقة رائعة مع نبرة صوتها الرقيقة :
_ الله يرحمها
حاتم في خفوت جميل امتزج بمداعبته وفضوله الخبيث قاصدًا إثارة سخطها :
_ آمين .. لكن مقولتيش أنا قولت إيه امبارح صحيح ، عشان للأسف مش فاكر
طالعته بنظرة نارية ومغتاظة فسرعان ما ارتفعت صوت ضحكته الرجولية لأنه نجح بكل سهولة في تحقيق مبتاغه من جملة واحدة ! .

***
بعد صباح مرهق ومتعب ككل يوم في العمل ، كانت في طريقها للمنزل وهي تسير في شوارع حارتها وسط ضجة الاطفال والبائعين ، وإذا بها تذكرت أنهم ينقصهم الارز بالمنزل ولن تتمكن من تحضير وجبة غذاء اليوم بدونه .. فانحرفت بقدمها لليسار نحو أحد محلات البقالة ووقفت تهتف بابتسامة خافتة من الإرهاق :
_ ازيك يا أم سلامة
رفعت السيدة نظرها إلى مهرة وطالعتها بعين ثاقبة ثم وقفت وقالت بهدوء :
_ نحمدو .. أخبار الحجة فوزية إيه ؟
مهرة بإيجاز وهي تخرج حقيبتها الصغيرة :
_ كويسة الحمدلله .. اديني كيلو رز يا أم سلامة
تحركت السيدة خطوتين في محلها الصغير والتقطت كيس ارز متوسط الحجم ثم وضعته في كيس أصفر اللون وأعطته لها ، وقبل أن تلتقط منها النقود ، انحنت للأمام مستندة برسغها على سطح المنضدة الخشبية الكبيرة التي تفصل بين الشارع والمحل من الداخل وغمغمت بعين خبيثة وابتسامة ساخرة :
_ ألا صحيح يابت يامهرة اللي عملتيه مع صابر الأعور ده !
رمقتها مهرة بابتسامة صفراء ومثلجة بينما الأخرى استكملت بخبث أشد :
_ ده سيرتك على كل لسان في المنطقة .. قال إيه بنت رمضان الأحمدي بتطفش العرسان عشان لا مؤاخذة يعني مشيها بطال .. صحيح الكلام ده يابت ؟ ، قوليلي ومتخافيش ده أنا برضوا يهمني مصلحتك ، اصل لو الكلام ده غلط أنا اقطع لسان كل واحد يقول كلمة وحشة عنك
اختفت ابتسامتها وتحولت نظراتها المثلجة إلى نيران متوهجة وتشنجت عضلات وجهها حتى أصبح وجهها اللطيف مرعبًا ، وخرج صوتها شبه عاليًا بانفعال هادر :
_ اقولك إيه يا ولية ياخرفانة انتي .. بعدين مين دي اللي مشيها بطال ، ده أنا اشرف منك ومن عيلتك كلها ، لتكوني فكراني مفياش لسان ومش هعرف ارد عليكي لا ده أنا لساني طويل وزفر أوي كمان
رفعت السيدة ذراعيها لأعلى وصرخت باعلى صوتها صائحة باستهزاء وغضب :
_ بقى أنا خرفانة يابنت حليمة الشحاتة .. لكن هقول إيه ماهو صحيح تربية **** ، والدور والباقي على الحجة فوزية اللي معرفتش تربي بنت ابنها
تجمع جميع من بالجوار من أهل الحارة على أثر صياح أم سلامة ، بينما مهرة فوصلت إلى ذروتها حيث ألقت ما بيدها من أكياس وهمت بأن تهجم على أم سلامة لولا أن إحدى الشابات بالمنطقة كبلت مهرة تمنعها وهي تهتف :
_ خلاص يامهرة
صرخت مهرة باعلى صوتها محدثة أم سلامة وهي تحاول التملص منها :
_ طاب إيه رأيك أنا هوريكي التربية **** اللي على حق
تمكنت من التملص من الشابة التي تمسك بها واندفعت نحو أم سلامة التي كانت في بداية العقد الخامس من عمرها ، وجذبتها من حجابها صائحة بأسلوب الحواري التي ترترعت به :
_ عارفة لو سيرة أمي جات على لسانك ال*** ده تاني هكون قطعهولك ، أصل إنتي ست عايبة وبجحة ومفيس راجل عرف يحكمك
هرولت سيدات المنطقة كلهم وابعدوا مهرة عنها وهم يصرخوا بها بأن تتوقف ، بينما ام سلامة فصفقت بيديها بأسلوب منحدر وهي تهتف ضاحكة :
_ بدل ما تتشطري عليا روحي داري على فضايحك وسيرتك اللي على كل لسان دي
صاحت بها سيدة متقدمة في العمر :
_ جرا إيه يا أم سلامة .. كفاية خلاص ميصحش اللي بيتعمليه ده
ثم أمسكت بذراع مهرة تجذبها معها عنوة إلى خارج الحشد الذي تجمع على أثر المشاجرة العنيفة ، بينما مهرة فكانت عبارة عن قنبلة موقوتة والسيدة التي تمسك بها هامسة في خفوت ولطف محاولة تهدئتها :
_ خلاص يابنتي اهدي وسيبك من كلام بدرية ما إنتي عارفة هي كدا بتحب تنكش في اللي رايح وجاي وتتخانق مع أي حد
مهرة بحرقة :
_ إنتي مسمعتهاش بتقولي إيه ياحجة أمينة !
_ سمعتها يابنتي بس انتي غلطانة مكنش ينفع تردي عليها أصلًا وكنتي سبتيها ومشيتي
_ يعني تغلط فيا وفي أهلي واسكتلها !!
هرول إحد الأطفال خلفها وهو يحمل أكياسها ويقول بحب بريء :
_ خدي يامهرة الكياس بتاعتك ومتزعليش نفسك دي ست شعنونة
هتفت أمينة بحزم وهي تجاهد في إخفاء ابتسامتها :
_ هات الكياس دي وامشي ياولا بلاش لسان طويل
جذبت منه الأكياس واعطتها لمهرة وهي تقول بحنو وعذوبة :
_ خدي يلا يامهرة وروحي لجدتك يابنتي وفكي وشك كدا عشان فوزية متحسش بحاجة ، لأحسن ممكن يجرالها حاجة لو عرفت باللي حصل
مهرة بابتسامة جميلة وهادئة :
_ حاضر ياحجة أمينة اطمني أكيد مش هقولها .. وشكرًا بجد
_ إنتي زي بنتي يامهرة متقوليش كدا

اقتربت منها مهرة وعانقتها بود ثم التقطت الأكياس منها وسارت متجهة نحو منزلها وهي تشد على محابس دموعها ، فما سمعته كان ثقيل جدًا رغم أنها أظهرت القوة أمام الجميع .

***
داخل مقر شركة أل الشافعي تحديدًا بمكتب عدنان ......
يجلس على الأريكة الصغيرة المتوسطة في منتصف الغرفة وأمامه على منضدة قصيرة مجموعة من الملفات والأوراق الخاصة بالعمل ، منشغلًا بها ومنكبًا عليها منذ أن جاء .. يرتدي نظارته الطبية الخاصة بالقراءة ويمسك بيده قلم فخم يعمل به في تركيز ، انفتح الباب بهدوء بسيط وحرص من السكرتيرة الخاصة به التي كانت تحمل كوب قهوة له واقتربت منه دون أن تتفوه ببنت شفة بعدما أخذت التعليمات بعدم مقاطعته بتاتًا أثناء العمل حتى لا تنل من بطشه نصيبًا ، انحنت جزعة للأمام ووضعت الكوب بجواره على المنضدة ثم انتصبت في وقفتها وهمت بالاستدارة والرحيل لولا صوته الغليظ وهو يسأل دون أن يرفع نظره عن الأوراق :
_ آدم وصل ولا لسا ؟
ردت عليه برسمية شديدة وارتباك خصوصًا أنها الأيام الأولى لها بالعمل :
_ لا يافندم لسا موصلش
انتبه لنبرة الصوت المختلفة والغير مألوفة عليه فرفع نظره لها وحدقها بنظرة دقيقة وقوية ثم تمتم بخشونة :
_ إنتي مريم مش كدا ؟
هزت رأسها بإيجاب في اضطراب واضح ، فالتقط أحد الملفات التي أمامه ومده لها وهو يهتف بنبرة صارمة وجدية يجيب عليها :
_ طيب وصلي الملف ده لمستر نادر .. وقوليله يخلصه خلال ساعة ويبعتهولي فورًا
التقطت منه الملف وتمتمت بالموافقة وهي تهز رأسها :
_ حاضر يافندم
ثم استدارت واتجهت نحو الباب وانصرفت .. بينما هو فعاد يستأنف عمله لكن محفظة نقوده الخاصة الصغيرة سقطت من فوق المنضدة ، فانحنى ليتلقطها .. ولكنه رأى صورة تجمعه مع ابنته وجلنار كان محتفظ بها وسقطت من حافظته على الأرض ، وضع المحفظة على المنضدة والتقط الصورة ثم اعتدل في جلسته وتأمل في ملامح وجه صغيرته الذي يحملها على ذراعيه وهي تضحك بسعادة وشعرها القصير يتطاير من حولها بفعل الهواء .. أما جلنار فكانت ترتدي فستان طويل أبيض اللون وتضع فوق شعرها قبعة دائرية من اللون النبي حتى تحجب أشعة الشمس عن رأسها ، وتقف بجانبه وعيناها متعلقة على ابنتهم تنظر لها وتضحك معها بحب .. أما هو فما يتذكره أنه نظر لها وابتسم على ضحهكم ومن الواضح أن المصور قد استغل الفرصة وقام بالتقاط الصورة في هذا الوضع العائلي الدافيء .
كانت هذه الصورة منذ سنة ونصف تقريبًا عندما ذهبوا لأول مرة في رحلة قصيرة لأحد المدن الساحلية " مرسى مطروح " وقضوا أكثر من أسبوع بها .. كانت إجازة ممتعة ولطيفة وسط زيارتهم لكل مكان في المدينة وحتى تسوقهم لمحلات الملابس والمحلات النسائية لم ينساها حيث حرص على أن تقوم بشراء كل ما تشتهيه مصرحًا لها أن الاسبوع كان لها هي وصغيرته فقط في كل شيء وكل ما تطلبه هو أمر وينفذ .. وقاموا بالتقاط هذه الصورة أمام الشاطيء عندما كانوا يسيرون في الصباح أمام البحر ووجدوا بالصدفة شابًا يحمل كاميرا ويقوم بالتصوير لكل من يرغب ، ويتذكر حينها إن " هنا " أصرت على أن يلتقطوا صورة فلم يتمكن من رد طلبها كالعادة .
غاب عن الواقع للحظات يتذكر جزء من ذلك الموقف أثناء سيره معها على الشاطيء .....
كانوا يسيران على شاطيء البحر والماء ترتطم بقدميهم بفعل المد والجذر ، بينما هنا فكانت تركض أمامهم وتلعب بالماء بقدميها الصغيرتين ، كان يسير واضعًا كفيه في جيبي بنطاله وهي تتنقل بعيناها بين البحر تارة وبين ابنتها تارة أخرى .. تتابع فرط سعادتها وهي تضحك باللعب في الماء فقالت بتلقائية محدثة إياه وهي تبتسم بعاطفة أمومية جميلة :
_ واضح إن" هنا " مبسوطة جدًا من Holiday دي
عدنان بابتسامة جانبية وهو ينظر لها بتعجب :
_ هي هنا بس اللي انبسطت يعني !
طالعته بابتسامة هادئة وقالت في خفوت ورقة :
_ لا وأنا كمان ياعدنان .. خصوصًا إن دي أول مرة احس باهتمامك بيا
_ ومش هتكون آخر مرة يارمانتي .. كل ما يكون معايا وقت فاضي من الشغل هختلس يومين ونطلع في إجازة لطيفة زي دي تاني
رمقته بنظرة جانبية وهي تبتسم على وصفه الدائم لها بالرمانة .. فهم مقصد نظرتها فضحك بخفة وانحنى عليها يطبع قبلة عميقة على وجنتها هامسًا في مغازلة نادرة ما تطرأ منه :
_ معايا رمانة تخطف العقل من جمالها
خجلت ربما لأنها ليست معتادة على سماع مثل تلك الكلمات منه بل لا تتذكر أنه قام بمغازلتها منذ زواجهم سوى مرتين أو ثلاثة وهذه قد تكون الرابعة ! .

عاد إلى الواقع مرة أخرى متنهدًا بقوة كانت هذه هي آخر اللحظات اللطيفة بينهم .. وما كان بعدها حتى الآن ماهو إلا شجار وجفاء مستمر ، عندما بدأت فجأة في التذمر من غيابه الدائم وإهماله ، وشجار بآخر أوضحت عن رغبتها الصريحة في الطلاق وأصرت عليه .. فساءت العلاقة بينهم أكثر فجأة بشكل غريب ، وانتهى المطاف بهروبها بابنته بعدما وافق على الطلاق بسبب الحاحها ولكن كانت شروطه واضحة حول بقاء صغيرته معه ، فلجأت للهروب كطريق للفرار من الاتفاق الدنيء كما وصفته ! .
ارتفع صوت رنين هاتفه الصاخب فجذبه وأجاب على المتصل :
_ الو
_ أيوة ياعدنان بيه .. كاميرات بوابة القصر اللي عطلت انتهى إصلاح التلف اللي فيها كله دلوقتي
هتف عدنان بصوت رجولي قوي :
_ العطل ده حصل لوحده ولا في حد عمل كدا ؟
_ للأسف العطل كان واضح جدًا إن في حد كان قاصد يتلف الكاميرا ويوقفها
عدنان بصوت يحمل بعض الزمجرة :
_ طيب اقفل وابعتلي آخر التسجيلات كلها اللي كانت عليها قبل العطل
انهى معه الاتصال فورًا ثم جذب حاسوبه المتنقل الخاص به وفتحه وانتظر لدقائق حتى وصلت له رسائل بالفيديوهات الأخيرة لتسجيلات الكاميرا .. قام بمشاهدتها جميعها ولم يكن بها شيء سوى إنه لاحظ خروج فريدة كل يوم بموعد مختلف وعودتها بعد ساعات ليست بقليلة وآخر تسجيل كان في مساء الأمس للحارس الخاص بالمنزل وهو يتحدث مع رجل ملامحه ليست واضحة جيدًا ثم بدأت الصورة تهتز حتى انقطت تمامًا .
اعاد التسجيل الأخير لأكثر من مرة وقام بالتقريب على وجه الرجل في محاولة لرؤية ملامحه المبهمة ولكن دون فائدة ! .
اغلق الحاسوب وهو يحك ذقنه الكثيفة في عينان حمراء من فرط الغضب .. من جهة خروج زوجته المتكرر بشكل يثير الريبة متجاهلة تعليماته في عدم الخروج دون إذنه .. ومن جهة ظهور ذلك الرجل الغريب وتوقف الكاميرا فجأة ، كيف توقفت ! ، هناك شيء مبهم وغير مفهوم بهذا الأمر .. ولن يطول كثيرًا إلى أن يعرف كل شيء وهوية ذلك الرجل وماذا يريد ؟!

***
في مساء ذلك اليوم ....
توقفت سيارته أمام بوابة المنزل ونزل ثم قاد خطواته إلى الداخل ، وكان الهدوء يملأ القصر بأكمله .. تحرك باتجاه الدرج وصعد درجاته في خطا قوية ثم اتجه إلى غرفته وعند وصوله وقف أمام الباب للحظة يحاول تهدئة نفسه الثائرة منذ صباح اليوم ، فهو يعلم جيدًا أنه سيجدها مستيقظة بانتظاره .
مد يده وفتح الباب ثم دخل وأغلقه خلفه ببطء مريب ، وكانت هي تجلس على المقعد الخاص بها المقابل للمرآة .. تابعته وهو يدخل وينزع عنه سترته ليعلقها في حاملة الملابس الخشبية .. بينما فريدة فظلت تتابعه بعيناها النارية والمغتاظة فخرج صوتها ساخرًا وملتهب :
_ كنت عندها أكيد !
يتجاهلها عمدًا فإذا حرر الوحش الذي يصرخ في أعماقه حتى يخرج فستحدث كوارث .. منذ أن رأى تسجيلات الكاميرا بالصباح وهو عبارة عن جمرة من النيران الملتهبة وتنتظر الفرصة لتمسك بأى أحد .

هبت واقفة واقتربت منه تهتف بغضب :
_ أنا بكلمك ياعدنان
رمقها بنظرة قذفت الرعب في أوصالها ثم وقف على قدميه وتقدم خطوة إليها حتى أصبح أمامها مباشرة وغمغم بنبرة تحمل الخفوت المرعب :
_ هو أنا تعليماتي شفافة وكلامي ملوش لزمة !
فريدة بثبات مزيف :
_ تعليمات إيه ؟!
عدنان بوجه محتدم وهمس كان كافي لبث الرعب في قلبها :
_ كنتي بتطلعي بتروحي فين في غيابي يافريدة
تحولت من وضع الهجوم إلى الدفاع ، وظهر على محياها الاضطراب الذي حاولت إخفائه بصعوبة وابتلعت ريقها ثم تمتمت بتوتر ملحوظ :
_ مكنتش بروح مكان !
بحركة عفوية رفع حاجبه مستغربًا وتمتم باسمًا باستنكار :
_ بتكذبي عليا كمان !!!! .. من إمتى وإنتي بتكسري كلمتي أو بتكذبي وتخبي عني !
فريدة بحنق وانفعال كوسيلة لمحاولة إخفاء توترها :
_ اخبي عنك إيه ياعدنان !! .. بعدين إنت سبت اللي عملته جلنار معايا الصبح ومن غير ما تحاسبها ولا تقولها أي حاجة اخدتها ومشيت وسبتني
خرج عن إطار هدوئه وصرخ بها بصوته الرجولي الجهوري :
_ احنا دلوقتي في إيه .. عشان تقوليلي جلنار ! ، اللي إنتي أصلًا غلطانة واللي قولتيه مغلطتيش فيها قد ما غلطتي فيا أنا

أصابتها وغزة بسيطة بجسدها من صرخته وهتفت بذهول وعدم تصديق :
_ إنت بتزعقلي عشانها ومهتمتش إنها رفعت إيدها عليا قدامك

تراخت عضلات وجهه وجسده ، ليقف في سكون يطالعها بنظرة ثاقبة وحادة ، تتهرب من الإجابة ومن السبب الرئيسي لأنفجار بركانه وتحاول الهائه بحادثة الصباح بينها وبين جلنار ، أصبح الآن متيقنًا أن بها شيء ليس طبيعي ! .
خرج صوته هادئًا تمامًا على عكس نبرته السابقة ونظرته كانت مبهمة لكنها لا تبشر بالخير :
_ متتذاكيش عليا .. إنتي عارفة إن الحركات دي مبتخيلش عليا ، بس أنا هطنش كمان المرة دي بمزاجي وخليكي فاكرة إن دي المرة التانية والعداد شغال

( ماهذه الطريقة ؟ .. هل يعقل أن يكون شك بأمري ؟! .. لا بالتأكيد لا فلو كان لديه ذرة شك واحدة لن يكون هادئًا هكذا ! .. أذا فلماذا ينظر لي بطريقة مرعبة هكذا ؟!!! ) أسئلة كثيرة طرحتها في ذهنها من فرط الارتباك ، فلم يسبق لها ورأت هذه النظرة بعيناه ، ولم تعد تفهم مالذي دهاه وما التحول الرهيب الذي طرأ عليه فجأة بهذا الشكل ! .. لكن ما يهدأ من روعها أن رغم حالاته البركانية الجديدة لا تزال ترى وميض من حبه لها بعيناه وسط أشد لحظات غضبه منها وهو ما يمنعه عن الاستسلام لجموحه أمامها .
مد يده والتقط سترته مجددًا ثم هم بالرحيل لولا قبضتها على رسغه التي اوقفته وهي تسأل :
_ رايح فين ؟!
طالعها للحظات في جمود قبل أن يسحب يده من قبضتها ببطء ويبتعد متجهًا إلى باب الغرفة لكنها هرولت خلفه وسدت عليه الطريق هاتفة بشراسة :
_ رايحلها !
_ فريدة ابعدي من قدامي لأني مش ضامن ردة فعلي لو اتعصبت اكتر من كدا عليكي
صاحت بغل وعناد :
_ مش هبعد ياعدنان .. واضح إن اللي كنت خايفة منه حصل ، بس صدقني أنا مش هسمح بده أبدًا
فهم مقصدها جيدًا وتلمحياتها حول مشاعره تجاه جلنار فمسح على وجهه متأففًا وهتف بنبرة شبه مرتفعة :
_ إنتي عايزة إيه دلوقتي .. ابعدي
تصلبت بأرضها بقوة وقالت في نظرات كلها حقد وغيظ :
_ عايزاك تطلقها !

رواية كيان الفهد كاملة جميع الفصول ( الفصل 11 ) 


تصلبت بأرضها بقوة وقالت في نظرات كلها حقد وعيظ :
_ عايزاك تطلقها !
عقد حاجبيه باستغراب من جملتها .. والتزم الصمت لثواني معدودة حتى أردف ببرود :
_ مش هينفع
فريدة بعصبية :
_ ومش هينفع ليه بقى
_ عشان بنتي
تلونت عيناها بلون الدماء الحمراء .. ليست غيرة ولكنها نقم وضغينة تحملها لجلنار ، وربما خوفًا من خسارتها لكل شيء سعت في بنائه .
هتفت في نظرة مشتعلة :
_ عشان بنتك .. ولا عشانها هي ياعدنان !
انتصب في وقفته ووضع قبضتيه في جيبي بنطاله هامسًا :
_ هتفرق معاكي في إيه
_نعم !!
كان ردًا عنيفًا منها تبعه رده الهادئة بشكل مثير للأعصاب :
_ يعني متحطيش نفسك في مقارنة يافريدة

القى بكلماته ثم عبر من جانبها وانصرف .. بقت هي بأرضها تعيد تكرار ما قاله في عقلها ، وتتساءل ماذا يقصد ! .. جملته مبهمة لكنها تحتمل شقين ! .
التقطت عيناها كأس الماء الموضوع فوق المنضدة .. فمدت يدها وجذبته ثم ألقته على الأرض بكل غل وهتفت بوعيد شيطاني :
_ لا يمكن اسمحلك إنتي وبنتك تسرقي مني كل اللي بنيته .. استحملت حجات كتير وأولهم عدنان رغم عدم حبي ليه بس عشان اوصل لهدفي ، وإنتي دلوقتي عايزة تاخدي كل حاجة على الجاهز .. نهايتك قربت يابنت الرازي .

***
تجلس على الأريكة المقابلة للتلفاز والذي يعرض أحد مسلسلاتها المفضلة ، وجهها تعتليه معالم الحزن والعجز وعيناها فقط ثابتة على الشاشة لكن عقلها يفكر في حادثة الصباح .
بقدر قوتها إلا أن الطعن في الشيء الوحيد الذي يتبقى للفتاة .. أوجعها بشدة ، لا تعرف متى وكيف ومن الذي تناقل هذه الشائعات والاتهامات البشعة بين أهل حارتها .. لكن لا يهمها أحد بقدر خوفها على جدتها إذا عرفت بما حدث أو وصلت لأذناها تلك الكلمات القبيحة عنها .
منذ الصباح وهي تجاهد في الظهور بصلابة وتشدد على محابس دموعها .. لكن حتمًا ستصل للحظة فاصلة وستنفجر بها لتفرغ عن نفسها ثقلها المؤلم الذي يقتلها .

خرجت فوزية من غرفتها وبحثت في أرجاء المنزل عنها فسمعت صوت التلفاز .. تحركت بخطواتها البطيئة نحو الصالون ورأت حفيدتها تجلس تشاهد التلفاز بسكون مريب .. تأملتها بنظرها من بعيد للحظات ففهمت فورًا أن بها شيء ليس طبيعي ، منذ أن عادت من العمل صباحًا وهي بحالة غريبة ليست على عادتها المرحة والمشاكسة ، واقنعت نفسها بأنه ربما من ضغط العمل وإرهاقه .. لكن جلوسها بهذا الشكل أصبح غير مُطمئن مطلقًا ! .

اقتربت منها وجلست بجوارها على الأريكة ثم هتفت بنظرة دقيقة :
_ مهرة !
انتبهت لصوت جدتها فاعتدلت في جلستها بسرعة ونظرت لها تبتسم بابتسامة باهتة :
_ إنتي لسا صاحية يازوزا !!
فوزية بنظرات مترقبة لردها :
_ كنت رايحة انام وقولت اشقر عليكي الأول في اوضتك ملقتكيش .. هو في حد مزعلك ولا إيه ؟!
مهرة بمرح مزيف حتى أنه لا يحمل طريقتها الكوميدية كالعادة :
_ فشر مين ده اللي يقدر يزعلني
فوزية بحدة :
_ مهرة .. أنا مش هبلة عشان معرفش إذا كان في حاجة مضيقاكي ولا لا ، قولي يلا !
التزمت الصمت لثلاث ثواني بالضبط ثم قالت بأسلوب ساخر لا يلائم الوضع أبدًا :
_ الصراحة في .. المحفظة بتاعتي اتسرقت ، كنت بطلع الفلوس عشان ادي السواق الأجرة وجه واحد ابن حرام نتشها مني وجري

رفعت فوزية حاجبها مستنكرة كذبتها السخيفة بينما الأخرى فكأنها وجدت الفرصة لتنفجر بالبكاء حيث انهمرت دموعها وهي تبكي بصوتها المرتفع .. فاردفت فوزية :
_ إيه العياط ده !! .. امال كان فيها ملايين !
ردت عليها من بين بكائها وهي تخرج منديل من جيبها :
_ لا كان فيها ملبساية كنت هموت عليها
صاحت فوزية بها بغيظ :
_ بـــس .. محفظتك موجودة جوا على التسريحة يامهرة

توقفت عن البكاء فورًا وأدركت مدى سذاجتها ثم نظرت لجدتها ورمشت بعيناها عدة مرات بدهشة ، لتقول بسرعة محاولة تفادي كذبتها وهي تجفف دموعها بظهر كفها كالأطفال :
_احلفي !
لم تجد الرد من جدتها ، فقط طالعتها بنظرة مشتعلة بينما مهرة فسكتت للحظة وقالت وهي تهب واقفة بابتسامة تصنعتها بمهارة :
_ حيث كدا بقى اروح اشوف الملبساية بتاعتي .. لاحسن واكلة دماغي من الصبح
ثم هتفت وهي تتجه نحو الغرفة في أسلوب ساخر منها :
_ جيالك ياغالية

***
منكمشة في فراشها .. ترفع ساقيها إلى بطنها متطورة كالجنين في رحم أمه ، وتأن بصوت منخفض من الألم الذي ينهش معدتها وبيدها تضغط على بطنها في محاولة بائسة منها لتخفيف الألم .. باتت عيناها حمراء كالدم وشفتيها تورمت بشكل مثير للقلق ، أما جسدها فكل لحظة والأخرى تجتاحه هزة عنيفة تنفضها في فراشها نفض .
التزمت الصغيرة الفراش بجوار أمها وأخذت تملس على شعرها في خوف بريء ونظرات مضطربة ، لا تفهم مالذي يحدث لكن ما تراه أن أمها ليست بخير ، فهي ملتزمة الفراش منذ دقائق طويلة وهي تتلوى من الألم وأصبح وجهها اللطيف متورمًا بشكل مثير للرعب .
أدمعت عيني " هنا " بخوف عفوي على أمها وسرعان ما وثبت من الفراش وهرولت لتجلب هاتف والدتها ثم عادت به إليها وتمتمت في صوت مبحوح :
_ كلمي بابي ياماما
ردت عليها جلنار بصوت خافت ممسكة بيدها الصغيرة وتقربها من شفتيها تطبع عليها قبلة رقيقة :
_ أنا هبقى كويسة ياحبيبتي
لم تكمل كلماتها وإذا برنين الهاتف يرتفع بين يدي " هنا " فنظرت فورًا إلى شاشته وتمكنت من معرفة هوية المتصل إنه أبيها من خلال صورته التي علت شاشة الهاتف ، مرت بأصبعها الصغير على شاشة اللمس لتفتح الاتصال ووضعت الهاتف على أذنها تهتف :
_ بابي ماما تعبانة

كان عدنان يقود السيارة في طريقه إليهم بالفعل ، لكنه أراد أن يتصل أولًا ليسأل إن كانوا يحتاجون لشيء ، وبمجرد سماعه لجملة طفلته وصوتها المتلهف فضيق عيناه بتعجب وقد تحولت نبرته من الهدوء إلى القوة :
_ ماما مالها ياحبيبتي ؟
تململت جلنار في الفراش عندما اشتد ألم معدتها ودون أن تشعر خرجت منها آه متألمة وصلت لأذنيه من الهاتف فقال فورًا بقلق :
_ ادي التلفون لماما ياهنا
مدت هنا يدها بالهاتف لأمها وقالت بنظرات حزينة :
_ خدي ياماما
كانت توليها ظهرها فرفعت كفها في إشارة لعدم قدرتها ورغبتها بالحديث فعادت هنا بالهاتف على أذنها وقالت بتلقائية :
_ مش عايزة
عدنان بصوت غليظ :
_ طيب اقفلي يابابا .. وأنا جاي دلوقتي
انزلت هنا الهاتف من على أذنها ووضعته على المنضدة الصغيرة المجاورة للفراش وقالت محدثة أمها في بريق أمل واطمئنان انبعث من عيناها الجميلة :
_ بابي قالي جي .. أول ما يجي هيجيب الدكتور وهتبقى كويسة ياماما
ابتسمت لها جلنار بنظرات دافئة وأشارت لها بسبابتها أن تنحنى عليها وبمجرد انحنائها اقتربت من وجنتها ولثمتها بعاطفة جيَّاشة متمتمة :
_ ربنا يخليكي لماما ياحياتها

بقت الصغيرة ملازمة أمها في الفراش حتى صك سمعها صوت فتح الباب فوثبت من مكانها وهرولت إلى الخارج لترى والدها .. وجدته دخل وأغلق الباب ثم اندفع إلى الداخل مسرعًا نحو غرفة أمها ، فلحقت به مجددًا إلى الداخل .
دخل والقى نظرة سريعة على جلنار المتكورة في فراشها وتوليه ظهرها ممسكة ببطنها وجسدها ينتفض ، تحرك نحوها وجلس بجوارها على الفراش هاتفًا في قلق ملحوظ في نبرة صوته :
_ جلنار إنتي كويسة ؟!

هزت رأسها بالإيجاب وهي تحاول جاهدة في إخفاء وجهها عنه حتى لا يرى تورم شفتيها واحمرار عينيها .. خشية من تعنيفه لها .. سيعرف فورًا سبب التعب إذا رأى وجهها ، ولن تسلم من توبيخه وسيغضب بشدة .
شعرت بكفه الذي رفعه وملس على شعرها ثم امتدت أنامله إلى خصلاتها المتمردة وأبعدها عن وجهها متمتمًا بصوت لين :
_ بصيلي ياجلنار وقوليلي إيه اللي تاعبك .. اتصل بالدكتور عشان يجي طيب

تنظر له !! ، تعترف أنها تخشى من غضبه هذه المرة ، إذا عرف أنها أكلت الموز وهي لديها حساسية مفرطة منه ويسبب لها أعراض قاسية كالتي تحدث لها الآن ، ستكون ردة فعله عنيفة .. فمن أهم القوانين التي تسير بالمنزل منذ زواجهم هو عدم دخول فاكهة الموز مطلقًا ، بعدما تناولت منه ذات مرة وأصابتها أعراض قد تكون أشد وأعنف من هذه وتتذكر حتى الآن كيف كان وجهها يعتليه الزعر الحقيقي لأول مرة ، وهو يراها أمامه لا تتمكن من التقاط أنفاسها حتى وجسدها يرتعش بعنف ووجهها كله تورم وتتألم من ألم معدتها ، منذ ذلك اليوم وهو منع دخوله إلى المنزل وكانت تحذيرياته صريحة وقاسية إذا حدث واخترقت تعليماته .

لا تنظر له ولا تجيب فقط تدفن وجهها في الوسادة وتفكر في حيلة حتى تتخلص بها من بطشه .. عاد يهتف ولكن هذه المرة بحيرة من تصرفاتها وقال وهو يبعد خصلاتها المحيطة بوجهها :
_ جلنار !!! .. تعبانة من إيه ردي عليا !
ثلاث ثواني بالضبط حتى وجدت نفسها تهتف بتلقائية لتتهرب منه وهي لا تزال دافنة وجهها بين ثنايا الوسادة :
_ظروف

استحوذ الصمت عليه للحظات قصيرة وهو يرفع حاجبه متعجبًا ردها المبهم في باديء الأمر .. لكن سرعان ما ارتحت عضلات وجهه وفهم كلمتها ، فاخفى ابتسامة كانت ستنطلق على شفتيه والتفت برأسه للخلف إلى ابنته التي تقف أمام الفراش وتتابع والديها بنظرات بريئة كلها اهتمام وخوف على أمها ، ارسل لها ابتسامة عذبة فبادلته هي إياها بعفوية .. ثم عاد برأسه مرة أخرى إليها وانحنى على أذنها يهمس بمكر متمالكًا ضحكته :
_ والكسوف ده إيه .. هرمونات الظروف !!
نكزته بمرفقها في غيظ وتمتمت :
_ بلاش وقاحة
لا تزال تخفي وجهها عنه لا تريده أن يراها مما جعله يدرك إن الأمر قد لا يكون كما قالت فقط ، انتصب في جلستها ثم نهض والتف حول الفراش من الجهة الأخرى وهتف بلهجة صارمة :
_ طيب ارفعي وشك اللي مخبياه ده .. خليني اشوف الظروف دي مالها !

اجتاحها ألم لا يحتمل مما جعلها تتأوه بصوت مرتفع من الوجع .. وفجأة شعرت بأن معدتها تنقلص وتنطوي ورغبت في التقيء فوثبت من الفراش واقفة وهرولت نحو الحمام فورًا ، اختفى لين ملامحه وظهر محله الزمجرة بعدما توقع سبب الآمها ، استقام واقفًا ولحق بها إلى الحمام سامعًا صوت تقيأها القاسي ، اقترب ووقف بجوارها ثم مد يده يرجع خصلات شعرها للخلف وقد اتضح تورم شفتيها واحمرار عيناها أمامه .

لحظات حتى توقفت عن التقيأ فأسندها واتجه بها نحو المرحاض ووقفا أمامه ثم فتح صنبور الماء وغسل لها وجهها وهي لا تقوى على فتح عيناها من التعب وترتعش بين يديه .
انحنى وحملها على ذراعيه وخرج بها إلى خارج الحمام فاسندت رأسها هي على صدره وقالت باستسلام وألم حقيقى بعدما كشف فعلتها :
_ اتصل بالدكتور ياعدنان

وصل بها إلى الفراش ووضعها عليه بحذر شديد ، ثم أخرج هاتفه من جيبه ورد عليها بصوت حاد ونظرة كلها سخط لا تبشر بالخير :
_ هتصل بيه وليكي حساب معايا بعدين

خرج إلى شرفة الغرفة وأجرى اتصال بالطبيب وطلب منه حضوره في اسرع وقت ، ثم دخل مجددًا لهم واقترب من ابنته لينحنى إلى مستواها ويقول بهمس لم يصل إلى أذن جلنار رغم محاولتها في سماع ما يقوله لها :
_ مين اللي جاب الموز ياهنايا ؟
ردت الصغيرة على أبيها ببراءة :
_ عمو حامد

كان وجهه متشنجًا بشكل مخيف من فرط سخطه ، انتصب في وقفته والقى نظرة ثاقبة على جلنار قبل أن يندفع لخارج الغرفة والمنزل بأكمله .
وقف على عتبة المنزل الداخلية وصاح بصوت جهوري :
_ حــــامــد !
وصلت صيحته إلى " حامد " حارس البوابة الرئيسية للمنزل ، فهب واقفًا من مقعده وهرول راكضًا إليه حتى وقف بمقابلته وقال :
_ نعم يا عدنان بيه
عدنان بعصبية وصوت مخيف :
_ أنا مش منبه عليك إن ممنوع الموز يدخل البيت ، ضمن أي طلبات تجيبها للمدام .
اجفل الآخر نظره أرضًا بأسف وقال باعتذار :
_ أنا آسف يابيه .. بس المدام هي اللي طلبت والله عشان بنت حضرتك ، وأنا موافقتش في البداية عشان وضع الهانم وتعليمات سياتك .. وقالتلي إنها مش هتاكل منه وأنا مقدرتش ارفض طلبها الصراحة
عدنان بصيحة رجولية عنيفة :
_ انا ميخصنيش كل الزفت ده .. كلامي كان واضح لما نبهت وقولت ممنوع يدخل البيت ، واللي حصل منك ده تجاهل لتعليماتي ، أنا سايبك هنا وسايب مراتي وبنتي أمانة معاك في غيابي وإنت تتصرف بالإهمال ده

حامد بحرج وضيق شديد من نفسه معتذرًا بصدق حقيقي :
_ حقك عليا ياعدنان بيه حضرتك عارف معزة الست هانم عندي إزاي ولا يمكن ارضى لها بالاذى أبدًا والله ، أنا بس محبتش اكسر بطلبها.. بس اوعدك إن اللي حصل ده لا يمكن يتكرر تاني

رد عليه عدنان بزمجرة :
_ وأنا مستنيك توعدني .. اعتبر دي أول غلطة ليك والغلطة التانية هتكون بحساب عسير

هو حامد رأسه بالموافقة بينما عدنان فاستدار وعاد للداخل حيث زوجته وابنته ، متوعدًا لجلنار بعد أن تتحسن حالتها بسبب إهمالها في صحتها .

***
تمسك بهاتفها وتعبث به فقط دون أن تفعل أي شيء مفيد .. ملازمة غرفتها وفراشها منذ أيام ولا تخرج منها إلا قليلًا ، وبدأت والدتها تستاء من وضعها وحاولت أكثر من مرة فهم حالتها المزاجية والتحدث معها لكن الرد لا يتغير بكل مرة ( أريد فقط البقاء بمفردي لبعض الوقت ) .. ماسبب عزلتها المفاجئة أو حتى مزاجيتها الغريبة ، لا تعرف لكنها تشعر أن ابنتها ليست بخير .
أما هي ففضلت الابتعاد لأيام عن الجميع وبالأخص عنه ، تريد جمع شتات نفسها المبعثرة ، واستعادة روحها المهدرة بنار الهوى لسنوات .. هوى لم يجلب لصاحبه سوى الألم والشجن .
ستعاني وربما ستتعذب في محاولاتها التي ستجدها بائسة في بداية رحلتها ، لكن يكفي إهدارها لمشاعرها وروحها ، ولن يكون هناك أيضًا إهدار لكرامتها .

بينما هي تعبث في الهاتف على أحد تطبيقات التواصل الاجتماعي ، ظهرت صورته أمامها .. صورة التقطها بالمعرض بعدما انتهت جميع التجهيزات والافتتاح سيكون بعد غد كما تعرف .
توقفت للحظة تحدق بصورته ، تتفرس ملامحه الوسيمة .. ابتسامته الجذابة التي تزين ثغره ، لم تشعر بنفسها سوى وهي تتأمل في صورته هكذا حتى وجدت أصبعها يضغط على ملفه الشخصي وتقلب في ملفه تشاهد صوره الأخيرة .
طرقة واحدة على الباب ثم انفتح ودخلت والدتها ، فأدركت ما تفعله بهذه اللحظة وأسرعت في إغلاق صوره وملفه الشخصي وتصنعت تصفحها لآخر الأخبار التي تظهر تلقائيًا في صفحة الفيس بوك .

اقتربت ميرفت منها وجلست بجوارها على الفراش وهتفت بنفاذ صبر :
_ وبعدين يازينة .. هتفضلي حابسة نفسك في الأوضة كدا كتير
زينة ببساطة :
_ لا ياماما .. ثم أولًا أنا مش حابسة نفسي ، أنا بس حابة اخد فترة استجمام مع نفسي بعيد عن الناس
ميرفت بعصبية :
_ وأنا من الناس دي بقى ولا إيه !!
ضحكت زينة بخفة وانحنت على أمها تحتضن وجهها بين كفيها وتلثم وجنتها بحب متمتمة :
_ لا طبعًا وهو أنا اقدر أصلًا .. ما أنا قاعدة معاكي أهو ياماما
_ قاعدة معايا فين .. ده أنا مش بشوفك في البيت غير كام مرة في اليوم ، طول الوقت حابسة نفسك في الأوضة
_ خلاص أنا آسفة وعد إني مش هقعد وحدي في الأوضة تاني .. حلو كدا ؟
تنهدت ميرفت بارتياح بسيط ثم قالت برضا :
_ أهاا حلو .. هتحضري افتتاح معرض آدم بكرا ولا كمان حابة تستجمي !
عاد العبوس يظهر على محياها وقالت بصرامة :
_ لا مش هحضر .. مش قادرة ومليش نفس الصراحة ، ابقى اعتذريله نيابة عني هو وخالتو
رفعت والدتها حاجبها بحيرة وقالت بنظرة دقيقة :
_ اعتذرله نيابة عنك ! .. ياسلام وده من إمتى بقى ، ده إنتي كنتي معاه في كل التجهيزات وكنتي متحمسة أوي ليوم الافتتاح
_ مش عارفة ياماما مليش مزاج احضر .. اعملي زي ما بقولك بس عشان خاطري
اطالت ميرفت النظر في ابنتها للحظات بشك وبلؤم ثم اعتدلت في جلستها وقالت بحدة مصطنعة :
_ اممممم .. طيب قوليلي بقى إيه اللي حصل
قهقهت وقالت ضاحكة :
_ ياماما يا لئيمة .. مفيش حاجة صدقيني أنا زي ما قولتلك عندي حالة مزاجية اليومين دول ومش عايزة اروح أي مكان

أصدرت ميرفت زفيرًا حارًا بعدم حيلة وقالت في نظرات حانية ومهتمة :
_ طيب ياحبيبتي خلاص مش هضغط عليكي .. بس متأكدة إن مفيش حاجة ؟
هزت راسها بالنفي وهي تبتسم بصفاء ، ثم انحنت معانقة والدتها في ثبات مزيف تتصنعه بصعوبة أمامها .. ابتعدت بعد لحظات عنها فتوقفت ميرفت وقالت بضيق على حالة ابنتها فكل ما قالته لم تصدقه واحساسها يخبرها بأن هناك شيء آخر تخفيه عنها :
_ طيب يلا تعالي ورايا عشان نتعشى مع بعض
_ حاضر
استدارت ميرفت وسارت باتجاه باب الغرفة وانصرفت ، فتنهدت زينة الصعداء بأسى ومسحت على وجهها بحنق ثم نزلت من الفراش واتجهت خلف أمها.

***
يجلس على مقعد أمام فراشها ويحدقها بعيناه الثاقبة ، بينما هي فتجلس على الفراش وتستند على ظهره ، وتتعمد مفادة نظراته المشتعلة .
رحل الطبيب منذ دقائق قليلة وقد املى عليها تعليمات صارمة وجادة حول عدم أكلها لفاكهة الموز مرة أخرى .. وأوضح لها أن كل مرة ستكون الأعراض اقوى وأشد ، امتثلت لتعليماته وسط محاولاتها لتفادي نظرات زوجها القاتلة .
أخيرًا خرج صوته قاتلًا الصمت المهيمن على الوضع بينهم بعدما تركتهم هنا وذهبت لفراشها حتى تنام :
_ أنا ماسك نفسي منك بالعافية ياجلنار
هتفت بانفعال غير مقصود بسبب الأجواء المشحونة بالتوتر من نظراته :
_ خلاص ياعدنان قولتلك آخر مرة ومش هاكله تاني ، متفضلش تبصلي بنظراتك دي
اتسعت عيناه ببعض الدهشة من أنفعالها الغير مناسب لوضعها أبدًا ، تستخدم أسلوب الهجوم وهي في وضع الدفاع .. فتمتم بهدوء مزيف لا يزال يتحلى به أمامها :
_ صوتك ميعلاش عليا وخصوصًا لما تكوني غلطانة
جلنار بعناد :
_ أنا مغلطتش .. طلبت من عم حامد يجيبه عشان " هنا " وقولت إني لو اكلت واحدة مش هتعمل حاجة ، متوقعتش إن واحدة بس هتعمل كل ده أكيد .. بعدين إنت مهتم ليه مش فاهمة .. على العموم أي كان السبب شكرًا على اهتمامك أنا بقيت كويسة دلوقتي ، ياريت تمشي بقى وتروح عند مامتك ومراتك

هذه المرة هدوءه لم يكن مزيفًا حيث لاحت شبه ابتسامة على ثغره وهو يطالعها بنظرة متفحصة ، آخر كلماتها أظهرت له مدى سذاجتها .. رغبت في أن تظهر له نفورها من وجوده لكنها فعلت العكس ولم يفهم من نبرة صوتها الرقيقة سوى الغيظ .

جلنار بسخط من تجاهله كلامها وابتسامته :
_ بقولك امشي يا عدنان

قرر أن يلعب بالأوراق الرابحة مثلها حتى يتحقق التعادل في مبارة تكاد تخرج منها هي رابحة بكل مرة ، فقال بهدوء أعصاب مستفز وبعدم اكتراث جسَّده بمهارة لاعب محترف :
_ ده بيتي يعني اجي وقت ما أنا عايز وامشي وقت ما عايز .. ثم متقلقيش وجودي مش هيأثر بحاجة عشان ممكن يكون عقلك خيل ليكي إني ممكن اقرب منك يعني ، أنا لو قربت منك فهيكون لسبب واحد وهو اللي اتجوزنا عشانه

التهبت عيناها بنيران الغضب .. وتحول وجهها إلى جمرة جعلت منه أحمرًا كالدم من الغيظ ، ولوهلة أحست بأنها تود التقاط كأس الماء الذي بجوارها وتلقيه عليه فتتخلص منه نهائيًا .. جملته الأخيرة لم تكن تثير الغضب بقدر ما استهدفت الإعماق فأوجعت بشدة .
وثبت من فراشها واقفة وثائرة ثم هتفت بقوة وثبات حاولت إظهارهم بصعوبة بعد جملته المؤلمة ، وبعينان كلها نقم واشمئزاز :
_ قصدك اليوم الأسود اللي اتجوزنا فيه .. أنا عمري ما ندمت على حاجة في حياتي قد ما ندمت على إني استسلمت ووافقت اتجوزك ، تعرف أنا ندمانة إن سمحتلك تلمسني أصلًا .. وبندم إن عندي طفلة منك ، كان نفسي أول بنت ليا تكون من راجل بحبه وبيحبني ويستحق إن مامتها تضحي بكل حاجة عشانه وعشانهم بس إنت متستهلش التراب حتى ، ودلوقتي متخيل إني ممكن اكرر الغلط مرتين واسمحلك تاني تقرب مني ويكون عندي طفل تاني منك .. يبقى بتحلم ، أحب اقولك إن إنت هتفضل النقطة السودا اللي في حياتي حتى بعد طلاقنا

تحولت الأجواء من الهدوء المميت إلى الثوران ، حيث هب واقفًا من مقعده وهتف بزمجرة صوته الرجولي وغيرة واضحة بعيناه :
_ وهو مين ده بقى الراجل اللي بتحبيه وبيحبك !

ابتسمت بسخرية ونظرة نارية كلها غل ، ثم قالت بتعمد في شراسة حتى تجعله يزداد اشتعالًا :
_ حاتم مثلًا !

تشنجت عضلات وجهه وتحول كوحش مفترس يستعد للهجوم على فريسته .. يعرف أن نطقت ذلك الاسم خصيصًا لتزيد من غيرته أكثر .
ججذبها من ذراعها يقبض عليه بعنف ويقول بنظرة مرعبة أمام عيناها مباشرة وبصوت يشبه فحيح الأفعى :
_ عشان يكون في معلوماتك ، إنتي كنتي ليا وهتفضلي ليا .. وإن مكنتيش ليا ياجلنار مش هتكوني لغيري ، خليكي فاكرة ده كويس أوي

لا تنكر أن تهديده ونظرته اربكتها ، ظلت تنقل نظرها بين عينيه الثاقبتين ، لم تخطئ حين وصفته بالعُقاب .. يشبهه بكل شيء ، يمتلك نفس العينان الثاقبة والشموخ الذي يسبح في نظراته دومًا .. صلب وقاسٍ ولا يرحم ، لديه من الشراسة والقوة ما تكفيه ليكون في الصدارة ! .
انزوت نظرها عنه و دفعت يده بعيدًا عنها في قوة ثم اتجهت إلى الحمام تاركة إياها يزأر كالأسد .

***
في صباح اليوم التالي .....
اتجهت فوزية إلى الباب وفتحت فوجدت أمامها صديقة مهرة وابنة حارتهم البالغة من العمر الرابعة والعشرون مثل حفيدتها .. فقالت ببشاشة :
_ أهلًا وسهلًا ياسهيلة ادخلي يابنتي
دخلت وقالت بعذوبة :
_ متشكرة ياخالتي .. إنتي اخبار صحتك إيه !
_ بخير الحمدلله يابنتي .. والله جيتي في وقتك لاحسن البنت مهرة مجنناني من امبارح وشكله في حاجة ومش عايزة تقولي ، بس يمكن تقولك إنتي
تنهدت سهيلة بضيق بعد تذكرها لما حدث بصباح الأمس فقالت بلطافة :
_ متقلقيش ياخالتي أنا هعرف مالها وهقولك .. هي فين ؟
أشارت فوزيه بيدها في اتجاه الغرفة متمتمة بقلة حيلة :
_ في الأوضة من وقت ما صحيت من النوم مطلعتش منها

_ طيب أنا هدخلها اشوفها وإنتي اعمليلنا كدا كوبايتين ليمون
من إيدك الحلوة دي عشان نهديلها أعصابها بيهم

ضحكت فوزية بخفة وأماءت لها بالموافقة في صفاء بينما سهيلة فاتجهت إلى غرفة صديقتها وفتحت الباب دون استاذآن حتى ! .. فوجدت مهرة جالسة على الفراش بسكون .
قالت مهرة بقرف :
_ أنا برضوا قولت هو مفيش غير واحدة بس اللي تفتح الباب من غير أذن كدا .. إنتي يابت ابوكي وأمك معلموكيش إني في بيبان بتتخبط الأول قبل ما تدخلي
قالت سهيلة مازحة بضحكة جريئة :
_ لا اصل احنا عيلة متفتحة
_ قصدك عيلة منحرفة
ضحكت الأخرى ثم بلحظة وفي وثبة واحدة وجدتها تجلس أمامها على الفراش وتقول :
_ طيب بصي بقى أنا جيت عشان اقولك كلمتين وسد غطاهم .. بكرا في مشوار وهتروحي معايا عشان مش حلوة اروح وحدي ، أما مشوار إيه فهو مفاجأة
ثانيًا وده الأهم ، مش مهرة بنت رمضان الأحمدي اللي تفضل قاعدة في اوضتها ومتروحش شغلها عشان ست **** زي اللي اسمها بدرية دي قالت كلمتين ملهمش اي تلاتين لزمة

مهرة باستياء :
_ أولًا أنا مروحتش الشغل عشان حد .. ثانيًا أنا عرفتها مقامها كويس أوي واخدت حقي

سهيلة بانفعال على صديقتها :
_ اخدتي حقك آه بس كذابة .. إنتي منزلتيش الشغل عشان خايفة من نظرات أهل المنطقة .. دي مش مهرة اللي أنا اعرفها ، عشان صحبتي واختي اللي متربية معاها طول ما هي معملتش حاجة غلط متخفش من اتخن تخين فيكي يا بلد ولو حد قال كلمة تحط صباعها في عينه

اشاحت مهرة بنظرها عنها للجهة الأخرى وهي تهز قدميها بغيظ وحرقة ، ثم قالت بصوت خافت :
_ إنتي عايزة إيه يعني دلوقتي ياسهيلة
سهيلة بابتسامة عريضة وبشراسة :
_ عايزاكي تقومي تلبسي وتروحي شغلك .. وتمشي وإنتي رافعة راسك ومتقلقيش وراكي رجالة هنا يعني أي حد لسانه هتيعوج بالكلام عليكي في ضهرك هنقطعهوله
وتجهزي نفسك كمان مقدمًا لطلعة بكرا ، عشان دي مش أي طلعة

_ طلعة إيه ؟!
_ خليها مفاجأة احسن .. أو هي مش مفاجأة انا مش عايزة اقولك عشان عارفاكي فقرية ولو قولتلك هتقولي مش هروح
_ يعني إنتي عارفة إني لو عرفت مش هروح ورغم كدا عايزة تاخديني
سهيلة بمزاح وطريقة كوميدية :
_ آه أصل أنا بعيد عنك بنت لزقة ، بلزق زي الغرى كدا في البني آدم .. هتقولي مش هروح هفضل اون فوق دماغك لغاية ما تخبطيني بحاجة فوق راسي وبرضوا مش هيأثر فيا
_ قصدك جبلة يعني !
_ بظبط كدا عليكي نور .. قولتي إيه بقى هتروحي أكيد صح !
اطالت مهرة النظر فيها بنظرات مشتعلة من الغيظ ، فتوترت الأخرى وقالت صائحة بخوف :
_ الليمون ياخالة فوزية بسرعة

***
طرقت عدة طرقات خفيفة على الباب حتى سمعت صوته وهو يسمح للطارق بالدخول ، فتحت الباب ودخلت فوجدته جاهزًا للخروج ويجلس على الأريكة الصغيرة بغرفتة الواسعة ويمسك بهاتفه يتطلع إليه كأنه ينتظر اتصال من أحدهم .
فسألته بحنو :
_ إنت مخرجتش ليه ياحبيبي ؟
آدم بخفوت :
_ مستني مكالمة ياماما وبعدين همشي

تحركت نحوه ثم جلست بجواره وغمغمت بنبرة تحمل في طياتها اللؤم :
_ طيب أنا عايزة اتكلم معاك في موضوع مش هياخد دقيقتين

ظن أن الأمر هامًا وجادًا ، حيث ثبت كل تركيزه عليها وقال باهتمام :
_ خير ياماما اتفضلي
أسمهان بابتسامة خبيثة :
_ أنا لقيت ليك العروسة .. اكتر واحدة مناسبة ومفيش بنت هتكون احلى منها أو هتحبك زيها
تلاشت ابتسامته تدريجيًا من بداية كلامها وعندما وصلت لآخر كلمة فهم من هي الفتاة التي تقصدها ، فهتف منفعلًا برفض تام :
_ الفكرة دي مرفوضة تمامًا بنسبالي ، واللي بتفكري فيه ده لا يمكن يحصل
أدركت أنه فهم هوية الفتاة فقالت بعصبية مماثلة له :
_ ومرفوضة ليه يا آدم ، إنت هتلاقي فين بنت تحبك زيها ، وبنت خالتك يعني اكتر بنت مناسبة ليك

استقام واقفًا وصاح :
_ ماهي المشكلة إنها بتحبني وللأسف أنا عارف وحاولت اكتر من مرة ابادلها نفس المشاعر بس مش قادر ، ولو سمحتي ياماما متحاوليش تقربيها مني بأي شكل من الأشكال .. أنا مش عايزها تتعلق بوهم وبحاجة مش هتحصل .. وياريت كمان لو تطلعي موضوع جوازي ده من دماغك أنا قولتلك وقت ما الاقي البنت المناسبة ليا هاجي بنفسك واقولك إني هتجوز

هبت أسمهان واقفة وهتفت بسخط :
_ وياترى البنت اللي هتختارها دي هتكون زي اختيارات اخوك كدا ولا إيه يا أستاذ
ضحك من وسط نيرانه الملتهبة ثم هتف بخفوت مريب وبنظرات نارية مثبتها على عينان والدته :
_ خلينا متفقين يا أسمهان هانم إن فريدة هي الاختيار الغلط ، لكن جلنار هي أكتر واحدة مناسبة لابنك .. وأنا وإنتي عارفين كويس أوي سبب كرهك ليها ، وده بيأكد ليا حاجة واحدة إنك لسا ......

لم تدعه يستكمل بقية عبارته حيث هوت بكفها على وجنته وصاحت بغضب :
_ اخرس .. إنت بتقول وبتفكر كدا ، أخص يا آدم أخص

ثم ألقت عليه نظرة أخيرة وهي تراه لا يزال يزيح بوجهه للجهة الأخرى بسبب صفعتها له و يتطلع أرضًا ، استدارت واتجهت لخارج الغرفة بأكملها ، وبينما كانت في طريقها إلى الأسفل .. ارتفع رنين هاتفها فنظرت إلى الشاشة تقرأ هوية المتصل وأجابت بدون تردد :
_ أيوة ياعدنان
عدنان بحزم :
_ فريدة موجودة في البيت ياماما
أسمهان بقرف وخنق :
_ أيوة مرزوعة فوق
_ طيب عايزك تخلي عينك عليها في كل حاجة بتعملها سواء جوا البيت أو برا طول ما أنا مش موجود وأنا عارف إن إنتي مش هتتوصي في حاجة زي كدا
توقفت عن السير ولمعت عيناها بشرارة شيطانية ثم هتفت بمكر :
_ هو حصل حاجة ولا إيه ؟
عدنان بخشونة :
_ محصلش بس تحركاتها وتصرفاتها مش عجباني الفترة دي وعايز اعرف النفس اللي بتتنفسه بيخرج امتى وبيرجع امتى
أسمهان بغل وهي تتلفت برأسها للخلف حتى تتأكد من عدم وجودها بالجوار :
_ حتى أنا حاسة إن في وراها حاجة ، متقلقش ياحبيبي هتفضل تحت عيني

ودعها وانهى الاتصال بينما هي فانزلت الهاتف من على أذنها وأخذت تضرب به على كفها بخفة وهي تبتسم بخبث وتتمتم :
_ شكل نهايتك قربت أوي يابنت الخدامة .. والعد تنازلي بتاعك بدأ ، فاضل بس بنت الرازي وابقى خلصت منكم إنتوا الاتنين

***
انتظم الجميع فور معرفتهم وصول رب عملهم .. من كان يمسك بيده شيء توقف بأرضه احترامًا له حتى يعبر والباقية جلسوا جميعهم أمام مكاتبهم الصغيرة ويتابعونه بعيناهم وهو يمر من أمامهم بهيئته وخطواته المربكة للأعصاب .. وبمجرد عبوره تنهد الجميع براحة .. وصل إلى غرفة مكتبه وقبل أن يدخل تحدثت السكرتيرة الخاصة به " ليلي " قائلة :
_ صباح الخير يافندم النهادره في ....
عدنان بلهجة قوية وهو يفتح الباب ويدخل :
_ الغي أي مواعيد مش فاضي اقابل حد النهارده
_ حاضر

دخل وأغلق الباب خلفه ثم نزع سترته عنه ووضعها على ظهر مقعده ثم جلس على المقعد .. وانحنى بجسده قليلًا على الدرج السفلي من المكتب وفتحه وأخذ يبحث فيه عن أحد الملفات المهمة ، فلم يجده ! .. ضيق عيناه بحدة ثم اندفع يبحث في بقية الأدراج بشيء من بشائر الغضب التي بدأت ترتفع لوجهه ، ولكن فجأة توقف عن البحث وهو ينظر على الدرج وعصفت بذهنه لحظة الأمس حين جلس على المقعد وأخرج من نفس الدرج إحدى الملفات ولم ينتبه أنه كان مفتوحًا بسبب تعجله .
تحولت نظراته وصاح بصوته الجهوري :
_ لـــيــلـــى

انتفضت ليلى في مقعدها بالخارج ووثبت واقفة بفزع على أثر صرخته الجهورية ، وفتحت الباب فورًا فقابلت منه صرخته وهو عبارة عن لهيب من النيران :
_ مين اللي دخل مكتبي وأنا مش موجود
ليلى بخوف ملحوظ :
_ محدش يافندم دخل
عدنان بصوت مرتفع وصل لجميع آذان الموظفين بالخارج :
_ محدش دخل إزاي يا أنسة في ملفات ناقصة من المكتب .. المفروض إن دي مسؤوليتك
_ والله يافندم مفيش أي حد دخل مكتب حضرتك في غيابك
_ شوفيلي تسجيلات الكاميرات فورًا وهاتيها ليا
اماءت له عدة مرات متتالية في خوف واندفعت للخارج مسرعة ممتثلة لأوامره .. بينما هو فظل يجوب بالغرفة إيابًا وذهابًا وهو بركان ثائر تفوح حممه البركانية على سطحه ، اختفاء ملفات كهذه ستكون خسائرها فادحة على امبراطورية الشافعي .

***
توقفت بالسيارة أمام إحدى المنازل الضخمة .. ثم ترجلت منها وقالت محدثة السائق الخاص بها :
_ استناني هنا
_ حاضر يا هانم
قادت خطواتها إلى الداخل بخطوات كلها ثقة وشراسة وهي تتطلع من خلف نظارتها الشمسية إلى المنزل ، حتى وصلت إلى الباب فطرقت عدة طرقات قوية على الباب وبعد لحظات معدودة فتح الباب وظهرت من خلفه خادمة في مقتبل العشرون من عمرها .. انزلت جزء من نظارتها وحدقتها بنظرة متفحصة وهي تبتسم بسخرية ومكر فقالت الفتاة برسمية :
_ أيوة حضرتك عايزة مين ؟
ردت عليها وهي لا تزال تطالعها بنفس النظرة :
_ نشأت موجود
تعجبت الفتاة من نطقها لاسم رب عملها دون أي القاب كأنها تعرفه منذ زمن ولكنها ردت عليها بخفوت :
_ أيوة موجود .. اقوله مين ؟
انزلت النظارة من على عيناها وهتفت في شموخ :
_ أسمهان الشافعي


رواية كيان الفهد كاملة جميع الفصول ( الفصل 12 ) 


منتظرة بغرفة المكتب الخاصة به لما يقارب ثلاث دقائق بالضبط ، جالسة على مقعد وثير بجانب المكتب واضعة ساق فوق الأخرى ، وبنظرها تتجول بين أرجاء الغرفة .. تتأمل أثاثها الكلاسيكي والرث بالنسبة لها ، حتى الوانها باهتة وتبعث طاقة سلبية في نفس الناظر إليها .. يبدو أن الزمن ترك آثاره حتى على المنزل فجعله كالقصور المتهالكة ، أو ربما هو ليس كالقصور المتهالكة هو بالفعل كذلك .. خالي من الروح والحياة ، منزل كئيب ومظلم ، يعطي انطباع من الخارج أنه مهجور ولا يسكنه بشر ! .
قطع جلسة تأملها في جدارن وأثاث الغرفة دخوله عليها وهو يقول بابتسامة تحمل القليل من الاستنكار :
_ معقول أسمهان هانم بنفسها في بيتي !

بقت بمقعدها دون أن تقف أو تتحرك حركة واحدة ، فقط تطلعت إليه بثبات انفعالي مميز وانتظرته حتى اقترب منها وجلس على المقعد المقابل لها هاتفًا بابتسامة سمجة :
_ قبل أي حاجة .. تحبي تشربي إيه ، دي أول مرة تدخلي فيها بيتي ولازم اضيفك

ملامح جامدة لم تتغير منذ دخوله ، تحدجه بها حتى الآن دون حتى ابتسامة بسيطة متكلفة ، وكيف تتكلف وهي لا تجيد الابتسام أساسًا ! .
أسمهان بلهجة حازمة :
_ أنا مش جاية اشرب يا نشأت .. هما كلمتين جاية اقولهم ليك وهمشي
رجع بظهره للخلف على مقعده يجلس باسترخاء متمتمًا بهدوء أعصاب مستفز :
_ وأنا سامعك ، اتفضلي
تجاهلت نظراته ولهجته وتصرفت بطبيعتها الجافة حيث قالت في أعين تنبع بشرارة الشر والوعيد :
_ هتخلي بنتك تبعد عن ابني واعتقد دي مش مهمة صعبة عليك .. زي ما اقنعتها تتجوزه هتقنعها إنها تطلق ، وإلا صدقني مش هتشوفها تاني

نشأت بنظرة كلها تحدي :
_ متقدريش يا أسمهان تلمسي شعرة واحدة منها .. عشان سعتها أنا اللي هاخد روحك ومش هعمل حساب لأي حاجة ، واظن كمان إن حتى إنتي عارفة أنا قد إيه راجل **** وممكن اعمل إيه ، ثانيًا لما تحبي تهدديني ببنتي كان المفروض تكون معلوماتك كاملة

أسمهان بزمجرة :
_ قصدك إيه !

انتصب في جلسته وقال بحدة تليق بصوته الرجولي :
_ قصدي إن ابنك اللي متمسك ببنتي ورافض يطلقها مش هي ، وطلب مني إني اديله المساحة عشان يحاول يصلح علاقته بيها تاني وتفضل بنتهم عايشة وسط باباها ومامتها

استشاطت غيظًا فور سماعها لتلك الكلمات وووقفت ثائرة وهي تهتف :
_ عدنان لا يمكن يقول حاجة زي ، بنتك متفرقش معاه بحاجة وهي اللي واضح أوي نيتها أيه من الجواز دي ، الصراحة مكنتش متوقعة إنها هتطلع نسخة حقيرة ومصغرة من أمها كدا

وثبت هو الآخر ثائرًا وصاح بها منفعلًا :
_ أسمهان الزمي حدودك واعرفي إنتي بتتكلمي عن مين ، الغل والحقد اللي في قلبك ده يكون بيني وبينك وتصفية حسابات لو حابة يبقى نصفيها مع بعض ، لكن بنتي خط أحمر

رمقته بنظرة ساخرة أخيرة قبل أن تردف بثقة :
_ انا قولت اللي عندي وإنت فهمتني

ثم استدارت واتجهت إلى خارج الغرفة بأكملها وتركته يشتعل بأرضه من الغضب .

***
داخل مقر شركة أل الشافعي .....
يجلس على مقعده أمام المكتب ويشاهد آخر تسجيلات كاميرات المراقبة على الحاسوب النقال ، وتقف بجواره ليلى التي تتابع كل التسجيلات الأخيرة ، وما لاحظه عدنان أن هناك تسجيلات محذوفة ترجع ليوم الثلاثاء .. منذ يومين بالضبط .
رفع نظره لليلى التي كانت تحدق بالحاسوب قاطبة حاجبيها باستغراب وقال بحزم :
_ في تسجيلات محذوفة !
سكتت لوهلة من الوقت تعيد تفاصيل يوم الثلاثاء في ذهنها بالكامل ، وفجأة لمعت عيناها وقالت مسرعة بحيرة :
_ أيوة صح .. في اليوم ده دخل مستر نادر المكتب ولما حاولت امنعه قالي إن داخل هيحط ملف مهم لحضرتك على المكتب عشان أول ما نرجع تشوفه .. وبعدها في آخر اليوم طلب مني يشوف التسجيلات بتاعت مكتب حضرتك

أظلمت عيناه بشكل مخيف وظل يتطلع إليها لبرهة من الوقت ، يحاول أن لا يدع الشك يتسرب إليه .. لكن كل ما يظهر أمامه من أدلة ، يشير إلى حقيقة واحدة ! .
عدنان بصوت غليظ ومريب :
_ متأكدة من الكلام ده يا ليلى !
ليلى بثقة تامة :
_ أيوة يافندم متأكدة .. حتى آدم بيه كان منبه عليا إن محدش يدخل مكتب حضرتك وأنت مش موجود وخصوصًا مستر نادر .. ولما حب يدخل وقولتله اللي قاله آدم بيه اتعصب ودخل غصب عني
مسح عدنان على وجهه بعدم استيعاب .. وهناك صوتًا في عقله يستمر بتأكيد ظنونه له ، لكنه لا يرغب بالإستماع أليه قبل أن يتأكد بنفسه .. وخصوصًا أن نادر من أقرب الأشخاص لديه ، فعقله يجد صعوبة في تصديق أنه قد يكون المتسبب في هذا ! .
تمتم بنبرة محتقنة :
_ إنتي عارفة اللي بتقوليه ده معناه إيه لو طلع صح
هزت راسها بإيجاب وتمتمت في خفوت :
_ أنا من رأى نتأكد الأول ، لأن ممكن يكون ملوش ذنب

استقام من مقعده واقفًا وتحدث إليها بلهجة صارمة ونظرة ثاقبة كلها قوة وجفاء :
_ لو اللي بنفكر فيه صح يبقى كل حاجة هتظهر أكيد ..
المهم انتي هتدخلي مكتبه وهتدوري على الملف ده وهتراقبي كل تحركاته الفترة الجاية في الشركة وهتبلغيني بكل تفصيلة تشوفيها .. بس من غير ما نخليه يحس نهائي إننا شاكين فيه

اماءت لها ليلى بالموافقة وقالت برسمية :
_ تحت أمرك
ابتعد من أمامها وتحرك باتجاه النافذة التي بطول الحائط ووقف أمامها واضعًا كلتا قبضتيه في جيبي بنطاله مردفًا بتفكير :
_ خلاص تقدري تتفضلي يا ليلى

تحركت نحو الباب بصمت تام وغادرت وتركته بين تساؤلاته التي تنهش عقله نهش ! .

***
في مساء اليوم .......
يقود سيارته في طريقه إلى قصر الشافعي ويضع هاتفه أمامه يجرى عدة اتصالات بجلنار حتى يطمئن عليها لكن دون إجابة ، يستمر الهاتف في الرنين وبلا جدوى ، مرة واثنين وثلاثة والنتيجة نفسها ، ضيق عيناه باستغراب ممتزج ببعض القلق .. وعقله لا يتوقف عن توقع السوء .
أدرك أن لا مجال لراحة تفكيره ونفسه القلقة سوى الذهاب والاطمئنان عليها بنفسه .. غير وجهة سيارته واستدار بها عائدًا إلى منزله الثاني .
بعد دقائق من القيادة السريعة توقف بالسيارة في المكان المخصص لها داخل المنزل ، وفتح الباب ثم نزل وقاد خطواته المضطربة نحو الباب الداخلي .
أخرج المفاتيح من جيبه ووضعها في قفل الباب فانفتح ، دخل ثم أغلقه خلفه بهدوء ونزع حذائه بجانب الباب ثم سار نحو الداخل .. كان الهدوء يهيمن على المنزل كله والأضواء خافتة ، فقط هناك صوت بسيط ينبعث من الصالون ، تمامًا كصوت التلفاز .. تحرك نحوه بخطوات طبيعية ، وإذا به يراها جالسة على الأريكة المقابلة للتلفاز وتستند بكلتا يديها على ذراع الأريكة واضعة رأسها فوق ظهر كفيها ونائمة ووساقيها المكشوفان للركبة تفرد جزء منهم بجانبها على طول الأريكة .
بقى متسمرًا مكانه للحظات يتطلع إليها بتمعن حتى أصدر تنهيدة حارة بارتياح واقترب منها بحذر ، ثم انحنى والتقط جهاز التحكم الخاص بالتلفاز واطفأه ، والتفت إليها ليعود وينحنى عليها قبل أن يمد إحدى ذراعيه أسفل منتصف ساقيها والآخر أسفل منتصف ظهرها ليحملها فوق ذراعيه ويسير بها إلى غرفتهم .
فتحت عيناها بخمول ورأت صورته مشوشة قليلًا بسبب نعاسها ، لكنها أدركت أنه هو ، ودون أن تشعر وجدت نفسها تلف ذراعيها حول رقبته وتنحنى برأسها تدفنها بين ثنايا رقبته هامسة بصوت ناعس وغير واعٍ دون أن تفتح عيناها :
_ بكرهك
انزل نظره إليها ، يرمقها مطولًا ثم يبتسم بساحرية وينحنى برأسه عليها هامسًا بمشاكسة :
_ قولتيها كتير أوي لدرجة إني بدأت أشك إن قصدك بيها العكس

سمعت همهمات خافتة بصوته الهاديء في أذنها لكنها لم تدرك أي شيء وكان النوم هو العامل الأكبر الذي يسيطر عليها الآن .
وصل بها إلى الغرفة واقترب من الفراش فانحنى ووضعها برفق شديد في المنتصف ، ثم جذب الغطاء ورفعه على جسدها يدثرها به جيدًا ، وكانت ردة الفعل التلقائية منها أنها ضمت الغطاء إليها أكثر في شعور طبيعي بالدفء .. جلس على حافة الفراش بجوارها ثم مد أنامله وأبعد خصلاتها عن وجهها الجميل ، يتأمل جمالها الساحري والمثير ، وبحركة لاشعورية منه نزلت أنامله بلمساتها إلى بشرة وجهها الناعمة يستشعر الاختلاف ، واستمرت لمساته في التنقل على بشرتها بعدم وعي .. لا يذكر متى كانت المرة الأخيرة التي اقترب منها فيها ولمسها دون أو يواجه نفورها الدائم لكل لمسه تخطها يده على جسدها ، لأول مرة منذ زواجهم روحه تطالب بها .. تتخبط في الأعماق مصرحة بشوقها إلى زهرة العُقاب التي تظهر له كل يوم مدى قسوتها ، يبدو أن انتقامها سيكون أشد مما توقعه .

تمعن ملامحها الهادئة يفحص إذا كانت آثار تحسسها من فاكهة الموز لا تزال على وجهها أم لا ، كان هناك تورم بسيط لا يلحظ بعيناها وكذلك شفتيها الوردية ، بالعادة هي تمتلك شفاه صغيرة وناعمة كالأطفال ، لكن تورمها بفعل الحساسية جعلها منتكزة تثير الفطرة الطبيعية ، اشاح بوجهه للجهة الأخرى يبعد نظره عنها بعدما احس بدنو استسلامه وضعفه أمامها .. وبتلك اللحظة تحديدًا صدع صوت رنين هاتفه فانتفض في جلسته ومد يده بجيبه مسرعًا ليخرجه ويكتم الصوت حتى لا يوقظها .
استقام وسار مبتعدًا قليلًا عن فراشها يجيب على الهاتف :
_ أيوة يافريدة
وصله صوتها وهي تأن من الألم وتقول بنبرة متوجعة :
_ تعالى ياعدنان بسرعة .. أنا تعبانة أوي آاااه
أجابها فور سماعه تأوهاتها المرتفعة :
_ حاضر .. مسافة الطريق وأكون عندك .. هجيب الدكتور معايا
فريدة برفض مسرعة :
_ لا لا متجبش الدكتور .. تعالى إنت بس
_ طيب
انهى معها الاتصال واندفع مغادرًا الغرفة وقبل أن يرحل ، توجه إلى غرفة صغيرته والقى نظرة عليها وهي نائمة في فراشها ثم دثرها بالغطاء جيدًا وانصرف .

***
ظلت ممسكة بالهاتف بعدما انهت الاتصال معه وهي تحدق أمامها بغل وتتمتم بشر يظهر في نظراتها :
_ يلا خلينا نشوف هيروح يقعد عندك إزاي يابنت الرازي .. مبقاش أنا فريدة إما خليته واحدة واحدة هو بنفسه اللي يطلقك

ذهبت وانضمت إلى فراشها وتدثرت بالغطاء تستعد لتمثيل دور المريضة عند وصوله حتى تكتمل كذبتها ! .. مرت دقائق طويلة قاربت على الساعة وهي بانتظاره وعيناها معلقة على ساعة الحائط ، وها هي تسمع صوت خطواته المميزة تقترب من الغرفة أخيرًا ، فهرولت وعدلت من وضعية نومها وامسكت بمعدتها ورسمت على محياها علامات الألم والتعب ، وبعد ثواني انفتح الباب وظهر هو من خلفه .. تعمدت عدم النظر إليه واغمضت عيناها وهي متكورة بفراشها ! .
اقترب منها مسرعًا وجلس بجوارها على الفراش ممسكًا بيدها وهاتفًا بقلق :
_ مالك يافريدة ؟
أجابته بخفوت :
_ كنت تعبانة وكان جسمي كله متكسر ومعدتي كانت بتآلمني أوي
مد يده إلى جبهتها يتحسس حرارة جسدها فوجدها طبيعية ، أردف بريبة :
_ حرارتك مش عالية !
فريدة بتوضيح مضيفة القليل من البهارات على كذبتها :
_ الحرارة ممكن تكون من الداخل .. بس أنا اخدت علاج قبل ما إنت تيجي وبقيت كويسة شوية الحمدلله
_ علاج إيه ده ! .. وإزاي تاخدي حاجة من نفسك يافريدة !
كانت جملته تحمل الانفعال والاستياء فردت هي عليه بهدوء :
_ متقلقش ياحبيبي أنا متعودة باخده دايمًا لما بتعب كدا

رمقها بنظرة مطولة ثم أخرج هاتفه من جيب بنطاله وهم بالاتصال بالطبيب ، فأمسكت بيده وقالت وهي تعتدل جالسة :
_ أنا بقيت كويسة شوية صدقني مش مستاهلة دكتور ، لو كنت تعبانة أوي زي قبل ما تيجي كنت هخليك تكلمه
تفحص معالم وجهها لثواني ثم انزل الهاتف مستسلمًا ، ومد يده إلى وجنتها يملس عليها بحنو هامسًا :
_ طيب اتعشيتي ولا لسا ؟

هزت رأسها بالإيجاب ثم لفت ذراعيها حول رقبته وقالت بدلال أنوثي :
_ أنا آسفة عارفة إني ضايقتك كتير الأيام اللي فاتت مني .. وكنت غلطانة ، بس وعد كل اللي حصل ده مش هيتكرر تاني ووعد إني هرجع فريدتك وحبيبتك تاني وهعوضك عن فترة الخلافات اللي كانت بينا دي

ابتسم بلؤم يليق به ثم استطرد بجملة غير متوقعة تمامًا :
_ فريدة هو إنتي تعبانة بجد ؟!
استغربته واستقرت بعيناها نظرة حائرة .. حتى فهمت ما يرمي إليه فقررت أخيرًا آثر الحقيقة ، وقالت بهمس به لمسة خبيثة :
_ الصراحة لا .. بس بما إننا يعتبر كنا متخانقين فمكنش في طريقة اخليك تيجيلي بيها غير دي للأسف ، وأعتقد إن إنت كنت عند جلنار مش كدا ؟
_ إنتي من إمتى بقيتي تغيري منها !
فريدة بنظرة شرسة :
_ من وقت ما بدأت أحس إنها بقت تشاركني فيك فعلًا

مالت شفتيه لليسار في ابتسامة مداعبة ثم انحنى عليها يهمس أمام وجهها ببحة رجولية مثيرة :
_ خلينا نفترض إن كلامك صح .. هل ده هيغير حاجة
تصنعت عدم الفهم وعزمت على أن تكون الليلة هي ليلتهم ، وتبادر هي ببدأها :
_ يعني !
تمتم بعين تلمع بوميض الرغبة :
_ يعني بحبك يافريدتي

ليلة أخرى .. ستكون فيها معه جسد فقط بلا روح ، تستغل الفرص المعطاة لها حتى تحافظ على زواج لا تريده سوى للمصلحة ، تظهر الحب والوفاء لزوج وتطعنه بشرفه في الظهر ، ورغم كل هذا تتقرب منه كأسلوب منحدر منها حتى تمنعه عن التفكير بغيرها ، وتظل هي المهيمنة والآمرة ولا ينهدم ما قامت ببنائه لسنوات ! .

***
في تمام الساعة الثالثة فجرًا ......
صدع صوت رنين هاتفها على المنضدة الصغيرة المجاورة لفراشهم .. فوثبت كمن لدغه عقرب والتقطت الهاتف مسرعة وكتمت صوت الرنين حتى لا يستيقظ ، القت عليه نظرة دقيقة وقد كان متسطح على ظهره واضعها كلتا كفيه أسفل رأسه ونائمًا عاريًا الصدر .. دققت النظر في وجهه أكثر لتتأكد من انغماسه في النوم ، ثم تسللت من الفراش بحذر شديد كلص والتقطت الروب الطويل ترتديه فوق قميص النوم القصير .. جذبت الهاتف معها وسارت على أطراف أصابعها إلى خارج الغرفة حتى تجيب على الهاتف .

بمجرد ما أن فتحت الباب وخرجت ، فتح هو عيناه دفعة واحدة كالذئب المترصد لفريسته ، بقى معلقًا نظره على السقف للحظات وانفتح فمه قليلًا بانحناءة مرعبة ولسانه بدأ يسير على ضروسه العلوية في عينان حمراء كالدم ، ونفس ثائرة على وشك أن تعلن قيام عاصفتها المدمرة .. يستمع إلى همهاتها القادمة من الخارج وهي تتحدث في الهاتف ويزداد ثورانه .
مد يده إلى الغطاء وأبعده بعنف عن جسده ، ثم استقام من الفراش وتحرك باتجاه الباب ، رآها تقف على مسافة قصيرة من الغرفة مولية ظهرها للباب .. تحرك نحوها في خطوات من شدة هدوئها وترصدها لم تشعر به ، ولحسن حظها أنها كانت تنهي اتصالها مع نادر بعدما كان يخبرها بأمر هام يخص الملفات الذي أخذها من مكتب عدنان .

أنهت معه الاتصال واستدارت بجسدها حتى تعود إلى الغرفة ، لكنها اصطدمت به كحائط منيع يقف بظهرها تمامًا .. أصدر شهقة كانت أشبه بصرخة وارتدت للخلف في زعر ، تتطلع إلى هيئته المرعبة ونظراته القاتلة التي يرمقها بها ، كأنه نام شخص وأستيقظ آخر ! .. أين اختفت نظرات الدفء والعشق التي أمطرها بها طوال ليلتهم منذ ساعات ، ازدردت ريقها بخوف واضطراب حقيقي هذا المرة .

عدنان بصوتًا كان كافي لبث الزعر في نفسها :
_ كنتي بتكلمي مين ؟
نزلت بعيناها إلى الهاتف الذي بيدها تلقي نظرة مرتبكة عليه ثم عادت بنظرها إليه وقالت متلعثمة في كذبة كانت سخيفة جدًا هذه المرة :
_ دي .... دي لميا بتكلمني تسألني عن حاجة
رفع حاجبه مستنكرًا كذبتها :
_ في الوقت ده !
فريدة بتوتر ملحوظ :
_ آه ما إنت عارف إنها قريبة جدا مني ومش بتعرف تعمل حاجة غير لما تاخد رأى الأول

تحرك حاجبيه باستهزاء في شكل مثير للأعصاب ثم مد يده حتى يجذب الهاتف من يدها لكنها ضغطت عليه بتلقائية كنوع من الرفض ، لكنه باغتها بصرخته العنيفة بها :
_ هاتي الزفت ده
أرخت عضلات يدها عليه فجذبه من يدها وفتحه لكن ظهرت شاشة ادخال الرقم السري أولًا ، فرفعه أمام وجهها وهتف بحدة :
_ افتحيه
مدت يدها وفتحته وهي تقول بغضب امتزج باضطرابها :
_ هو في إيه بظبط ياعدنان ما تفهمني !

_ هنفهم كلنا دلوقتي في إيه

فتح آخر المكالمات وقام بالاتصال على آخر رقم في قائمة الاتصالات ، بسط الهاتف في المنتصف بينهم وفتح مكبر الصوت ، ينتظر الرد .. أحست هي بأنها ستفقد وعيها وانفاسها انسحبت في رئتيها من الخوف ، يبدو إنها وصلت لنهاية الطريق ، ظل صوت الرنين يعلو صوته في أذنها كالبرق وهي تدعو ربها أن لا يقوم نادر بحركة متسرعة ويجيب .
انتهى الرنين دون رد فحدقها بنظرة مميتة وقال :
_ إنتي مش لسا كنتي بتكلميها برضوا .. مبتردش ليه
_ معرفش يمكن دخلت الحمام .. بعدين أنا عايزة افهم إنت إيه اللي بتعمله ده

كانت كلمات اندفاعية منها وهي تسحب الهاتف من يده ، لكنه باغتها بحركة مفاجأة منه وهو يجذبها من ذراعها ويضغط عليها بقسوة هامسًا بنبرة دبت الرعب في أوصالها :
_ اللي حصل بينا من كام ساعة ده .. كان برغبة مني عشان أتأكد من حاجة وأتأكدت ، حابب أقولك إن الحصانة بتاعتك خلصت يافريدة واستنفذتي كل الفرص اللي ادتهالك

كلمات كلها مبهمة لا يُفهم منها سوى شيء واحد ، أنها أصبحت على الهاوية ، وأن النهاية المحتومة تقف على أعتاب الباب .
هل كان كل الحب والحنان الذي امطرها به في ليلتهم ، متصنعًا حتى يحقق مبتغاه المجهول ! .. كيف ؟!!! ، لا تفهم شيء من الذي يحدث سوى أنه شك بل وأصبح شبه متأكدًا من خيانتها له ! .

***
تجلس بجوار ابنتها في فراشها الصغير وتملس على شعرها بحنو ، حتى تخلد للنوم .. بعدما كثرت اسألتها التي لم تجد لها إجابة حول غياب والدها منذ مساء الأمس .
بينما هي فهناك بعض التفاصيل تتذكرها ، جميعها كان موجود بها بالأمس .. لا تتمكن من التذكر جيدًا لكن هناك صور بعقلها له وهو يحملها ويتجه بها للغرفة ، تتذكر أنها رأت وجهه وابتسامته وهو يحملها ، وبعد ذلك لا يوجد اي شيء بذاكرتها .. ظنته حلم عندما استيقظت من النوم في صباح اليوم التالي ، لكن كيفية وصولها إلى الفراش وهي كانت نائمة على الأريكة أمام التلفاز بالخارج ، هذا ما جعلها تتأكد من أنه جاء في المساء .
ألقت نظرة دافئة على صغيرتها التي خلدت للنوم بعمق ، ثم انحنت عليها وطبعت قبلة رقيقة على جبهتها واستقامة واقفة لتغادر الغرفة بهدوء شديد .. وصلت إلى غرفتها ورفعت يدها تنزع المشبك الذي تثبت به شعرها .. همت بالدخول للفراش حتى تنام ، لكن صوت الباب وهو ينفتح سمرها مكانها .. ظلت ثابتة مكانها تستمع إلى خطواته ، معتقدة إن وجهته الأولى ستكون إليها كالعادة ، لكن ما أصابها بالتعجب أن صوت خطاه توقف ولم يدخل للغرفة .. رفعت حاجبها بحيرة ثم استدارت واتجهت بخطا قدماها الناعمة إلى الخارج .. رأته يجلس على الأريكة بالصالون ويرجع برأسه للخلف إلى الحافة العلوية من ظهر الأريكة مغمضًا عيناه ، لم تكن علامات التعب أو الإرهاق بادية على وجهه .. بل أخرى كلها غضب وحنق ويحدق في السقف بفراغ كالذي ارهقه التفكير فلم يعد يعرف بماذا يفكر أكثر ! .

صوت في ثناياها ألح عليها أن تُقبل عليه وتسأله مالذي به ، لكنها قتلت ذلك الصوت وفضلت التجاهل ، وكانت على وشك أن تستدير وتعود لغرفتها لكن همسته القوية باسمها أوقفتها بأرضها :
_ جلنار
ظلت مكانها لا تلتفت له ولا تجيب عليه ، فقط تنتظر منه أن يستكمل جملته .. فخرج صوته مستكملًا :
_ تعالى عايز اتكلم معاكي شوية
ردت ببرود وعدم اكتراث :
_ أنا تعبانة وعايزة انام .. تصبح على خير
أنهت جملتها وتحركت نحو غرفتها ، بينما هو فاستشاط غيظًا وبلحظة هب ثائرًا من مكانه واندفع خلفها كالوحش .. جذبها من ذراعها إليه قبل أن تخطو قدماها الغرفة ، أصدرت شهقة مفزوعة ووجدت نفسها تستدير إليه وتصطدم بصدره بفعل جذبته العنيفة ، وخرج صوته متحشرجًا في عينان ملتهبة :
_ خدي هنا أنا بكلم نفسي
لكمته في صدره بشراسة الأنثى الناعمة وصاحت به مغتاظة وهي تحاول الإفلات من بين براثينه :
_ عايز إيه .. ابعد عني !
عدنان بصيحة رجولية :
_ إنتي اللي عايزة إيه بظبط فهميني !
جلنار بتحدٍ وعصبية :
_ إنت عارف أنا عايزة إيه كويس
لحظة عابرة ممن الصمت مرت حتى استكمل صياحه المرتفع بها منفعلًا :
_ وأنا قولتلك مليون مرة انسى الطلاق ده نهائي
اردفت جازة على أسنانها بغيظ في خفوت :
_وطي صوتك البنت نايمة
انتقل بنظره إلى باب غرفة ابنته ثم جذبها من ذراعها خلفه ودفعها لداخل الغرفة ثم دخل هو واغلق الباب فصرخت به بسخط عارم :
_ إنت مش طبيعي والله
_بالعكس أنا لغاية دلوقتي طبيعي وهاديء أوي معاكي كمان ، بس شكلك مش هتخليني استمر في الهدوء ده كتير

اندفعت نحوه ثائرة حتى وقفت أمامه مباشرة شبه ملتصقة به وغمغمت في غل :
_ أعمل ما بدالك ياعدنان .. وبرضوا هطلق طالت أو قصرت هتطلقني غصب عنك
ضحك بازدراء منها فاستكملت هي :
_ بعدين مش احنا كنا متفقين إننا هنطلق
_ ده كان قبل ما تاخدي بنتي وتهربي بيها
_ وفرق إيه دلوقتي
انحنى عليها يهمس أمام وجهها تمامًا في نبرة مثلجة :
_ مفرقش حاجة بس أنا غيرت رأى ومش هطلق

تلألأت العبارات في عيناها بحرقة وألم من بطش وقسوة ذلك الظالم ، لوهلة احست بضعفها أمامه وأن لا يسعها شيء سوى استخدام قواها الضعيفة مقارنة بقوته الجسمانية الضخمة .. فغارت عليه تلكمه في صدره بشراسة صائحة به في صوت مبحوح وعينان تلمع بالعبارات :
_ إنت واحد حقير .. ومتستهلش إيه حاجة في يوم عملتها عشانك .. عايز كل حاجة تكون ليك وحدك ، متملك ومغرور ومش بتتقبل أخطائك .. إنت أناني ياعدنان ، بتحب فريدة وفي نفس الوقت عايز جلنار تكون معاك ، مفكرتش في مرة إيه احساس فريدة أو احساسي أنا .. عارف ليه عشان إنت مبتفكرش غير في نفسك ، مش معنى إنها وافقت على إنك تتجوز عليها وإنت فهمتها قد إيه بتحبها يبقى خلاص هي تقبلت الفكرة بصدر رحب ، لا يمكن يكون في ست تتقبل فكرة إن جوزها يتجوز عليها .. وأنا رغم إني مش بحبك بس فكرة إني على الرف بتقتلني صدقني احساس الست إنها في خانة الاحتياط بيوجع أووووي ، وأنا استحملت الاحساس ده كتير ومش هقدر استحمل اكتر من كدا

استهدفت بكلماتها الهدف ، لم تخطأ في حرف واحد .. لكن أخطأت في الوصف .. بقدر جفاء وحدة الكلمات بقدر ما وصلت لأعمق نقطة من قلبه ، خرجت هذه الخناجر من فمها بالوقت الخطأ .. في وقتًا كان يحاول هو لملمة شتات نفسه المبعثرة بعد الوساوس التي تنهش عقله نهشًا منذ مساء الأمس وهو يفكر بأفعال زوجته المريبة ، محاولًا إسكات الصوت الوحيد الذي يتردد في ذهنه منذ إيام ( خيانة .. خيانة .. خيانة !! ) ويرفض حتى مجرد التفكير في فكرة لعينة كهذه ، جاءت زهرته وواجهته بحقيقته التي يحاول التغافل عنها وزادت من سوء الوضع ، لكن حتمًا أن أنانيته تضمر خلفها أحد الأسباب الحقيقية الذي يرغب باحتفاظه بها لنفسه .

تنهد الصعداء بعبث وغمغم أخيرًا بنظرة تائهة يؤكد لها تصورها عنه :
_ عندك حق ، ولو تمسكي ببنتي ومراتي بالنسبة ليكي أنانية فأنا معنديش مشكلة في كدا

تطلعت إليه بدهشة من اعترافه الصريح بتمسكه بها ، وأحست أن لسانها قُيد فلم تتمكن من الرد عليه ، فقط تابعته وهو يبتعد عنها ويتجه إلى الحمام .

***
يمسك بيده كأس من الڤودكا ويرفعه لفمه فيبتلعه دفعة واحدة ويعود ويملأ الكأس من جديد ، على الجهة المقابلة له يجلس أحد أصدقائه أمامه يتابعه بعيناه في سكون .. حتى خرج صوته أخيرًا بحنق :
_ ما كفاية يانادر شرب بقى
قهقه الآخر بصوت مرتفع وتمتم :
_ أنا النهاردة في أسعد أيام حياتي .. الصفقة اللي ليه سنين ابن الشافعي شغال عليها كل يومين وتكون ليا أنا ، ووقتها هقف اتفرج عليه وهو مقهور على الملايين اللي خسرها
_ وإنت واثق في فريدة أوي للدرجة اللي تخليك مطمن إنها متقولش لعدنان حاجة عنك
ضحك نادرًا ساخرًا وأجابت بثقة تامة :
_ مين فريدة !! .. إنت عبيط يالا تقوله إيه ، هتقوله إن أنا اللي سرقت الملفات ولا إن هي اللي ساعدتني وادتني مفتاح المكتب .. ولا بقى هتقوله إنها بتخونه معايا ! ، متقلقش من فريدة
هتف صديقه بابتسامة ساخرة :
_ والله شكلها هي اللي هتجيب اجلك
تجاهل نادر جملته وهتف بجدية :
_ قولي عملت إيه مع الرجالة واللي اتفقنا عليه
رد في هدوء مبتسمًا بشر :
_ يومين بالظبط وتسمع الأخبار
لاحت ابتسامة جانبية شيطانية على ثغره وهو يلتقط كأس آخر من الڤودكا ويرد بمكر :
_ وأنا مستني

***
في بصباح اليوم التالي .......
ترجلا من سيارة أجرة أمام مقر المعرض .. ونزلت سهيلة أولًا ثم تبعتها مهرة ، التي بعد محاولات مرهقة وكثيرة من كل من صديقتها وجدتها وافقت على أن ترتدي بنطال ضيق من اللون الأسود يعلوه كنزة بيضاء قصيرة وفوقها بالطو من اللون الجملي طويل ، ورفعت شعرها لأعلى ذيل حصان ، وارتدت حذاءها الرياضي المعتاد .
نظرت لصديقتها أولًا قبل أن تتطلع للمعرض وقالت بخنق :
_ يارب تكوني مبسوطة وأنا مش طايقة اللبس الملزق اللي عليا ده

كانت سهيلة ترتدي رداء طويل من اللون الوردي وتترك الحرية لشعرها ، وعيناها معلقة على بوابة المعرض من الخارج تتأمل منظره الفخم ، وقالت تجيب على مهرة بقرف :
_ ده جزاتنا أننا عايزين نخليكي بنت .. إنتي مش شايفة العربيات والأشكال النضيفة اللي داخلة وخارجة دي ، لازم ناجي متشيكين يابت

مهرة بتأفف :
_ معلش احنا اللي أشكال زبالة .. اخلصي بقى خلينا نخلص من أم الطلعة المنيلة دي

تحركا باتجاه الباب لكن الحارس اوقفهم يمنع دخولهم قبل رؤية التذاكر الخاصة ، فأخرجت سهيلة من حقيبتها الكلاسيكية التذاكر ومدتها إلى الحارس الذي التقطها وحدق بالتذاكر ثم بهم لثواني يتحفص هيئتهم التي تختلف عن جميع زوار المعرض اللذين من الطبقة المخملية ، لكنه أفسح لهم الطريق للعبور وبمجرد عبورهم قبضت مهرة على ذراع سهيلة وقالت بغيظ من نظرات الرجل لهم :
_ إنتي جبتي التذاكر دي منين يابت .. مشوفتيش الحارس بيبصلنا إزاي
سهيلة بعدم مبالاة :
_ ما يبص براحته .. خليكي فريش يامهرة احنا جايين نتفرج .. بعدين عيب تسأليني سؤال زي دي ، صحبتك مش سهلة برضوا

لم تتجادل معها كثيرًا فهي ليست في مزاج للنقاش سترافقها فقط وتستمتع كما قالت ثم تعود لمنزلها ..
بمجرد دخولهم إلى ساحة المعرض ، دارت سهيلة بنظرها في جميع الزوايا الممتلئة باللوحات الفخمة والحوائط المطلية بطلاء بني فاتح لامع .. والأضواء تحيط بكل جزء في المكان وبجانب كل لوحة مصباح داخل الحائط يعكس الضوء على اللوحة فيظهر جمالها وتفاصيلها أكثر .

بينما مهرة فكانت نظراتها معلقة على الزوار ، أناس من عالم آخر تمامًا كالذي يشاهدونهم بالأفلام والمسلسلات ، الرجال يرتدون حلل سوداء ويتجولون في أرجاء المكان يتفحصون اللوحات ، نساء مرتدية ملابس تكشف أكثر ما تستر ، وأحذية الكعب التي في قدم كل امرأة تصدر أصوات مزعجة .
خرج صوتها ساخرًا متمتمة :
_ هو ده افتتاح معرض ولا مصيف !

على الجانب الآخر كان آدم يتجول بين كل الزبائن ويتحدث مع هذا دقيقة ومع ذاك أثنين في وجه بشوش ، بينما عدنان فكان يقف مع أحد رجال الأعمال المهمين أمام إحدى اللوحات التي نالت إعجابه وعزم على شرائها ويتحدث معه بقليل من الرسمية حول أمور متنوعة تخص العمل والمعرض واللوحات .

ظهرت من مقدمة المعرض جلنار وهي ترتدي رداء طويل من اللون الفيروزي ولديه أكمام سميكة تنزل عند منتصف أكتافها .. مما جعل الجزء العلوي من جسدها شبه مكشوفًا بداية من أكتافها حتى مقدمة صدرها التي لا تظهر داخلها ، لفتت أنظار الجميع إليها بهيئتها المثيرة وهم يتطلعون إليها بإعجاب ملحوظ .

أما صغيرتها فكانت ترتدي فستان يشبه امها قليلًا لكن اللمسة الطفولية اضفت عليه شكلًا مختلفًا أكثر رقة ، ظلت واقفة بجوار أمها تبحث بنظرها عن عمها وأبيها فلمحها آدم أولًا ، اتسعت ابتسامته لنهاية شفتيها واتجه إليها مسرعًا ، لتقبل هي عليه ركضًا .. انحنى عليها وحملها على ذراعيه يمطرها بوابل من قبلاته الحانية .
آدم محدثًا أياها في مشاكسة :
_ اتأخرتي يا هنون عليا وكدا المفاجأة قيمتها هتقل
زمت الصغيرة شفتيها بعبوس وقالت وهي تشير إلى أمها بحنق :
_ دي ماما مش أنا اللي اتأخرت
قهقهت جلنار عالية بينما هو فنظر لزوجة أخيه وقال بعذوبة :
_ عاملة إيه ياجلنار ؟
جلنار بمداعبة ونظرة سعيدة :
_ عايز الحقيقة ، فرحنالك بشكل لا يوصف .. مبروووك وعقبال نجاح كتير أوي جاي أن شاء الله يافنان
ضحك آدم والتفت برأسه حوله في شيء من الخوف المزيف وهتف مشاكسًا :
_ مجهزلك مفاجأة بمناسبة الافتتاح .. بس من غير ما يحس عدنان تاخديها وعلى البيت عدل ، عشان ده مجنون وممكن يتخانق معايا أنا
غمزت له ضاحكة وتمتمت بمرح وحماس :
_ متقلقش اطلع إنت بس بالمفاجأة وملكش دعوة بالباقي

كانت نظرات أسمهان وفريدة معلقة على جلنار ونظراتهم الحارقة لو كان بإمكانها إخراج النار لحرقت جلنار بأرضها .. تتابع أسمهان ضحكاتها وتبادلها أطراف الحديث مع ابنها بعفوية وتلقائية وهي تشتعل غيظًا ، بينما الآخرى فكانت تحدجها بأعين كلها وعيد ونقم .

أبعد عدنان نظره بتلقائية عن الرجل الذي يبادله أطراف الحديث ليقع نظره عليها ، التقطت عيناه فستانها الضيق والمكشوف من الأعلى ، شعرها المنسدل بانسايبة جزء منه على ظهرها والجزء الآخر على كتفها ، عيون الجميع متعلقة عليها يأكلونها بنظراتهم أكلًا .
أظلمت عيناه بشكل مخيف ونيران الغيرة تأججت في صدره ، كان سيندفع إليها كالثور الهائج لكنه تمالك أعصابه لعدم ملائمة المكان والوقت لما يود فعله بها الآن .. نظر إلى الرجل وقال بصوت محتدم :
_ استأذنك لحظة ياسامي بيه
هز رأسه الآخر بالموافقة وقال باحترام متبادل :
_ اتفضل أكيد

سار نحوها وعيناه لا ترى شيء سوى هدفه ، لدرجة أن من سيتطلع إليه ويرى وجهه سيصاب بالصدمة من مظهره المريب ، في تلك اللحظة انتهي آدم من حديثه معها وابتعد بهنا عنها قليلًا .

التفتت هي برأسها في عفوية على الجانب فوجدته مندفع نحوها ووجهه يشع بشرارة الغضب ، وقفت بثبات تام حتى وصل إليها وانحنى عليها يهمس في أذنها بصوت متحشرج محاولًا تمالك أنفعالاته :
_ إيه اللي لبساه ده !

قد عزمت على ارتداء هذه الفستان عمدًا حتى تشعله بالنيران كنوع من الكيد ، ردت عليه ببرود :
_ فستان !
عض على شفاه السفلى ونقل نظره في حركة سريعة بين الزوار ثم هتف بغيظ مكتوم :
_ مش عايز استعباط .. إنتي لبستي ده بالعند فيا يعني رغم إني الصبح منبه عليكي إنك متطلعيش بلبس مكشوف

جلنار بابتسامة سمجة ومستفزة :
_ وأنا اعند معاك ليه ياروحي .. كل ما في الحكاية إني بحب الفستان ده وشكله حلو عليا عشان كدا لبسته ، ودي مش أي مناسبة فكان لازم البس اجمل حاجة
كور قبضة يده يجاهد في التحكم بنفسه ثم رد عليها بوعيد حقيقي كله سخط :
_ ماشي ياجلنار حسابك معايا في البيت أنا هربيكي كويس

نظرت إلى الرجل الذي كان يقف معه ولاحظت أنه بين آن والآخر ينظر بتجاههم فقالت ببرود متعمد وهي مبتسمة بشماتة :
_ روح ياحبيبي عيب تسيب الراجل مستنيك كدا

نظرة مطولة بينهم كانت نارية منه وثلجية منها ، تنضج بالوعيد منه وغير مبالية منها .. حتى قطعت النظرة هي عندما تركته وابتعدت متجهة إلى اللوحات حتى تشاهدهم .

***
ظلت مهرة واقفة أمام إحدى اللوحات لدقائق طويلة ، تحاول فهم المعنى الفني من وراء لوحة عبارة عن تداخل الون وتزاحمها بشكل غير مفهوم فتظهر في النهاية في شكل لوحة فنية ! .. أين الفن في مزج الون مختلفة بشكل عشوائي ، لو كان هذا يسمى الفن فما اسهله .
تتطلع إلى اللوحة تارة من جهة اليسار وتارة من اليمين هاتفة لنفسها بتفكير :
_ أيوة فين المغزي برضوا .. ماهو أنا عايزة الاقي سبب مقنع يخليني ادفع فلوس في لوحة الشوارع دي
_ لوحة إيه !!!
انتفضت بأرضها على أثر الصوت الذي أتاها من ظهرها والتفتت فورًا بكامل جسدها فقابلت نفس الشاب الوسيم أو التركي كما وصفته ! .. والغريب أن للمرة الثالثة تقابله بمحض الصدفة ! .
تصنعت الثبات وقالت بشموخ :
_ افندم
آدم بنظرة قوية :
_ إنتي كنتي بتقولي إيه دلوقتي على اللوحة !
التفتت برأسها إلى اللوحة ورجعت برأسها إليه لتقول بثقة معبرة عن رأيها :
_ بقول إنها لوحة شوراع
أشار إلى لوحته بدهشة وهتف يعيد جملتها بنبرة مستاءة من إهانتها له بمعرضه وأمامه :
_ دي لوحة شوراع !
مهرة بقرف وعدم إعجاب :
_ أيوة فين الفن فيها .. دي شبه شارع السوق عندنا لما بيكون يوم الخميس وتفضل ماشي وسط خلق الله مش شايف حد ولا عارف إنت فين
مسح آدم على وجهه بغيظ وهتف :
_ إنتي بتقولي إيه !! .. وبعدين إزاي دخلتي أصلًا
ردت عليه مهرة في نبرة فظة وبغطرسة :
_ وإنت مالك دخلت إزاي هو كان معرض اهلك .. بعدين مالك محموق أوي كدا على اللوحة شكلك دفعت فيها الفلوس ومرضيوش يرجعهالك ، أنا قولت برضوا والله لوحة زي دي خسارة فيها ربع جنية
انحنى عليها أدم وهمس بنظرة مشتعلة ونبرة محذرة :
_ بت انتي احترمي نفسك أنا مش عايز أقل ادبي عليكي .. يعني جاية معرضي وبتغلطي في لوحتي وكمان بتقلي ادبك عليا

رمشت بعيناها عدة مرات تستوعب ما سمعته ، معرضه ولوحته ! .. ظلت تتلتفت برأسها بين اللوحة وبينه حتى قالت أخيرًا بذهول :
_ دي لوحتك إنت !!!
_ آه تخيلي
عادت تلقي نظرة متفحصة على اللوحة ثم عادت له وهمست بخفوت وجدية كان ملحوظ في نبرتها :
_ هو إنت عندك حالة نفسية .. يعني اهلك كانوا لا مؤاخذة بيضربوك إنت وصغير فطلعت معقد ، أصل أنا أعرف عيل عندنا في المنطقة كان عنده توحد وحالته شبهك كدا ، فكان أهله بيدوله كراسة الرسم ويفضل يشخبط بالالوان بس .. لدرجة أنهم شكوا أنه ملبوس و....
أوقفها عن الكلام وصاح بها منفعلًا :
_ بس إيه العبط اللي بتقوليه ده !
_ ده مش عبط دي دراسات نفسية .. نصيحة مني الحق نفسك قبل ما الحالة تتدهور
جز آدم على أسنانه وقال :
_ إنتي قولتيلي اسمك إيه ؟!
_ مهرة
_ طيب يامهرة برا
تنهدت الصعداء وقالت باستسلام في وجه متأثر :
_ طيب خلاص تصدق صعبت عليا .. هشتريها منك بس مش هدفع فيها اكتر من خمسة جنية وكترت عليها الصراحة
ابتسم آدم بسماجة وقال في نبرة فظة :
_ شرفتيني يامهرة واتمنى تكون آخر مرة نتقابل فيها
ألقت عليها نظرة ساخرة وهي تلوى فمها ثم قالت وهي تبتعد عنه :
_ كل الغرور دي على حتة اللوحة دي .. امال لو رسمتلك كام لوحة تاني كنت هتعمل إيه هتمشي تدوس على الناس برجلك

تابعها بعيناه وهي تبتعد متجهة إلى خارج المعرض بأكمله ، ونظراته كلها استغراب من هذه الفتاة التي تظهر له بكل مكان .. التفت برأسه وتطلع إلى لوحته وبتلقائيًا ضحك عندما تذكر محادثتهم وكلماتها ، ولا يمكنه إنكار أنها فتاة مسلية ! .

***
لمحت جلنار فريدة التي تقف وتتلفت حولها كأنها تتأكد من عدم متابعة أحد لها ، ثم أجابت على الهاتف بمكان بعيد عن أنظار الجميع وبعد لحظات قصيرة أنهت مكالمتها واتجهت إلى خارج المعرض بأكمله .. ضيقت جلنار عيناها بحيرة واحست أنها تخطط لشيء شيطاني كعادتها ، ووجدتها فرصة مناسبة حتى تعرف مخططها وتستغله في تحقيق انتقامها .
وقفت وأشارت إلى ابنتها أن تأتي إليها ثم اندفعت إلى الخارج فورًا دون أن يلاحظها أحد باستثناء آدم الذي لمحها وهي تنصرف على عجلة ومعها الصغيرة .

رواية كيان الفهد كاملة جميع الفصول ( الفصل 13 ) 


_ ماما هو احنا ليه مشينا ؟!
كان سؤال متذمر من " هنا " التي تجلس بجوار أمها في السيارة منذ وقت طويل وهي تقود بهم .
ردت عليها جلنار دون أن تحيد بنظرها عن السيارة التي تلحق بها أمامها :
_ هنرجع تاني ياحبيبتي متقلقيش
كانت فريدة قد استقلت بسيارتها الخاصة بها وانطلقت بسرعة ، فاستقلت جلنار أيضًا بسيارتها هي وابنتها ولحقت بها دون أن تلاحظ مراقبتها لها خلال الطريق .
بعد وقت طويل من القيادة .. توقفت سيارة فريدة أخيرًا أمام إحدى البنايات الجميلة بأحد المناطق الراقية وترجلت من سيارتها ، قادت خطواتها إلى بوابة البناية وكان الحارس يجلس على مقعده الخاص أمام البناية وبمجرد رؤيته لها توقف والقى عليها التحية في وجه سمح ، مما أكد لجلنار أنها ليست المرة الأولى التي تزور بها هذه البناية ويبدو أن تتردد كثيرًا لهنا .

انتظرت حتى دخلت واستقلت بالمصعد الكهربائي واختفت عن انظارها ، فالتقطت شالًا من نفس لون فستانها ووضعته على أكتافها ثم انحنت على ابنتها وغمغمت بحنو :
_ خليكي هنا يا ماما أنا هروح عند عمو اللي واقف هناك ده وهرجعلك علطول .. متتحركيش من العربية
هزت هنا رأسها بالموافقة وتمتمت :
_ حاضر

فتحت جلنار باب السيارة ونزلت ثم عبرت الطريق متجهة إلى البناية ، وعند وصولها وقفت أمام الحارس الذي طالعها بنظرة متفحصة بسبب فستانها وهيئتها التي توحي بأنها قادمة من إحدى الحفلات الصباحية .

_ اؤمري ياست هانم .. اقدر اساعدك في إيه !
هتفت جلنار بنظرة دقيقة :
_ هي اللي طلعت دلوقتي دي طالعة لمين ؟
_ قصدك فريدة هانم
_ أيوة
نزل بنظره إليها وبنظرته الخبيرة فهم أنها من الطبقة المخملية ، فقال بنظرة لئيمة رافضًا :
_ آسف ياست هانم بس مقدرش افيدك بحاجة
اطالت جلنار التحديق به حتى توقعت ما يرمي إليه بنظراته اللئيمة ، فمدت يدها في حقيبة يدها وأخرجت نقود .. ثم وضعتها في يده بنظرة مشتعلة .. تفحص النقود وتحقق من عددها بعين لامعة ثم رفع نظره لها وقال مبتسمًا :
_ طلعت لواحد اسمه نادر المصري
ظهر الذهول على محياها فور سماعها لاسم نادر ، وبقت للحظات تحدق بالرجل في عدم فهم ثم سألت بترقب لإجابته :
_ طيب متعرفش طلعت عنده ليه ؟
رمقها بنظرة جانبية تشبه السابقة وقال :
_ معرفش
تأففت جلنار بغيظ ووضعت يدها في حقيبتها مرة أخرى وأخرجت مبلغ أكثر من السابق وقالت بحدة وهي تضعه بيده :
_امسك .. اتكلم يلا !
ابتسم الرجل بسعادة من النقود وقال بنظرة ماكرة :
_ هو أنا مش متأكد بس تقريبا في حاجة مش ولابد بينهم ، عشان دايمًا كل ما تطلع عنده ، الأستاذ نادر بيرن عليا ويقولي لو جه أي حد وسأل عليه اقوله إنه مش موجود في شقته وإني مطلعش اخبط عليه لأي سبب كان

اتسعت عيني جلنار بصدمة مما سمعته للتو ، هل يعقل إن يكون ما يدور بذهنها الآن حقيقي ، وأنها تخون عدنان ! .
طرحت السؤال الثالث في ملامح وجه واضح عليها عدم الاستيعاب :
_ طيب هي بتيجي كل قد إيه أو كام مرة جات قبل كدا

_ مفيش وقت محدد يعني ممكن في أي وقت تيجي .. أما بتيجي من إمتي فده من ساعة ما انتقل الاستاذ نادر لهنا يعني من حوالي سنة واكتر وهي بتيجي عنده ، الله اعلم بقى لما كان في شقته القديمة كانت بتروحله ولا لا
ردت جلنار بصدمة أكثر :
_ من سنة !!!
هتف الرجل في فضول ونظرة ضيقة :
_ هو حضرتك تعرفي نادر بيه وفريدة هانم ولا إيه ياست الكل ؟
شردت جلنار لثواني وهي تحاول استيعاب ما عرفته ، لكنها استفاقت من شرودها على أثر صوته وردت عليه بنظرة تائهة :
_ هااا .. لا كانوا معرفة قديمة
همت بالاستدارة والمغادرة لكنها توقفت وأخرجت من حقيبتها نقودًا أخرى واعطتها له هاتفة بنظرة قوية :
_ متجبش سيرة إن في حد جه وسأل عليهم .. اعتبرني مجيتش أساسًا
ثم استدارت مجددًا وعادت إلى سيارتها ، ثم استقلت بمقعدها ونزعت الشال عنها فهتفت " هنا " بتساءل بعدما وجدت أمها بدأت بالقيادة مرة أخرى :
_ هنرجع لبابي وعمو آدم ياماما
جلنار بتنهيدة حارة :
_ هنرجع ياحبيبتي .. هنرجع لبابي

***
ارتفع صوت رنين هاتفه في جيب بنطاله .. فأخرجه وابتعد عن الحشد قليلًا ليجيب بصوت أجشَّ :
_ أيوة ياصابر
رد عليه الآخر ببعض الاضطراب البسيط :
_ فريدة هانم طلعت من المعرض من حوالي نص ساعة وأنا كنت وراها زي ما حضرتك أمرت .. بس جلنار هانم كمان طلعت وراها فورًا وكانت بتراقبها تقريبًا
التفت عدنان برأسه في أرجاء المكان ينقل عيناه بين الجميع فلاحظ عدم وجود جلنار وابنته بالفعل ، أجاب على الهاتف بصوت غليظ :
_ طيب ووصلوا لفين ؟
هنا ظهر الخوف في نبرة صابر الذي هتف معتذرًا :
_ للأسف ياباشا .. الطريق كانت زحمة أوي وفجأة ملقيتش لا عربية فريدة هانم ولا جلنار هانم ، ومعرفتش ارقبهم لآخر الطريق
أغلق عدنان عيناه في محاولة منه لتمالك أعصابه حتى لا يفقدها على ذلك الأحمق ، وقال بصوت محتقن وبه لمسة مخيفة :
_ إنت غبي ، أمال أنا حاطك تراقبها ليه .. عشاني تيجي وتقولي الكلمتين دول !!
التزم الآخر الصمت خشية من الرد فيجد ما لن يعجبه منه ، هتف عدنان بآخر الأمر في غيظ وغضب عارم :
_ اقفل دلوقتي وحسابك معايا بعدين

انزل الهاتف من على أذنه وقام بإجراء اتصال آخر لكن هذه المرة كان بفريدة ، واستمر الهاتف في الرنين دون إجابة ! .

***
داخل منزل نادر .....

فتحت حقيبتها وبحثت بها لثواني بسيطة حتى مدت يدها وأخرجت فلاش صغيرة واعطتها لنادر هاتفة بإيجاز :
_ دي الفلاشة اللي عليها بيانات الشركات المنافسة في الصفقة وعليها بيانات كتير تاني هتفيدك

التقطها نادر من يدها وقلب الفلاش بين قبضته في نظرات لئيمة ثم رفع نظره عليها وحدجها بأعين جريئة وانحنى عليها يخطف قبلة سريعة منها هامسًا :
_ ربنا يخليكي ليا ياحبيبتي .. قريب أوي هنخلص من عدنان ده على الآخر ووقتها مش هتكون في حاجة تمنعنا إننا نكون مع بعض

ابتسمت له بحب ثم قالت بعجلة :
_ انا همشي لأن مش هينفع اخليه يحس بغيابي .. خصوصًا إني بدأت أحس أنه شك فيا أو هو بالفعل شك ، وصحيح الفترة الجاية مش هينفع نتقابل أبدًا وياريت كمان مترنش عليا خالص يانادر فاهم ، لغاية ما اشوف هتصرف إزاي مع عدنان واشيل الشك ده من ناحيته تجاههي
ظهرت الدهشة على محياه التي سرعان ما تحولت إلى الزعر وهو يجيب عليها باضطراب حاول إخفائه أمامها :
_ شك إزاي !! .. عرف حاجة عني طيب ؟!
حدقته بأعين مستنكرة .. تستعجب خوفه على نفسه وعدم اهتمامه بوضعها حتى ، لتقول بنظرة قوية ونبرة جادة :
_ عرف إيه يا نادر ! .. بقولك شك فيا وإنت تقولي عرف عني حاجة !!
نادر محاولًا تصحيح ما قاله :
_ مقصدش ياروحي ، على العموم متقلقيش اللي خلاه ميشكش فيكي طول السنين دي هيشك دلوقتي

_ عشان أنا مكنتش بديله الفرصة ولا المساحة إنه يشك فيا أساسًا ، لكن دلوقتي أنا شكلي بوظت كل حاجة وكنت بتصرف بتهور ومخدتش بالي من تحركاتي وتصرفاتي فشك فيا ، وأنا عارفة عدنان شكاك وطالما شك فيا يبقى مش هيهدى ولا يرتاح غير لما يعرف كل حاجة ويريح شكه
تنهد الصعداء وأجابها بحنو وهو يمد ذراعيه ويضمها لصدره :
_ متخافيش أنا معاكي وحتى لو عرف حاجة مش هسمحله يأذيكي

أغمضت عيناها بارتياح من دفء أحضانه وبعد لحظات معدودة ابتعدت عنه وقالت مسرعة وهي تتجه لباب المنزل :
_ كفاية بقى .. أنا همشي .. سلام ، وزي ما اتفقنا ياحبيبي هااا
_ تمام اطمني
تابعها بنظراته وهي تتجه لباب المنزل وتفتحه ثم انصرفت واغلقته خلفها ، فنزل بنظراته إلى الفلاش التي بيده ولاحت ابتسامة شيطانية على شفتيه التي سرعان ما أصبحت أكثر سخرية عندما تذكر حديثه معها وهتف بازدراء منها :
_ مش هسمحله يأذيكي !! .. ده إنتي أول حد هخلص منه بعديه ، بس كنت لازم الأول ابدأ برأس الأفعى الأول طبعا .. واصفي حساباتي القديمة مع عدنان الشافعي

***
توقفت بسيارتها أمام المعرض من جديد ، فتحت الباب ونزلت بعد أن فتحت الباب الآخر لابنتها لتنزل هي أولًا ،
ركضت هنا إلى الداخل ولحقت بها جلنار التي رأت عدنان كان يقف على البوابة الرئيسية ويمسك بهاتفه في يده وعيناه تطلق شرارات نارية بفعل الغضب .
انحنى على ابنته عندما وصلت إليه وحملها على ذراعيها لاثمًا وجنتها وهامسًا بترقب :
_ كنتوا فين يابابا
رفعت هنا كتفيها لأعلى بجهل وقالت زامة شفتيها :
_ معرفش .. ماما اخدتني ....
بترت جلنار جملة ابنتها حين وصلت لهم وقالت تستكملها على طريقتها :
_ اتخنقت شوية من جو المعرض ، واخدتها وطلعت بالعربية لفينا شوية ورجعنا
استقرت في عيني عدنان نظرة نارية لكن جعلها كلها حب حين نظر لابنته وهتف بحنو وهو ينزلها من فوق ذراعيه :
_ روحي ياحبيبتي لنينا أسمهان كانت بتدور عليكي جوا

اماءت لأبيها بالموافقة وهرولت راكضة للداخل حيث تجلس جدتها ، بينما هو فاندفع نحو جلنار وهمس أمام وجهها تمامًا في لهيب حار يخرج من بين شفتيه يوضح مدى اشتعاله الداخلي :
_ روحتي تعملي إيه ورا فريدة !

فريدة ! .. هل يعرف مكان تواجدها أو ماذا ؟! .. وجدت نفسها تطرح عليه سؤال في حيرة دون أن تدرسه مقدمًا قبل أن تسأل :
_ إنت عارف هي راحت فين !
ظهرت لمعة مختلفة في عيناه وقال بصوت متحشرج وأعين مظلمة لا تبشر بالخير مطلقًا :
_ راحت فين ؟

لا يعرف إذا ! .. بالتأكيد لا يعرف فلو كان يعرف لكانوا الآن يتلقون أخبار موتها ، تنهدت الصعداء لعدم معرفته بالأمر وقالت مخترعة كذبة سخيفة :
_ معرفش أنا شوفتها طالعة من المعرض واستغربت وبعدها طلعت لما حسيت نفسي اتخنقت ، بس معرفش راحت فين
لم تنطلي عليه كلمة واحدة من التي تفوهت به ، استمر فقط في الاستماع إليها وهو يطالعها بنظراته الجامدة التي تثير الرهبة في النفوس من فرط هدوءها ، ثم وجدته يتقدم أكثر نحوها وينحنى على أذنها ويهمس بصوت يقارب لصوت فحيح الأفعى :
_ إنتي آخر واحدة تعرف تكذب .. وبالذات عليا أنا لأن عنيكي بتفضحك ، خليكي بعيدة عن فريدة وملكيش دعوة بيها نهائي ياجلنار مفهوووم

فسرت تحذيره بشكل معاكس ، مما جعلها تشتعل بالغيظ والاستياء ناعتة إياه بالأحمق ، أيخاف عليها ولا يطيق تحمل أي مكروه يصيبها وهي تطعنه بظهره وفي شرفه دون علمه .. لكنها لم تفهم أنه يخاف عليها هي ، بعدما تسرب الشك لنفسه من زوجته لم يعد مطمئنًا لها أو واثقًا بها حتى ! .

***

_ مالك يابت قالبة وشك من وقت ما طلعنا من المعرض كدا ليه ! .. حصل إيه فهميني
صرخت بها مهرة بانفعال :
_ اكتمي خالص يا سهيلة بدل ما أمسك في زمارة رقبتك إنتي ، أنا اللي استاهل اني وافقت آجي معاكي
_ وهو أنا قولت حاجة يابنت المجانين .. أنا بسألك حصل إيه
تأففت مهرة بخنق وقالت بامتعاض :
_ قابلته تاني
_ مين ؟!
صاحت بها مندفعة :
_ ما تركزي معايا إنتي كمان .. هيكون مين يعني !
ادركت سهيلة الأمر بسرعة وقالت ضاحكة :
_ أه الواد التركي اللي قرفاني بيه ده .. شوفتيه فين ؟
_ في المعرض
عقدت سهيلة حاجبيها باستغراب وقالت بشيء من الاستهزاء :
_ ليه هو تركي بجد ولا إيه ! .. هيعمل إيه في مكان كله ناس متريشة كدا
ضحكت مهرة على صديقتها وصمتت للحظات ثم قالت بابتسامة عريضة كلها حماس لرؤية تعابير وجهها بعد ما ستسمعه منها :
_ لا ماهو صاحب المعرض والفنان اللي راسم اللوح
لم تدرك ما قالته جيدًا فردت عليها ضاحكة ببلاهة :
_ ما تقولي يابنتي هو مين ؟
_ ما انا قولت صاحب المعرض ، هي البعيدة مبتفهمش
لوحت بيدها وهي تلوى فمها بسخرية متمتمة :
_ ياشيخة قال وأنا اللي .....
توقفت عن الكلام فجأة ، وقد استوعبت وادركت أخيرًا ما كانت تقوله " مهرة " للتو ، وإذا بها رمقتها بعين واسعة من الصدمة تكاد تكون مخيفة بعض الشيء وصاحت :
_ آدم الشافعي !!!!
_ معرفش اسمه بس تقريبًا هو طالما هو ده اسم صاحب المعرض

بظرف لحظة كانت سهيلة تمسك بهاتفها وبعد ثواني قليلة أظهرت صورة له على الهاتف ورفعتها أمام عيناها هاتفة بعدم تصديق :
_ هو ده !
هزت مهرة رأسها بإيجاب ، فألقت سهيلة الهاتف بعدم اكتراث وغارت عليها تمسكها من رقبتها تخنقها بغيظ وهي تصيح بها :
_ ومتقوليش إزاي .. بقى هو ده اللي هزقتيه ياحمارة ، هقتلك يامهرة واطفي ناري
احمر وجه الأخرى وهي تتلوى بين ذراعيها محاولة دفعها حتى نجحت بالاخير وصرخت بها وهي تلتقط أنفاسها :
_ ابعدي هتموتيني بامبعقة .. بعدين نار إيه اللي تطفيها إنتي هطلة يابت
سهيلة بعد استيعاب وكأنها دخلت في حالة هيستريا :
_ أنا هولع فيكي مش بهزر .. ده بدل ما تستغلي الفرصة هو في حد يوقع في راجل زي ده ويطفشه من إيده يابنت الهبلة ، ولا حرام اغلط في خالتي والله ملهاش ذنب
صاحت به مهرة بعصبية من توبيخها لها :
_ الله وأنا مالي هو اللي مش طايقني أصلًا من أول مرة شافني فيها .. أنا يمكن النهارده صح زودتها لما اتريقت على لوحته وهو اتعصب فطردني
سهيلة بزمجرة وصدمة :
_ عملتي إيه !
همهمت مهرة بخوف بسيط وصوت خافت خشية من ردة فعلها :
_ اتريقت على لوحته
_ آاااه .. يارب إنت شاهد عشان لما اقتلها محدش يقولي عملتي كدا ليه !
هتفت مهرة بيأس وعبوس حقيقي :
_ ما خلاص بقى ياسهيلة .. أنا صحيح كان عاجبني وأعجبت بيه وصدقت الموضوع في البداية وكنت مخداه بهزار بس بعد ما شوفت شكل المعرض النهاردة والناس اللي كانت فيه وإن المعرض بتاعه وواضح أنه من الناس العالية اللي في البلد ورجال الأعمال .. شيلت الموضوع من دماغي ماهو مش معقول واحد زي ده حواليه كله البنات دي هيبص لحد مننا ياسهيلة

سكنت سهيلة تمامًا وهدأت قسمات وجهها المستاءة لتنعكس عليها البؤس والحزن على صديقتها ، وسرعان ما رسمت ابتسامة مرحة على شفتيها ونكزت مهرة في كتفها ضاحكة بمزاح :
_ إيه هي الصنارة غمزت ولا إيه !
مهرة بضحكة خافتة لم تصل لعيناها ، ثم استقامت واقفة وقالت بهدوء :
_ أنا هروح اعملنا حاجة نشربها بدل ما احنا قاعدين كدا ، شغلي حاجة على التلفزيون نتفرجها لغاية ما آجي

***
داخل المعرض .....
كانت أسمهان تجاور شقيقتها منذ قدومها ويتبادلون الأحاديث المختلفة فيما بينهم حتى انحنت عليها أسمهان وهمست بنظرات زائغة :
_امال فين زينة ياميرفت ؟!
تنهدت ميرفت بعدم حيلة وقالت :
_ في البيت حاولت اخليها تيجي معايا بس مفيش فايدة .. مزاجها مش لطيف اليومين دول ومش حابة تخرج تروح أي مكان
أسمهان بضيق ملحوظ :
_ إزاي بس وهي مناسبة زي دي ينفع متحضرش فيها ، دي حتى كانت مع آدم في كل التجهيزات
ميرفت زامة شفتيها بيأس :
_ قولتلها كدا والله بس دماغها ناشفة إنتي عارفاها
همت أسمهان واقفة وهي تقول بابتسامة حماسية ورفض لفكرة عدم وجودها :
_ أنا هقول لآدم واخليه يروح يجبها
قبضت ميرفت على يدها وقالت برزانة عقل وخفوت :
_ لا بلاش يا أسمهان خليها على راحتها أنا حاولت معاها بس هي كانت رافضة وآدم مش هيزعل أكيد وهيتفهم الوضع
اختفت الحماسة من على وجه أسمهان التي نطقت اسم ابنها في استنكار بعد جملة شقيقتها الأخيرة :
_ آدم .. اممم أكيد طبعًا مش هيزعل

على الجانب الآخر اندفع آدم تجاه جلنار الواقفة في زاوية بمفردها تتابع الجميع بنظرات تائهة وبالأخص على زوجها ، وكأنه عيناها كانت تظهر كل ما تخفيه عن الجميع .. ودون أن يلحظه أحد انحنى على أذنها هامسًا في نبرة جدية :
_ تعالي ياجلنار عايز اقولك حاجة
تطلعت إليه بتعجب من لهجته ونظرته لكنها ألقت نظرة سريعة بتلقائية حولها ثم لحقت به ، وقفا خارج المعرض تمامًا بعيدًا عن الجميع ، وانتظرته أن يبدأ بالحديث والذي بالفعل بدأه في وجه حازم :
_ بصي هسألك سؤال وأنا عارف وواثق انك مش هتخبي عني .. انتي طلعتي ورا فريدة ليه ؟!
أصدرت تنهيدة حارة وقالت ببساطة :
_ كنت مخنوقة وطلعت اشم هوا شوية
آدم بنظرة ثاقبة :
_ جلنار إنتي مبتعرفيش تكذبي
ضحكت وقالت بغيظ :
_ عرفنا إني مبعرفش اكذب مش لازم الكل يقولي الكلمة دي
_ حلو يعني إنتي اعترفتي أهو إنك بتكذبي !
جلنار بأصرار :
_ تمام فلنفترض إني بكذب .. بس صدقني مش هقدر اقولك يا آدم

ابتسم وقال بنظرة كلها غل ونبرة مزمجرة :
_ فريدة بقت مكشوفة أوي ياجلنار .. حتى عدنان شك فيها ويعتبر كشفها ، وأنا شاكك من بدري فاللي هتقوليه دلوقتي ماهو إلا تأكيد على شكوكي مش اكتر

لم تجب فقط تطلعت إليه بدهشة من كلماته وبالإخص عندما صرح بحقيقة أن الجميع شبه متشكك بفريدة حتى عدنان ، إذًا كان يراقبها اليوم لذلك عرف أنها خرجت ورائها ! .
حصل آدم على إجابته من صمتها فقال باسمًا بغضب ملحوظ على فريدة :
_ أنا كدا شبه اتأكدت من شكوكي ، هنتكلم تاني وتحكيلي كل حاجة عشان بس لا المكان ولا الوقت مناسب .. تعالي يلا نرجع جوا

سارت معه للداخل وهي شاردة الذهن وقد بدأ الوضع يزداد تعقيدًا في عقلها ، هي نفسها تجد بعض الخيوط ناقصة .. مثلًا منذ متى وهي في هذه العلاقة المحرمة ؟ .. كيف تمكنت من خداع الجميع هكذا وفي مقدمتهم عدنان ؟! .. لماذا فعلت هذا ؟! .
كانت في طريقها لمراقبتها حتى تكتشف إحدى مكائدها وتفضحها فتنتقم منها ومن عدنان ، لكن بعد ما عرفته أصبحت مشفقة عليه ! .. وعلى مشاعره الصادقة
الذي اهدرها عبثًا بمن لا يستحق .

***
عادت أخيرًا إلى المعرض وكانت نظرات جميع العائلة معلقة عليها بعضهم حيرة والبعض الآخر غضب وسخرية ، وجدت يد تقبض على ذراعها وتجذبها للخارج في عنف ، لم تكن بحاجة للنظر حتى تتأكد أن الفاعل هو عدنان .
أوقفها بالخارج وصاح بها منفعلًا :
_ كنتي فين ؟
فريدة بنبرة مرتبكة :
_ كــنـت... طلعت اجيب حاجة كنت محتجاها ورجعت تاني ياعدنان
_ انتي هتستعبطي حاجة إيه دي اللي بتشتريها دلوقتي
هذه المرة لم تصدمها طريقته التي أصبحت أكثر قسوة بقدر ما اخافتها حيث ردت عليه بعينان دامعة :
_ في إيه ياعدنان .. إنت اتغيرت معايا جدًا !
ابتسم بنظرة مميتة لا تحمل أي من نظرات الدفء والحب التي اعتادت على رؤيتها في عيناه .. وانحنى عليها هامسًا بنبرة مرعبة :
_ أنا وإنتي عارفين كويس أوي مين اللي اتغير .. وصدقيني لو طلع اللي في دماغي صح مش هرحمك ، والمرة دي الحب اللي بينا مش هيشفعلك بأي حاجة ، بل صدقيني هدوس عليه وعلى قلبي برجلي

لم ترد والتزمت الصمت ، تتطلع إليه منذهلة من تحوله الجذري ، كيف تمكن من أن يكون قاسيًا تجاه حبه لها بكل هذه السرعة والسهولة ! .. بينما هي تقف ترمقه صامتة خرجت صيحة عنيفة منه وهو يقول :
_ صابر مستنيكي برا .. هياخدك ويوديكي البيت ورجلك لو عتبت برا عتبة البيت بس هتتكسر يافريدة

أحست هذه المرة بأن دموع صادقة تجمعت في عيناها لكنها شدت على محابسهم واستدارت بصمت متجهة للخارج تمامًا حيث ينتظرها " صابر " كما اخبرها .

***
في مساء اليوم .....
يجلس في الشرفة الخارجية بالصالون على مقعد هزاز ، ضوء القمر ينعكس على ظلام الشرفة فيضيئها والرياح الباردة تلفح صفحة وجهه وشعره الغزير ، والأشجار تتمايل يمينًا ويسارًا بفعل حدة الرياح .. كانت أجواء باردة وقاسية قليلًا تمامًا كقلبه ، لم يعد يعرف على ماذا يجب أن يثبت كامل تركيزه .. على صديقه الذي يخونه بعمله ، أم على زوجته وحبيبته التي لم يعد يشعر أنها باءت هكذا .

كلما يستعيد ذكرياتهم في الفترة السابقة ويعيد التركيز على تصرفاتها كيف كانت ، يزداد اليقين في نفسه الثائرة .. تغيرها الدائم ونفورها من لمساته أو ربما تهربها تمامًا منه ، خروجها لأسباب واهية لم يكن ينتبه لها في بادئ الأمر ويترك لها كامل حريتها لثقته العمياء بها ، محادثتها التليفونية الليلية وتوددها في الهاتف ! .. فلو علمت الآن بكم الأعصار المدمرة التي تعصف في ثناياه لخشيت على نفسها ، لكم يود أن يذهب لها الآن ويفرغ بها كامل شحنة غضبه العاتية .

يبلغ قصاري جهده في تمالك ثوراته العمياء حتى لا يؤذيها ، على أمل أن يكون مخطأ ويصبح هو الظالم .. بل يتمنى أن تكون هي على حق وهو مخطأ بحقها .

كانت جلنار تقف بالمطبخ تقوم بتحضير فنجان من القهوة له ، بعد تردد لدقائق طويلة وهي كامنة بغرفتها ، تسأل نفسها بحيرة .. أفعلها أم لا ؟! .. لن أفعلها ! .. وبالأخير هتفت حسنًا سأفعلها ! .

منذ عودتهم من الأفتتاح وهو يجلس بسكون هكذا في الشرفة حتى أن هاتفه يتركه على الوضع الصامت غير عابئًا باتصالاته الكثيرة والتي في مقدمتهم اتصالات والدته .. كلما تتذكر ما عرفته بالصباح تستاء من تلك الحقيرة وتضحك في سخرية بنفس اللحظة .
لا يمكنها أن تكون سيئة لهذه الدرجة حتى تشمت بوضع كهذا ، بل بالعكس هي أكثر من ناقمة على تلك المرأة المليئة بالقذارة ، لكن بطبيعة الأنسان الفطرية هناك جزء من داخلها يشعر بالنشوة لحكمة القدر ، وكأن القدر يأخذ حقها دون أن تبذل أقل مجهود حتى .. يبدو أنها لن تحتاج لتشعره بما شعرت به طوال السنوات السابقة ، فخيانة زوجته ستكون كافية وزائدة عن اللازم .

تنهدت الصعداء بقوة ثم سارت بفنجان القهوة للخارج متجهة نحوه .. كانت ترتدي منامة منزلية قصيرة قليلًا بحاملات عريضة بعض الشيء وتنزل بفتحة مثلثية متوسطة عند منطقة الصدر .
وقفت بجواره ومدت يدها بالقهوة له فرفع نظره إليها وبتلقائية نزل لملابسها يتفحصها في نظرة دقيقة ، فليست من عادتها أن ترتدي مثل هذه المنامات بالمنزل ، لكنه لم يعقب وتصنع التجاهل ثم مد يده والتقط الفنجان من يدها هامسًا بنبرة عادية :
_ شكرًا ياجلنار
لم ترد وجذبت أحد المقاعد المجاورة لتجلس على مقربة منه وتقول بخفوت :
_ أنا هاخد هنا ونروح نقعد يومين عند خالتو انتصار
رفع الفنجان لفمه وارتشف منه بتريث ثم رد عليها بلهجة صارمة لا تقبل النقاش :
_ لا
اغتاظت من أسلوبه فقالت بحدة وغضب :
_ أنا مش بشاورك على فكرة .. أنا بعرفك
رمقها بنظرة مميتة اربكتها قليلًا ثم رد بهدوء مريب ينهي هذا الحوار قبل أن يأخذ منحنى لن يحبذه :
_ ادخلي الجو برد .. أو روحي نامي هيكون أفضل
التهبت عيناها وبقت تحدقه بعين نارية كلها غل وغيظ ، وبداخلها تلعن نفسها التي ذهبت واشفقت عليه وقامت بعمل القهوة ، بل حتى هو يستحق ما فعلته فريدة به .. خرجت همسة مسموعة ومحتدمة منها وهي تقول :
_ تستاهل أكتر من كدا كمان
سمع همستها فالتفت برأسه نحوها وقال بعدم فهم رافعًا حاجبه :
_ استاهل إيه ؟!
ثارت واقفة وهتفت :
_ كل حاجة ياعدنان كل حاجة
ابعدت المقعد من طريقها وهمت بالانصراف لكن كل الظروف تقف ضدها حتى قدمها ! ، التي التوت ففقدت السيطرة على توازنها وارتدت للخلف ، نسى تمامًا هو فنجان القهوة الموضوع بجواره على حافة المقعد ، وفرد ذراعه يلفه حول خصرها يجذبها إليه قبل أن تسقط ، وفي تلك الأثناء التي كان يحاول أن يحميها من السقوط ، وقعت القهوة الساخنة فانسكبت كلها على ملابسه وجسده .. وغزة بسيطة صابته من شدة حرارتها وبمجرد ما عادت هي لتوازنها وأدركت ما اقترفته فشهقت بهلع وانحنت عليه تسأل سؤال سخيف لا يجب سؤاله بموقف كهذا :
_ القهوة ادلقت عليك .. اتحرقت مش كدا ؟
رد عليها شبه منفعلًا وهو يستقيم واقفًا :
_ أكيد اتحرقت القهوة لسا سخنة ، ابعدي
عبر ودخل إلى الداخل ورفع يديه لأعلى عند ياقة تيشرته ينزعه عنه من الاعلى ويلقيه بعشوائية .. بينما هي فهرولت للغرفة حتى تجلب له مضاد للحروق ، بحثت بالإدراج في تلهف حتى عثرت عليه فخرجت وعادت له فورًا شبه راكضة فوجدته جلس على الأريكة وينظر لمكان الحرق .. أسرعت وجلست بجواره تبعد يده عن منطقة الحرق التي كانت أعلى البطن بالقرب من صدره ، وهتفت بقلق :
_ ابعد إيدك هحطلك من المرهم ده عشان الالتهاب ميزدش
رفع يديه دون أن يتفوه ببنت شفة وتابعها وهي تفتح العلبة الصغيرة وتضع مرهم بحجم عقلة اصبعها ثم وضعته على جسده وهي تمرر اصبعها بحركة دائرية على المنطقة الحمراء بفعل الالتهاب ، رفعت نظرها له وسألت بعين تعتذر لما سببته :
_ بتألمك جامد ؟
_ أيوة ياجلنار إنتي بتسألي أسئلة ذكية أوي ، قهوة سخنة وادلقت عليا فكرك هتكون بتألمني ولا لا !!
زمت شفتيها بضيق من انفعاله عليها وصاحت :
_ وانتي بتكلمني كدا ليه أنا مالي .. هو أنا اللي قولتلك امسكني
رفع حاجبه مستنكرًا ردها بدلًا من أن تشكره تنكر جميله .. رد عليها بابتسامة ساخرة :
_ صح عندك حق .. انا غلطان كان المفروض اسيبك تقعي وتتكسر رقبتك
جلنار بمضض وخنق من أسلوبه :
_ خلاص أنا آسفة معلش اللي حصل بسببي

لم يعقب فقط رمقها بصمت وتابعها وهي تكمل ما بدأت به للتو ، لحظة واثنين حتى غاص متأملًا إياها .. لون شعرها المتغير الذي يميل للكستنائي ، لاحظه منذ أن رآها في أمريكا ولكنه لم يعقب وبكل مرة يقرر بأن يسألها متى غيرت اللون لا تسمح الفرصة بسبب شجارتهم الدائمة منذ عودتهم ، هذا اللون يليق بها بشكل مثير ، يجلعها تمامًا كشمس الصباح المشرقة ، حين تكون دافئة ومتوهجة بنفس اللحظة .
خرجت همسة خافتة منه وهو يبتسم بنظرة إعجاب :
_ غيرتي لون شعرك لما كنتي في أمريكا
ردت عليه باقتضاب :
_ امممم وياريت بلاش تعليق سخيف أو .....
توقفت عن استرسال الحديث حين وجدته يمد أنامله ويبعد خصلاتها المتمردة من أمام عيناها ويتمتم بنظرة لئيمة مبتسمًا :
_ Very exciting ( مثير للغاية )
ارتفع حاجبها بدهشة من رده غير المتوقع ، أليس تغزله بها شيء يدعى للذهول !! .. ابتسمت وقالت بازدراء :
_ لولا إن القهوة ادلقت على بطنك كنت قولت حاجة تاني .. إنت متأكد إنك تقصدني أنا ! أصل ....
قاطعها للمرة الثانية وهو ينحنى عليها ويمد يده خلفه ليجذب التشيرت ، لوهلة ظنته سيقبلها لكنها حمدت ربها أنه لم يفعل ، توقف أمام وجهها قبل أن يبتعد وقال بلهجة حازمة ومغتاظة منها :
_ تصبحي على خير يارمانتي
وقبل أن يستقيم واقفًا خطف قبلة من جانب ثغرها ثم توقف وسار متجهًا نحو الغرفة ، ظلت مكانها تحاول استيعاب ما قاله وما فعله حتى هتفت بعفوية ساخرة :
_ هو في إيه .. ماله ده !!!

***
توقف بسيارته أمام إحدى المقاهي ونزل منها ثم قاد خطواته إلى الداخل ودار بنظره بين الجميع بحثًا عنها حتى وجدها تجلس بالقسم الثاني من المقهي المقابل للنيل على أريكة متوسطة الحجم مقابلة للماء .. تعرف عليها من شعرها وظهرها فتنهد بارتياح ، وفي تلك اللحظة دوى صوت رنين هاتفه فأخرجه وأجاب على الهاتف وعيناه معلقة عليها :
_ أيوة ياخالتو
ميرفت بصوت مرتعد :
_ طمني يا آدم لقيتها
غمغم بصوت رجولي خافت :
_ لقيتها متقلقيش اهي قدامي
ميرفت برجاء :
_ طيب متتأخرش يا آدم لأحسن أنا مش قادرة أقف على رجلي من الخضة ، هاتها وتعالو علطول
_ حاضر مش هنتأخر متخافيش
انهى الاتصال معها ووضع الهاتف في جيب بنطاله مرة أخرى ، ثم تحرك باتجاهها في خطوات متريثة وعند وصوله إليها توقف للحظات خلفها ينظر إليها من الخلف ، كانت شاردة الذهن تتطلع للماء بعينان تائهة وبائسة .. مسح على وجهه بعبوس ، بات ناقم على نفسه المتسببة فيما وصلت إليه .
تحرك وجلس بجوارها ليخرج صوته الرزين وهو يحدق في الماء مثلها :
_ العزلة مش هتفيدك بالعكس بتأذي أكتر

صابتها نفضة بسيطة بخضة عندما سمعت صوته ورأته بجانبها .. متى جاء وكيف عرف مكان تواجدها ؟! ، سؤالان طرحتهم في وقت واحد بعقلها ! .. ابعد هو نظره عن الماء والتفت إليها برأسه مسترسلًا حديثه بنظرة ذات معنى ونبرة مهتمة :
_ هتفضلي تفكري في الحاجة اللي مضايقاكي اكتر واللي هيحصل إن الحزن هيفضل ملازمك .. ارمي الشيء اللي مضايقك يازينة ورا ضهرك ، صدقيني طالما مسبب ليكي الألم ده يبقى ميستاهلكيش ، ومفيش حاجة تستاهل إن ابتسامتك الجميلة تختفي من على وشك

لمعت عيناها وتلألأت الدموع فيهم وهي تحدق به بقلب منكسر ، يتحدث كأنه يعرف بكل شيء .. لكنه أصاب الهدف تمامًا بكلماته ، شعرت بدموعها على وشك الانهمار فالتفتت برأسها تجاه البحر مسرعة تهرب بنظراتها منه هامسة ببعض الاضطراب :
_ هو إيه ده اللي ميستاهلنيش !
_ اللي مضايقك
رمقته بنظرة طويلة .. نظرة عاجزة ومنطفئة ، وعينان دامعة تتحدث عن الآم قلبها المعذب بنار الهوى .. هذه المرة لم يبعد نظره عنه كالعادة بل ظل مثبتًا عيناه عليها يحاول إخبارها من خلالهم ( أجل أنا هو الذي اقصده .. لا استحقك ، بل تستحقين الأفضل مني ) .
اشاحت بوجهها مرة أخرى وهتفت بصوت حاولت إظهاره طبيعيًا :
_ عرفت إزاي إني هنا ؟!
آدم ببساطة :
_ تخمين
عندما لم تجب عليه استكمل هاتفًا بجدية :
_ مامتك كانت هتتجن من القلق والخوف عليكي ، كان على الاقل ردي عليها وطمنيها يازينة
_ أنا فاكرة إنها لسا في المعرض أو راحت عندكم عشان كدا عملت الفون صامت
استقام على قدميه وقال بخشونة :
_ طيب يلا قومي عشان نروح البيت وتطمن عليكي
زينة بصوت رقيق ورفض خافت دون أن تنظر له :
_ امشي أنت يا آدم وأنا هروح وحدي متقلقش عليا
لم تسمع منه أي رد فقط ظل واقفًا بصمت واضعًا قبضتيه في جيبي بنطاله ، وحين رفعت نظرها إليه ورأت نظرته الصارمة .. تنهدت بيأس وفهمت أن لا مجال للجدال معه ، فجذبت حقيبتها واستقامت واقفة ثم سارا معًا للخارج .. وعند وصولهم أمام السيارة توقفت والتفتت له بنصف جسدها هاتفة باعتذار لطيف :
_ عارفة إني مفيش عذر كافي لغيابي عن الافتتاح النهارده بس .....
قاطعها مبتسمًا في تفهم وبدفء وهو يفتح لها مقعد السيارة الأمامي المجاور لمقعده :
_ ولا يهمك أنا متفهم الوضع .. يكفي وقفتك معايا طول التجهيزات

طالعته وشفتيها مالت لليسار قليلًا في ابتسامة عابسة قبل أن تستقل بالسيارة ثم اغلق هو الباب والتفت من الجهة الأخرى وفتح باب مقعد القيادة واستقل بجوارها منطلقًا بالسيارة في طريق منزل خالته .

***
في صباح اليوم التالي ......
عدة طرقات منخفضة على الباب بفعل يدها الصغيرة ، لكن لا يوجد إجابة من والديها ! .. ظلت واقفة أمام الباب وهي تزم شفتيها بعبوس وتفكر بتردد اتفتح الباب وتدخل أم تستمر في الطرق إلى أن يستيقظوا ، لكن بفطرة الأطفال في عدم الصبر قررت أن تدخل .. وقفت على أطراف أصابع قدمها ومدت يدها لمقبض الباب وفتحته ببطء وحذر .. أدخلت رأسها فقط من خلف الباب تلقى نظرة عليهم فوجدتهم نائمين بعمق في الفراش .. والدها ينام على ظهره واضعًا كفه أسفل رأسه بوضيعة نومه المعتادة ، وأمها تنام على آخر الفراش مولية ظهرها لأبيها .. ابتسمت بخبث طفولي واندفعت نحو الفراش وصعدت عليه واستقرت في المنتصف بينهم ثم اقتربت من والدها وقالت بصوت منخفض :
_ بابي
لم يستيقظ فمدت كفيها الصغيرتين ووضعتهم فوق صدره تهزه برقة متمتمة :
_ بابي .. بابي اصحى
فتح عيناه تدريجيًا وبمجرد اتضاح صورتها كاملة أمامه ابتسم بحب واعتدل في نومته ثم انحنى عليها لاثمًا وجنتها متمتمًا بصوت مازال يحمل أثر النوم :
_ صباح الورد يا هنايا
ضحكت لأبيها بحب مماثل وقالت :
_ اتأخرت على الشغل
اتسعت ابتسامته وفغر عيناه بدهشة مصطنعة واردف :
_ بجد هي الساعة كام !
التقط هاتفه وتفقد الساعة فوجدها السابعة صباحًا عاد يجيب عليها غامزًا :
_ لسا بدري يالئيمة إنتي عايزة تمشيني ولا إيه ؟!
هزت رأسها بالنفي واقتربت منه تهمس في أذنه مبتسمة في دلال طفولي لا يقاوم :
_ خدني معاك يابابي
_ اخدك معايا الشغل !!
اماءت له بالموافقة وهي تطالعه بعينان لامعة كلها تشويق وحماس ، فرد عليها بحنو ابوي :
_ مش هينفع ياملاكي .. أنا هكون مش فاضي ومش هعرف اخد بالي منك
هتفت هنا مسرعة بتوسل وعينان تحاول اتسعطافه من خلالهم :
_ هسمع الكلام وهفضل قاعدة ساكتة جمبك
اطال النظر إليها فزمت هي شفتيها بحزن ويأس إلى أن وجدته يضحك ويقول مستسلمًا بغمزة مشاكسة :
_ بتعرفي تثبتيني إنتي ياقردة .. خلاص من غير زعل هاخدك
وثبت فوق الفراش بسعادة غامرة صائحة وهي ترتمي على أبيها عاقدة ذراعيها الصغيرة حول رقبته :
_ هييييه يعيش بابي

تعالت صوت ضحكته الرجولية وهو يلف ذراعه حولها ضامًا إياها إليه .
فتحت جلنار عيناها على أصواتهم وقبل أن تلتفت بجسدها ناحيتهم نزلت بنظرها تلقائيًا إلى الفراش النائمة فوقه ، كيف جاءت هنا هي تتذكر جيدًا أنها ليلة أمس نامت بجوار ابنتها في غرفتها حتى لا تكون معه بغرفة واحدة .. ثم رفعت جزء من الغطاء ونظرت للداخل فإذا بها تجد أن حتى ملابسها ليست التي كانت ترتديها بالأمس ! ، اشتلعت عيناها بعد جالت بعقلها عدة أفكار جعلتها تتحول لجمرة من النيران الملتهبة .. وثبت جالسة فجأة والتفتت نحوهم ، صائحة بغيظ :
_ عدنان
ابتعدت هنا عن أبيها وحدقت بأمها في استغراب بينما هو فلم يستغرق الموقف أكثر من ثانية ليدرك سبب اشتعالها ، أجابها ببرود مجاهدًا في إخفاء ابتسامته :
_ صباح الخير يارمانتي !

رواية كيان الفهد كاملة جميع الفصول ( الفصل 14 ) 


اتساع عيناها كان ردًا كافيًا على جملته المغلفة بالهدوء المستفز .. " صباح الخير يارمانتي !! " يالك من مستفز .. كيف يمكنك التحدث بهذا البرود ، وكأنك لم تفعل شيء ! .
نظرت لابنتها التي تحدق بها بتعجب من غضبها ، فارتخت عضلات وجهها المتشنجة تدريجيًا ورسمت على وجهها ابتسامة مزيفة تجيب عليه بمضض :
_ صباح النور ياحبيبي
ثم فردت ذراعيها لابنتها تحثها على الانضمام بحضنها ففعلت الصغيرة فورًا .. هتفت جلنار بدفء :
_ صاحية بدري كدا ليه ياحبيبة ماما ؟
ردت هنا بحماس وفرحة :
_ بابي هياخدني معاه
رفعت نظرها لعدنان وطالعته بنظرة مشتعلة ثم عادت بنظرها مرة أخرى لصغيرتها وقالت بوجه لطييف تمامًا على عكس نظراتها له للتو :
_ ياخدك فين ؟
_ الشغل !
رفعت جلنار حاجبها باستغراب ثم ردت ببعض الجدية :
_ بس ياحبيبتي ده شغل وبابا مش هيكون فاضي يعني هتزهقي وحدك
هزت رأسها بالنفي وقالت بإصرار :
_ لا أنا هقعد مع بابي ومش هبعد عنه
ضحك عدنان وانحنى عليها من الخلف يقبلها من وجنتيها هامسًا بعاطفة جيَّاشة :
_ وهو بابي يقدر يبعد عن ملاكه لحظة أساسًا
وقعت عيناه بتلقائية على جلنار فوجدها ترمقه بنفس النظرات النارية ، لو كانت النظرات تحرق لحرقته مكانه ، أخفى ابتسامته المتسلية وهتف محدثًا ابنته لكن نظراته معلقة على الأخرى :
_ يلا ياهنايا عشان نقوم ونساعد ماما في تحضير الفطار وبعدين نلبس ونمشي
هنا بسعادة وحماس :
_ يلا ياماما
جلنار وهي لا تزال معلقة نظراتها على عدنان :
_ حاضر ياحبيبتي
استقامت من الفراش وتوجهت إلى الحمام وهي تتوعد له .. بينما هو فظل جالسًا مكانه والصغيرة توقفت وانصرفت متجهة إلى غرفتها تفتح خزانة ملابسها الصغيرة تفتش بين ملابسها بحماس طفولي عن ما سترتديه .
دقائق قليلة حتى خرجت جلنار من الحمام ، وقفت وتطلعت له بغيظ واندفعت نحو باب الغرفة حين لم تجد ابنتها ، أغلقت الباب وعادت له ثائرة تطرح السؤال الأهم من الطريقة المعروفة التي جاءت بها إلى الفراش بجواره :
_ أنا مكنتش لابسة كدا إمبارح قبل ما أنام .. إنت عملت إيه ؟!
توقف من الفراش ببرود أعصاب تام وأجابها :
_ معملتش حاجة
جلنار :
_ لا والله امال مين اللي غيرلي هدومي !!
عدنان بنظرة وقحة وابتسامة لعوب :
_ أنا
افغرت فمها وعيناها وسرعان ما تحولت نظراتها إلى أخرى ملتهبة كسابقها وهمت بالرد عليه ، لكنه لف ذراعه حول خصرها وجذبها إليه ثم بدأ بالتحدث في براءة متصنعة وبأنامل يده الأخرى يعبث في خصلات شعرها برقة ونظرات لئيمة :
_ لقيتك نايمة جمب هنا في الأوضة فشلتك وجبتك على سريرك جــمــبي في مكانك .. قولتي عايزة مايه جبتلك تشربي ومن غير ما تاخدي بالك بسبب إن النوم كان غالب عليكي المايه اتكبت على هدومك للأسف ، فجبتلك حاجة تلبسيها من الدولاب وكنت هطلع واسيبك تغيري وتلبسي .. بس إنتي اللي ندهتي عليا وقولتيلي تعالى ياعدنان ساعدني .. وأنا عشان قلبي طيب مقدرتش اشوفك محتجاني وملبيش طلبك وضعفت وساعدتك

رغم أن كل ما رواه لم يكن يستدعي الضحك أبدًا لكنها انفجرت ضاحكة .. ضحكة تحمل السخرية والاستنكار ، ظلت تضحك لنصف دقيقة تقريبًا حتى توقفت قليلًا وقالت من بين ضحكها بلهجة تحمل الاستهزاء :
_ كنت نايمة والمايه وقعت على هدومي وإنت ياعيني كنت هتسبني اغير وتطلع برا عشان إنت محترم أوي طبعًا .. روحت أنا ندهت عليك وقولتلك ياعدنان تعالى ساعدني ، ده أنا اللي قولت كدا صح ! ، وطبعًا زوجي البريء والمضحى والجميل ساعدني مضطر عشان ميرفضش طلبي !
رد عليها بنفس البرود وهو مبتسم :
_ بظبط كدا اضطريت .. إنتي عارفة أنا دايمًا بحب اساعد المحتاج

اختفت ابتسامته في لحظة وتحولت للوجه الآخر الذى كان كله غضب وغيظ ، ولكمته في صدره بعنف صائحة به بوجه أحمر من فرط الغضب :
_ وقح وقليل الأدب .. إزاي تقربلي هااا ، أنا قولتلك مليون مرة متلمسنيش
فشل في كتم ضحكته التي انطلقت بسيطة من بين شفتيه ، ثم انحنى بوجهه عليها وهمس في مكر أشد قاصدًا إثارة أعصابها أكثر :
_ متخافيش كنت مغمض عيني
_ عــــدنــــان
صيحة شبه عالية انطلقت منها وهي تشتعل من فرط الغيظ ، ثم دفعت يده عنها ورفعت سبابتها في وجهه تحذره بسخط حقيقي :
_ إياك تقربلي تاني فاهم ولا لا .. واحد متحرش
ثم استدارت واندفعت مسرعة إلى خارج الغرفة وهي عبارة عن جمرة نيران متوهجة بينما هو فعاد كلمتها الأخيرة ضاحكًا باستنكار :
_ متحرش !!!

***
يعرف ويتجاهل .. يفهم جيدًا مدى الألم الذي اعاني منه ، لكنه يبعدني عنه .. لا يحبني ولن يفعل ! .. لم تكن كلماته بالأمس في سياق الحديث ، بل كان يقصد كل حرف وكلمة تفوه بها .. كان لدي بعض الشكوك حول معرفته بمشاعري تجاهه ولكنني الآن تيقنت من شكوكي .. لم يكتب لتلك المشاعر الحياة ، كنت فقط اتبع وهم منذ البداية .. متأملة انني بيوم قد افوز بقلبه ويصبح لي ، لكنني كنت اتوهم وخلقت عالمًا مزيفًا تعايشت فيه بمفردي ، ومن الواضح أن الآن يجب على مغادرته .. هذا العالم لا يناسبني وليس لي ! .

كانت تقف أمام المرآة تستعد للخروج .. قد ارتدت بنطال أبيض اللون يعلوه كنزة من اللون الأسود وفوقها جاكت من اللون البني ، وتركت خصلات شعرها تتطاير بحرية على أكتافها وظهرها .

خرجت من غرفتها واتجهت إلى أمها الجالسة على الأريكة أمام التلفاز تشاهد إحدى البرامج الصباحية ، انحنت عليها وطبعت قبلة حانية على وجنتها متمتمة :
_ صباح الخير يافوفا
التفتت ميرفت لها برأسها وردت بإشراقة وجه من رؤيتها لابنتها وهي كلها نشاط وحيوية هكذا :
_ صباح النور ياحبيبتي .. على فين كدا ؟
_ معايا محاضرة في الكلية هروح احضر بما إني ليا فترة مش بروح الجامعة
ميرفت بحنان أمومي :
_ طيب ياحبيبتي روحي وخلي بالك من نفسك
اماءت لها بالموافقة واستدارت بجسدها تهم بالانصراف لكنها توقفت مجددًا وأخذت نفسًا عميقًا قبل أن تستدير مجددًا نحو أمها وتقول بوجه جامد :
_ صحيح كلمي طنط نرمين وقوليلها إني موافقة
وقعت الكلمات على ميرفت وقع الرعد .. حيث قالت بصدمة حقيقية امتزجت ببعض الفرحة :
_ موافقة على رائد ؟!
_ أيوة ياماما .. ولما ارجع نبقى نكمل كلامنا .. أنا همشي دلوقتي عشان مستعجلة
ميرفت بسعادة غامرة :
_ طيب ياحبيبتي روحي عشان متتأخريش .. ترجعي بالسلامة أن شاء الله

***
كانت فريدة تقف بالمطبخ تقوم بتحضير كوب من القهوة لها ، ولم تشعر بأسمهان التي تسللت من خلفها ووقفت خلفها مباشرة هاتفة بصوت منخفض أقرب للهمس :
_ قريب أوي هتكوني برا القصر ده وابني بنفسه اللي هيرميكي منه

انتفضت فريدة بفزع على أثر صوتها والتفتت فورًا للخلف بقسمات وجه مزعورة ، لكن ثواني قصيرة واختفت علامات الزعر من على محياها ليحل محلها الغطرسة بعدما أدركت كلامها وقالت :
_ هيرميني أنا !! .. وده ليه بقى إن شاء الله
أسمهان بغل ونقم ملحوظ في عيناها :
_ اللي بتخططيله من ورانا قريب اوي هنعرفه وسعتها هترجعي للزبالة اللي جيتي منها .. وقريب أوي هعرف إيه اللي مخبياه وبتعملي أيه من ورا الكل ، ومبقاش أنا أسمهان الشافعي أما رميتك زي الكلاب برا القصر ده

ضحكت فريدة بسخرية وردت عليها في نظرات شيطانية ونظرة كلها ثقة :
_ معتقدش يا أسمهان هانم .. وأنا من رأي إننا منستبقش الإحداث يعني الافضل خلينا نتفاجيء بنهاية القصة هتكون إزاي بدل ما نتوقع على الفاضي
قبضت أسمهان على ذراعها بعنف وهتفت بوعيد يلمع في عيناها :
_ نهاية القصة معروفة من البداية .. مش محتاجة نستني ونتفرج بنفسنا ، نهايتها إن الزبالة بيرجع للزبالة بتاعته لأنه مهما عاش في النضافة هيفضل زبالة بأصله

لم تثير كلماتها غضب فريدة التي على العكس كانت هادئة تمامًا وتطالعها بابتسامة مثلجة غير مبالية ثم ردت عليها وهي تهم بالانصراف :
_هنشوف يا أسمهان هانم .. عن أذنك
ثم سحبت يدها من بين قبضتها ورحلت بكل برود مما أشعل غيظ أسمهان أكثر وازدادت حقدًا وغلً لها ، متوعدة لها بالقريب العاجل أن تكون خارج حياتهم تمامًا للأبد ....

***
داخل شركة الشافعي تحديدًا بمكتب عدنان في الطابق الثالث ......
بينما كان يجلس على مقعده أمام المكتب ويقوم بإنهاء أعماله ، كانت هنا تجلس على الأريكة وتمسك بهاتف والدها تشاهد أحد أفلام الاطفال المشهور ( القط والفأر ) وبين آن والآخر تنطلق منها ضحكة طفولية وعفوية عندما تشاهد مشهدًا مضحكًا ، فيلتفت لها برأسه ويبتسم بدفء ويعود ويكمل عمله .
طرق الباب عدة طرقات خفيفة قبل أن ينفتح وتدخل ليلى وهي تمسك بيدها إحدى الملفات الخاصة بالعمل وتقترب من عدنان تقف بجواره وتقول برسمية :
_ الأوراق دي محتاجة توقيع حضرتك يافندم
التقط من يدها الملفات وتفقدها متمتمًا دون أن ينظر لها :
_ عملتي إيه في موضوع نادر ياليلى
ليلى بعبوس :
_للأسف مفيش أي حاجة في مكتبه وتصرفاته كلها طبيعية حتى الآن !
رفع نظره عن الأوراق ونظر لها وهو يهز رأسه بإيجاب وعينان شاردة تفكر بشيء آخر .. فطرحت ليلى سؤالها وقالت بتساءل واهتمام :
_ طيب حضرتك هتعمل إيه ياعدنان بيه الملفات دي مهمة جدًا وفيها صفقة بملايين !
ابتسم عدنان بنظرات غريبة ثم قال بثقة وصوت خشن :
_ إنتي لسا جديدة معايا ومتعرفنيش .. اصبري واتفرجي ياليلى هعمل إيه
لاحت ابتسامة على ثغر الأخرى .. نظرة كلها ثقة وتشوق .. بينما هو فقال وهو ينظر لابنته :
_ اطلبي ليا ولهنا يا ليلى غدا من المطعم
نظرت إلى هنا المنشغلة بالمشاهدة على الهاتف وابتسمت ثم رجعت برأسها ناحيته وقالت بود :
_ تحت امر حضرتك
عدنان بنظرة محبة :
_ هنون .. تعالى ياملاكي
تركت الهاتف من يدها فور سماعها لصوت أبيها وهو يطلب منها القدوم إليه .. توقفت وتحركت إليه حتى وقفت أمامه فحملها واجلسها على سطح المكتب أمامه وغمغم بحنو أبوي :
_ دلوقتي وقت الغدا جه .. وطنط ليلى هتجبلنا الأكل عشان نتغدا .. تحبي بقى ناكل إيه ياحياتي
انحنت ليلى عليه وقالت بمداعبة بسيطة شبه ضاحكة :
_ مش كبيرة عليا شوية طنط دي ياعدنان بيه
انطلقت منه ضحكة بسيطة ثم أجابها من بين ضحكته :
_ خلاص يا ليلي .. هخليها تقولك ليلى من غير أي حاجة حلو كدا

ليلى كاتمة ضحكتها :
_ حلو .. هااا ياسكرة تحبي تاكلي إيه النهارده ، ده بابي أول مرة يعملها ويتغدا في المكتب هنا .. وده عشان إنتي موجودة بس يعني استغلي الفرصة

تطلعت هنا إليها بخجل دون أن تجيب عليها ، وطال صمتها للحظات حتى انحنت على أذن أبيها وهمست في خفوت وخجل طفولي لطيف بنوع الطعام الذي تريده ، وكان صوتها واضحًا رغم محاولتها لإخفاضه حتى لا يصل لأذن ليلى التي سمعت ما همست به في أذن والدها جيدًا .. بينما عدنان فنظر لليلى وغمز لها باسمًا دون أن يتكلم لمعرفته بأنها سمعت كل شيء ، أماءت له بالموافقة الأخرى بابتسامة عذبة قبل أن تستدير وتنصرف .
فور انصراف ليلى نظر هو لصغيرته وقال :
_ هااا قوليلي كنت بتتفرجي إيه بقى ؟
هتفت هنا بلطافة لا تقاوم وقد عادت لطبيعتها على عكس الخجل الذي كان يهيمن عليها للتو :
_ Tom and jerry ( القط والفأر .. توم وجيري )
_ طيب إيه رأيك أول ما يجي الأكل نطلع وناكل فوق على الروف ، هيعجبك أوي
هزت رأسها بإيجاب في وجه مشرق بإبتسامتها الرائعة ، ثم عبست وقالت بحزن :
_ بابي ماما كانت زعلانة الصبح
_ ليه !!!
_ عشان أنا سبتها وحدها وجيت معاك
قهقه بقوة وأجاب على ابنته :
_ بجد !! .. طيب تعالي هنكلمها ونشوفها لسا زعلانة ولا لا

أمسك بهاتفه وأجرى مكالمة فديو بها .. وبعد لحظات من الرن المستمر انفتح الاتصال أخيرًا وثواني حتى ظهر وجهها بشاشة الهاتف ، كانت قاطبة حاجبيها من اتصاله حتى وجدته يهتف وهو يوجه الهاتف عليه هو وهنا ويقول باسمًا :
_ هنون بتقول إنك كنتي زعلانة ياماما الصبح عشان سابتك وجات معايا .. فقولنا نتصل ونشوف ماما لسا زعلانة ولا إيه بظبط

كتمت جلنار ضحكة عالية كانت ستنطلق منها ورسمت العبوس والضيق على وجهها بمهارة لتجيبه بتأكيد :
_ أيوة زعلانة ، يهون عليها تسيب مامي وحدها في البيت كدا !
ردت هنا على أمها بوجه حزين لعبوس والدتها :
_ خلاص مش تزعلي .. هنجبلك شيكولاته احنا وجايين
_ هتجبيلي قد إيه ؟!
فتحت ذراعيها على أخرهم وقالت برقة :
_ كتييييير أوي ، قد كدا .. مش صح يابابي ؟
أجابها عدنان ضاحكًا :
_ صح ياروح بابي .. تحبي نجبلك حاجة تاني ياماما واحنا جايين
_ لا كفاية الشيكولاته
تفوهت به جلنار وهي شبه ضاحكة ، حتى قالت بتذكر وجدية :
_ أكلتوا ولا لسا ؟
ردت هنا مسرعة وحماس :
_ لسا طنط ليلى راحت تجيب الأكل
هتفت جلنار باهتمام وحزم :
_ خلي بالك ياعدنان ومتجبوش أكل مش healthy وأهم حاجة تخليها تغسل إيدها كويس أوي قبل الأكل وكمان .....

_ خلاص ياجلنار .. أنا عارف كل ده أكيد ، متقلقيش كل حاجة زي الفل الحمدلله .. يلا سلام هقفل عشان ورايا كام حاجة عايز اخلصها
ثم وجه الهاتف على وجه صغيرته وهتف :
_ يلا قولي باي لماما
لوحت هنا بيدها لأمها ثم كتمت بكفها الصغير على فمها ترسل لها قبلة في الهواء من خلف شاشة الهاتف ففعلت جلنار بالمثل وهي تضحك بحب ودفء .

***
دوى صوت رنين باب المنزل فور انتهائها من حديثها مع ابنتها وزوجها في الهاتف .. ضيقت عيناها باستغراب وظنته في باديء الأمر أنه " حامد " ، فاتجهت نحو الباب وفتحت في وجه معالمه عادية تمامًا .. حتى رأت أبيها أمامها فتحولت لنظرات الدهشة الممتزجة بالاستياء .
هتف نشأت بخفوت :
_ عاملة إيه يابنتي
جلنار بجفاء وصرامة :
_ جاي ليه !! .. ياترى هتسلمني لمين المرة دي كمان !!
_ أنا عملت كدا لمصلحتك ياجلنار
صاحت به منفعلة :
_ مصلحتي في إني أبعد عن عدنان وأطلق منه .. لكن إنت مش شايف كدا عشان طبعا مصلحتك إنت إني أفضل متجوزاه
هم بالاقتراب منها وهو يتمتم بتأثر وضيق :
_ يابنتي والله مبقيش يهمني حاجة .. أنا عايز ترجعي تاني لحضني ، كرهك ليا ده بيقتلني ، ولولا إني حسيت إن عدنان عايزك بجد مكنتش هسيبك في أمريكا معاه وأرجع

تقهقهرت للخلف حتى لا يلمسها ويقترب منها وقالت ضاحكة بسخرية :
_ عايزني !! .. هو فعلًا عايزني بس مش بيحبني ، عايزني عشان السبب اللي أنت أجبرتني اتجوزه عشانه

نشأت بصدق ونظرات مشتاقة لابنته :
_ لا المرة دي مختلفة صدقيني هو عايزك إنتي وبنته بجد اديله فرصة .. وكمان ارجعيلي يابنتي ابوس إيدك

اطالت النظر إليه واحست بأنها ستضعف أمامه .. رغم كل ما فعله بها سيظل أبيها ولن تتمكن من حمل الضغينة والكره له في قلبها ، ولته ظهرها وقالت بقسوة وصوت مبحوح :
_ امشي يابابا لو سمحت مش عايزة اشوفك وياريت متجيش تاني كمان ، أنت بعتني من الأول وتخليت عني فمتحاولش تمثل قدامي دلوقتي مشاعر الأبوة اللي ممكن تكون مش حقيقية أساسًا

تحرك خطوة نحوها حتى وقف خلفها مباشرة وبمجرد ما لمس كتفها بيده نفرت منه بتلقائية وقالت وهي تبتعد عنه أكثر :
_ قولتلك امشي من فضلك

توقف بأرضه للحظات طويلة يحدق بها بأسى وعجز ووجه يائس حتى أصدر تنهيدة حارة واستدار مغادرًا المنزل .. التفتت برأسها نحو الباب بعد رحيله وانهمرت على وجنتيها دموعها بحرقة وألم ، قلبها يؤلمها على كل شيء .. تريد مسامحته لكنها لا تستطيع ، نفسها الثائرة والمنكسرة لا تسمح لها بالصفاء وربما لن تصفو ! .

***
في مساء ذلك اليوم وداخل معرض آدم بعد رحيل جميع الزوار ......
انتهت جميع اللوحات المعروضة للبيع بالمعرض معادا واحدة .. كان يقف آدم أمامها يتأملها بسكون متذكرًا محادثته مع تلك الفتاة ، جميع اللوحات تم بيعها معادا هذه اللوحة .. لا يذكر أن أحد توقف أمامها وأعجبته سواها ، رغم أنها لم تعجبها وسخرت منها لكنها الوحيدة التي توقفت أمامها .. رأتها لوحة متزاحمة ومعقدة ولم تخطأ حين ربطت اللوحة به ، هي تشبه تعقيدات نفسه المتداخلة والتي لا يجد لها تفسير ، فأخرج تلك المشاحنات التي تعصف بروحه في هذه اللوحة .. التي لم ينتبه لها أحدًا سواها .
انتشله من شروده صوت صديقه " زياد " الذي هتف بسعادة وعين تلمع بوميض النصر :
_ مبروووك يافنان .. اللوح كلها اتباعت مفضلش غير اللوحة دي
_ مش هبيعها
رد زياد بتعجب :
_ هي إيه دي اللي مش هتبيعها
تمتم آدم وهو معلق نظره على اللوحة :
_ اللوحة دي
_ هتحتفظ بيها لنفسك يعني ولا إيه ؟!
لوى آدم فمه ورد بإيجاب وهو يهز رأسه ببساطة :
_ حاجة زي كدا
هتف زياد بمرح ضاحكًا :
_ مش مهم ياعم .. المهم هو نجاح المعرض ، مبروووك ياصاحبي
_ الله يبارك فيك
_ طيب أنا هسبقك واستناك برا بقى تمام
اماء له آدم بالموافقة وظل واقفًا كما هو يتطلع للوحة بتمعن ، حتى مرت دقيقة أو أكثر تقريبًا وهم بالاستدارة والانصراف لكنه لمح عقدًا فضي اللون به فصوص بيضاء لامعة على طول العقد كله .. انحنى على الأرض والتقطته ينظر إليه بتدقيق ، ظنه في باديء الأمر أنه سقط من إحدى الفتيات الذين مروا من أمام اللوحة ، لكن عندما عصفت بذهنه صورتها تذكر أنه لمح برقبتها نفس هذا العقد ، كانت ترتديه ويظهر بوضوح حول رقبتها البيضاء .. بقى للحظات وهو يحدق بالعقد حتى تأكد أنه لها فلاحت ابتسامة جانبية على شفتيه واعتدل في وقفته ثم وضع العقد في جيبه واتجه لخارج المعرض بأكمله بعد أن أطفأ جميع الأضواء .. ووقف أمامه من الخارج ثم أمسك بالباب واغلقه بالمفتاح جيدًا وسار باتجاه صديقه الذي كان بانتظاره في السيارة .

***
بعد مرور ساعات بسيطة ....
مجتمع هو ووالدته وأخيه على المائدة ويتناول الطعام بصمت .. عدم وجودها على المائدة معهم يثير جنونه ويحاول تجاهل الأمر ، لكن ثورانه الداخلي منعه من الصمود كثيرًا ، حيث فجأة القى بالشوكة التي بيده على سطح الطاولة وقال بعصبية :
_ منزلتش تاكل ليه دي كمان !!
زمت أسمهان شفتيها وقالت بعدم اكتراث :
_ معرفش .. سيبها ياحبيبي هي لو عايز كنت نزلت واكلت

عض على شفاه السفلية في غيظ متمالكًا أعصابه بصعوبة ، استقام واقفًا واندفع إلى الأعلى باتجاه غرفته ، تابعته أسمهان بأعين نارية وناقمة على فريدة أما آدم فتأفف بخنق وقرف ! .

فتح الباب على مصراعيه بعنف ودخل فوجدها تجلس على الأريكة وتمسك بهاتفها تعبث به ، اندفع نحوها وجذب الهاتف من يدها هاتفًا بزمجرة :
_ قاعدة هنا ليه !! .. الأكل لما يتحط ياهانم الكل يكون على السفرة
تعمدت عدم النظر إليه وقالت بتمرد :
_ مش عايزة اكل ياعدنان
_ ليه بقى إن شاء الله
ردت عليه بحنق دون أن تنظر له :
_ وإنت مهتم بيا كدا ليه .. كفاية شكك فيا وكأننا متجوزين إمبارح .. ولا قعدتك عندها تلات أيام مبتجيش البيت هنا وسايبني

انحنى بنصف جسده عليها وهمس في نظرة مميتة ونارية :
_ أنا مشكتش فيكي من فراغ
هبت واقفة وصاحت به بغضب ودموع حقيقية انهمرت على وجنتيها :
_ إنت بتعاملني بطريقة عمرك ما عاملتني بيها قبل كدا .. بعدت عني .. أنا مشوفتكش ليا تلات أيام غير امبارح في المعرض متخيل .. حتى مش بتتصل بيا ياعدنان ، وبتحاسبني دلوقتي على تغيري معاك .. طيب ما أنا اتغيرت بسببك ، شايفاك إزاي اتغيرت من وقت ما رجعت الهانم وأنت قاعد عندها علطول .. تفكيرك فيها علطول وخوفك عليها وكنت بتحجج وتقولي إنك خايف على بنتك ، بس الحقيقة كانت إنك زي ما خايف على بنتك خايف عليها كمان .. لما اتجوزتها وعدتني وقولتلي مستحيل يكون في قلبك واحدة غيري وإنك متجوزها عشان الطفل اللي نفسك فيه مش اكتر وبعدها هتطلقها .. وجابتلك الطفل اللي نفسك فيه .. طلقتها .. لا ، بالعكس بقيت أحس إنها بتسحبك واحدة واحدة من غير ما تحس ولا أي حد فينا يحس لغاية ما اهو أنت شايف بعينك الوضع وصل لفين .
توقفت عن الكلام وجففت دموعها ثم استكملت بصوت مبحوح وهي مطرقة أرضًا :
_ متحاسبنيش على حاجة إنت السبب فيها

لانت نظراته ونبرته أمام كلامها ودموعها ولوهلة رغب بضمها لصدره ليشعرها بحنانه مرة أخرى ويمطرها بحبه لها كالعادة ، لكن لا يزال الشك الذي تعشش في ثنايا يمنعه وبإمكانه القول أنه فقد جزء كبير من ثقته بها .
تنهد الصعداء بعدم حيلة وقال بنبرة لينة :
_ متعيطيش .. يلا تعالي ننزل عشان تاكلي
صرخت به بعصبية وعينان ممتلئة بالدموع :
_ مش عايزة اطفح ياعدنان .. سبني لوحدي لو سمحت .. أو اقولك روحلها تاني كمان أصلا مبقتش فارقة معايا من زمان اوووي

دهشه ردها عليها ، مما جعله يقف للحظات يتطلع إليها بعدم استيعاب واردف بابتسامة تحمل الاستنكار والصدمة بآن واحدًا :
_ مبقتش فارقة !!
اشاحت بوجهها عنه للجهة الأخرى بينما هو استمر في التحديق بها ينتظر منها أي توضيح ، لكن لا رد وفقط دوى صوت رنين هاتفه في جيبه فأخرجه وتطلع باسم المتصل وكانت جلنار .. القى نظرة مطولة عليها قبل أن يستدير وينصرف إلى الخارج مجيبًا على الهاتف شبه منفعلًا :
_ خير ياجلنار
أتاه صوت صغيرته العابس وهي تقول :
_ بابي إنت مش جاي ؟!! ، إنت قولتلي هتيجي ومش هتتأخر
مسح على وجهه متنهدًا وقال بخفوت في لطف :
_ أنا جاي ياحبيبتي متقلقيش ، استنيني ومتناميش
عادت البهجة لصوتها حيث ردت عليه بفرحة :
_ حاضر هستناك

في الداخل التقطت فريدة الوسادة الصغيرة والقتها بعرض الحائط هاتفة في صوت مبعثر وبائس :
_غبية إيه اللي قولتيه ده .. بدل ما تصلحي الوضع وتمحي شكه فيكي نيلتي الدنيا اكتر ، كان لازم يعني تنفعلي وتقولي اللي شايلاه جواكي !!

***
في مدينة كاليفورنيا بأمريكا تحديدًا داخل منزل حاتم ......
يجلس بغرفة مكتبه الخاصة وأمامه حاسوبه النقال ، يتنقل بين الصور بقلب منفطر ، اشتاق لها كثيرًا ولا ينكر هذا .. ومشاهدته لصورها ربما ترضى القليل من شوقه وتطفي النيران المشتعلة في صدره من فراقها ، حديثهم الأخير معًا وكلماتها لا تزال تتردد في أذنه .. هي لديها الحق بكل كلمة ، لم يكن موجودًا في الوقت التي كانت فيه بحاجة إليه .. وحين عاد كان الآوان قد فات .. لكن هذا لا يمحي حقيقة حبه لها وأنه لا يزال حتى الآن يريدها وقلبه يعاني من فراقها .
انفتح الباب وظهرت من خلفه نادين وهي تحمل فنجانين من القهوة ، فانزل غطاء الحاسوب قليلًا حتى لا ترى الصور ونظر لها مبتسمًا فقالت وهي تقترب منه وتضع القهوة على سطح المكتب أمامه :
_ شو عم تسوي ؟
حاتم ببساطة وهو يتلقط فنجان القهوة :
_ ولا حاجة .. ميرسي على القهوة
نادين وهي تدقق النظر به :
_ العفو .. بس ليش شكلك مو عاجبني في شي صار ولا شو ؟!
_ مفيش حاجة يانادين متقلقيش ، أنا مخنوق شوية بس

جلست على المقعد المقابل له واستندت بمرفقها فوق سطح المكتب واسندت كفها أسفل وجنتها متمتمة برقة تليق بجمالها المذهل :
_ ويا ترى شو السبب ؟
ابتسم لها وقال بغمزة مشاكسة :
_ طبعًا لما تبعدي عني ببقى مخنوق ومش طايق نفسي

قهقهت بخفة على مشاكسته وبادلته إياها وهي تتصنع الخجل :
_ لك عم تحرجني هيك والله
علت ضحكته الرجولية ، وبعد لحظات قصيرة تلاشت ابتسامته تدريجيًا وجمدت ملامحه ثم نظر لها وسأل بنظرات تائهة :
_ نادين هو إنتي شيفاني شخصية إزاي !

تعجبت من سؤال وطالت النظر في وجهه ومعالمه العابسة فتنهدت بحرارة وقالت بنعومة مبتسمة :
_ عم شوفك .. أفضل صديق وأخ وأب ، إنت بتعرف إني ما إلى حدا غيرك .. يكفي إنك ضليت جمبي في أوقاتي الصعبة وما تركتني بنوب لحالي ، يمكن ما قلتلك هاي الكلام من قبل بس حقيقي إنت كِل بنت تتمناك .. رِجال وقلبك كبير وكتير حنين وأهم شي إنك مخلص في حبك لأي شخص بحياتك .. يعني عن جد أنا ما بيكفيني اليوم كِله مشان احكي عنك واوصفك .. السنين اللي بينا ومواقفنا مع بعض هي ياللي بتحكي

امعن النظر بها في عينان تفيض حبًا صافيًا ونقيًا ، ربما سؤاله كان بدافع معرفته لجوانب شخصيته لربما يرضى ثورانه وعدم فهمه لمعارضة كل شيء له في حياته .. وظن أنه هو الذي يفسد كل شيء بأفعاله وجوانب شخصيته السلبية ، لكن لم يكن يتوقع أن يسمع منها كل هذا الكلام .
مد يده واحتضن كفها الناعم بين كفيه متمتمًا بنظرات دافئة :
_ وهفضل دايمًا جمبك لغاية ما اسلمك لعريسك بنفسي واكون مطمن عليكي
ظهرت ابتسامة شبه مختفية على شفتيها لم تصل لعيناها حتى وقالت بخفوت :
_ شو سبب السؤال ؟
_ مفيش سبب حبيت أسأل عادي .. بس دلوقتي أنا فهمت إنت مستحملاني ليه رغم عيوبي التي لا تحتمل

نادين بضحكة رقيقة ولطيفة :
_ أي مجبورة .. مو قدامي حدا غيرك .. لا عم امزح نحن اتعودنا على بعض ياحاتم وعيوبنا ما عادت بتضايق حدا منا .. بتعرف أنا بفرح وبحس بالفخر إني أنا الوحيدة ياللي بتقدر تهديك بوقت عصبيتك ولما يجن جنونك هيك وتضل تكسر وتصرخ بالكل

حاتم ضاحكًا :
_ يجن جنوني !!
_ ما تتريق على .. بدل ما اضربك والله
اماء لها بالموافقة كاتمًا ضحكته ، ثم رفع فنجان القهوة لفمه وارتشف منها ببطء وهتف بصدق :
_ تسلم إيدك على القهوة والله بجد
_ thank you ( شكرًا لك )

***
عودة للقاهرة بمصر .....
يقود عدنان السيارة وعقله مشغولًا بالتفكير في كلمات فريدة .. أو بالأخص في جملتها الأخيرة .. لم يعد يفرق معها !! .
أصدر تنهيدة حارة عندما وجد صوت رنين هاتفه يرتفع فمد يده وفتح الاتصال وكذلك مكبر الصوت ليجيب على ابنته .. وبينما هو منشغل بالحديث والقيادة كانت تسير شاحنة نقل ضخمة باتجاهه من الشارع الموازي واصطدمت بسيارته بقوة .. !!!


رواية كيان الفهد كاملة جميع الفصول ( الفصل 15 ) 


دوى في الهاتف صوت اصطدام قوى وانقطع صوته فجأة ، انحبست أنفاس جلنار في صدرها التي كانت تجلس بجوار ابنتها وهي تتحدث مع أبيها وتفتح مكبر الصوت .. جذبت الهاتف من يد " هنا " فورًا بزعر وهتفت :
_ عدنان .. عــدنـان !
انقطع الاتصال في لحظتها فحدقت بشاشة الهاتف في ذهول وقد بدأت نبضات قلبها تتصارع بشدة ، أعادت الاتصال به مرة أخرى لكن ارتفع صوت سيدة في الهاتف تردد ( الهاتف الذي طلبته مغلق أو غير متاح !! ) .. ازدردت ريقها بصعوبة وبقت لدقيقة تتطلع في الهاتف ، تحاول السيطرة على نفسها التي تنتفض نفضًا ، وتستمر بتهدئة نفسها أن ما تظنه ليس حقيقيًا وأنها تتوهم وقد يكون هاتفه انتهت بطاريته .
تابعت هنا تقلبات وجه والدتها المزعور وسألت بحيرة وطفولية :
_ بابي ليه قفل ياماما ؟!
ردت عليها جلنار بصوت تائه ومبعثر :
_ مش عارفة ياحبيبتي .. إن شاء الله هيجي دلوقتي

***
بعد مرور ساعة تقريبًا .....
خرج آدم من الحمام بعدما أخذ حمامًا دافئ ، وكان يلف حول نصفه السفلي منشفة طويلة ويمسك بأخرى صغيرة يجفف بها خصلات شعره السوداء .. ارتفع رنين هاتفه الملقي فوق الفراش ، فترك المنشفة من يده واقترب من الفراش لينحنى ويجذب الهاتف يجيب على الرقم مجهول الهوية :
_ الو
رد الطرف الآخر بنبرة متوترة :
_ أيوة يا آدم أنا سمير
ابتسم آدم ورد عليه بحرارة مشاكسًا :
_ أهلًا ياعم بالناس اللي مش بتسأل .. اخبارك إيه واخبار عملياتك وشغلك اللي ماخدك مننا ده
سمير بنبرة خافتة ومرتبكة :
_ آدم عايزك تهدى كدا قبل ما تسمع اللي هقوله ده
ضيق عيناه بريبة وقد بدأ القلق يتسرب لقلبه فقال بحيرة :
_ في إيه يا سمير ؟!!
تنهد سمير وقال بأسى ونبرة واضح عليها الحزن :
_ عدنان عمل حادث وموجود في المستشفى عندي وهيدخل على العمليات فورًا دلوقتي
وقعت الكلمات على أذنه أثر الرعد .. استغرق ثلاث ثواني يستوعب ما صك سمعه للتو ، حتى خرج صوته غير منظمًا من أثر الصدمة :
_ حـ .. حادث إزاي يعني !! .... طيب .. طيب أنا جاي يا سمير سلام

انهي الاتصال دون أن يسمع رده عليه حتى وكان سينبهه بألا يخبر أمه أو زوجته ، لكنه لم ينتظر ليسمع أي شيء .. القى بالهاتف وشرع فورًا في ارتداء ملابسه متلهفًا وبدأ قلبه يطرق كالمطرقة من الزعر على أخيه ، وفي ظرف دقيقتين انتهى من ارتداء ملابسه وجذب هاتفه واندفع إلى خارج المنزل شبه ركضًا مستقلاً بسيارته وانطلق بها بسرعة البرق .

دقائق ليست بطويلة وكانت سيارته قد توقفت أمام المستشفى .. ترجل من السيارة وهرول راكضًا إلى الداخل فتوقف عند الاستقبال وسألها فدلته على الطابق ورقم غرفة العمليات الموجود بها ، اسرع ركضًا نحو الدرج حتى دون أن ينتظر المصعد .. وصل أمام غرفة العمليات وكان سمير يقف مستندًا على الحائط عاقدًا ذراعيه أمام صدره ومطرقًا رأسه أرضًا بحزن ، أحس بأن قلبه توقف للحظة فأسرع نحوه وهتف :
_ سمير !!!
رفع نظره له وبمجرد ما رأى معالم وجه آدم التي فرت منها الدماء رد عليه بهدوء ليطمئنه :
_ أهدى متقلقش هو دخل العمليات من حوالي تلت ساعة
_ حصل إزاي الحادث ده !
زم شفتيه بجهل ورد عليه بتنهيدة حارة :
_ حادث سير عربية نقل خبطت في عربيته .. حالته كانت صعبة جدًا لما وصل المستشفى
عاد الزعر يظهر على ملامحه أشد من السابق وقد تحول كالوحش وهو يصيح لاعنًا سائق تلك الشاحنة :
_ وهو فين ****** الي كان سايق العربية ***** دي !
_ نزل من العربية وهرب ومعرفوش يمسكوه بس البوليس بدأ يبحث عنه دلوقتي
استند بظهره على الحائط وانحنى بجزعة للأمام ماسحًا على وجهه بخوف ملحوظ فرتب سمير على كتفه متمتمًا في شيء من بث الطمأنينة لنفسه :
_ متقلقش إن شاء الله يكون مفيش حاجة خطيرة ويطلع منها بخير
ردد آدم بتنهيدة حارة وصوت ينبع من صميم قلبه :
_ يااارب .. يارب

***
مرت ساعة وأكثر وهو لم يتصل ولم يصل حتى الآن !! .. تمسك بهاتفها منذ ساعة كاملة وتجوب الصالة إيابًا وذهابًا وعيناها معلقة على ساعة الحائط ، وتدعو ربها أن ما تعتقده يكون خاطئًا ، لكن صوت الاصطدام والضجة التي ارتفعت في الهاتف لا تزال تصدع في رأسها كالرعد .. بينما هنا فكانت جالسة على الأريكة تتابع أمها بنظرات عادية لكنها متعجبة من حالة أمها .. حتى سمعتها تهتف بقلق وهي تهز رأسها بالنفي :
_ لا أنا مش هقدر اصبر اكتر من كدا

رفعت هاتفها الذي بيدها واجرت اتصال بآدم .. وضعت الهاتف على أذنها تستمتع للرنين في انتظار الرد منه .

استمر آدم في التحديق في الهاتف وفي اسم جلنار الذي ينير الشاشة كلها ، يفكر مترددًا أيجيب أم لا .. لا يعرف سبب اتصالها ولكن يبدو أنها عرفت شيء .. بقى على هذا الوضع للحظات حتى انتهى الرنين ، لحظة وعاد الرنين يصدع مرة أخرى فتنهد بعدم حيلة واجاب عليها بصوت خافت :
_ أيوة ياجلنار
ردت عليه بصوت مزعور وخائف :
_ آدم .. عدنان تلفونه مغلق من ساعة .. كان بيكلمنا وفجأة سمعت صوت اصطدام ودوشة عالية والخط فصل ومن ساعتها موصلش وتلفونه مقفول

أخذ نفسًا متأففًا بأسى وقد أدرك أن لا مفر من الكذب عليها خصوصًا بعد ما قالته فلو حاول الكذب لن تصدقه .. أردف بنبرة مبحوحة :
_ عدنان في المستشفى ياجلنار
لجمت الدهشة لسانها رغم أنها كانت متوقعة هذا لكن سماعها للحقيقة كان أصعب .. تمالكت أعصابها وردت بصوت مضطرب وشبه متلعثم :
_ مستشفى .. إيه ؟
اخبرها باسم المستشفى وأستكمل حديثه بسرعة في جدية :
_ بس متجيـ .......
توقف عن الكلام عندما سمع صوت صافرة اغلاق الخط ، لم تنتظر وأغلقت الاتصال فورًا .. أصدر تأففًا مسموعًا وهو يمسح على وجهه ! .
دقائق قصيرة وكانت قد انتهت من ارتداء ملابسها وتجهيز ابنتها وكل هذا تحاول الصمود بقوة وعدم إظهار أي شيء ، وقفت أمام صغيرتها وانحنت عليها هامسة :
_ هنون ياحبيبتي .. أنا هروح مشوار ضروري وهوديكي تقعدي عند خالتو انتصار واول ما اخلص هرجع اخدك .. اتفقنا ؟
هنا بعبوس طفولي :
_ وبابي فين ؟
تمالكت نفسها وقالت بابتسامة رسمتها بمهارة على شفتيها :
_ بابي كمان جاله مشوار مهم وأنا كلمته وقالي إنه هيتأخر ، وقالي كمان بوسيلي هنا لغاية لما ارجع وقوليلها متزعلش
انهت كلماتها وطبعت قبلة عميقة على وجنتها متمتمة بنظرات حانية :
_ خلاص بقى مش هنزعل صح ؟!
اماءت لها بالموافقة في ابتسامة طفولية جميلة ، فاستقامت جلنار واقفة وسارا معًا للخارج .. استقلوا بسيارتها واتجهت أولًا إلى منزل الخالة انتصار حتى تترك لديها هنا ثم عادت مرة أخرى في طريق المستشفى .

***
تجوب في كل الغرفة .. تبحث بكل مكان تقع عيناها عليه .. في الخزانة وأسفل الفراش والإداج ، حتى كادت تفقد عقلها .. هي متأكدة أنها كانت ترتديه ومعها ، أين ذهب إذا ؟! .
دخلت فوزية الغرفة وقالت بإيجاز وهي تهم بالانصراف مرة أخرى :
_ يلا يامهرة عشان العشا
مهرة بخنق وشيء من العصبية :
_ ياتيتا مشوفتيش السلسلة بتاعتي
_ سلسلة إيه ؟!
ردت عليها وهي مستمرة في البحث :
_ السلسلة الفضي اللي فيها فصوص لونها أبيض

صمتت فوزية لوهلة تتذكر أين آخر مكان رأت فيه العقد ، حتى هتفت بسرعة متذكرة :
_ أيوة إنتي مش كنتي لبساها لما روحتي مع سهيلة المعرض ده ولا إيه !
توقفت عن البحث وتسمرت بأرضها تعيد في ذهنها ذكريات ذلك اليوم وبتلقائية رفعت يدها إلى رقبتها ، وعصفت بذهنها صورته عندما لاحظت عيناه انحرفت إلى رقبتها ينظر لعقدها .. فور تذكرها لتلك اللحظة أصدرت تأففًا قويًا وقالت باستياء وهي تضرب قدميها في الأرض كالطفل الصغير :
_ اووووف شكله وقع مني هناك
هدرت فوزية مبتسمة بحب :
_ خلاص يابنتي مش مشكلة .. ابقى انزلي وجيبي ليكي واحد غيره
توجهت وجلست فوق الفراش تقول بوجه حزين وعينان بائسة :
_ ما إنتي عارفة يا تيتا إن العقد ده الذكرى الوحيدة اللي من ماما الله يرحمها
تنهدت فوزية بحرارة واقتربت منها تجلس بجوارها وتقول مقترحة فكرة :
_ طيب ما تروحي المعرض ده تاني وتشوفي يمكن تلاقيه

قفزت لعقل مهرة لحظة جدالها السخيف مع آدم الذي انتهى بطرده لها من المكان تمامًا أو من معرضه بمعنى أدق ! .. فردت على جدتها بيأس وهي تهز رأسها بالنفي :
_ لا مش هينفع اروح
كانت ستجيب عليها فوزية لولا أنها قاطعتها وهتفت بعبوس بعد شعورها باليأس لتوقعها بأنه سقط في ذلك المعرض :
_ خلاص يازوزا السلسلة ضاعت وخلاص .. هو العيب عليا من البداية معرفش إزاي وقعت من رقبتي ومخدتش بالي .. يلا عشان نقوم ناكل
هزت فوزية أكتافها بعدم حيلة وتوقفا معًا ثم سار للخارج حتى يتناولوا وجبة عشائهم البسيطة .

***
وصلت إلى المستشفى أخيرًا وهرولت مسرعة إلى الدرج لتصعد إلى الطابق الموجود به .. تتحامل على نفسها ولكنها تشعر بأن قدماها لا تستطيع حملها من الخوف .. توقفت في بداية الطرقة ولمحت آدم يقف مستندًا بظهره على الحائط ورافعًا رأسه لأعلى يتطلع في السقف بسكون تام ويجلس على مقربة منه شاب فوق مقاعد المستشفى الحديدية الخاصة .
اندفعت نحو آدم مسرعة وقد بدأ قلبها ينبض كالمطرقة وتستطيع سماع ضرباته العنيفة .. لمحها آدم فاعتدل في وقفته وتقدم نحوها عدة خطوات حتى وقف أمامها فوجدها تهتف بوجه مزعور :
_ حصل إيه يا آدم .. هو فين ؟
آدم بوجه لا يقوى على الحديث :
_ في العمليات لسا مطلعش
لمعت عيناها بلمعة بسيطة تثبت الدموع التي تحاول الانهمار ولكنها تمنع سقوطهم .. تمتمت بترقب وصوت شبه متقطع :
_ طـ..يب هو الحادث ده كان .. كان ....
قاطعها آدم بنظرة دافئة يبث لنفسها القليل من الطمأنينة التي هو بحاجة إليها أكثر :
_ ان شاء الله هيطلع بالسلامة متقلقيش .. هو وضعه كان صعب لما وصل ، بس بإذن الله هيقوم منها بالسلامة

سكنت تمامًا وانحرفت عيناها لتحدق في اللاشيء بنظرات تائهة .. حتى شعرت بيد آدم التي أمسكت بذراعها وهو يأخذها معه إلى أقرب مقعد ويتمتم :
_ تعالي اقعدي وهدي نفسك .. هي هنا فين ؟
ردت عليه كالمتغيبة دون أن تنظر له :
_ وديتها عند خالتو انتصار
اماء لها بالموافقة ثم اقترب وجلس على المقعد المجاور لها وبقى يحدق في الأرض وبحركة تلقائية منه تدل على فرط التوتر كانت قدماه تهتز بشدة .. بينما جلنار فكانت معلقة نظرها في الفراغ بسكون مريب ، لا تستوعب فكرة أنه قد لا يخرج من هذه الغرفة .. لا تريده أجل وترغب في الانفصال عنه ، لكن تريده حيًا .. هي ليست جاهزة لفراق قاسي كهذا .. لن تتحمله ! .

نصف ساعة أخرى مرت وهو لم يخرج من تلك الغرفة حتى الآن ومرور الوقت يقتلهم كالسيف من فرط الخوف ، ولكن فجأة لمحوا أسمهان وفريدة وهم يركضون باتجاههم .. بقت جلنار بأرضها تتطلع إليهم بصمت بينما آدم توقف واقترب من أمه يهتف بحيرة :
_ إنتوا عرفتوا إزاي ؟
هتفت أسمهان بانهيار وبكاء عنيف :
_ عدنان فين يا آدم .. اخوك فين طمني يابني ابوس إيدك
حاوطها بذراعيها وتمتم في صوت رخيم :
_ اهدي ياماما هو لسا في العمليات إن شاء الله هيطلع بخير
انهارت باكية وهي تهتف بهستيريا وعدم وعي :
_ أنا عايزة اشوف ابني .. مش هقدر استحمل لو حصلته حاجة
_ يا ماما متقوليش كدا بعد الشر .. اهدي عشان خاطري

ثم امسك بذراعها وساعدها على الاقتراب من المقعد بينما هي لا تتوقف عن البكاء والنحيب ولا تنطق بشيء سوى اسم عدنان ، حتى امتلأ وجهها كله بالدموع وأصبحت لا تقوى على الوقوف .. اجلسها على آخر المقعد وجلس هو بالمنتصف بينها وبين جلنار ، التي كانت عيناها ثابتة على فريدة ترمقها بنظرات نارية .. وقفت فريدة في أحد الأركان منزوية تبكي بدون صوت .. لكن دموعها كانت صادقة هذه المرة ، كانت تبكي بحرقة وألم وتتذكر مكالمتها لنادر فور معرفتها بخبر الحادث .

_ أنت اللي عملت كدا .. صح يانادر ؟!!
نادر بعدم مبالاة وبقسوة :
_ إنتي قولتي عايزة تخلصي منه يافريدة وأنا نفذتلك طلبك أهو
صرخت به بهستيريا ورعب :
_ بس مقولتش تقتله .. إنت مجنون ، أنا لا يمكن آذيه .. صدقني يا نادر لو عدنان حصله حاجة مش هرحمك

***

_ وافقتي إزاي يعني .. إنتي أكيد بتستهبلي يا زينة !!

كانت جملة مستنكرة وساخطة من صديقتها التي تشاركها بعض الوقت في منزلها ليتحدثوا قليلًا .. بينما زينة فتنهدت وقالت بيأس :
_ وافقت يا سمر .. كفاية أوي كدا وقولت مفيهاش حاجة لما ادي لنفسي فرصة وادي للشخص ده فرصة ، مش يمكن يكون هو الشخص الموعود وأحبه بعدين

سمر مستاءة :
_ تدي لنفسك فرصة أه بس مش كدا .. بالمنظر ده لا هتعرفي تكوني سعيدة ولا هتقدري تحبيه .. على الأقل كنتي صبرتي شوية لغاية ما تفوقي من وهم آدم ده
زينة بوجه بائس ومنطفي :
_ أفوق أيه اكتر من كدا .. بقولك كلمني بوضوح والغبي يفهم ، أنا ضيعت سنين في وهم زي ما بتقولي ، وكفاية أوي كدا المفروض ابص لنفسي وأعيش حياتي

تنهدت سمر بعدم حيلة وقالت بعدم اقتناع :
_ وإنتي يعني متأكدة من القرار ده !! .. أنا عن نفسي الصراحة اللي اسمه رائد ده مستلطفتهوش نهائي حسيته بني آدم غتت كدا
ضحكت زينة ببساطة وقالت ساخرة :
_ وإنتي شوفتيه فين يابنتي أصلًا !!!
_ في الصور اللي ورتهالي
زينة بضحكة بدأت تتضح أكثر :
_ وإنتي حللتي شخصيته من الصور بقى !
سمر بثقة وغرور :
_ طبعًا أنا ليا خبرتي يابنتي في تحليل الشخصيات دي
_ أه بس مش من الصور ياروحي .. تحليل شخصية إيه ده اللي بيبقى من الصورة ! ، عمومًا أنا محسيتهوش كدا ، بالعكس لطيف والله
لوت سمر فمها بسخرية وردت عليها بقرف :
_ لا والله لطييف !! .. طيب لما نشوف اللطيف بتاعك ده ياست الحسن والجمال إنتي

انطلقت من زينة ضحكة عالية رغم الأجواء المغلفة بالكآبة إلا أنها ضحكت ، حتى أن سمر بادلتها الابتسامة عندما رأتها تضحك وسعدت لأنها تمكنت من رسم الابتسامة على وجهها العابس .

***
تتابعها منذ وصولها ، تتخبط في وقفتها وتبكي .. منتظرة من الجميع تصديق تلك الدموع الكاذبة ، لكن حتى لو صدقها الجميع لن تصدقها هي .. رؤيتها لها أمامها تثير جنونها ، وقد زاد الطين بلة عندما وصل ذلك الوغد والحقير " نادر " .. بين كل آن وآن ترمقه فريدة بنظرة مشتعلة ومستاءة ، ألا يخجلون من تبادل النظرات في تلك الأوضاع حتى لو كانت نظرات غضب ! .
لم تتمكن من تحمل مشاهدتهم أمامها وتجلس صامتة بهذا الشكل .. استقامت واقفة واتجهت نحو فريدة في وجه عبارة عن جمرة ملتهبة .. وقفت أمامها وهمست في نبرة ناقمة :
_ دموع التماسيح ده بلاش منها أحسن
رمقتها فريدة باستغراب وهتفت في استياء بسيط وصوت مبحوح :
_ بتقولي إيه إنتي كمان
جلنار وقد ارتفعت نبرتها قليلًا من الهمس وهي على وشك الانقضاض عليها :
_ بقول إنك مش بعيد تكوني إنتي والحيوان اللي واقف هناك ده السبب في الوضع اللي عدنان فيه دلوقتي
_ سبب إيه .. إنتي مجنونة !
تمالكت جلنار نفسها والقت نظرة قاتلة على نادر ثم عادت بنظرها إلى فريدة وقالت بتحذير حقيقي وبقرف :
_ قولي للحقير اللي واقف هناك ده يغور من هنا وإلا قسمًا بالله افضحكم إنتوا الأتنين
ارتبكت فريدة وظهر الزعر على وجهها فرفعت أناملها تجفف دموعها وترد على جلنار بصوت مضطرب :
_ تفضحي إيه ؟!!
طالعتها جلنار شزرًا وقالت باشمئزاز :
_ إنتي فاهمة قصدي كويس أوي
فرت الدماء من وجه فريدة التي أخذت تنقل نظرها بينها وبين نادر الذي كان يتابعهم بنظراته في قلق بسيط من نظرات جلنار له .
انحنت جلنار على أذن فريدة وهمست بصوت يقارب لفحيح الأفعى وبشراسة :
_ صدقيني لو طلع ليكم إيد في الحادث ده هوديكم ورا الشمس .. وهعرف لو ليكم إيد سعتها ابقى خليكي جاهزة للي هيحصلك

اقترب آدم منهم وقال بنظرات دقيقة ومتشككة :
_ في إيه ياجلنار ؟!
ردت عليه جلنار في شيء من الاستهزاء الملحوظ في نبرتها وهي معلقة نظراتها المميتة على فريدة :
_ مفيش حاجة .. كنت بدي لفريدة منديل تمسح دموعها أصلها منهارة زي ما أنت شايف !
انهت جملتها واستدارت عائدة إلى مقعدها بينما آدم فألقى نظرة متقرفة ومشتعلة على فريدة قبل أن يستدير ويعود هو الآخر لمقعده .. بينما جلنار فجلست على مقعدها وأشارت بنظرها في حدة وإنذار ناحية نادر .. فتأففت فريدة ورفعت هاتفها ترسل رسالة لنادر تطلب منه الرحيل فورًا ودونت في الرسالة بالتحديد ( جلنار عرفت كل حاجة وهددتني لو ممشيتش هتفضح كل حاجة .. امشي فورًا أنا مش ناقصة كفاية اللي أنت هببته )
تطلع لجلنار بنظرة غاضبة وكلها شر .. ثم القى نظرة أخيرة على فريدة قبل أن يستدير وينصرف تمامًا كما طلبت منه .

***
في صباح اليوم حسب فرق التوقيت بين ولاية كاليفورنيا ومصر .........
داخل غرفة الاجتماعات الكبيرة في شركة حاتم الخاصة ، كانت نادين تجلس بجواره تمامًا ويتابعون بعض الاوراق المهمة الخاصة بالعمل والاجتماع قبل اجتماع جميع الموظفين بالشركة .. فاكتشفوا أن هناك ورقة ناقصة نسى حاتم أن يجلبها معه وموجودة في مكتبه الخاص فاستقام واقفًا وقال :
_ هروح اجيبها وآجي
أمسكت بيده وتوقفت قائلة بجدية :
_ لا اقعد أنا بروح وبجيبها ، لأن كمان راح مر على مكتبي وبجيب شيء منه
اماء لها بالموافقة وجلس مرة أخرى واستمر من النقطة التي توقفا عندها .. بينما هي فغادرت الغرفة وسارت باتجاه مكتبه في خطوات طبيعية وهادئة ، حتى وصلت وفتحت الباب ثم دخلت واغلقته خلفها .. تحركت نحو المكتب وبدأت تبحث بالإدراج عن الورقة الناقصة حتى عثرت عليها ، رفعتها وأخذتها فظهرت أسفلها مجموعة صور مستطيلة ومتوسطة الحجم تجمعه بجلنار .. كانت صور حميمية قليلًا يضحكون ومتقربين من بعضهم بطريقة مثيرة للأعصاب .. فتركت الورقة والتقطت الصور تقلب بينها وهي تركز في كل تفصيلة بكل صورة .

تأججت نيران الغيرة في صدرها واحمرت عيناها من فرط الغيظ والغضب .. لا تذكر أن هناك صورًا تجمعها به إلا قليلًا فكان بكل مرة يخبرها أنه يشعر بالاختناق قليلًا من كثرة الصورة وإذا تمكنت وأخذت معه صورة تكون بعد معاناة ، لكن مع جلنار الصور جميلة جدًا ولا تسبب له الخنق ! .
القت بالصور في عنف بالدرج ثم جذبت الورقة واندفعت إلى خارج المكتب وهي تشتعل غيظًا وغيرة ، عادت إلى غرفة الاجتماعات ودخلت ثم وضعت الورقة أمامه بقوة وجلست .. رمقها بحيرة من تحولها الغريب ووجهها الذي أصبح لونه أحمرًا من فرط الغيظ فسألها بخفوت :
_ في إيه يانادين ؟!
ردت عليه باقتضاب دون أن تنظر في وجهه :
_ ولا شيء
_ طيب في حد ضايقك أو قالك حاجة ؟!
بهذه اللحظة نظرت له وهتفت شبه صائحة بغضب هادر :
_ I said nothing ( قلت لا يوجد شيء )
ممكن نركز على الشِغل قبل الاجتماع ما يبدأ
ازاح الأوراق من أمامه بعدم اكتراث وقال باهتمام وهو يثبت كامل تركيزه عليها :
_ ملعون أبو الشغل كله ياروحي .. قولي يلا عشان طالما اتعصبتي كدا يبقى أنا اللي عصبتك
رمقته بنظرة جانبية في قرف ، بينما هو فظل يتطلع إليها بنفس النظرة منتظرًا منها أن تبدأ بالحديث ، فتأففت هي بعصبية وحنق لتهتف في غيرة ملحوظة في نظرتها ونبرتها :
_ أنت ليش كل ما اطلب منك نتصور مع بعض تقولي مو بتحب الصور وبتخنقك
ضيق عيناه باستغراب .. من غضبها وسؤالها الغريب !! ، ليرد عليها يؤكد سؤالها ولا تزال علامات الاستفهام تعلو وجهه :
_ لأني فعلًا مبحبش أتصور كتير وإنتي عارفة ده .. بس برضوا مش فاهم إيه اللي معصبك في كدا !!
صاحت به في انفعال شديد وزمجرة :
_ كذاب ياحاتم مشان .........
توقفت عن الكلام عندما اقتحم الغرفة أحد الموظفين بسبب حلول وقت الاجتماع .. انحنى حاتم عليها وهمس بالقرب من أذنها بجدية بعدما رأى انفعالها الحقيقي :
_ هنكمل كلامنا بعدين ونشوف الموضوع اللي مضايقك أوي ده ومخليكي تقولي عني كذاب !
تعمدت عدم النظر إليه ونظرت إلى الشاب الجالس أمامها وبدأت تتبادل معه أطراف الحديث باللغة الأنجليزية بخصوص العمل بينما هو فكان كل آن وآن ينظر لها وعقله مشغول في سبب غضبها منه ، يحاول توقع الشيء الذي جعلها تنفعل بهذا الشكل لكن لا يستطيع ! .

***
عودة إلى القاهرة ......
وأخيرًا بعد مرور ساعات من الانتظار خرج الطبيب من غرفة العمليات ، كان أول من هرول إليه هو آدم وتبعته أسمهان ، بينما جلنار فظلت واقفة في الخلف تستمع للطبيب وهو يقول بأسف :
_ احنا عملنا اللي علينا والعملية نجحت الحمدلله بس حالته مازالت غير مستقرة وخطرة ولازم هيفضل تحت المراقبة خلال 48 ساعة الجايين وهيدخل العناية المشددة .. ادعوله هو محتاج دعواتكم دلوقتي

انهارت أسمهان باكية وكانت على وشك أن تفقد توازنها وتسقط لولا آدم الذي حاوطها بذراعيه وضمها لصدره متمتمًا بصوت حاول إخراجه طبيعيًا وصلبًا :
_ ادعيله ياماما وإن شاء الله ربنا هيقومه بالسلامة .. أنا واثق
خرج صوت أسمهان غير واضح من فرط البكاء وهي تدفن وجهها بين ثنايا صدر آدم :
_ آه يابني ياحبيبي .. عدنان

انسحبت جلنار بهدوء من بينهم عندما شعرت بأنها ستفقد التحكم بزمام نفسها التي تجبرها على البقاء صامدة منذ ساعات ، سارت باتجاه الحمام وهي شاردة الذهن ، تسير مسلوبة العقل لا ترى شيء ولا تسمع شيء فقط ترى صورته أمام عيناها .

عادت من الحمام بعد دقائق طويلة ووقفت في أحد أركان المستشفى بصمت تام لمدة نصف ساعة أو أكثر .. حتى وجدت قدماها تقودها دون أن تشعر نحو غرفة العناية المشددة .

وقفت أمام زجاج الغرفة الذي يعكس الغرفة بأكملها من الداخل ، رأته متسطح على فراش يناسب طوله وعرضه ، ووجهه به بعض الجروح الذي تخفيها اللاصقات الطبية وهناك جهاز صغير يقفل على أصبعه متصل بجهاز نبضات القلب ، وكانت تقف بجواره إحدى الممرضات تتابع حالته وتضع المحلول .. فظلت هي تتابعه بعينان شاردة ومنطفئة حتى فشلت أخيرًا بعد ساعات من محاولاتها لمنع دموعها من السقوط .. انهمرت أخيرًا دموعها على وجنتيها بصمت وهي تتطلع إليه في أسى ....

رواية كيان الفهد كاملة جميع الفصول ( الفصل 16 )


ظلت هي تتابعه بعينان شاردة ومنطفئة حتى فشلت أخيرًا بعد ساعات من محاولاتها لمنع دموعها من السقوط .. انهمرت أخيرًا دموعها على وجنتيها بصمت وهي تتطلع إليه في أسى .. ظلت تحدق به من خلف الزجاج في ثبات مزيف وعيناها تنهمر منها الدموع بصمت تام .. قلبها يؤلمها حين تعصف بذهنها أفكار سيئة حول سوء حالته الصحية ، وهمسة خافتة خرجت منها بأعين بائسة ومتوسلة :
_ أنا طلبت منك تسيبني .. بس مش دي الطريقة اللي تسيبني بيها .. هنا محتجاك يا عدنان ، قوم
أتاها صوت آدم الخافت من خلفها وهو يقول :
_ جلنار !
رفعت أناملها وجففت دموعها بسرعة ثم التفتت له بجسدها كاملًا وردت :
_ نعم
آدم برزانة :
_ إنتي تعبتي ، عم حامد مستني برا .. روحي البيت وأنا موجود هنا وهبلغلك بأي تطورات متقلقيش
التفتت برأسها نحو عدنان وهتفت رافضة وهي تهز رأسها بالنفي :
_ لا أنا هفضل موجودة لغاية ما يفوق
آدم متنهدًا بعدم حيلة :
_ وجودك مش هيفيد بحاجة والله صدقيني .. ريحي في البيت وتعالي بكرا الصبح
جلنار بإصرار :
_ قولتلك مش همشي يا آدم
_ جلنار بلاش عناد .. اسمعي الكلام حتى ماما وفريدة هيروحوا البيت ، وإنتي كمان لازم تمشي عشان هنا مينفعش تسبيها وحدها
عندما نطق باسم هنا .. لان اصرارها قليلًا والتفتت بنظرها تحدق بعدنان في تمعن قبل أن تعود بنظرها لآدم وتقول بعينان راجية :
_ طيب همشي بس وعد إنك هتتصل بيا لو حصل أي حاجة .. وكمان أول ما يفوق كلمني
ابتسم لها بلطف وتمتم بإيجاب :
_ حاضر هتصل بيكي والله متقلقيش
تنهدت الصعداء بحرارة وهي تلقي النظرة الأخيرة عليه من خلف الزجاج ثم استدارت وسارت مبتعدة عن الغرفة بصعوبة كمن أجبرت على الرحيل .. وصلت إلى بوابة المستشفى بعد لحظات من السير للخروج من المستشفى .. وجدت حامد بانتظارها أمام السيارة فأخذت نفسًا عميقًا واقتربت منه ثم استقلت بالمقعد الخلفي للسيارة واستقل هو بمقعده ثم هتف هو يسألها بتأكيد :
_ عند الحجة انتصار مش كدا ياهانم ؟
اماءت له بالإيجار في وجه عابس وتمتمت :
_ أيوة ياحامد
***
داخل منزل الخالة انتصار .....
كامنة في غرفتها منذ عودتها ، تجلس على مقعد خشبي قديم أمام النافذة ومستندة بمرفقها عليه واضعة كفها أسفل وجنتها ، تتأمل الفراغ من أمامها بشرود وعينان دامعة .. لا تفهم لما البكاء لكن قلبها يؤلمها عليه وهناك صوت خافت في أعمق ثناياها ينادي به .. يرغب في رؤيته سالمًا يتحدث وربما أيضًا يغضب كعادته وينشب شجار عنيف بينهم ككل مرة .
فتحت هنا الباب بهدوء ودخلت ثم اقتربت من أمها ، فجففت جلنار دموعها بسرعة والتفتت برأسها تجاه ابنتها تقابلها بابتسامة حانية ، حتى وصلت ووقفت أمامها فسألت الصغيرة بعبوس :
_ هو بابي ليه مجاش ياماما ؟
ازدردت جلنار غصة مريرة في حلقها ثم انحنت عليها وطبعت قبلة دافئة على جبهتها متمتمة بعينان دامعة :
_ بابي تعبان شوية ياروحي .. والدكتور قاله لازم يقعد عنده لغاية ما يخف ، وعشان كدا هو قعد مع الدكتور في المستشفى .. بس وعد إنه أول ما يبقى كويس هنروح أنا وإنتي ونشوفه
زاد عبوس الصغيرة وتحول إلى حزن فور سماعها بمرض أبيها ، ثم قالت بملامح وجه بائسة لا تليق بوجهها الملائكي الصغير أبدًا :
_ بس أنا عايزة اسوف ( اشوف ) بابي هو وحشني
تمالكت جلنار زمام دموعها بصعوبة وردت عليها مبتسمة بثبات مزيف :
_ مش هينفع ياحبيبتي الدكتور قال مينفعش حد يشوفه .. أول ما يبقى كويس زي ما قولتلك هاخدك ونروحله ، تمام ؟
هزت رأسها بالموافقة مغلوبة على أمرها ثم طرحت سؤالها الثاني وهي تمعن النظر في وجه أمها وعيناها السابحة في الدموع :
_ إنتي زعلانة عشان بابي تعبان ؟
أخذت نفسًا عميقًا في محاولة بائسة منها لمنع دموعها من الأنهمار لكنها فشلت وسقطت دمعة متمردة من عينها .. ثم هزت رأسها بإيجاب تؤكد سؤال صغيرتها وهي تفرد ذراعيها وتضمها إلى أحضانها ، فلفت الصغيرة ذراعيها حول رقبة والدتها وردت بحزن طفولي :
_ وأنا كمان زعلانة
بتلك اللحظة انهارت جميع حصونها الضعيفة وتوالت الدموع على وجنتيها بغزارة لكن دون صوت ، دموع ألم وخوف وشجن .. أبدًا لم تتخيل أن يأتي يوم وقلبها ينفطر حزنًا وخوفًا عليه من الفقدان .
قطع اللحظة الدافئة والمؤثرة بين الابنة والأم دخول الخالة انتصار التي فتحت الباب وهي تحمل فوق ذراعيها صينية نحاسية اللون وفوقها ثلاث صحون كل صحن يحتوي على نوع طعام مختلف .. ابتعدت هنا عن أمها ونظرت إلى الخالة ثم ركضت إليها وتعلقت بقدمها تقول بصوت عابس وعينان شبه دامعة :
_ بابي تعبان وماما زعلانة يانينا انتصار
نظرت انتصار إلى جلنار نظرة معاتبة لعدم تمالكها نفسها أمام الصغيرة ، ثم وضعت الصينية فوق الفراش وانحنت على هنا تحتضن وجهها الصغير بين كفيها وترد عليها بحنو وحب :
_ بابي تعبان شوية صغنين أوي ياحبيبتي وإن شاء الله هيبقى كويس وزي الفل
ثم ألقت نظرة سريعة على جلنار التي تتابعهم بعيناها وانحنت على أذن هنا وهمست :
_ و زي ما إنتي بتحبي بابا وزعلانة إنه تعبان ماما كمان زي كدا
التفتت الصغيرة برأسها ناحية أمها ثم عادت بها أخرى إلى الخالة وسألت بحزن به لمسة الاطمئنان :
_ يعني بابي هيبقى كويس ؟
_ طبعًا هيبقى كويس ياحبيبتي إن شاء الله .. يلا بس إنتي زي الشطار كدا اجري على السرير ونامي عشان بابي لما يرجع ميزعلش إن هنون بتنام متأخر
ابتسمت هنا بلطافة وجهها الملائكي ثم ركضت فورًا نحو الفراش وتدثرت بالغطاء فضحكت انتصار بخفة وارسلت لها قبلة في الهواء ثم حملت الصينية مرة أخرى وأشارت لجلنار بأن تلحق بها .
الخالة انتصار .. كانت تعمل خادمة في منزل نشأت الرازي ، وكانت علاقتها بوالدة جلنار حميمية جدًا وتحبها كثيرًا .. ساعدتها في تربية جلنار من الصغر لذلك تعتبرها جلنار والدتها الثانية .. حتى بعد وفاة أمها في سن صغير كانت انتصار دائمًا بجوارها لم تتركها ، تمامًا كأمها ، وكانت جلنار تتردد على منزلها كل آن وآن بعدما تركت العمل في منزلهم فور وفاة أمها .
خرجت خلفها وجلسا على الأريكة الكبيرة في الصالون فقالت انتصار بنبرة مشفقة :
_ كلي إنتي مكلتيش حاجة يابنتي
جلنار برفض :
_ مليش نفس يادادا
_ احنا مش اتفقنا إنك تمسكي نفسك قدام البنت ياجلنار
_ مقدرتش والله من غير احس لقيت دموعي نزلت
تنهدت انتصار مبتسمة ثم قالت بوضوح وصراحة تامة وهي مثبتة نظرها عليها بثقة :
_ اللي يشوفك خايفة عليه بالشكل ده ميشوفكيش وإنتي عايزة تتطلقي منه
ارتبكت قليلًا وردت عليها بحزم :
_ دي حاجة ودي حاجة .. الاتنين ملهمش علاقة ببعض
انتصار ضاحكة :
_ لا إزاي ملهمش علاقة ببعض !! .. ده إنتي من ساعة ما رجعتي من المستشفى وإنتي دموعك موقفتش ، وده معناه حاجة واحدة هي إنك بتحبيه
رمقت جلنار انتصار بدهشة امتزجت بالتوتر الذي سرعان ما حاولت إخفائه وهي تهتف نافية بجفاء :
_ لا طبعًا مش بحبه !! .. أنا بس زعلانة على الوضع اللي هو فيه وطبيعي ازعل ، في الأول والآخر هو أبو بنتي .. بعدين بحبه إيه يادادا إنتي كأنك متعرفيش اللي بينا
انتصار بابتسامة مستنكرة :
_ عارفة وعشان كدا مستغربة ! .. عمومًا ربنا يقومه بالسلامة يارب
همهمت جلنار بخفوت وصوت يكاد يسمع :
_ يارب
***
على الجانب الآخر من العالم ، بمدينة كاليفورنيا بأمريكا .....
انتهى الاجتماع أخيرًا وخرج الجميع تباعًا من الغرفة وقفت نادين وحملت أوراقها واشيائها تهم بالانصراف لكنه قبض على رسغها يجبرها على الجلوس ويهتف بجدية :
_ اقعدي احنا لسا مخلصناش كلامنا
ردت عليه بقسوة غير معهودة منها :
_ بعتقد انو خلص .. ممكن تترك إيدي
تأفف حاتم بنفاذ صبر ثم هب واقفًا واتجه نحو باب الغرفة في خطوات قوية واغلق الباب بعنف ثم عاد لها وهتف بشيء من العصبية :
_ نادين أنا خلقي ديق وإنتي عارفة كدا .. اتكلمي وقولي إيه اللي حصل
طالعته بابتسامة ساخرة وهدرت بعد ثواني معدودة من التحديق به في عدم اكتراث :
_وأنا مو طلبت منك تهتم بشو مضايقني .. إنت ياللي سألت وأنا رديت وقلتلك ولا شيء
حاتم بغضب :
_ ياسلام .. امال إيه موضوع الصور ده وكذاب ومعرفش إيه !!
نادين ببرود تام وهي تهم بالانصراف :
_ بتقدر تعتبرني ما قِلت شيء
القت بجملتها واندفعت نحو الباب في خطوات سريعة فلحق بها وجذبها من ذراعها هاتفًا بسخط :
_ أنا لسا مخلصتش كلامي يانادين
نظرت ليده المقبضة على ذراعها بقوة فاشتعلت نيران غضبها وصاحت به منفعلة وهي تسحب يدها من بين قبضته :
_ وأنا بالنسبة إلي الكلام خلص ياحاتم .. ما تنسي حالك وتقربلي بهاي الطريقة مرة تاني عم تفهم ولا شو !
رفع حاجبه في استنكار ملحوظ بنظرته من أسلوبها الجديد ولاحت ابتسامة متسلية فوق ثغره على عكس حالته الغاضبة منذ قليل .
وجدته يتقدم نحوها بخطوات متريثة وتلك الابتسامة المريبة تزين وجهه ، ارتبكت وتوترت بشكل ملحوظ .. وبشكل تلقائي منها تقهقهرت للخلف وهي تهتف بتحذير سخيف وترفع سبابتها المضطربة مثلها تمامًا في وجهه :
_ لا تقرب .. حاتم لا تقرب قلتلك !!
لا يبالي لتحذيرها اللطيف ، كان هدفها بث الخوف بهذا التحذير ولكنها فعلت العكس .. ظلت تتراجع وقد نست أن نهاية هذا الاتجاه هو الحائط ، فاصطدمت بظهرها به والتفتت برأسها للخلف تتطلع للحائط بتوتر ثم عادت برأسها إليه وحدقته بشراسة تليق بجمال أنثى فاتنة ورقيقة مثلها .. وقف أمامها وابتسامته المتسلية زاد اتساعها على ثغره ، ثم رفع كلتا ذراعيه وأسند كفيه على الحائط يحاوطها من الجهتين يرمقها بنظرة مشاكسة متحدثًا بنفس لهجتها اللبنانية :
_وإذا قربتلك شو بتسوي ؟!
ازدردت نادين ريقها بارتباك واستحياء ملحوظ على وجهها ، ابتسامته ونظراته أذابتها في لحظة كقطعة ثلج وضعت فوق النيران ، ظلت تتأمله بهيام ولسانها انقعد فلم تتمكن من الرد عليه ، استمرت فقط في التحديق به مسلوبة العقل .
ابتسم باتساع اكثر حين رأى سكونها التام واستسلامها وهي تتطلع إليه بعينان شاردة ، فغمز لها بعيناه البندقية وتمتم شبه ضاحكًا :
_ شششش .. سرحتي في إيه
فاقت من رحلتها القصيرة على أثر صوته وغمزته المثيرة ، فزاد توترها وخجلها أكثر وبعفوية وضعت يديها الناعمتين على صدره ودفعته بعيدًا عنها فارتد هو للخلف ، وهرولت هي نحو الباب تفر منه قبل أن يمسك بها مرة أخرى .. فتحت الباب وكانت على وشك الرحيل لكنها توقفت والتفتت له برأسها هاتفة بغيظ ووعيد حقيقي :
_راح حاسبك على هاد الشي اللي سويته هلأ
تفوهت بتلك الجملة ورحلت فورًا دون أن تغلق الباب حتى خلفها من فرط توترها ، بينما هو فضحك بخفة وهو يلوح بيده في عدم حيلة .
***
عودة إلى القاهرة في مصر .....
أخرج آدم هاتفه من جيب بنطاله بعد ارتفاع صوت رنينه الصاخب .. قرأ اسم المتصل الذي ينير الشاشة ثم رد بخشونة صوته الرجولي :
_ هاا عملت إيه ؟
رد عليه الطرف الآخر بأسف :
_ للأسف يا آدم بيه لغاية دلوقتي مقدرتش أوصله
صرخ به بصوت جهوري لكن سرعان ما حاول إخفاض نبرته عندما تذكر أنه موجود بالمستشفى :
_ وهو أنا باعتك تدورلي عليه عشان تقولي مقدرتش اوصله .. بكرا عايز **** ده يكون قدامي وقبل ما البوليس يمسكه فاهم ولا لا
أجاب عليه الآخر بنبرة متلعثمة قليلًا تحمل القليل من الخوف :
_ حاضر يابيه
انزل الهاتف واغلق الاتصال ثم اتجه نحو أقرب مقعد وجلس فوقه ، قم رفع كفه ماسحًا على وجهه متأففًا بإرهاق وتعب .. لمح الطبيب يخرج من غرفة أخيه فتوقف وهرول مسرعًا يلحق به قبل أن يرحل .
اوقف الطبيب وسأله باهتمام :
_ طمني يادكتور حالته تحسنت شوية ولا لسا زي ماهي
لمس الطبيب نبرة القلق والارتعاد في صوت آدم فابتسم له وقال مربتًا على كتفه بنبرة متفائلة :
_ للأسف لسا زي ماهي .. بس متقلقش إن شاء الله هيقوم بالسلامة ، ولغاية بكرا الصبح ممكن كل حاجة تتغير وحالته تتحسن ويفوق كمان
تنهد آدم بأسى ورد في تمنى :
_ يارب .. متشكر جدًا يادكتور
_ على إيه ده واجبي
انصرف الطبيب وبقى آدم يقف بأرضه متسمرًا في حزن .. ثم تحرك بقدماه نحو زجاج الغرفة ووقف أمامه من الخارج ينظر لأخيه المتسطح على الفراش ، امعن النظر به في قلب منفطر للحظات حتى خرجت همسة تحمل في طياتها الوعيد وكلها غضب :
_ أنا شاكك في حد وصدقني لو طلع هو السبب في الوضع اللي إنت فيه دلوقتي ده مش هرحمه
***
خرجت فريدة من الحمام وهي تجفف وجهها بمنشفة صغيرة ، فصك سمعها صوت رنين هاتفها .. تحركت باتجاهه والتقطته تنظر للشاشة وتقرأ اسم المتصل الذي كان مسجل باسم " لميا " .. تأففت بخنق ثم حركت اصبعها على شاشة الهاتف لتفتح الاتصال ورفعت الهاتف تضعه على أذنها تجيب بشيء من السخط :
_ خير
نادر مبتسمًا بسخرية ونبرة لا تبشر بخير :
_ اخبار اللي لو حصله حاجة مش هترحميني عشانه إيه ؟!! .. فاق ولا لسا ؟
ردت فريدة في استهزاء من سؤاله وبعصبية :
_ مهتم اوي يعني سيادتك مثلًا تعرف وضعه إيه .. طيب يانادر عدنان حالته خطرة ودخل العناية المشددة ياترى إنت مرتاح كدا
ضحك ورد ببرود وفرحة داخلية :
_ جدًا .. الحقيقة أنا اللي مش فاهمك هو مش انتي برضوا بتحبيني ومش بتحبيه .. امال ايه لزمة الخوف ده كله عليه ، ولا بقى إنتي كنتي مفهماني غلط وبتحبي عدنان
أصدرت زفيرًا حارًا بنفاذ صبر وردت عليه باستياء :
_ هو الكلام ده وقته دلوقتي يانادر .. بقولك حالته خطرة وممكن ميقومش منها وإنت بتقولي بتحبيني وبتحبيه و.....
قاطعها بخنق وصوت أجشَّ :
_ خلاص خلينا نركز في الأهم دلوقتي .. جلنار عرفت إزاي ؟
_ معرفش كانت نقصاها هي دي كمان .. لو مكتمناش نفسها هتفضحنا ووقتها عدنان هو اللي هيقتلنا
نادر بابتسامة شيطانية ونظرة لعوب لم تراها بسبب تحدثهم في الهاتف :
_ ده في حالة لو مكتمناش نفسها زي ما بتقولي
فريدة متأفف بقرف وحنق :
_ اقفل يانادر أنا مش في وضع يسمح ليا بالتخطيط والكلام دلوقتي خالص .. لما افوق وعدنان كمان يطلع من العناية وحالته تتحسن نبقى نفكر هنعمل إيه في المصيبة اللي نزلت فوق راسنا دي
انهت الاتصال دون أن تنتظر رده حتى .. مما جعله ينزل الهاتف من على أذنه ويتطلع إليه بشيء من الدهشة مبتسمًا بازدراء ، ثم هدر بغل ينبع من صميمه :
_ عدنان ! .. أصلًا حادث زي ده المفروض كان يوصل المستشفى ميت لكن هو بسبع أرواح
ثم سكت للحظة يفكر بشيء وسرعان ما انفجر ضاحكًا وهو يهتف بتسلي لمجرد مرور الفكرة على ذهنه :
_ كنت ناوي اخلص منك ياديدي ياحبيبتي بنفسي ، بس هسيبك للي مش بيرحم بجد وهبقى ضربت عصفورين بحجر واحد خلصت منك وعدنان الشافعي دخل السجن
ثم انحنى على كأس الڤودكا الموضوع فوق المنضدة الصغيرة وسكب منه في الكأس البيضاوي ورفع الكأس لفمه يرتشفه كله دفعة واحدة ويهتف مستكملًا ضحكه الشيطاني :
_ مجرد التخيل باللي هيعمله فيكي لما يعرف بخيانتك بيشعرني بالنشوة ياديدي
***
في صباح اليوم التالي داخل منزل نشأت الرازي ......
يمسك بفنجان القهوة الصباحي المعتاد ، جالسًا في حديقة المنزل على مقعد أمام طاولة بيضاء ودائرية ، مستمتعًا بالأجواء الهادئة من حوله واللون الأخضر الذي يملأ نظره .
قطع عليه خلوته الصباحية اقتراب مساعده الخاص ووقوفه أمامه مغمغمًا :
_ صباح الخير يانشأت بيه
_ صباح النور ياصلاح خير !
أردف صلاح بنبرة جادة تحمل القليل من التعجب :
_ هو سيادتك متعرفش آخر الأخبار ؟
نشأت بحنق متأففًا :
_ لا معرفش .. اتكلم علطول من غير مقدمات في إيه ؟!
_ عدنان الشافعي عمل حادث خطير امبارح وهو في العناية المشددة دلوقتي
كان فنجان القهوة في فمه يرتشف منه .. فأخرجه فورًا وهو يبتلع القهوة التي في فمه بزعر .. ثم اسنده على الطاولة في قوة وهتف بصدمة :
_ حادث !! .. وإزاي متقوليش من امبارح يابغل أنت !
صلاح معتذرًا ببعض الاضطراب :
_ ياباشا أنا يدوب لسا عارف الخبر ده دلوقتي .. وأول ما عرفت جيت لسعاتك جري عشان اقولك
نشأت بعصبية وهو يلوح بيده له في عنف :
_ طيب خلاص خلاص .. قول كل اللي عرفته اخلص
_ عربية نقل خبطت في عربيته وحالته كانت صعبة أوي لما وصل المستشفى قبل العمليات .. وكمان اللي فهمته أن الحادث ده مقصود والدليل أن آدم بيدور على سواق عربية النقل دي وقالب الدنيا عليه من إمبارح .. وبنت حضرتك هي والبنت الصغيرة حفيدتك قاعدين عند الحجة انتصار
توقف عند كلمة " مقصود " وعقله بدأ يعمل .. من لديه الغاية في التخلص منه حتى يدبر له حادث كهذا ؟! .. سؤال طرحه على نفسه بتفكير وحيرة ، وبعد لحظات من الصمت القاتل خرج صوته وهو يملي تعليماته الصارمة على صلاح :
_ خلي حد من الرجالة يفضل ورا الموضوع ده ويعرفلي مين اللي دبر الحادث ده .. أما أنت فعايزك تبقى ورا جلنار وهنا زي ضلهم لغاية ما نعرف مين اللي عايز يأذي عدنان .. وأياك عينك تغفل عنها لحظة واحدة فاهم ولا لا ، وأكيد مش محتاج أوصيك إنك متخلهاش تلاحظ إنك مراقبها وماشي وراها
هتف صلاح يقترح فكرة ليست سيئة لكنها بائسة :
_ طيب ياباشا ما تخلي جلنار هانم وبنتها يقعدوا عندك في البيت هنا عشان تبقى قدام عينك ومطمن عليها اكتر
تنهد نشأت بيأس وهدر بوجه عاجز :
_ ياريت يا صلاح بس هي مش عايزة تبص في وشي ، فكرك هتوافق تقعد معايا
_ جرب ياباشا مش هتخسر حاجة
أصدر نشأت زفيرًا حارًا وتمتم :
_ روح أنت دلوقتي ياصلاح اعمل اللي قولتلك عليه بس
أماء له الآخر بالموافقة وهو يزم شفتيه ثم استدار وسار مبتعدًا إلى خارج المنزل بأكمله .. تاركًا نشأت يحاول تخمين من الذي دبر ذلك الحادث ، ومن جهة أخرى يفكر بابنته وحفيدته وقد بدأ القلق يتسرب لقلبه خشية من أن يلحق بهم أي مكروه .. لكنه لن يسمح بهذا ! .
***
خرجت مهرة من البناية الصغيرة لمنزلها .. تسير في الشوراع الداخلية لمنطقتها لكي تصل إلى الشارع الرئيسي وتستقل بإحدى سيارات الأجرة وتذهب لعملها قبل أن تتأخر .. لكن أثناء مرورها من أحد الشوارع أوقفها شابًا يبلغ من العمر حوالي سبعة وعشرون عامًا من أبناء منطقتها .
قفز أمامها من بوابات أحد المنازل فجأة فانتفضت مهرة فزعًا وارتدت للخلف كردة فعل تلقائية ثم صاحت بعفوية بعدما أدركته :
_ إنت اتهبلت ولا إيه يا ريشا
وقف أمامها وهتف بنظرة خبيثة :
_ على فين كدا يافرسة المنطقة
تجمدت معالم وجهها للحظة تستوعب جملته ، الجميع يعرف أنه ماجن ومنحرف لكنه لم يسبق له وتجرأ أن يتحدث معها بهذه الطريقة ! .
مهرة بتصنع عدم الفهم ووجه بدأت تعتلي ملامحه الغضب :
_ بتقول إيه لا مؤاخذة !
رد عليها الآخر بوقاحة وعينان جريئة تتفحص جسدها :
_ أنا أول مرة اشوف شغل بيبقى الصبح .. أصل اللي اعرفه أن الشغل اللي زي كدا بيبقى بليل بعد نص الليالي
اشتعلت مهرة غضبًا وصاحت به بصوت مرتفع وبعصبية :
_ أنت اتخبلت في نفوخك بتقول إيه يالا .. ابعد من وشي جاتك القرف
ابتعدت من أمامه وهمت بأكمال طريقها لكنه قبض على ذراعها وهتف بنظرة وضيعة وابتسامة جانبية ساخرة :
_ بقول المشي البطال ياما بهدل أبطال مش كدا ولا إيه يابطل الحتة
نظرت ليده القذرة الممسكة بذراعها ، ورفعت نظرها له تطالعه بعينان تطلق شرارات نارية يمكنها أن تحرقه وتحوله لرماد بلحظة .. أظهرت عن شراسة الانثى الشعبية التي تكمن داخلها .. حيث رفعت حقيبتها التي محاطة بالخارج بقطع حديدية تزين شكلها من الجوانب ومن الأعلى ، ثم غارت عليه تلكمه بها في وجهه ورأسها بكل عنف وشراسة وتهتف باستهزاء وغل :
_ بظبط زي ما انا هبهدل **** دلوقتي .. ياتربية *** وزبالة وعرة
كان يحاول تفادي لكماتها بحقيبتها الثقيلة والمؤلمة وهو يصرخ بها ويده تعبث في الهواء لكي تمسك بها وتوقفها لكنه لم يتمكن من مجابهة هجومها الشرس عليه .. وبعد لحظات من الضرب المتواصل توقفت ونظرت لوجهه الذي بدأت تسيل الدماء من اعلى جبهته وكذلك جانب ثغره ، فابتسمت بثقة وانتصار لتجيب عليه بنفس طريقته الشعبية في الحديث :
_ يا تخليك قد كلامك .. ياتخلي كلامك على قدك هااا
القت بجملتها ثم استدارت وسارت تكمل طريقها للخارج وهي تبتسم بتشفي .. بينما الآخر فرفع أنامله يتحسس دماء جبهته وثغره وعيناه معلقة عليها تتابعها وهي تسير مبتعدة عنه ، ثم خرجت منه همسة متوعدة بغضب هادر وغل :
_ ماشي يابنت رمضان الأحمدي وحياة أمي لأعرفك ريشا مين على حق
***
توسلات كثيرة من ميرفت وهي تحاول إقناع أسمهان بالبقاء وعدم الذهاب .. لكن الأخرى لا تسمع لأحد ومصرة على الذهاب لرؤية عدنان ، ولا تتفوه سوى بشيء واحد ( أنا هروح اشوف ابني مش هقعد هنا وهو قاعد في المستشفى ) .
توقفت ميرفت وهتفت برجاء ولطف :
_ يا أسمهان .. هتروحي تعملي إيه بس هو لسا في العناية ومفاقش وممنوع حد يدخله ، وآدم موجود هناك أول ما يفوق أكيد هيتصل بينا ويقولنا
أسمهان بعصبية وإصرار :
_ أنا قولت هروح يعني هروح ياميرفت
تنهدت ميرفت بعدم حيلة وتبادلت النظرات مع زينة التي رفعت كتفيها الأخرى مغلوبة على أمرها وقالت :
_ خلاص ياماما سبيها على راحتها هي هترتاح اكتر لما تروح وتفضل جمبه هناك
ارتفع صوت رنين ميرفت فأمسكت به ونظرت لاسم المتصل وردت فورًا بتلهف :
_ آدم طمنا يابني مفيش أخبار ؟
ظهر التلهف المماثل والقلق على وجه كل من زينة وأسمهان بينما آدم فتنهد بأسى وقال نافيًا بنبرة صوت مختلفة من فرط الحزن والإرهاق :
_ لا لسا مفاقش ياخالتو .. بس الحمدلله حالته احسن شوية من امبارح ، انا اتصلت عشان اسألك عن ماما عاملة إيه ؟
ابتعدت قليلًا عن أسمهان وردت عليه بخفوت وصوت منخفض :
_ رافضة تاكل أي حاجة ودموعها موقفتش من ساعة ما رجعت بليل من المستشفى ودلوقتي بتلبس ومصممة إنها هتروح المستشفى
_ طيب ادهاني ياخالتو هكلمها أنا
عادت ميرفت مرة أخرى إلى أسمهان ومدت الهاتف لها تهتف :
_ خدي كلمي آدم يا أسمهان عايز يكلمك
صاحت أسمهان بصوتها المرتفع وانفعال بعدما فهمت سبب رغبته في الحديث معه :
_مش هتكلم أنا قولت كلمتي وخلاص
ضمت يدها مرة أخرى ورفعت الهاتف إلى أذنها تجيب على آدم بيأس :
_ سمعتها طبعًا
آدم متنهدًا بتعب :
_ طيب خلاص ياخالتو خليها تاجي بس تاكل الأول متطلعش من البيت من غير فطار وخلي بالك عليها معلش
_ حاضر ياحبيب خالتك متقلقش .. وخلي بالك إنت كمان من نفسك
رد عليها بالموافقة في نبرة لينة ثم انهى الاتصال وتحرك باتجاه غرفة أخيه ووقف أمام الزجاج يتابعه هكذا ملازمًا إياه منذ مساء الأمس دون أن تحيد نظراته عنه ! .
***
في مساء ذلك اليوم ......
منذ الصباح ولا توجد أي أخبار سارة .. قلبها يتآكل خوفًا وحزنًا ، وكل ساعة والأخرى تجري اتصال بآدم تسأله عن إذا حدثت أي تطورات بحالته الصحية فيجيب عليها بالنفي .. تجاهد بصعوبة في تمالك دموعها التي تحارب من أجل الأنهمار ، وصغيرتها لا تكف عن السؤال ( متي سيعود أبي .. هيا نذهب إليه إذًا ) وبكل سؤال لها تجيب هي عليها بحجة مختلفة وثبات مصطنع حتى لا تنهار أمام طفلتها .. وكانت تود أن تهتف وتخبرها من بين بكائها ( قلبي يؤلمني على أبيكِ مثلك تمامًا ياصغيرتي ، ولأول مرة أشعر باشتياقي له ! ) .
تجلس على مقعدها الخشبي أمام النافذة .. ترفع ساقيها إلى صدرها وتلف ذراعيها حول ساقيها محتضنة نفسها كطفلة صغيرة تائهة .. وعيناها تحدق في الفراغ بشرود متذكرة إحدى لحظاتهم اللطيفة معًا في الماضي ...
منكبة على البكاء بحرارة وهي بين ذراعيه تدفن وجهها بين ثنايا صدره الدافيء وتبكي كالأطفال تمامًا ، بينما هو فيلف ذراعه حولها ويملس على أعلى ذراعها بلطف ورقة كي يساعد في تهدئتها لكنها تزداد في البكاء أكثر مما جعله يهتف بحيرة :
_ كفاية ياجلنار خلاص .. ليه العياط ده كله !
أجابت عليه من بين بكائها بصوت متقطع :
_ أنا خايفة أوي على دادا انتصار
عدنان متنهدًا بنفاذ صبر وهو مستمر بحركة يده التلقائية على ذراعها ويزيد من ضمه لها :
_ احنا مش كنا عندها دلوقتي ولسا جايين وكانت كويسة الحمدلله .. خلاص بقى ارحمي نفسك وارحميني
توقفت عن البكاء ورفعت رأسها قليلًا عن صدره وهي لا تزال بين ذراعيه وطالعته بوجه ممتليء بالدموع ونظرات بريئة .. احس لوهلة أن ينظر لطفلته الصغيرة التي لم تتعدى السنة ونصف فابتسم بتلقائية قبل حتى أن يسمع جملتها الألطف من نظراتها :
_ بكرا الصبح هروح اطمن عليها تاني
رد عليها بخفوت هاديء وابتسامة دافئة :
_ روحي هو أنا قولتلك لا !
اخفضت نظرها وعادت تدفن وجهها مجددًا بين ثنايا صدره واستمرت في البكاء من جديد فوجدته يهتف بنفاذ صبر حقيقي هذا المرة وبخنق :
_ اوووووف وبعدين ياجلنار !
هتفت بصوت تمكن من استيعاب كلماتها من خلاله بصعوبة بسبب بكائها الحار :
_ إنت لما بتحضني أنا بعيط اكتر
فاقت من ذكرياتها ووجهها كله كان ممتليء بالدموع .. تبكي الآن ليس لمرض الخالة بل من أجله هو ، الجميع حولها سواه .. لا تعرف إلى متى سيظل نائمًا في ذلك الفراش البائس ، ألا يكفي هذا القدر ليعلم مقدار محبته في قلوبهم ، ألا يكفيه دموع الخوف والرعب التي تسيل من عيونهم كالدماء .. لا يحق له أن يؤلم قلبها في الخير والشر ! .. يكفيه اللآم التي الحقها بها .. ستثأر منه عندما يستيقظ لأنهم لم يتفقا على فراق قد يكون ابدي ! .
***
استقام آدم من مقعده بتلهف فور رؤيته للطبيب وهو يخرج من غرفة أخيه .. اسرع إليه شبه راكضًا وسأل بقلق :
_ وضعه إيه دلوقتي يادكتور !
علت ابتسامة مشرقة فوق ثغر الطبيب أعادت الأمل والروح لوجه آدم العابس منذ يومًا كاملًا .. وتابع الطبيب وهو يعطي البشرى المنتظرة بود وسعادة :
_ الحمدلله فتح عينه وتجاوز الخطر على حياته
تهللت أسارير آدم والبسمة ملأت وجهه كله ، وكأنه ثقلًا ازاحه عن صدره بتلك البشرى المنتظرة .. لمعت عيناه بسعادة غامرة ودفن وجهه بين ثنايا كفيه متمتمًا براحة مرددًا :
_ الحمدلله .. ألف حمد وشكر ليك يارب
رفع وجهه وهتف يسأل الطبيب :
_ طيب كدا هيخرج من العناية ولا لسا
_ لا للأسف لازم يفضل تحت الملاحظة تحسبًا لأي تطورات ممكن تحدث .. بس هو حتى الآن حالته مستقرة ومفيش خطر الحمدلله
اماء آدم برأسه في تفهم وعاد يطرح سؤاله الثاني بترقب :
_ طيب اقدر ادخل اشوفه ؟
هز الطبيب رأسة بالموافقة وتمتم ببعض للأسف :
_ تمام بس اتنين بس اللي هيدخلوا ليه و كل واحد ثلاث دقائق بحد أقصى وبدون كلام كتير عشان متحصلش مضاعفات ويتعب
_ تمام يادكتور شكرًا
_ على إيه .. وحمدلله على سلامته مرة تاني
_ الله يسلمك
ابتعد آدم بعد رحيل الطبيب وأجرى اتصال بأول شخص كان في آخر قائمة الاتصالات ووضع الهاتف على أذنه يستمع الرنين بانتظار رده .
التقطت جلنار هاتفها ونظرت لاسم المتصل فقفزت جالسة بفزع وأجابت هاتفة بتلهف وهي تجفف دموعها التي مازالت فوق وجنتيها :
_ أيوة يا آدم
لاحظ بحة صوتها وهي تجيب عليه فابتسم بإشفاق وهتف في فرحة :
_ عدنان فاق ياجلنار وحالته كويسة الحمدلله
خرجت منها تنهيدة كان بمثابة عودة الروح لقلبها المنفطر ، وظهرت على شفتيها الشاحبتين ابتسامة شكر وعادت الدموع تتجمع في عيناها مرة أخرى من السعادة ، ثم ردت على آدم بصوت مبحوح :
_ الحمدلله .. طيب اقدر ادخل اشوفه لو جيت يا آدم
ابتسم الآخر واردف بوداعة :
_ انا متصل بيكي عشان كدا أساسًا .. الدكتور قال اتنين بس اللي يدخلوا ، تعالي عشان تدخلي تشوفيه وكمان ماما هتصل بيها وهتيجي عشان تدخل وتشوفه
اتسعت ابتسامتها أكثر ثم سرعان ما قالت بريبة :
_ وإنت مش هتدخل تشوفه ؟!
_ ياستي تعالي انتي بس وملكيش دعوة بيا
هبت من مقعدها واقفة وقالت بحماس وفرحة :
_ طيب طيب انا هلبس وآجي دلوقتي فورًا

 

رواية كيان الفهد كاملة جميع الفصول ( الفصل 17 ) 


ارتدت الملابس الطبية الخاصة بالزيارة .. ووقفت أمام باب غرفته للحظة تسحب أنفاسها لصدرها في راحة ثم تخرجها زفيرًا متمهلًا ، وعلى ثغرها ابتسامة سعادة وشوق .
فتحت الباب ببطء شديد حتى لا تسبب إزعاج ، ودخلت ثم اغلقته خلفها ببطء أشد من السابق ، استدارت بجسدها له ورأته نائم في الفراش والأجهزة الطبية حول الفراش من الجهتين وبيده إبرة متصلة بانبوبة صغيرة تصل إلى زجاجة المحلول المعلقة بجانب فراشه .. تلألأت الدموع في عيناها في لحظة لكنها شدت على محابسهم بسرعة واقتربت بخطواتها الهادئة منه ، وقفت بجانب فراشه بالضبط واستغرقت لحظات قصيرة وهي تمعن النظر في وجهه الشاحب ، فلم تتمكن من حجز دموعها أكثر فانهمرت على وجنتيها بغزارة .. مدت يدها الناعمة وامسكت بيده الكبيرة ، احتضنت كفه بقوة تستشعر لمسة يده التي ترغب بالشعور بها لأول مرة .. وعيناها لا تتوقف عن زرف الدموع .
توقفت عن البكاء وتجمدت ملامحها حين شعرت به يضغط بوهن على كفها الممسك بيده ، وباللحظة التالية يفتح عيناه ببطء في تعب وتخرج همسة خافتة منه :
_ جلنار
تهللت اساريرها وعلت الابتسامة الواسعة شفتيها فور سماعها لصوته ورؤية عيناه ، طالعته بنظرة دافئة دون أن تجيب ، فمال هو برأسه بعض الشيء وتطلع لوجهها وعيناها الغارقة بالدموع فلاحت شبح ابتسامته الواهنة على شفتيه وهمس بصوت بالكاد يسمع وهو يزيد من ضغط يده على كفها :
_ متعيطيش أنا كويس
ردت عليه أخيرًا بصوت ناعم كلمسة يدها تمامًا بعينان معاتبة ودامعة :
_ كنت عايز تفارقني واحنا متفقناش على فراق زي كدا
ازدادت ابتسامته اتساعًا وحرك إبهامه بضعف على كفه الصغير يملس عليه متمتمًا بصوت بدأ يظهر عليه التعب الحقيقي :
_ متخافيش .. طول ما فيا النفس .. يبقى .. مفيش فراق
وضعت كفها الآخر فوق يده وملست على ظهره بلطف متمتمة باهتمام وقلق :
_ طيب متتكلمش كتير عشان متتعبش .. وشد حيلك أنت بس وقوم بالسلامة يلا عشان هنا واحشتها اوي وكل دقيقة بتسألني عليك وعايزة تشوفك
خرجت همسة خافتة بابتسامة جانبية بها بعض اللؤم :
_ هنا بس ؟!
ابتسمت وهي تشيح بوجهها الجانب الآخر في عدم حيلة منه ، ثم قالت بوداعة :
_ أنا هطلع عشان مينفعش أفضل وقت طويل .. وإنت ارتاح

سحبت يدها من بين يده ببعض الصعوبة كأنه لا يرغب بتركها ، ثم ألقت نظرة مطولة عليه تبادلا فيها النظرات قبل أن تستدير وتنصرف مسرعة .
خرجت وبدأت تنزع عنها الملابس الطبية فاقترب منها آدم وتمتم يسألها :
_ كلمك ؟
هزت رأسها بالإيجاب في ابتسامة وهتفت :
_ أيوة الحمدلله هو كويس .. بس طبيعي بيتعب من الكلام الكتير زي ما قال الدكتور فمخلتهوش يتكلم كتير وطلعت علطول

تنهد آدم تنهيدة حارة براحة ، ثم ابتسم وطالعها بنظرة ذات معنى :
_ الحمدلله .. وإنتي بقى ؟
فهمت ما يرمي إليه فبادلته الابتسامة وقالت بخفوت وهي شبه ضاحكة تعطيه الإجابة المقصود سؤاله من أجلها :
_ بقيت كويسة .. المهم إنت مش هتدخل تشوفه
_ لا لا أنا تمام .. وهو حالته مستقرة وكويس الحمدلله يعني ممكن بكرا الصبح يطلع من العناية وهشوفه
ثم استكمل كلامه في شيء من المشاكسة اللئيمة وهو يضحك :
_ بعدين أنا اخدت ثواب فيكي إنتي وماما ، حالتكم تصعب على الكافر .. بس ماشاء الله اللي يشوفك وإنتي طالعة من عنده ميشوفكيش وإنتي داخلة
رفعت جلنار حاجبها مبتسمة باستنكار وقالت بضحكة مكتومة :
_ لم الدور يا آدم !
قهقه بصوت مرتفع قليلًا ثم هتف ببعض الجدية :
_ طيب خلينا في الأهم .. تعالي نقعد شوية عايز اتكلم معاكي قبل ما توصل ماما وفريدة

توقعت الأمر الذي يرغب في تبادل أطراف الحديث معها عنه ، فتنهدت مغلوبة على أمرها وسارت خلفه دون اعتراض .

***
ملازمة فراشها منذ ساعات وتعبث في هاتفها ، تتصفح موقع التواصل الاجتماعي ( الانستغرام ) .. ضغطت على منطقة البحث فارتفعت لوحة المفاتيح أمامها .. سكتت للحظة تهمس لنفسها بصوت مسموع :
_ هو كان اسمه إيه .. آه آدم الشافعي
كتبت اسمه باللغة الانجليزية فظهرت لها نتائج لأشخاص لا تعرفهم .. بحثت بينهم قليلًا حتى عثرت على ملفه الشخصي حيث كان يضع صورته ، ضغطت على الملف وفتح ، استغرق لحظات حتى يتم تحميل جميع الصور وبدأت هي تشاهد الصور واحدة تلو الأخرى وفي مقدمة الصور كانت صوره من داخل افتتاح ذلك المعرض .. صورًا كثيرة له مع أصدقاء له وعائلته وصوره بمفرده وبعضًا من الصور كانت مع فتيات من الطبقة المخملية أيضًا ، لكن الذي لفت نظرها أكثر شيء بين كل هذه الصور هي صوره الكثيرة التي تظهر فيها طفلة صغيرة معه .. صور جميلة يظهر بها مدى حبه لتلك الطفلة وهو يلتقطون معًا صورًا طريفة ودافئة .
توقفت عن التقليب بين صوره للحظة وهي تحدق في اللأشيء أمامها بشرود امتزج بالدهشة وهي تهز رأسها بالنفي وعدم الاستيعاب :
_ لا لا أكيد مش بنته !
ارتفع صوت جدتها وهي تصيح منادية عليها من الخارج ، فالقت بالهاتف بجوارها على الفراش والقت هي الأخرى بجسدها ووضعت رأسها على الوسادة وتدثرت بالغطاء متصنعة النوم ! .. فتحت فوزية الباب ودخلت ثم قالت وهي تتجه نحوها :
_ بت يا مهرة إنتي نمتي ؟

جلست بجوارها على حافة الفراش وهزتها برفق في كتفها متمتمة :
_ مهرة قومي عايزة اقولك حاجة مهمة
تأففت لتوقعها " الحاجة المهمة " التي ترغب بمشاركتها معها .. اعتدلت جالسة وهي تتطلع لجدتها بابتسامة مغلوبة وتهتف :
_ نعم يازوزا ؟
فوزية بعفوية وبتساءل حقيقي :
_ أنا سمعت الإعادة بتاعت المسلسل اللي بتسمعيه والحلقة خلصت على إن الولا ابو شعر اصفر ده اضرب بالنار .. هو هيموت ولا لا ؟

مسحت مهرة على وجهها وهي تتأفف بقوة أشد وهدرت بنفاذ صبر :
_ ياتيتا ارحميني ابوس إيدك .. دي عاشر مرة تسأليني السؤال ده .. بعدين قولتلك اسمه اردا مش الولا الأصفر
لوحت فوزية بيدها في قرف ثم قالت وهي تحاول نطق الاسم :
_ اسمه إيه .. ارداف !!
مهرة بصدمة :
_ ارداف !! .. اه اسمه ارداف ياتيتا
_ ما تخلصي قولي هيموت ولا لا يابت
أمسكت بهاتفها عن طريق الخطأ وقالت بعدم حيلة :
_ والله مش عارفة .. استني أما اكلملك ارداف واسأله هتموت ولا لا الحلقة الجاية ! .. أكيد معرفش يعني ما انا بتفرج معاكي زي زيك

لمحت فوزية صور آدم على الهاتف فقالت فورًا بدهشة :
_ مين ده ؟!!
أدركت مهرة الخطأ الفادح الذي ارتكبته دون قصد وابتسمت ببلاهة متمتمة وهي تخفي الهاتف عن أعين جدتها :
_ ده الولا الأصفر ارداف .. بس صبغ شعره وخلاه اسود
جذبت فوزية الهاتف من يدها عنوة وهي تدقق النظر في صورة آدم وتهتف باستهزاء :
_ لا مش هو .. ده احلى من ارداف اللي عامل زي صفار البيض ده
قهقهت بصوت عالي وهتفت مهرة من بين ضحكها :
_ إيه ده يازوزا إنتي بتعاكسيه قدامي !

تجاهلتها فوزية ولم تجب عليها فقط ظلت تتطلع في صورة آدم .. تحاول تذكر أين ومتى رأته ، حتى قفز الموقف وصورته في ذهنها فقالت مسرعة :
_ مش ده الشاب اللي قابلانه عند الصيدلية وكان هيخبطني بالعربية ؟!
هزت مهرة رأسها بالنفي حتى لا تفتح على نفسها ابوابًا من الأسئلة اللامتناهية .. وقالت نافية :
_ لا مش هو يازوزا التاني كان بني آدم غتت ، ده واحد تاني
فوزية بثقة تامة :
_ لا هو أنا متأكدة ، الحمدلله لسا بعقلي وصحتي وفكراه كويس .. اسمه إيه كمان ؟
قربت الهاتف من وجهها أكثر لتستطيع قراءة اسمه وتمتمت تقرأ اسمه بصعوبة بسبب ضعف النظر :
_ آ..دم .. الشافعي
ثم نظرت إلى مهرة وقالت بنظرة ثاقبة :
_ وإنتي عرفتي اسمه منين عشان تبحثي عنه ؟!
لوت مهرة فمها مغلوبة على أمرها وقالت :
_ المعرض اللي اخدتني سهيلة معاها ليه .. طلع هو صاحب المعرض وعرفت اسمه من هناك
_ المعرض اللي وقعت سلسلتك فيه ؟!
_ أيوة هو يا زوزا .. على حظي النحس السلسلة متلاقيش غير هناك وتقع مني !
رتبت فوزية على ذراعها بحنو متمتمة :
_ ولا يهمك يابنتي .. متعرفيش الخير فين ، أنا هقوم انام وانتي كملي نومك
اماءت لها بالموافقة وتابعتها وهي تنهض وتتجه نحو الباب ، فور انصرافها أخذت مهرة نفسًا عميقًا واخرجته زفيرًا قوي ثم أغلقت الهاتف ووضعت رأسها على المخدة من جديد ثم مدت يدها واطفأت ضوء الغرفة ، وبعد دقائق قليلة غاصت في ثبات عميق .

***
ارتفع رنين الباب فظنت انتصار أن جلنار قد عادت .. ضيقت عيناها باستغراب وهتفت وهي تسير نحو الباب :
_ حاضر حاضر .. هو إنتي لحقتي تروحي تشوفيه !
وصلت إلى الباب ثم أمسكت بالمقبض وإدارته وجذبت الباب إليها .. فتصلبت بأرضها كالصنم حين رأت نشأت أمامها .
كانت هنا في الداخل وحين سمعت صوت رنين الباب ركضت وهي تهتف بحماس :
_ ماما
لكنها وقفت تحدق في جدها بدهشة .. لم تراه منذ أكثر من شهرين وقاربت على ثلاثة أشهر ، فانطلقت منها صيحة عالية بفرحة :
_ جدو !
انتبه نشأت على أثر صوتها الرقيق فعلت الابتسامة المشرقة وجهه وهو يتقدم خطوة للداخل وينحنى للأمام بجزعة فاردًا ذراعيه لها يحثها على الركض والانضمام لحضنه ففعلت الصغيرة فورًا والقت بجسدها الصغير بين ذراعين جدها الذي امطرها بوابل من قبلاته وهو يتمتم بشوق حقيقي :
_ وحشتيني أووي ياحبيبة جدو
هنا بصوتها الطفولي الساحر :
_ وإنت كمان .. إنت كنت فين ياجدو ؟
أبعدها عنه قليلًا وحدقها بنظرة دافئة متمتمًا بأسف:
_ سامحيني ياحبيبتي
زمت هنا شفتيها بحزن وتمتمت :
_ تعرف ، بابي تعبان وماما راحت تشوفه وقالتلي إنها بكرا هتاخدني عشان اروح اشوفه كمان
نشأت ببعض الحزن المماثل لها :
_ عارف ياحبيبتي ، متخافيش بابا هيبقى كويس إن شاء الله
اعتدل في وقفته وتطلع لانتصار متمتمًا بنبرة عادية :
_ عاملة إيه يا انتصار ؟
انتصار بمضض :
_ بخير الحمدلله يانشأت بيه .. جلنار راحت تشوف عدنان يعني مش موجودة
_ عارف يا انتصار أنا جاي اتكلم معاكي إنتي
ظهرت معالم الحيرة على وجهها وضيقت عيناها باستغراب ثم افسحت له الطريق ليدخل وأغلقت الباب خلفه .. تحركت أمامه نحو الصالون وجلست على أحد المقاعد الواسعة وجلس هو على الأريكة المقابلة لها وفوق قدميه جلست هنا بين ذراعين جدها الذي أخفض نظره لها وقال بحب وهو يطبع قبلة فوق وجنتها :
_ تعرفي تجبيلي ماية ياهنون ؟
هزت رأسها بالإيجاب في ابتسامة واسعة ثم نزلت من فوق قدميه تركض نحو المطبخ حتى تجلب لجدها الماء كما طلب منها .. بينما هو فهتف بإيجاز في نبرة مهتمة ولأول مرة تشعر انتصار بخوفه وحبه الحقيقي لابنته :
_ أنا عارف إني لو كلمت جلنار وطلبت منها تيجي تقعد معايا لغاية ما عدنان يتحسن ، مش هتوافق .. فأنا جيت عشان اقولك بس واوصيكي بنتي وحفيدتي أمانة في بيتك يا انتصار .. وأنا هخلي رجالة تبعي يقفوا عند بوابة العمارة تحت عشان اكون مطمئن اكتر عليهم

_ وكل ده ليه يعني ؟!
_ عشان حادث عدنان كان مدبر .. وممكن اللي أذاه يحاول يأذي بنتي وحفيدتي وأنا مش هسمح بده ، صلاح بيراقب جلنار في كل خطوة ، وفي تلاتة هيبقوا تحت بيحرسوا العمارة ، لغاية ما يقوم عدنان بالسلامة وانا هتكلم معاه
ضربت انتصار على صدرها شاهقة بهلع وهتفت بخوف :
_ يامصيبتي يعني ممكن يأذوا جلنار ؟
نشأت بحدة ونظرة قوية :
_ قولتلك مش هسمح أن حد يمس شعرة من بنتي أو حفيدتي يا انتصار .. كل اللي طالبه منك بس إنك تخلي بالك عليهم وتبلغيني بكل تفصيلة بتحصل ، وكمان ياريت متقوليش لجلنار إني جيت أو تجيبي ليها سيرة بخصوص مراقبة صلاح ليها وحتى الرجالة اللي هيقفوا تحت لو سألت قوليلها أي حاجة غير إنهم تبعي

هزت رأسها بالموافقة وقد فرت الدماء من وجهها بسبب الهلع ثم سألت بقلق :
_ طيب ومعرفتوش لغاية دلوقتي مين اللي ورا الحادث ده ؟
وصلت هنا ووقفت أمام جدها وهي تمد يدها الصغيرة حاملة كوب الماء الصغير وهاتفة برقة :
_ المايه ياجدو
التفت برأسه لها ولم يتمكن من الرد على سؤال انتصار ، فجذب كوب الماء من يد حفيدته وهو ينحنى لاثمًا وجنتها ومتمتمًا وهو يشرب الماء :
_ شكرًا يا اميرة جدو
وضع كوب الماء فوق الطاولة الصغيرة وهتف وهو يملس على شعرها بلطف ودفء :
_ انا همشي ياهنا دلوقتي بس اوعدك إني هاجي تاني إن شاء الله خلاص
ردت عليه بحزن :
_ خليك شوية متمشيش
طبع قبلة رقيقة فوق شعرها وهتف :
_ مش هينفع ياجدو عشان ورايا شغل .. بس وعد زي ما قولتلك هاجي تاني والمرة الجاية هقعد كتيييير أوي لغاية ما تزهقي مني ، تمام ؟
اماءت برأسها في يأس مغلوبة على أمرها ثم ضمها لصدره بعانقها بلطف ويثلم وجنتيها بقبلاته الحانية قبل أن يستقيم ويوجه كلامه إلى انتصار بجدية هاتفًا :
_ زي ما اتفقنا
_ تمام يا نشأت بيه
سار باتجاه باب المنزل وانصرف فظلت انتصار واقفة مكانها تفكر بحديثه والقلق والخوف ينهش قلبها نهش وفقط تردد من بين شفتيها ( ربنا يستر ) .

***
_ احكيلي بقى إيه موضوع فريدة بالتفصيل
كان ردًا قويًا من آدم على سؤال جلنار له بنوع الحديث الذي يرغب في التحدث به معها .. فصمتت هي لبعض الوقت متطلعة إليه بتردد حتى قالت أخيرًا بعدما حسمت أمرها :
_ طيب هحكيلك بس متجبش سيرة لعدنان دلوقتي خالص على الأقل لغاية ما يقوم بالسلامة ويطلع من المستشفى
_ طيب قولي ياجلنار بس يلا
أخذت نفسًا عميقًا قبل تبدأ بسرد كافة التفاصيل التي حدثت منذ خروجها من المعرض خلف فريدة حتى تهديدها لها بالمستشفى ، وكان آدم يستمع إليها وعيناه تخرج شرارات نارية من فرط الغضب ، يقفل يده ويضغط على قبضته بقوة .. يرغب الآن بالذهاب لذلك الوغد الذي يدعى " نادر " ويخنقه بيديه .
انتهت جلنار من التكلم فخرج من فم آدم لفظ بذيء يسب ويشتم به كلٌ من نادر وفريدة ، ثم هب واقفًا ينوي الذهاب لنادر لكن جلنار أمسكت به وقالت بحدة :
_ رايح فين يا آدم .. مينفعش ده واحد حقير وممكن يعمل أي حاجة ويأذيك
آدم بصوت مرتفع قليلًا وهو يصيح بانفعال :
_ وانتي متخيلة إني هسيب **** بعد اللي عمله في عدنان ، أنا كنت شاكك فيه أصلًا ودلوقتي اتأكدت منو مفيش حد **** ليه مصلحة يأذي عدنان غيره هو وال**** فريدة

هتفت جلنار محاولة تهدئته وهي تمسك بذراعه حتى لا يفر من بين قبضتيها :
_ ولا أنا كمان متأكدة أنا شاكة زيك يا آدم أنهم هما اللي ورا الحادث ده ، ابوس ايدك اهدى عشان خاطري وخلينا نفكر الأول بهدوء هنعمل إيه ونكشفهم إزاي ، لأن دول شياطين واحنا مش ضامنين ممكن يعملوا إيه

انطلقت من آدم ضحكة ساخرة رغم ملامح وجهه المخيفة وهو يلوح بيده في بعض الدهشة :
_ فريدة .. ومن سنة واكتر ومع *****
لمحت جلنار فريدة وأسمهان وهم يركضون نحوهم فضغطت على يد آدم متمتمة بنظرة جادة :
_ جم .. متخلهاش تحس إنك عرفت حاجة وامسك نفسك قدامها يا آدم

وصلت أسمهان إليه شبه ركضًا وارتمت على ابنها وعانقته بفرحة غامرة متمتمة :
_ عدنان فاق يا آدم .. اللهم لك الحمد والشكر يارب
ملس على ظهرها بيده في رقة وعيناه عالقة على فريدة ، تستقر في عينه نظرات قاتلة تكاد تفتك بها وتسرق أنفاسها ، وبالفعل هي ارتبكت من نظراته فاشاحت بنظرها بعيدًا عنه متسائلة عن سبب تلك النظرات المرعبة التي يرمقها بها .
هتف آدم بابتسامة رسمها بصعوبة بسبب الغضب الذي يهيمن عليه ورد على أمه :
_ فاق ياماما الحمدلله وكويس .. ادخلي شوفيه واطمني عليه بنفسك عشان ترتاحي اكتر
هزت أسمهان رأسها في سعادة وهتفت بحماس وتشوق :
_ طبعًا هدخل اشوفه

انتبهت إلى جلنار التي تقف بالقرب من آدم وتتابع ما يحدث بصمت فرمقتها بنظرة حاقدة كلها نقم وقرف ! .

***
في صباح اليوم التالي .....
تم نقل عدنان إلى غرفة عادية بعد تحسن حالته الصحية واستقرارها تمامًا .
سحب آدم مقعدًا وجلس بجوار فراش أخيه وتمتم باسمًا :
_ حمدلله على السلامة ياعم .. شيبت شعر راسنا من الخضة والله

ضحك عدنان ورد عليه مداعبًا وهو يغمز بعيناه :
_ عمر الشقي بقى
ثم هتف متسائلًا بجدية :
_عملت إيه في اجتماع الصفقة اللي كان المفروض امبارح ؟
آدم بنبرة رجولية خشنة :
_ اجلته لغاية ما تقوم بالسلامة وتظبط كل حاجة بنفسك ، لكن قولي إنت ناوي علي إيه صحيح ؟
تنهد بقوة وعلى ثغره ابتسامة لئيمة متمتمًا :
_ هتشوف استني بس اطلع من المستشفى واتفرج
ضحك آدم وهو يغمز لأخيه بلؤم مماثل ثم هدر بجدية أشد من السابق تكاد تكون غضب ونقم :
_ سواق العربية النقل اللي خبطتك هربان بس الرجالة قالبين الدنيا عليه وهيتجاب ونتأكد مين اللي ورا الحادث ده
_ إنت شاكك في مين ؟!
_ هقولك بس مش دلوقتي ، لما نمسك الحقير ده الأول

اقتحمت هنا الغرفة حيث فتحت الباب بقوة رغم جسدها الضئيل وركضت نحو أبيها صائحة بفرحة غامرة :
_ بابي
ظهرت إشراقة وجهه فور رؤيته لها واعتدل في نومته بصعوبة ليستقبل صغيرته ، التي قفزت فوق فراشه وجلست بجواره ثم ارتمت عليه تعانقه بشوق حقيقي هاتفة بصوتها الطفولي اللطيف :
_ وحشتني يابابي
لم يجبها فقط زاد من ضمها إليها وهو يستنشق رائحتها المحببة لقلبه ويتمتم بنبرة مختلفة كلها مشاعر أبوية نقية :
_ وإنتي كمان وحشتيني ياهنايا
ظلت بين ذراعيه للحظات وهو مغمض عيناه ويتمتم بصوت خافت ودافيء :
_ كنت خايف مقدرش اشوفك تاني يا قلب بابا

ابتعدت عن حضنه وحدقته بعين لامعة بكل براءة وحب نقي مثلها تمامًا وعلى وجهها ابتسامة عريضة ، ارغمته على الابتسام فاقترب من جبهتها وطبع قبلة حانية مطولة .
التفت آدم برأسه ينظر لجلنار التي تقف على مسافة ليست ببعيدة تتطلع لهم بعينان دامعة ومتأثرة ، فظهر شبح الابتسامة على شفتيه ثم هب واقفًا وسار نحو الباب ينوي الرحيل حتى يترك لهم بعض المساحة الشخصية كعائلة ، وأثناء مروره من جانب جلنار رمقها باسمًا بمشاكسة وغمز لها بعيناه الخضراء ، فرمقته هي بنظرة حادة تكتم ابتسامتها وتابعته بنظراته حتى رحل عن الغرفة ، فتحركت باتجاه مقعده وجلست عليه ثم همست برقة :
_ حمدلله على سلامتك
التفت لها برأسه وابتسم بدفء ثم قال :
_ الله يسلمك
انحنت هنا على أذن والدها وتمتمت بخبث طفولي ضاحكة :
_ بابي تعرف .. ماما كانت تعيط كتير وقالتلي إنها بتعيط عشان زعلانة إنك تعبان
اتسعت عيني جلنار وهي ترمق ابنتها بغيظ بينما هو فكتم ضحكته وهمس لصغيرته بمكر وعيناه ثابتة على جلنار :
_ امممم ما أنا عرفت ياحبيبة بابي .. هي كانت بتعيط كتير أوي يعني ؟!
هزت رأسها بإيجاب وردت بخفوت وبعض التوتر من نظرات أمها لها :
_ أيوة كتيييير أوي
اماء برأسه وهو يبتسم بمشاكسة ثم رمق جلنار بنظرة دقيقة .. مثبتًا نظره على عيناها الحمراء والمتورمة من كثرة البكاء .. ثم هتف بمكر مقصود باسمًا :
_ امممم ماهو واضح عليها ياهنون فعلًا
ارتبكت من نظراته المثبته على عيناها فوجدت نفسها بتلقائية تشيح بوجهها للجهة الأخرى بعيدًا عنه ليضحك هو بصمت ويتطلع لابنته هامسًا بعد أن لثم وجنتها بقلبة سريعة :
_ روحي يابابا قولي لعمو آدم ، بابا بيقولك جيب ليا الشوكولاته اللي بحبها
قفزت فرحًا وصاحت :
_ بجد
_ أيوة بجد ياملاكي يلا اجري الحقيه قبل ما يمشي ، هتلاقيه واقف برا
نزلت من الفراش وهرولت راكضة للخارج بجسدها الصغير وفستانها الطفولي اللطيف مثلها تمامًا ، بينما هو فتابعها حتى رحلت ثم ادار نظره نحو الجالسة على المقعد ولا تزال تشيح بوجهها عنه ناحية النافذة المفتوحة ، فتحرك في فراشه ببطء على الجانب الذي تجلس هي فيه وخرج صوته الوديع :
_ ششششش
رمقته بطرف عيناها في نظرة خاطفة وسريعة فابتسم وهتف :
_ بصيلي هنا
التفتت برأسها مرة أخرى ناحيته في اقتضاب ، تخفي توترها وخجلها بتصنعها الحزم والجدية ، لكنه غمز لها بابتسامة لعوب وهمس بصوت يحمل بحة جديدة :
_ عيطتي للدرجة اللي خلت عيونك يبقى منظرها بالشكل ده !

ابتسمت بسماجة وتمتمت بتصنع عدم الاهتمام رافضة الاعتراف بخوفها وحزنها الشديد عليه :
_ لا ده أنا عيني كانت وجعاني وفضلت ادعك فيها كتير فورمت وبعدين أنت متعرفش ااا .....

توقفت عن الكلام حين وجدته يمسك بكفها محتضنًا إياه بين قبضته الضخمة ، ويتطلع إليها بعينان حكت الكثير عن الذي يرغب بقوله لها الآن ، قد يكون مندهشًا وسعيدًا ، عليه الاعتراف أن آخر شخص كان يتوقع أن يحزن كثيرًا عليه بوضع كهذا هي جلنار ، لكنها اصابته بالدهشة فعلًا .
رفع كفها ببطء لشفتيه وطبع قبلة عميقة على ظاهره مغمغمًا بنظرة ذات معنى :
_ أنا اللي اعرفه إن عيون زهرتي الحمرا مش لايق عليها العياط أبدًا

لأول مرة ينعتها بزهرته الحمراء .. لطالما اعتاد أن يقول لها " رمانتي " نسبة إلى اسمها الذي يعني " زهرة الرمان الحمراء " .

سرت رعشة متلذذة في أنحاء جسدها من ملمس شفتيه واحتكاك ذقنه بكفها ، وكأنها الوهلة الأولى التي يلمسها بها ! ، شبهها بالزهرة الحمراء وقد تحولت بالفعل لحمراء ، تلونت وجنتيها بلون الدماء وانعقد لسانها فاستمرت بالتحديق به بصمت تام ، كان وجهها كلوحة إبداعية من صنع الخالق عز وجل جعلته يذوب من فرط جمالها ، عيناها البندقية وبشرتها البيضاء مع وجنتيها الحمراء وشعرها الأسود الحريري .. بتلك اللحظة قذفت في ذهنه أكثر من فكرة منحرفة لكنه كبح رغباته بصعوبة .

انفتح الباب وظهرت من خلفه فريدة فانزل يد جلنار تدريجيًا ، التي التفتت برأسها للخلف تتطلع لفريدة باشمئزاز .. أسرعت فريدة إلى عدنان وارتمت عليه تعانقه بقوة وتهتف برقة مقصودة حتى تثير غيظ جلنار :
_ حمدلله على سلامتك ياحبيبي .. كنت هتجن من الخوف عليك
لم يبادلها عناقها كعادتها بل اكتفى بأنه ملس بيده على ظهرها في لطف وتمتم بنبرة فاترة :
_ الله يسلمك يافريدة .. أنا كويس متقلقيش
انطلقت من جلنار ضحكة بسيطة كلها استهزاء وهي معلقة نظراتها الشرسة على فريدة من ادعائها أنها كانت في حالة هلع من فرط خوفها عليه ، ولم تتمكن من منع نفسها من الرد حيث قالت بخبث أنوثي وابتسامة مائلة للجانب في سخرية :
_ صحيح يافريدة .. نادر كان موجود يوم الحادث وبعدين مشي فجأة متعرفيش ليه ؟
فقدت فريدة النطق للحظة وابتعدت عن عدنان بعلامات وجه ظهرت عليها الاضطراب لكنه لم يلحظ لاهتمامه بجلنار وسؤالها عن نادر وطريقتها الغريبة في الحديث ..
هتف عدنان بصوت رجولي غليظ :
_ وإنتي مالك بنادر ؟!
جلنار بنظرات لا تزال ثابتة على فريدة وكلها غل وغضب :
_ لا أصل شوفته واقف مع فريدة بيتكلموا
التفت عدنان بنظره لفريدة يرمقها بحدة وعينان تلوح بها علامات الاستفهام ينتظر منها تبرير ، فابتلعت هي ريقها وردت بقوة متصنعة :
_ عادي كان بيسألني عن وضعك وقولتله
ابتسمت جلنار بلؤم ثم هبت واقفة وقالت بنظرات غريبة ليست لجلنار الرقيقة ابدًا :
_ أنا هروح اشوف هنا
استدارت وسارت لخارج الغرفة بأكملها بينما فريدة فتحركت وجلست على مقعدها وهي تتفادي نظرات عدنان المشتعلة لها ، كان يحدقها بأعين لا تملك ذرة ثقة ويخبرها من خلالهم " لم اصدق أي كلمة ! " ، نظراته مميتة اربكتها حقًا لكنها تصنعت التجاهل وقالت بإشراقة وجه :
_ تقوم بالسلامة بس وترجع البيت وأنا بنفسي هعملك كل الاكل اللي بتحبه ياحبيبي .. من هنا ورايح مش هسمح لأي حاجة انها تخلق مشاكل بينا ، أنا كانت هتجرالي حاجة من خوفي عليك

رمقها بنظرة جانبية قاسية ، لم يعد اعمي حتى يصدق كل كلمة تتفوه بها .. هو الآن كالأسد المتربص لفريسته ينتظر منها أن تخطأ حتى يتلهمها ، وبات لا يطيق رؤيتها هو فقط انتظار اللحظة المناسبة التي سيتأكد فيها من شكوكه حينها ستكون الفريسة قد سقطت بين فكي الأسد .

***
بمساء مدينة كاليفورينا في أمريكا .....
خرجت من غرفتها بعد سماعها لصوت طرق الباب .. سارت في خطوات هادئة باتجاه الباب وهي ترتدي " بيجامة " منزلية لطيفة وترفع شعرها لأعلى بمشبك كبير .
وصلت امام الباب ونظرت من العين السحرية فرأت حاتم .. أصدرت زفيرًا حارًا بغيظ ثم تراجعت خطوة للخلف وفتحت الباب له ، وقفت تسد الطريق عليه حتى تمنع من الدخول هاتفة بقرف مصطنع :
_ خير شو بدك ؟
حاتم بتصنع الجدية محاولًا تمالك ابتسامته من الانطلاق على شفتيه :
_ ممكن افهم يا آنسة مجتيش الشغل ليه النهاردة .. ولا هو عشان إنتي رئيسة التحرير في الشركة ومع المدير دايمًا في كل حاجة يبقى هو هيسكت عن الإهمال وعدم الانتظام ده
استدارت وسارت عائدة للداخل وهي تقول بسخرية وعدم مبالاة :
_ شو راح تعمل يعني يا حــاتم بيك
ضحك في ظهرها دون صوت ثم دخل وأغلق الباب خلفه متمتمًا بثقة وحزم مزيف :
_ هعمل كتير يا آنسة
لاحت الابتسامة المستنكرة على وجهها فتوقفت والتفتت بجسدها كاملًا له وهدرت بنظرة كلها تحدي وبثقة تامة :
_ إذا بتقدر تقلعني من الشغل .. قلعني
رفع حاجبه وثلاث ثواني بالضبط من التحديق الصامت بها ، لم يتمكن من كبح ضحكته اكتر من ذلك حيث انفجر ضاحكًا على كلمتها الأخيرة ، بينما هي فضيقت عيناها باستغراب وهتفت بغضب من سخريته :
_ على شو عم تضحك ؟!
أجابها وهو يجاهد في تمالك نفسه من الضحك :
_ لا ولا حاجة متركزيش معايا .. وأكيد يعني مقدرش اطردك يا نادين ، أنا جيت عشان نتكلم ونحل الموضوع اللي مضايقك مني ده

نادين باقتضاب :
_ أي موضوع بالضبط فيهم ؟
_ ماشاء الله هما بيزدوا ولا إيه مع الوقت ؟!
نادين بعصبية وغيظ :
_ الموضوع الاساسي ياللي تخانقنا مشانه ياحاتم ولا اللي سويته قبل ما امشي
حك مؤخرة رأسه وهتف باعتذار وهو يضحك :
_ لا اللي سويته ده كنت بهزر عشان اعصبك وانكش فيكي مش اكتر .. وعلى العموم حقك عليا ياستي أنا آسف ، هاا إيه الموضوع الاساسي بقى

هدأت ثورتها وردت عليه ببرود :
_ خلاص مو مهم .. ماني زعلانة
حاتم باستنكار وسخرية على طريقتها في الكلام :
_ لا والله ماني زعلانة !! .. امال الحوارات اللي عملتيها دي إيه لزمتها
حان دورها هي لتضحك لكنها كتمت ضحكتها وتصنعت الحدة والبرود وهي تدفعه بخفة تجاه باب المنزل هاتفة :
_ ميرسي ياحاتم على اعتذارك المقبول ، وهلأ معلش مضطرة اقلك تصبح علي خير مشان أنا بدي انام
اتسعت عيناها بدهشة وهي تدفعه نحو الباب حتى يغادر فقال باستهزاء وبعض الضيق :
_ اه ده أنا بطرد رسمي بقى .. طيب اعزميني حتى على كوباية مايه
ظهر شبح ابتسامتها على شفتيها وهي تجيبه باللهجة المصرية :
_ المايه قاطعة
وصل إلى الباب فلوحت له بكفها تودعه في ابتسامة مثلجة ثم أغلقت الباب في وجهه ، فاستمعت له يهتف بغيظ حقيقي من خلف الباب :
_ ماشي يا نادين .. الساعة ستة الصبح الاقيكي اول واحدة موجودة في الشركة ولو اتأخرتي دقيقة هزعلك بجد المرة دي

انفجرت ضاحكة بقوة وهي تستند على الباب من الداخل تستمع له وهو يملي عليها تلعيماته الصارمة ، وتشعر بالنشوة لأنها نجحت أخيرًا في إثارة غيظه ! .

***
مرت ساعات طويلة حتى غابت الشمس واستر الليل ستائره ، قضت الصغيرة هنا النهار كله بجوار أبيها حتى تعبت في آخر اليوم فأخذتها جلنار وعادت بها لمنزل الخالة انتصار ، وأثناء عودتها لعدنان مرت على منزلها جمعت بعض الملابس له ثم خرجت واكملت طريقها للمستشفى .

منذ أمس تلاحظ سيارة تتبعها بشكل مريب وبكل مرة تقول ربما هي يتهيأ لها ، لكن هذه المرة تأكدت تمامًا أن تلك السيارة تلاحقها .

فتوقفت بسيارتها بجانب الرصيف في الشارع لتتأكد هل ستقف تلك السيارة خلفها أم لا لكنها رأتها تعبر بجوراها وتكمل طريقها ، فتنفست الصعداء قليلًا براحة وعادت تشغل محرك السيارة من جديد وتنطلق بها .
بينما صلاح فتوقف في أحد الشوارع الموازية وهو يحمد ربه أنها لم تكشف أمره وإلا كان لقى عقابه العسير من نشأت ، رآها وهي تعبر من الطريق الرئيسي بسيارتها فانطلق هو خلفها ولكن هذه المرة بحرص حتى لا تلاحظه مرة أخرى .

وصلت أمام غرفته أخيرًا بالمستشفى اخذت نفسًا عميقًا قبل أن تفتح الباب وتدخل ، فالتفت هو برأسه في اتجاه الباب وهتف باستغراب :
_ جلنار !! .. إيه اللي جابك تاني ؟
أغلقت الباب خلفها واقتربت منه وهي تلقي بالحقيبة الصغيرة جدًا فوق المقعد والتي تحتوي على ملابس له ثم تقول بعفوية :
_ هقعد معاك .. مينفعش تفضل وحدك في المستشفى
ابتسم وقال موضحًا لها ببساطة :
_ دي مستشفى ياروحي ومليانة دكاترة وممرضات يعني مش لوحدي ولو عوزت حاجة الممرضات موجودين
اشتعلت نظرتها وهي تقول بشراسة :
_ really ( حقًا )
طيب nurses ( الممرضات ) موجودين عشان يتابعوا حالة المريض مش يلبوا احتياجات المريض يا أستاذ يامحترم

ضحك وقال بمشاكسة غامزًا :
_ هي إيه الاحتياجات دي بظبط بقى ؟!
تأففت بصوت عالي وقالت بنفاذ صبر متجاهلة جملته الوقحة :
_ أنا قولت لآدم يروح البيت ويرتاح شوية .. تعب جدًا ، ليه يومين مش بينام وقاعد في المستشفى معاك هنا
_ أنا قولتله يمشي هو اللي راسه ناشفة
جلنار بوداعة واشفاق :
_ جزاته يعني إنه مش عايز يسيبك وحدك .. حقيقي يمكن اكتر واحد كان خايف وقلقان عليك هو آدم ، عشان تعرف قيمة اخوك بس
تنهد وهدر بخفوت ونبرة صادقة تنبع من القلب :
_ إنتي عارفة إن أنا بعتبر آدم ابني مش اخويا .. أنا اللي مربيه

هزت رأسها بإيجاب وهي تجيب بنظرات متأثرة تنبع بالحب :
_ عارفة ربنا يخليكم لبعض
اعتدل في جلسته قليلًا وغيّر مجرى الحديث في لحظة متمتمًا بلؤم مقصود :
_ قولتيلي إنتي هنا ليه بقى ؟
استقرت في عيناها نظرة نارية رمقته بها جعلته يضحك ويهتف متداركًا الأمر بخبث أشد :
_ آه عشان تلبي احتياجات المريض .. طيب بما إنك جبتي هدوم للمريض وهو عايز يغير هدومه ، نفذي مهمتك وساعدي المريض بقى
جزت على أسنانها بغيظ ، وكادت أن تنفجر في وجهه كالقنبلة ، لكنها تمالكت أعصابها بصعوبة ومدت يدها في الحقيبة تخرج منها قميص وبنطال وتقترب منه ثم تضع الملابس بين يديه هاتفة بمضض :
_ لا ماهو المريض الحمدلله ايده ورجله سليمة يعني مش محتاج مساعدة
همت بالاستدارة والابتعاد عنه فقبض على رسغها وجذبها إليه فارتدت للأمام لتصطدم بصدره وتصبح فوقه تمامًا ، خرجت همسته اللعوب أمام وجهها وهو يغمز :
_ ويهون عليكي المريض !
حركت رأسها بحركة سريعة ومدروسة حتى ترجع خصلات شعرها خلف ظهرها ثم قالت بنظرة ثاقبة كنظرته بالضبط وببرود لكن نبرتها كانت كلها أنوثة ونعومة :
_ أه يهون
ثم دفعت يده عنها واستقامت واقفة تقول بحزم :
_ متلمسنيش تاني
أجابها بابتسامة تخفي ورائها نيران غصب بدأت تشتعل :
_ امممم رجعت ريما لعادتها القديمة

مالت بجسدها عليه وهمست أمام وجهه في صوت أنوثي امتزج بين الشراسة والنعومة :
_ جلنار القديمة اللي كانت وقت ما تحب تقرب منها تلاقيها موجودة وبتلبي طلبك ووقت ما تكون مش حابب تسيبها وترميها ومتسألش فيها كأنها نكرة ، خلاص مبقتش موجودة .. وأنا لو زعلت وخوفت عليك فده هيكون بسبب العشرة والسنين اللي بينا وإنها ماهنتش عليا .. لكن غير كدا متوهمش نفسك بأوهام ملهاش وجود

اطال النظر في عيناها بتمعن .. لم تعد زهرته الناعمة والرقيقة حقًا ، التي تقف أمامه الآن هي كزهرة الصبار القوية والصلبة التي تنمو في اشد وأقسى الظروف ومن يحاول الاقتراب منها تؤذيه بأشواكها الحادة .
راقه كثيرًا التحول الجذري في رمانته الحمراء وعلى عكس المتوقع ابتسم وقال بنظرات ذات معنى مثبتًا عيناه على خاصتها :
_ ومين قالك إني عايز جلنار القديمة !
لحظة واثنين وثلاثة وهي مستمرة بالتحديق به حتى استقامت واقفة فورًا وهتفت وهي تشير باتجاه الحمام الداخلي للغرفة :
_ انا رايحة الحمام
لم تنتظر أي رد منه بل استدارت ودفعت بنفسها إلى الحمام مسرعة بينما هو فمسح على وجهه نزولًا لذقنه وهو يتنهد باسمًا بعدم حيلة ! .

***
كان آدم في فراشه وعلى وشك الاستسلام لسلطان نومه لولا رنين هاتفه الصاخب الذي ارتفع ودوى صوته الغرفة بأكمله .. فأصدر تأففًا حارًا بخنق ثم مد يده والتقطه يجيب على المتصل دون أن يتحرى أولًا من هويته :
_ الو
أتاه الصوت الرجولي على الطرف الآخر وهو يقول بجدية :
_ لقينا سواق العربية يا آدم بيه


رواية كيان الفهد كاملة جميع الفصول ( الفصل 18 ) 


نظرات طويلة استقرت في عيني عدنان وهو يتطلع إليها ، تجلس أمامه على أريكة صغيرة ومعلقة نظرها على النافذة تتأمل السماء من خلالها .. شعرها يتطاير بخفة فوق كتفيها وظهرها بفعل نسمات الهواء الباردة وتستند بمرفقها فوق ذراع الأريكة وتضع كفها أسفل وجنتها ، استمر لدقائق طويلة يتأملها بينما هي تتأمل السماء ! .
حتى أصدر تنهيدة حارة وتمتم بخفوت :
_ اقفلي الشباك ياجلنار هتبردي
ردت عليه دون أن تحيد بعيناها إليه :
_ مش بردانة
ثم زفرت والتفتت برأسها له تسأله باهتمام :
_ إنت بردت ؟
حرك حاجبه وشفتيه بمعنى لا وهو يبتسم فتنهدت وعادت تنظر للسماء من جديد ، مرت لحظات طويلة حتى سألت بنبرة خافتة تحمل بعض التردد :
_ فريدة كانت موجودة قبل ما آجي .. مقعدتش معاك ليه ؟
عدنان بجفاء :
_ أنا مشيتها
_ ليه ؟!
كان سؤالًا تلقائيًا منها وحصلت على إجابته بالصمت وهو يلوى فمه بصلابة وجه .. تفهمت رغبته في عدم الحديث فهزت رأسها بتفهم ثم قالت وهي تتمدد على الأريكة الصغيرة :
_ أنا هنام ، تصبح على خير
عدنان بنظرات دقيقة :
_ الكنبة صغيرة وإنتي مش بتعرفي تنامي غير على السرير ، يعني مش هترتاحي .. تعالي جمبي
اطالت التحديق به في صمت لثواني ثم هتفت رافضة وهي تعتدل بجسدها لكي تلائم صغر تلك الأريكة :
_ لا أنا مرتاحة

ردود مختصرة وجافة تجيب بها عليه منذ ساعات بسبب جدالهم الأخير .. لكنه تعجبه حالاتها المزاجية المتغيرة ويجدها لا بأس بها ! .
دقيقة واثنين وثلاثة وهي تتقلب فوق الأريكة يمينًا ويسارًا ، لا تجد راحتها في النوم وتحاول إيجاد وضعية مناسبة للنوم فوق تلك الأريكة الصغيرة .. كانت عيناه ثابتة عليها يتابعها بتركيز فابتسم بعدم حيلة منها وهتف ببعض الحدة :
_ اسمعي الكلام وبلاش عناد
التفتت له برأسها وهتفت في غيظ :
_ وهو أنا اشتيكتلك
_ وهي دي كنبة ينفع تنامي عليها أصلًا !
_ أيوة ينفع ، نام بقى وسيبني أنام أنا كمان

ضحك مستنكرًا عنادها وقرر تجاهلها تمامًا أو بمعنى أدق جعلها تظن بأنه تجاهلها ، اغمض عيناه متصنعًا النوم ، بينما هي فاستمرت في حربها المرهقة مع تلك الأريكة ، يمينًا .. يسارًا .. حتى أنها حاولت النوم شبه جالسة ولكن دون فائدة ، فاصدرت تأففًا عاليًا بعد ما يقارب من خمسة عشر دقيقة في محاولاتها البائسة للنوم .
هبت جالسة بقوة وهي تشتعل من فرط غيظها ، علقت نظرها عليه فتراه نائمًا بهدوء وراحة على عكسها تمامًا لا تستطيع حتى اغلاق عيناها ، بقت لدقيقتين تتطلع إليه بتردد ، أتقبل عرضه أم ترفض وتتقبل الأمر الواقع وتقضي الليلة دون نوم ؟! .. سكون تام للحظات لا يُسمع فيها سوى صوت الرياح فحسمت هي بالأخير قرارها بعدم الخنوع له ، وبقت جالسة مكانها تنوي عدم النوم الليلة .. مرت دقائق ليست قصيرة وهي تقاوم شعورها بالنعاس وعيناها التي بدأت تنغلق وحدها وبين كل لحظة والأخرى ترفع كفها لفمها حتى تغلق عليه أثناء تثاؤبها .

انهارت حصونها ورفعت راية استسلامها حيث تأففت واستقامت واقفة ثم سارت باتجاه فراشه ووقفت أمامه تهتف باقتضاب :
_ عدنان .. عدنان
فتح عيناه وطالعها بنظرة بها بعض اللؤم مصدرًا همهمة مسموعة دون أن يفتح فمه " اممممم " ، فردت هي عليه بمضض :
_ مش عارفة انام
فشل في حجب ابتسامته من الانطلاق فوق ثغره حيث افسح لها بجواراه رغم صغر الفراش أيضًا وتمتم بنظرة دافئة :
_ تعالي ياعنيدة
قاست حجم الفراش بعيناها ثم قالت بحنق :
_ السرير صغير ومش هيكفينا
_ هيكفي تعالي بس وملكيش دعوة
جلنار بتراجع :
_ لا لا مش هينفع بعدين كدا أنا ممكن اضايقك في النوم وإنت لسا تعبان ولازم ترتاح كويس
زم شفتيه ببرود مقصود ورد عليها بعدم مبالاة متصنعة :
_ براحتك .. خلاص خليكي صاحية للصبح
خرجت " اووووف " طويلة من بين شفتيها بعدم حيلة ، ثم تمددت بجواره ولصغر حجم الفراش فرد هو ذراعه اسفل رأسها فدخلت لحضنه ونامت برأسها فوق صدره وبين ذراعيه ، مرت ثلاث ثواني بالضبط حتى رفعت رأسها قليلًا تنظر له وتهتف برقة غير مقصودة :
_ مرتاح ؟
اماء برأسه في إيجاب وهو يمد يده ويسحب الغطاء عليهم ويضمها إليه بذراعه أكثر ، صمتت للحظة ثم عادت تسأل :
_ ممكن حد يدخل صح ؟!
_ لا كله نايم دلوقتي محدش هيدخل ياجلنار ، وبعدين حتى لو دخل حد فيها إيه يعني !
_ فيها طبعًا .. مفيهاش حاجة إزاي يعني ثم إن ااا....
قاطعها عن استكمال كلامها مردفًا :
_ جلنار !
_ هااا
ردت بكل عفوية فقابلت منه نظرة قوية بعض الشيء هامسًا :
_ نامي ياحياتي وإنتي ساكتة
لوت فمها بقرف واخفضت نظرها ثم التصقت به أكثر لتستمد منه الدفء في تلك الأجواء الباردة واغمضت عيناها براحة أخيرًا بعد معاناة ، وما هي إلا لحظات حتى غطت في نوم عميق .. أخفض نظره إليه يمعن النظر في وجهها ثم ابتسم بحنو وطبع قبلة رقيقة لكنها طويلة فوق شعرها قبل أن يغمض عيناه ويخلد هو الآخر للنوم .

***
ترجل آدم من سيارته أمام مقر الشركة وقاد خطواته الواثبة باتجاه المخزن الموجود في ظهر الشركة بالأسفل .. فتح الباب ونزل الدرجات المؤدية للأسفل حيث المخزن ، وقف عند آخر درجة يتطلع لذلك المكبل بالحبال من يديه في المقعد ومن كل جانب يقف رجل بجانبه .. اشتدت ملامح وجهه وتصلبت ثم تحرك نحوهم وهز رأسه للرجال بمعنى أن يخرجوا ، امتثلوا لأوامره وساروا للخارج بينما هو فوضع قبضتيه في جيبي بنطاله وتطلع لذلك السائق بنظرات قاتلة ثم هتف :
_ من البداية كدا عشان نبقى على نور .. أنا معنديش طولة بال ، يعني بالذوق ومن غير ما تتعبني تقول مين اللي باعتك
_ مش فاهم !
آدم ببشائر غضب بدأت تلوح على وجهه :
_ امممم بدأنا تستعبط
ظل الآخر يرمقه بعدم فهم متصنع دون أن يتحدث فاستشاط آدم وفقد صموده حيث غار عليه يلكمه في وجهه بعنف :
_ اخويا كان بين الحيا والموت يا ***** .. انطق مين اللي متفق معاك على الحادث ده ؟
ظهرت علامات الزعر البسيطة على ملامحه وهو يجيب عليه ملتقطًا أنفاسه :
_ محدش .. صدقني عربية اخوك هي اللي طلعت في وشي مرة واحدة
آدم بشراسة ونظرات نارية كلها انتقام :
_ من الآخر إنت كدا كدا هتتسلم للشرطة .. فتروح القسم سليم ولا تروح متكسح ، قدامك خمس ثواني لو منطقتش انا مش مسئول عن اللي هيعملوه الرجالة فيك

رفع آدم كف يده وبدأ يعد تصاعديًا على اصابع يده للخمسة ، والآخر يتطلع إليه بخوف مترددًا من الاعتراف ، إن استمر في الصمت لن تكون النتائج مرضية أبدًا كما هدده .. وصل آدم إلى الرقم أربعة وكان على وشك أن ينطق بالأخير لولا أنه هتف مسرعًا بصوت مضطرب :
_ فريدة هانم
لم يندهش بل على العكس تمامًا ابتسم بنظرات مريبة ثم سأل بترقب :
_فريدة بس ؟
اماء له الرجل بإيجاب وهو يهتف :
_ أيوة هي اللي طلبت مني اقتل اخو سيادتك وادتني عربون مقدم وقالتلي بعد العملية ما تتم هتديني الباقي

مسح على وجهه وهو يضحك بشكل غريب ، يكاد ينفجر الآن ودمائه تغلي في عروقه بغل ، لا يكفيها خيانتها بل وتتآمر على قتله .. اقسم أنه لن يدعها تفر بفعلتها هذه دون عقاب .
استدار واندفع إلى خارج المكان كله وهو عبارة عن جمرة متوهجة من النيران .. وأثناء مروره بجانب الرجال هتف يلقي عليهم تعليماته وهو مستمر بالسير :
_ اعملوا معاه الواجب قبل ما تسلموه للبوليس

***
في صباح اليوم التالي .....
خرجت مهرة من منزلها وتسير في طريقها إلى عملها ككل يوم غير منتبهة للعيون التي تراقبها بغضب من بعيد .. تتوعد لها وتعد الخطط الشيطانية للنيل منها .
نكزته بدرية في كتفه بعدما لاحظت انشغاله بالتركيز على خطوات مهرة وقالت ضاحكة بسخرية :
_ جرا يا ولا هي اللي ما تتسمى دي عجباك ولا إيه
ريشا بابتسامة ماكرة :
_ لا يا خالة .. بس ليا حساب لازم ولابد اصفيه معاها اصلها فردت نفسها أوي عليا ونست أنا مين
بدرية بضحكة حماسية :
_ عملت إيه ياولا احكيلي
لم يجيب عليها وظلت عيناه ثابتة على اللاشيء امامه
بتفكير حتى نظر إلى بدرية وهتف بخبث وهو يغمز لها :
_ بقولك إيه ياخالة .. عايز منك خدمة صغيرة كدا
بدرية بلؤم مماثل له :
_تخص بنت رمضان
اماء لها برأسه في عين تنبع بالأفكار الشيطانية فابتسمت هي وردت عليه بنبرة حاقدة ومستمتعة :
_ عنيا ليك .. ده إنت ابن الغالية

***
خرج من الحمام الملحق بغرفته وقد ارتدى ملابسه كلها ، أسرعت إليه ووقفت أمامه تهتف باستياء بسيط :
_ عدنان إنت لسا تعبان ومينفعش تطلع من المستشفى .. الدكتور قالك إن حالتك بقت كويسة الحمدلله بس كمان قال لو هتخرج من المستشفى يبقى لازم يكون في اهتمام في البيت وترتاح تمامًا والأفضل كمان إنك تكون هنا تحت رعاية الدكاترة
عدنان بإصرار :
_ قولتلك أنا كويس يا جلنار .. وبعدين أنا مبحبش المستشفيات ولا جو الدكاترة ده وإنتي عارفة ده ، يعني في بيتي هرتاح اكتر
جلنار بعصبية شديدة :
_ اشك إنك هترتاح الصراحة .. لازم يكون في اهتمام بنوعية الأكل وبعلاجك وكمان راحتك التامة وإنت في البيت مش هتلتزم بأي حاجة من دول
أجابها بمداعبة وهو يغلق ازرار قميصه العلوية بابتسامة لعوب :
_ طيب ما إنتي موجودة وهتهتمي بيا أنا واثق

تجمدت معالم وجهها وطالعته بعينان تطلق علامات استفهام في عدم فهم ، ثم رفعت سبابتها تشير لنفسها بحيرة :
_ أنا !!!
_ أيوة إنتي !
جلنار بتعجب ملحوظ في نبرتها ونظرتها :
_ طيب ما أنا مش هكون موجودة .. إنت هتروح تقعد مع مامتك في البيت !
انتهى من زر ازراره قميصه وغمز لها بمشاكسة :
_ مين اللي قال كدا .. أنا هقضى فترة تكملة علاجي مع رمانتي وبنتي
لحظات أخرى مرت من السكون التام المهيمن عليها .. لكن هذه المرة كانت تتطلع إليه بذهول ، فخرج صوتها بازدراء وعدم تصديق :
_ يعني إنت هتسيب فريدة وتقعد معايا أنا !!!
اختفت الابتسامة من على وجهه فور ذكرها لاسم فريدة وتحول من المرح والمشاكسة إلى الحزم وهو يجيب عليها :
_ خلينا في موضوعنا افضل .. لو خلصتي وجهزتي يلا بينا
استدار وسار مبتعدًا عنها فهرولت خلفه وامسكت بذراعه تديره إليها وتهدر بجدية واستغراب :
_ استنى هنا .. إنت امبارح تقولي أنا مش عايز جلنار القديمة وبتتصرف بطريقة غريبة من امبارح وبليل تعالي نامي جمبي عشان مش هترتاحي على الكنبة ودلوقتي هقعد معاكي إنتي .. هو في إيه بظبط ؟!!
ضيق عيناه باستغراب مزيف ورد بكل بساطة وهدوء أعصاب :
_ مفيش حاجة إنتي شايفة إن تصرفاتي غريبة لكن في الواقع هي طبيعية جدًا
ضحكت بصوت عالي وردت عليه مستهزئة بانفعال :
_ لا والله طبيعية !! .. ولما هي طبيعية مكنتش بتتصرف معايا من بدري زي كدا ليه !
_ إنتي غاوية نكد على الصبح يعني ؟!
احتدمت نبرتها بشدة ولا تعرف لماذا شعرت بوغزة ألم في قلبها فردت عليه بثبات وقوة :
_ لو بتعمل كل ده عشان تخدعني وتخليني أتراجع وانسى موضوع الطلاق ، فبلاش منه احسن لإني لسا عند قراري وقريب أوي هوكل محامي عشان نبدأ في الإجراءات
خرج عن إطار هدوئه المزيف وصاح بها منفعلًا بغضب هادر :
_ محامي وطلاق إيه ده على الصبح اللي طب في دماغك .. وبعدين احنا مش هنخلص من الزفت الطلاق ده !! ، أنا صبري ليه حدود

غامت عيناها بالعبارات وظهر الألم فيهم ، فكلماته لا تزال تتردد في أذنها حتى الآن ، تشعرها بكسرة النفس والعجز .. سقطت دمعة حارقة على وجنتيها وهي ترد عليه بصوت مبحوح :
_ وأنا كمان صبرت واستحملت كتير بس عشان ....
توقفت للحظة عن الكلام دون أن تكمل جملتها وعادت تكمل كلامها :
_ بس حتى أنا صبري ليه حدود ياعدنان .. وإنت عارف كويس أوي إيه اللي وصلني للحالة دي وخلاني اطلب الطلاق .. فبلاش تمثل عليا دور الاهتمام والحب المزيف ده لأنه مبقاش يفرق معايا

انهت كلامها واندفعت إلى خارج الغرفة بأكملها وتركته .. فمسح هو على وجهه متأففًا بضيق ، يقسم لها أنه حاول أكثر من مرة أن يلبي رغبتها في الانفصال عنه .. لكنه يفشل في كل المحاولات لسبب قد لا يعرفه .

***
وصلت أمام باب غرفة أسمهان وطرقت عدة طرقات خفيفة حتى سمعت صوتها يسمح للطارق بالدخول ، ففتحت الباب ببطء ودخلت ، رأتها قد ارتدت ملابسها وتستعد للخروج ، فابتسمت فريدة وسألت بخبث :
_ رايحة لعدنان في المستشفى ؟
أسمهان دون أن تنظر لها :
_ أيوة
تحركت فريدة بخطواتها المتريثة نحوها وهي تهتف بعينان ناقمة :
_ بس عدنان طلع من المستشفى وراح عند بنت الرازي
ردت أسمهان بعصبية :
_ نعم !! .. يعني إيه راح عند جلنار وليه مجاش هنا
_ من وجهة نظرك ليه ياترى !
كانت جملة مدروسة تمامًا من افعى تسير على خطا ثابتة لتحقيق نوياها .. بينما أسمهان فصاحت بغيظ وغل :
_ وهي فاكرة إني هسيبلها ابني الحقيرة دي
قررت فريدة بالقاء ورقتها النهائية والرابحة وهي تقترب أكثر من أسمهان وتهمس بصوت يقارب إلى صوت فحيح الأفعى :
_ أنا عارفة إنك عايزة تخلصي مني وإنك طول السنين اللي فاتت بتمثلي الحب قدامنا بس أنا كمان كنت عارفة إنك مش طيقاني ومستنية الفرصة اللي تخلصي فيها مني .. بس لو فكرتي بذكاء اكتر شوية هتشوفي إن مش أنا خالص اللي عدوتك بالعكس احنا الاتنين عندنا نفس الهدف .. إنتي عايزة ابنك وأنا عايزة جوزي يرجعلي ، وعلى الأقل أنا مكنتش باخده منك ، لكن دلوقتي عدنان من وقت ما رجعت جلنار وهو طول الوقت عندها ، يعني شوية وهتاخده تمامًا منك ومش بعيد تعمل مشاكل بينكم وتحرمك منه

التهبت عين أسمهان بنيران البغض والغل وهتفت ضاحكة بسخرية :
_وإنتي متخيلة إني هسمحلها تخدع ابني وتلهف كل فلوسه
فريدة بخفوت خبيث :
_ عارفة وعشان كدا بقول نركن كرهنا لبعض ومشاكلنا على جنب ونركز على الهدف اللي احنا الاتنين بنسعى ليه ونشوف طريقة نخلص بيها من بنت الرازي تمامًا .. هااا قولتي إيه ؟!

التزمت أسمهان الصمت للحظات طويلة وهي تتطلع لفريدة بقوة ، حتى لاحت ابتسامة شيطانية على شفتيها فلا بأس مش اتحادهم معًا ليتخلصوا من واحدة بينما هي ستسعى على الجانب الآخر للتخلص من الأخرى ، خرجت همسة بصوت مريب منها وهي تجيب عليها باسمة :
_ تمام موافقة

***
مع تمام الساعة الخامسة مساءًا داخل منزل ميرفت .....
أسرعت ميرفت بعدما انتهت من كافة التجهيزات وفتحت باب غرفة ابنتها وهي تهتف :
_ يلا يا حبيبتي عشان الناس على وصول
صابتها الدهشة حينما رأت ابنتها لم ترتدي ملابسها حتى الآن ولا تزال تجلس بالملابس المنزلية .. فهدرت بحيرة :
_زينة ملبستيش ليه لغاية دلوقتي .. بقولك رائد على وصول
ردت عليها بعبوس وهي تهب واقفة :
_ هلبس اهو دلوقتي ياماما .. أنا حسيت نفسي مرهقة شوية وعشان كدا قعدت وملبستش
اقتربت منها ميرفت ووقفت أمامها مباشرة ورفعت يده تملس على شعرها بحنو هامسة :
_ طيب إنتي مضايقة من حاجة ياحبيبتي
هزت رأسها بالنفي في ابتسامة متكلفة :
_ لا مفيش حاجة .. عشر دقايق وهكون جهزت
ميرفت بتنهيدة حارة وبدفء :
_ طيب أنا هستناكي برا
التفتت بجسدها وسارت إلى خارج الغرفة لتتركها ترتدي ملابسها براحة أكثر ، بينما زينة فتلألأت الدموع في عيناها فور تذكرها لكلماته ( ارمي الشيء اللي مضايقك يازينة ورا ضهرك ، صدقيني طالما مسبب ليكي الألم ده يبقى ميستاهلكيش ) ، قلبها يسحق تحت الشجن والوجع ، ولا يزال قلبها ينبض بالهوى لكنها ستوقف ذلك النبض وستحاول أحيائها بفرصة جديدة علها تكون هي الملجأ وطوق النجاة له .
ارتدت رداء كلاسيكي جميل من اللون الوردي .. طويل ولديه أكمام شفافة وفي المنتصف يندرج من أعلى الكتف إلى الكتف الآخر بفتحة دائرية عند منطقة الصدر ومن الخلف نفس الشيء لكنها تركت الحرية لشعرها لينسدل على ظهرها من الخلف ويغطي الجزء الظاهر من جسدها ، ووضعت القليل من مساحيق الجمال البسيطة فزدادت من جمالها أكثر .
ارتفع صوت رنين الباب ولحظات معدودة حتى انفتح الباب وسمعت أصواتهم بالخارج ، أخذت نفسًا عميقًا ثم أخرجته زفيرًا متهملًا وارتدت حذائها العالي وجلست فوق مقعدها الخاص تنتظر قدوم والدتها لتسمح لها بالخروج .
وبعد مرور ما يقارب النصف ساعة انفتح الباب وظهرت ميرفت أخيرًا وهي تهتف بأشراقة وجه وسعادة :
_ يلا يا زينة تعالي ياحبيبتي
زينة بابتسامتة خافتة :
_ قريتوا الفاتحة ؟
اماءت لها ميرفت بالإيجاب وهي تضحك باتساع فضحكت زينة لضحك والدتها وفرحتها الغامرة ثم توقفت والقت نظرة أخيرة على مظهرها في المرآة قبل أن تسير مع أمها إلى الخارج .

رفع رائد نظره لها فور دخولها وابتسم بإعجاب بينما هي فاخفضت نظرها أرضًا باستحياء ومرت تلقي التحية على كل من والدته وشقيقته وكذلك أبيه ، ثم جلست بجوار أمها في سكون تام لا ترفع نظرها ولا تخرج صوتًا إلا عندما يوجه لها سؤال من أحدهم ، استمرت جلستهم لدقاىق طويلة وهو يضحكون ويتبادلون الأحاديث فيما بينهم حتى ارتفع صوت رنين والد رائد الذي استأذن وخرج لشرفة الصالون حتى يتمكن من الرد على الهاتف .. فاستغلت نرمين الفرصة حتى تترك العروسين على انفراد للحظات وهتفت موجهة حديثها إلى ميرفت وهي تبتسم بمكر :
_ إني غيرتي الوان المطبخ صحيح ياميرفت .. حتى أنا والله بفكر قريب أوي اغير الوان البيت كلها
ضحكت ميرفت بعدما فهمت ما تسعى إليه صديقتها وهبت واقفة تجيب عليها بنفس نظراتها الماكرة :
_ اه غيرته .. تعالى افرجك عليه
هبت نرمين واقفة فورًا وأشارت لابنتها بأن تلحق بهم ، بينما زينة فتابعتهم وهم يغادرون متنهدة بعدم حيلة ، والقت نظرة خاطفة على رائد الذي كان يجلس أمامها ويتطلع إليها بابتسامة ساحرة .. ازدردت ريقها بتوتر بسيط واخفضت نظرها تتأمل في حذائها كنوع الهروب من الموقف .
هتف رائد بهدوء جميل :
_ عاملة إيه ؟
اضطرت لرفع رأسها ونظرت له وهي تجيب بحياء ملحوظ :
_ الحمدلله و إنت ؟
رائد بمداعبة لطيفة وهو يبتسم باتساع :
_ كويس أوي .. مبرووك
ردت عليه بابتسامة صافية :
_ الله يبارك فيك
صمت تام لدقيقة كاملة وهو مستمر في التحديق بها بإعجاب ، لا يتمكن من إبعاد نظره عنها بينما هي تنقل نظرها بين كل شيء معادا وجهه كأنها تتفحص منزلها لأول مرة ! ، خرج صوته أخيرًا هامسًا لها :
_ شكلك حلو أوي على فكرة
ارتبكت بشدة ورفعت أناملها المضطربة ترجع خصلات شعرها خلف أذنها ، وردت عليه في نبرة صوت منخفضة بشكل لا إرادي منها :
_ ميرسي
انتهى والده من مكالمته وعاد لهم وهو يهتف ضاحكًا باستغراب :
_ ايه ده هما راحوا فين ؟
زينة بابتسامة رقيقة شبه ضاحكة :
_ ماما اخدت طنط نرمين تفرجها جوا على المطبخ

***
اندفع آدم نحو الحديقة الخارجية للمنزل فور رؤيته لفريدة تجلس بها ، رأته يتجه نحوها كالعاصفة المدمرة ، فتركت فنجان القهوة الذي بيدها واعتدلت جالسة باستغراب وماهي إلى ثواني حتى أصبح أمامها .
انحنى آدم عليها وهتف بتهديد حقيقي :
_ هديكي مهلة يومين يافريدة .. ياتقولي لعدنان كل حاجة بنفسك يا إما صدقيني أنا اللي هفضحك
دلو من الماء المثلج سكب فوقها ، لكنها تصنعت الثبات والقوة ، حيث استقامت واقفة وصاحت به بعصبية تخفي ورائها توترها :
_ هو إيه ده اللي اقوله .. بعدين إنت ازاي بتتكلم معايا الأسلوب ده يا آدم ، متنساش إني مرات اخوك
تقدم خطوة إليها كالأسد الذي سيلتهم فريسته ، وتلقائيًا تقهقهرت هي للخلف بارتباك ثم وجدته يجيب عليها بغيظ مكتوم :
_ أنا لغاية دلوقتي عامل حساب إنك لسا مرات عدنان لولا كدا اقسم بالله أنا كنت عملت حجات لا يمكن في حياتك تتخيليها
فريدة بانفعال وتلعثم :
_ إنت مجنون إيه اللي بتقوله ده
رفع سبابته في وجهها وهدر بتحذير يحمل في طياتها الوعيد بالانتقام :
_ أنا قولت اللي عندي قدامك يومين تجهزي فيه نفسك وتقولي لعدنان على كل حاجة ومتنسيش طبعًا محاولتك لقتله وإلا أنا اللي هقول كل حاجة
ظلت صامتة تستمع لتهديداته وتحذيره لها حتى انتهى واستدار وسار باتجاه سيارته يستقل بها وينطلق لخارج المنزل ، جذبت فنجان القهوة والقت به بقوة على الأرض صارخة :
_ اووووف هو أنا كل ما اخلص من مصيبة تطلعلي التانية

هدأت ثورتها فجأة عندما أدركت جملته بوضوح الآن " محاولتك لقتله " ماذا يقصد بتلك الجملة ؟! ، من خطط لذلك الحادث هو نادر وليس هي ! .

***
خرج من غرفة صغيرته بعدما أرهقت من كثرة اللعب والضحك معه ونامت ، دثرها بالغطاء جيدًا وقبلها من شعرها بمشاعر أبوية حانية قبل أن يرحل ويغلق الباب بحذر شديد حتى لا تستيقظ .
كان في طريقه لغرفته لولا استماعه إلى أصوات عبث قادمة من المطبخ جعلته يتوقف لوهلة قبل أن يغير اتجاهه ويذهب للمطبخ في خطوات هادئة ، ووقف عند الباب يتطلع إليها من الخلف وهي تقوم بتحضير شطيرة من المربى لها ووجهها عابس ومنطفىء ، تنهد بحرارة وشيء مجهول في داخله دفعه إليها دون أن يشعر .

أحست بخطواته الواثقة وهي تقترب منها ، فتوقفت عن إكمال شطيرتها وتصلبت بأرضها تنتظر وصوله إليها في فضول لمعرفة ما سيقوله ، توقفت خطواته وأصبح في ظهرها تمامًا ولفحت أنفاسه الحارة رقبتها من الخلف ، نجحت في البقاء صلبة حتى شعرت بأنامله تمتد لشعرها ويزيحه عن وجهها ورقبتها فيتجمع كله على الجانب ويهمس بخفوت جذاب :
_ هتفضلي مكشرة كدا كتير !
رغم تبعثرها الداخلي إلا أنها استمرت في البقاء شامخة وثابتة وأجابت عليه ببرود وبنفس كلمته في الصباح :
_ أنا مش مكشرة دي طبيعتي
ظهر شبك ابتسامته على ثغره وسكن لثواني معدودة قبل أن يعود ويهمس باسمها :
_ جلنار
في تصرف لا إرادي منها التفتت برأسها له بعد همسته باسمها وعلقت عيناها على خاصته البندقية الثاقبة كعيني العُقاب تمامًا ، لحظات طويلة مرت من الصمت بينهم حتى قطع هو الصمت بهمسة جميلة ونظرة دافئة :
_ أنا مش عايز اطلقك !


رواية كيان الفهد كاملة جميع الفصول ( الفصل 19)


اعترف بالحقيقة التي كان يخفيها منذ إعلانها التمرد عليه وبداية الشجارات التي لا تنتهي بينهم وإصرارها على الانفصال ، قالها بوضوح شديد وأوضح رغبته في بقائها معه ورفضه لفكرة الفراق .. لكن لا تزال هنا نقاط ناقصة يحب أن تضع فوق الحروف لتكمل المعنى تمامًا .
اطالت النظر إليه بتدقيق .. رغم دهشتها من جملته غير المتوقعة إلا إنها ابتسمت وقالت بمكر امتزج ببعض السخرية :
_ ومش عايز تطلقني ليه .. مش على أساس إنك مش بتحبني !
أصدر تنهيدة خرجت مصاحبة تأففًا قوي منه و هو يجيبها :
_ مكنتش اقصد ياجلنار .. قولتها في وقت عصبية ! ، إنتي مصممة على الطلاق عشان كدا !
جلنار بصلابة وجفاء :
_ اللي اعرفه إن الكلام اللي بيتقال وقت الغضب بيكون هو الحقيقة .. وبيني وبينك إنت معملتش أي حاجة تثبت عكس اللي قولته
ثم مدت يدها تعبث بقميصه في رقة مقصودة وأعين شرسة كلها قوة :
_ والأولاد اللي كنت متجوزني عشانها ، الحمدلله معانا هنا فمتتوقعش إن ممكن اسمح إن تحصل حاجة بينا واجبلك طفل تاني .. impossible ( مستحيل )
ثم همت بالانصراف والذهاب للخارج لكنها قبض على ذراعها وجذبها إليه وهتف أمام وجهه بغضب ونظرة مشتعلة :
_ مش هطلقك
اتسعت الابتسامة فوق شفتيها وردت عليه بثقة :
_ براحتك .. وادينا قاعدين وخلينا نشوف هتفضل ثابت على مبدأك كدا لغاية امتى
ثم نزعت يده عن ذراعه وسارت للخارج وهي تبتسم بتشفي وتلذذ متمتمة لنفسها :
_ ده احنا لسا هنبدأ ياعدنان االشافعي
***
مدينة كاليفورنيا ......
يباشر أعماله جالسًا فوق مقعده أمام مكتبه في غرفته الخاصة بشركته .. يرتدي نظارة العمل المعتاد على ارتدائها أثناء عمله ، لأن كثرة التطلع في الأوراق والحاسوب تتعب عيناه وتسبب له الآلام .
انفتح الباب دون طرق أو استآذن مسبق ودخلت نادين وهي تسير بحذائها العالي المعتاد الذي يصدر اصواتًا عالية تجذب الانتباه إليها ، ولم يكن هو بحاجة لرفع رأسه لينظر للمتطفل الذي اقتحم الغرفة دون آذن ، فصوت حذائها كفيل ليكشف له هوية المتطفل ، خرج صوته حازمًا قليلًا :
_ الساعة السابعة يا آنسة وأنا قولت ستة تكوني في الشركة
كانت على وشك الابتسام لولا أنها لاحظت نبرته الصلبة فضيقت عيناها ببعض الدهشة وسارت نحوه وهي تتمتم :
_ حاتم إنت عنجد زعلت منى مبارح ؟!
رفع نظره لها وهتف بضيق مزيف :
_ ومزعلش ليه !
اقتربت ووقفت بجوار مقعده ثم هزته في كتفه بخفة وهتفت مشاكسة وهي تضحك :
_ بلا ولدنة !!
لانت حدة نظراته وقال بابتسامة خفية :
_ احنا موضوعنا دلوقتي في التأخير يا أنسة مش زعلت ومزعلتش
_ ما أتأخرت اجيت على الوقت الطبيعي واللي تعودت عليه
ظهرت ابتسامته أخيرًا وقال مستسلمًا لكن بنبرة تحمل الجدية :
_ طيب خلاص .. المهم أنا مسافر خلال اليومين الجايين
ضيقت عيناها بحيرة وهتفت فورًا بشيء من الحزن :
_ لوين ؟!
تنهيدة طويلة تبعتها همسة حازمة :
_ مصر
لجمت الصدمة لسانها فبقت تتطلع إليه للحظات بسكون .. وألف سؤال يدور في ذهنها ، وأول سبب استنتجته هو رغبته في رؤية جلنار ! .
زكأنه هو فهم ما يجول بعقلها الآن فأسرع بإنقاذ الموقف يكمل في لطف :
_ في شغل مهم ولازم اكون موجود بنفسي هناك ، وكلها اسبوع وهرجع تاني .. وفي الحقيقة كنت هسألك واشوفك لو حابة تيجي معايا ياريت والله
صمت تام يهيمن عليها وهي مستمرة في التحديق به بيأس ، حتى وجدته يلوح بيده أمام وجهها حتى تنتبه له ، فوقفت بصلابة وشموخ متمتمة بقوة :
_ لا مو بدي .. سافر إنت وخلص شغلك وأنا بنتظرك هون
_ ليه ؟!!
نادين ببساطة مزيفة :
_ مو حابة
حاتم بترقب لردها :
_ مش حابة تسافري مصر ولا مش حابة تسافري معايا أنا
_ بشو راح تفرق يعني ؟!
رد بابتسامة ساحرية ونبرة دافئة :
_ لا هتفرق طبعًا ، لو مش حابة لمجرد إنك مش عايزة تروحي مصر فده أمر هين ومقدور عليه أما لو الاحتمال التاني فكدا هيكون الكلام مختلف
لا يوجد أي احتمال من الاحتمالين صحيح .. بل الحقيقة هي فقط ليست جاهزة للتعامل مع أي موقف قد يجرح كبريائها ، وليست في حالة تسمح لها بمشاهدة جلنار ورؤية تودده لها بالنظرات والكلام .
غمغمت بخفوت تام تختار الاحتمال الأول :
_ تقدر تقول أول احتمال
_ لا إذا كان كدا مفيش مشكلة .. إنتي بقى تجهزي نفسك وشنطتك من دلوقتي عشان هتسافري معايا خلاص
نادين بذهول :
_ شكلك ما سمعتني منيح ، عم اقلك مو حابة
حاتم بعين تطلعت إليها في نظرات اذابتها :
_وأنا هحتاجك معايا يانادين .. سواء في الشغل أو انك تكوني جنبي
لمعت عيناها بوميض مختلف ، وكلماته أصابت الهدف تمامًا حيث صعدت ابتسامتها لوجهها دون أن تشعر وردت عليه بعفوية في لهفة :
_ عنجد يعني بدك ياني اكون جنبك !
_ امممم عنجد ونص كمان
غيرت رأيها بجملة واحدة منه وردت عليه تتصنع ثقل الشخصية حتى لا تثبت له تلهفها :
_ ماشي راح فكر واقلك
ضحك حاتم ببساطة وهو يعلق نظره عليها يتفحص حالاتها الغريبة ومحاولاتها لعدم إظهار رغبتها في الذهاب بعدما أوضح لها رغبته في مجيئها معه أيضًا .
***
بصباح اليوم التالي ......
بينما كانت مهرة في طريقها لعملها اعترت طريقها بدرية التي اوقفتها في منتصف الطريق وهتفت :
_ ازيك يامهرة
رمقتها مهرة بنظرة نارية ولم تجب عليها وهمت باستكمال طريقها لكنها أسرعت وقالت باعتذار يضمر خلفه نوايا خبيثة :
_ متزعليش مني يابنتي ، كانت دخلة شيطان وراحت لحالها .. منهم لله ولاد الحرام اللي مش سايبن بنات الناس في حالها ، حقك عليا يامهرة سامحيني
مهرة بعصبية وغضب هادر :
_ اسامحك في إيه .. انتي غلطتي في اهلي وشرفي ، وتقوليلي دخلة شيطان !
همت بدرية بأن تمسك بكفها لكن مهرة أسرعت وسحبته فورًا بقرف بينما الأخرى فأكملت اعتذارها المزيف متمتمة :
_ طب والنعمة الشريفة أنا ما عارفة انام من ساعة اللي حصل وضميري بيأنبي كل دقيقة على اللي قولته في حقك .. حقك عليا وخلينا نفتح صفحة جديدة ، ده احنا أهل وعشرة وجيران برضوا
اطالت مهرة النظر في وجهها بابتسامة ساخرة ولم تلين نظراتها ولو بقدر ذرة لها ، كانت تتطلع لها بكل نقم وقالت بالأخير في قوة تليق بها :
_ عليكي نور .. أهل وعشرة والعشرة متهونش إلا على ولاد الحرام ، وإنتي هانت عليكي العشرة
القت بجملتها القاسية في وجهها وابتعدت من أمامها تكمل طريقها لمكان عملها ، بينما بدري فظلت مكانها كالصنم ودمائها تغلي في عروقها من فرط الغيظ للاهانة التي تعرضت لها للتو ، وبعد لحظات من الصمت تمتمت بوعيد :
_ شكلك مش هتجبيها لبر يابنت رمضان
***
خرجت جلنار من الحمام بعدما أخذت حمامها الصباحي الدافيء ، وتمسك بمنشفة صغيرة تجفف بها شعرها .. تسمرت مكانها حين رأته يرتدي ملابسه ويستعد للخروج فقالت فورًا باستغراب :
_ رايح فين ؟!
رد عليها بإيجاز وهو يرتدي سترته :
_ رايح الشركة هخلص كام حاجة ضروري وراجع
انزلت يدها الممسكة بالمنشفة في حركة بطيئة ثم ألقت بها علي الفراش في عدم مبالاة وتقدمت نحوه متمتمة بلهجة آمرة :
_ مش هتروح
سكون مريب للحظات وكأنه يستوعب لهجتها الآمرة وهي تلقي عليه بالأوامر ، ثم التفت لها برأسه مبتسمًا بشيء من الاستنكار :
_ نعم !!!
وقفت أمامه مباشرة وهتفت بنبرة قوية وصلبة لم تهزها نظرته :
_ مش هتخرج ياعدنان .. كلام الدكتور كان واضح وقال الراحة التامة ، وإنت لسا مكملتش أربع أيام حتى وعايز تروح الشغل !
طال النظر بها بأعين مريبة ففهمت هي من خلال نظرته أن طريقتها استفزته ، لكنها لم تكترث واكملت بكل برود وهي تمد يدها لسترته تنزعها عنه :
_ متبصليش كدا عشان نظراتك دي مش هتجيب بفايدة .. إنت اللي اخترت تقعد عندي يبقى تستحمل شروطي ، اقلع هدومك ويلا عشان نفطر
قبض على كفيها بيديه وانزل يدها للأسفل وهو يرمقها بنظرة تلوح بها بشائر الغضب ، واعاد سترته لوضعها الطبيعي وهندم من مظهره ثم استدار وهم بالانصراف لكنها هرولت ووقفت أمامه تسد طريقه وتهتف بإصرار :
_ قولت مش هتخرج
جز على أسنانه بغيظ وتمتم بهدوء ما قبل العاصفة :
_ابعدي ياجلنار
_ لا مش هبعد .. ومينفعش تخرج
تمالك أعصابه ورسم ابتسامة متكلفة وهو ينحنى عليها ويطبع قبلة على وجنتها هامسًا بصوت يحمل الإنذار :
_ طيب ابعدي يارمانتي ربنا يهديكي .. عشان أنا ماسك نفسي ومش عايز اتعصب عليكي
ردت جلنار بغيظ من قبلته وهي تقف على أطراف اصابعها حتى تكون في مستوى طوله :
_ ما تتعصب هو أنا خايفة منك .. بعدين إنت بتبوسني من خدي ليه !
عدنان مسايرًا إياها بغيظ مكتوم :
_ حاضر المرة الجاية هبقى استهدف الهدف وابوسك منه
قطعت اللحظة " هنا " الصغيرة التي دخلت ووقفت بجانب والدتها تنظر لأبيها وتسأل بضيق ظهر على ملامحها البريئة :
_ رايح فين يابابي ؟
نظرت جلنار لابنتها وتمتمت بلؤم متصنعة البراءة :
_ هنون احنا مش لما نكون تعبانين بنفضل في البيت لغاية ما نخف
_ أيوة
_طيب ياحبيبتي بابي تعبان وعايز يروح الشغل .. ينفع كدا ؟!
اقتربت الصغيرة من أبيها وتشبثت بقدمه متمتمة برجاء وهي تنظر له بنظرات مستعطفة :
_ مش تروح الشغل يابابي عشان خطري ( خاطري ) .. كدا إنت هتتعب وتروح الدكتور تاني
لم يتمكن من التفريط بها وبنظراتها التي تأثره أثر فانحنى عليها وحملها فوق ذراعيه لاثمًا وجنتها بحنو ، ثم رفع نظره لجلنار فرآها تقف عاقدة ذراعيها أمام صدرها وترمقه بابتسامة نصر ، عض على شفاه بغيظ وبعيناه يتوعد لها ، بينما هنا عندما لم تحصل منه على أجوبة عادت تسأل من جديد بلطافة :
_ مش هتروح صح ؟
لحظات من الصمت وهو يستمر بالتحديق في جلنار التي تضحك بتشفي ثم عاد بنظره إلى صغيرته وكان على وشك أن ينفي سؤالها لكنه خر مستسلمًا أمام نظراتها ولم يتمكن من رد طلبها فتنهد مغلوب على أمره وهو يوميء لها بالإيجاب .. فصاحت هنا بسعادة وهي تتعلق برقبته هاتفة :
_ هييييه ، بحبك أوي يابابي
_ وأنا كمان بحبك ياروح بابي
اتسعت ابتسامة جلنار وقالت بثقة ونظرات متعمدة بها استفزازه :
_ أنا هروح احضر الفطار .. وإنت غير هدومك يا أبو هنا يلا
تابعها بعيناه وهي تستدير وتنصرف ، زفر بصوت مسموع ونظر لابنته وتمتم بعدم حيلة شبه مبتسمًا :
_ والله ما في حد تاعبني غير أمك .. آخ منها
لم تفهم ما قصده فاكتفت بضحكتها الخافتة دون أن تفهم ، لتتسع ابتسامة بحب على ضحكتها ! .
***
في تمام الساعة الرابعة عصرًا دوى صوت رنين الباب ، فاستقام عدنان الذي كان يشاهد التلفاز اتجه نحو الباب ليفتح .. أمسك بالمقبض واداره ثم جذب الباب إليه فقابل أمامه كل من أخيه وأمه التي عانقته بقوة فور رؤيتها له وتمتمت بحب واهتمام حقيقي :
_ عامل إيه ياحبيبي .. مقدرتش مجيش اشوفك
رفع نظره لآدم يرمقه معاتبًا لأنه جلبها فرفع آدم كتفيه بعدم حيلة ، بينما عدنان فملس على ظهر أمه بلطف هامسًا :
_ أنا كويس ياماما الحمدلله متقلقيش
ابتعدت عنه أسمهان وهتفت بضيق واضح وملحوظ :
_ بقى كدا متجيش تقعد معايا جمبي وتقعد هنا
عدنان بابتسامة متصنعة :
_ مش وقته الكلام ده ياماما
لوت فمها بخنق ثم دخلت ولحق بها آدم الذي انحنى على أذن عدنان وهمس :
_ اعمل إيه صممت تيجي معايا لما عرفت إني جايلك
رتب على كتفه أخيه باسمًا :
_ طيب ادخل خلاص .. ربنا يستر ومتحصلش مشاكل عشان أنا مش ناقص
خرجت الصغيرة هنا من غرفتها وفور رؤيتها لجدتها ركضت عليها تعانقها واستقبلتها أسمهان بحرارة وحب ، بينما جلنار فوقفت على بعد خطوات منها وتمتمت بابتسامة صفراء :
_ أهلًا يا أسمهان هانم
رمقتها بقرف وغل وكانت على وشك أن تجيب عليها لولا وصول أبنائها فتحركت وجلست على المقعد بجوار عدنان وهتفت تسأله باهتمام :
_ بتاخد علاجك يا حبيبي ؟
_ أيوة الحمدلله
كان رده هادئًا تمامًا ثم استكملت هي بترقب لرده :
_ تعالى اقعد معايا في البيت يابني عشان اكون مطمنة عليك
مسح عدنان على وجهه وتمتم بأعين دافئة :
_ أنا مرتاح هنا ياماما
كانت جلنار تتابع حديثهم بنظرات مغتاظة ، تلك المرأة الخبيثة لا يعجبها بقائه معها وتريد أخذه معها .. قد فهمت الآن سبب زيارتها المغلفة بإطار الحب والاهتمام .
استقامت جلنار واقفة متمتمة وهي توجه حديثها لآدم بود :
_ تشرب إيه يا آدم ؟
هز رأسه بالنفي في ابتسامة صافية ، فالتفتت ناحية أسمهان وقبل أن تسألها ردت عليها بقرف :
_ مش عايزة
اشتعلت عيني جلنار وهي تتطلع بها فسمعت عدنان وهو يهتف بنظرات بها بعض الحزم واللين بذات اللحظة :
_ جــلــنـار أنا عايز مايه لو سمحتي
رفعت نظرها عن أسمهان ورمقته بهدوء وهي تهز رأسها بالموافقة وتسير باتجاه المطبخ .. لحظة من الصمت مرت حتى بدأ عدنان وآدم يتبادلون الأحاديث فيما بينهم وبقت هي تتابعهم بصمت ثم وقفت دون أن يشعروا بها وذهبت لجلنار بالمطبخ .
كانت جلنار تقف تستند بظهرها على المطبخ وقدماها تهتز بعنف من فرط الغيظ ، حتى رأت أسمهان وهي تدخل عليها .. فاعتدلت في وقفتها وطالعتها بقوة ، بينما أسمهان فهتفت بحقد :
_ أنا فاهمة كويس أوي اللي بتحاولي تعمليه ، بس أنا لا يمكن اسيبلك ابني
لم تجيب عليها واستمرت في النظر إليها بصمت وازدراء حتى تقدمت أسمهان نحوها أكثر وأصبحت أمامها مباشرة وتمتمت :
_ رغم إنك عارفة إن ابني مش بيحبك وإنه ماخدك وسيلة للإنجاب مش اكتر ، لسا موجودة معاه وده يثبت حاجة واحدة بس إنك بلا كرامة وكل همك الفلوس .. بعد ما أبوكي طبعًا خسر شغله وبقى على عتبة الأفلاس حاطة عينك على فلوس ابني دلوقتي
خرجت عن إطار هدوئها وفشلت في حجب انفعالاتها وتمامًا كان هذا ما تريده اسمهان من البداية ، حيث صاحت جلنار بها في انفعال :
_ أنا لا عايز ابنك ولا عايز فلوسكم المقرفة دي ، وخدي بالك من كلامك معايا يا أسمهان عشان صدقيني مش هسكت واسمحلك تهنيني فاهمة ولا لا
نظر كل من عدنان وآدم لبعضهم البعض بحيرة فور سماعهم لصوت جلنار المرتفع وكان عدنان أول من وثب واقفًا وهرول نحو المطبخ ولحق به آدم .
_ في إيه ياماما ؟
سؤال خرج من عدنان وهو ينقل نظره بينهم باستغراب ، زوجته عبارة عن جمرة نيران متوهجة وأمه تبدو أقل هدوءًا منها بعض الشيء .. أجابت عليه أسمهان بعصبية :
_ الهانم مراتك عشان بديها نصايح وبقولها تاخد بالها منك إزاي في فترة علاجك بتزعق وتقولي إنتي مالك وكمان بتطردني من بيت ابني
ضحكت جلنار على كذبها السخيف مثلها ولم تعلق وتحاول حتى الدفاع عن نفسها لعدم مبالاتها بالأمر من الأساس .. نظر آدم لعدنان وهز رأسه له بمعنى فهمه جيدًا ثم انحنى على أمه وهمس :
_ ماما انتي مش خلاص اطمنتي على عدنان يلا عشان ارجعك البيت
نقلت أسمهان نظرها بين الجميع باستياء ، والقت نظرة أخيرة على عدنان الذي كان يقف ويتنهد بحنق وعدم حيلة ثم استدارت وسارت مع آدم الذي ربت على كتفه أخيه بلطف قبل أن يغادر .
طالت نظرات عدنان على جلنار التي تقف وتشيح بوجهها للجانب الآخر ، كانت عيناها دامعة وتخشي أن يراها فتحركت وسارت مسرعة للخارج لكنه قبض على ذراعها أثناء مرورها من جانبه وهمس بخفوت :
_ حصل إيه ؟
لاحت ابتسامتها الساخرة على شفتيها وردت دون أن تنظر له حتى لا يرى عيناها :
_ زي ما سمعت مامتك
عدنان بصوت هاديء :
_ ولما هو ده اللي حصل فعلًا بتعيطي ليه .. المفروض إن إنتي الغلطانة لو زي ما بتقول ماما
هتف بتلك الكلمات عن قصد حتى يستفزها ويجعلها تنظر لوجهه وتتحدث وبالفعل انفعلت ورمقته بنارية هاتفة :
_ بعيط عشان مجنونة ارتحت
_ أيوة كدا بصيلي الأول وبعدين ابقى قولي اللي حصل
جلنار بعناد رافضة أن تقص له ما حدث :
_ وإنت سمعتها
هز رأسه بالنفي متمتمًا :
_ أنا عايز اسمع منك إنتي
تأففت بقوة وهتفت مستاءة حتى تتخلص من الحاحه :
_ قالت اللي كلنا عارفينه
_ واللي هو ؟!
جلنار بعينان واهنة ونبرة عكس نظراتها تمامًا :
_ إنك مش بتحبني ياعدنان

 

رواية كيان الفهد كاملة جميع الفصول ( الفصل 20 ) 


لحظات عابرة من الصمت المشحون بطاقة قوية وشرسة ، تنتظر رده وهو يتطلع إليه بسكون مريب .. عيناها الدامعة ونبرتها التي تحمل في طياتها بعض الضعف لمست قلبه وبعد أن كان سينهي النقاش ربما برد يزيد من إشعال النيران في نفسها ، لانت نظراته ولان قلبه كذلك فخرجت منه شحنات حانية ، جعلته يمد كفه إلى شعرها يملس عليه بلطف ثم نزلت أنامله إلى وجنتها وتحرك ابهامه برقة فوق بشرتها الناعمة متمتمًا :
_ متضايقيش نفسك بكلام ماما .. احنا عارفين إنها بتحب تضايقك بالكلام
ثواني معدودة من الصمت القاتل هيمن عليها ، أهذا هو رده على ما قالته ! .. أن لا تزعج نفسها بكلمات والدته .. هي أساسًا لا تهتم لما تقوله بل ما يزعجها أنها على حق ! .
جلنار بعدم فهم :
_ يعني !!
عدنان بتعجب :
_ يعني إيه ؟! .. متزعليش ياجلنار وخلاص حصل خير
كيف له أن يكون بهذا البرود والثبات الانفعالي ، وإن كان هو يستطيع فهي لا تستطيع حيث ضحكت بقوة ووضعت كفها على صدره تدفعه بعيدًا وهي تصيح :
_ أنت مستفز أوي .. اقوله بتقولي إنك مش بتحبني وإني معنديش كرامة وإنك متجوزني عشان الأطفال وهو يرد يقولي متضايقيش نفسك هي بتحب تضايقك .. يابرودك !
هدر بهدوء تام وبعينان ثاقبة تترقب ردها :
_ إنتي عايزاني اقول إيه ؟!
ضحكت باستنكار ثم مالت برأسها ناحيته وهمست بألم مدفون في أعماقها :
_ متقولش حاجة أنا ردك وصلني خلاص .. واثبتلي إنك مقولتهاش وقت غضب ولا حاجة زي ما بتقول ، فأنا أحب اقولك دلوقتي إني أنا كمان كنت ومازالت وهفضل مش بحبك ومش عايزاك ، هتفضل حاجة اتفرضت عليا ياعدنان ومستنية اليوم اللي اخلص فيه منها بفارغ الصبر عشان ارتاح
احتدمت نظرته ونبرته أصبحت أكثر خشونة وهو يرد عليها :
_ وياترى بعد ما تخلصي مني بقى هتعملي إيه ؟
ابتسمت بمكر وهمست بكلمات مدروسة تعرف أثرها جيدًا ، لكنها لم تكترث وتفوهت بهم في وجهه بكل شجاعة :
_ هتجوز واعيش حياتي .. هتجوز راجل بيحبني بجد ويستاهل أي حاجة اعملها عشانه ، راجل يعوضني عن اربع سنين من القهر والألم والحزن عشتهم مع واحد مستغل مش بيفكر غير في نفسه
سكتت للحظة تمعن النظر في معالم وجهه المخيفة ، فقد نجحت في تحقيق مبتغاها وتحولت نظراته من الهدوء إلى أخرى تضج بالغضب ، وتشنجت عضلات وجهه ، برغم خوفها البسيط من تحوله المرعب إلا أنها قررت إلقاء ورقتها الرابحة التي ستزيد اللعبة حماسًا وستعلن الفائز في حرب تخوضها قطة شرسة أمام أسد جائع لا يرحم .
استكملت حديثها بثقة أشد :
_ راجل افتحله قلبي وأحبه بكل جوارحي مش ....
هاجت عواصفه وقد نجحت في إيقاظ الوحش ، حيث كتم على فمها بكفه ودفعها حتى اصطدمت بمبرد المطبخ وانحنى عليها يهمس بتحذير مرعب وعينان نارية :
_ كلمة تاني وصدقيني إنتي المسئولة عن اللي هيحصلك
أصدرت تأوهًا مكتومًا من اصطدامها بالمبرد وحدقته بعيناها في ثبات مزيف فقد بدأ الأمر يخرج عن سيطرتها ، ابعدت كفه عن فمها وقالت بسخرية :
_ إيه مالك متعصب كدا ليه .. أنت سألتني سؤال وأنا رديت بالحقيقة
عدنان بصوت غليظ وأنفاسه المشتعلة تلفح صفحة وجهها بعنف :
_ ده في خيالك إنتي ولا يمكن يبقى حقيقة .. وقولتها قبل كدا وهقولها تاني إن مكنتيش ليا مش هتكوني لحد تاني ، فكرك إني هسمح لجنس مخلوق إنه يلمسك وأنا فيا الروح .. محدش يتجرأ يلمسك غيري
صرخت به في هسيتريا تلكمه بكفيها وتهتف بجملتها المشهورة في عدم وعي من فرط استيائها وحالة الانفعال العنيف التي سيطرت عليها :
_ إنت واحد مريض ياعدنان وأنا بكرهك
قبض على رسغيها بقوة يوقفها عن ضربه وينحنى عليها وينل من رحيقها بعد عذاب لشهور من الشوق ، بكل مرة ينجح بصعوبة في تمالك نفسه النابضة بالاشتياق لكن الآن رفع الراية وأعلن استسلامه ، فقد قتله الانتظار بلا هدف ووجب عليه أن يضع له نهاية ! .
ابتعد عنها بعد لحظات هامسًا بلهاث يجيب على آخر كلماتها :
_ وأنا كمان
تلون وجهها بالأحمر القاتم من فرط الغيظ والغضب لما فعله وما قاله بعد ! ، فرفعت كفها وكانت على وشك صفعه لكن توقفت يدها في الهواء وضمت قبضتها بقوة وهي تجز على أسنانها ، ثم انزلتها وهتفت وهي تندفع للغرفة :
_ حــقـــيــر
انصرفت وهي عبارة عن جمرة متوهجة وحمراء من الغيظ بينما هو فكان يبتسم بنفس هادئة بعد أن كانت ثائرة .. يستطيع القول أنه روى القليل من شوقه لها .
***
تخرج همهمات مستاءة منها منذ أن خرجا من المنزل وصعدا بالسيارة وهو يلتفت لها بين آن وآن متنهدًا بعدم حيلة ، لكن بالأخير طفح كيله وهتف بنفاذ صبر :
_ ماما كفاية
أسمهان بعصبية :
_ هو إيه ده اللي كفاية
آدم بهدوء متصنع :
_ كفاية اللي بتعمليه مع جلنار
_ آه واسيبها تلهف كل فلوس ابني هي وأبوها وتخدعه
مسح على وجهه متأففًا بخنق واجابها بنبرة صوت مرتفعة قليلًا وعيناه عالقة على الطريق أمامه وهو يقود :
_ ماما جلنار مش كدا أبدًا وإنتي عارفة ده متعلقيش كرهك ليها على شماعة الفلوس ، سيبي عدنان يعيش مرتاح مع مراته وبنته
ضحكت أسمهان وردت بازدراء :
_ آه مراته اللي هربت والله اعلم كانت بتعمل إيه هناك من وراه
_ وهي هربت ليه مش لما ابنك كان عايز ياخد بنتها منها ويطلقها
تأففت أسمهان بخنق وردت عليه في قرف :
_ سوق يا آدم وإنت ساكت ومتجبليس سيرتها تاني أنا مش ناقصة حرقة دم
هز رأسه مغلوبًا على أمره في نفاذ صبر فهمها حاول لن يجدي بنفع مع امرأة قاسية كأسمهان الشافعي .
***
في مساء ذلك اليوم .......
أريكة هزازة متوسطة في منتصف حديقة المنزل ، والأضواء البيضاء الخافتة تضيء المكان بهدوء ، لتنشأ أجواء ساكنة ومريحة للأعصاب .
كان يجلس فوق الأريكة وعلى فخذيه تجلس صغيرته ونائمة برأسها على صدره ، عيناه عالقة على السماء بشرود وهي تمسك بدمية باربي الصغيرة تعبث بأناملها الرقيقة في شعرها برقة وساكنة تمامًا بين ذراعين والدها .. انزل عدنان نظره إليها وابتسم ثم همس بحنو :
_ يلا ياهنون ندخل جوا كدا هتبردي يابابا
هزت الصغيرة رأسها بالنفي ولفت ذراعيها حول خصر والدها متشبثة به بقوة كتعبير عن رفضها التام في الابتعاد عنه ، فعلت شفتيه ابتسامة أبوية دافئة ثم نزع عنه سترته الثقيلة ولفها حول جسد ابنته الصغير .. رفعت هي رأسها له وتمتمت :
_ بابي إنت بتحبني وبتحب عمو آدم وتمان ( كمان ) نينا صح ؟
استعجب سؤالها للحظة لكنه هز رأسه لها بالإيجاب في ابتسامة خافتة ، فظهر العبوس على محياها وسألت للمرة الثانية :
_ طيب ومامي ؟
تجمدت ملامحه لوهلة وتمتم بعدم فهم :
_ مالها مامي ؟!
هنا بتأمل وبعض العبوس الذي مازال يعلو معالمها :
_ بتحبها زينا !
عم الصمت لثواني معدودة حتى رأت هنا الابتسامة تزين ثغر والدها من جديد وهو يرد عليها بإيجاب :
_ بحبها ياحبيبتي أكيد
سعدت للحظة بتأكيد أبيها ثم عادت وهتفت بعبوس مجددًا :
_ طيب ليه زعلتها ؟
أشار لنفسه بدهشة متمتمًا :
_ أنا زعلتها ؟!!!
اماءت هنا برأسها فضيق عدنان عيناه وسألها بفضول :
_ وإنتي عرفتي إزاي ؟
هنا بخفوت تسرد له ما حدث :
_ مامي كانت قاعدة على السرير وزعلانة ، أنا سألتها مش رضيت تقولي .. بعدين أنا قولتلها زعلانة من بابي عملت كدا براسها
ثم هزت رأسها بإماءة قوية حتى تمثل ردة فعل والدتها عندما سألتها هل سبب حزنها أبيها أم لا .. فانطلقت ضحكة بسيطة منه وهو يعيد هز رأسه بنفس طريقة صغيرته ويتمتم مستعجبًا :
_ عملتلك كدا .. امممم طيب وهي صاحية ولا نامت ؟
رفعت كتفيها بجهل وردت :
_ مش عارفة
حملها فوق ذراعه واستقام بها واقفًا هامسًا وهو يسير نحو المنزل :
_ طيب تعالي نشوفها
دخلا المنزل وصعد عدنان الدرج حاملًا ابنته فوق ذراعه وقاد خطواته تجاه غرفته ، وقف أمام الباب وأمسك بالمقبض ثم فتحه ودخل .. وقعت عيناهم عليها في الفراش وهي متدثرة بالغطاء ونائمة بثبات عميق .. فهمست هنا في أذن أبيها باسمة :
_ نامت !
تمعن النظر في جلنار للحظات قبل أن يلتفت بنظره لصغيرته ويهتف بحنو :
_طيب مش يلا احنا كمان ننام ولا إيه
ابتسمت بطفولية ونظرات بريئة ثم همست بتردد ولطافة :
_ مش عايزة انام في اوضتي
_ امال عايزة تنامي فين ؟!
اتسعت ابتسامتها ونزلت من فوق ذراعيه ثم هرولت راكضة نحو الفراش وتسطحت بجوار أمها متطلعة لأبيها بأعين متسعطفة ، فأجابها هو ضاحكًا وهو يقترب من الفراش :
_ وده من إمتى بقى إن شاء الله !
كتمت على فمها بكفيها حتى لا تخرج اصوات ضحكها وتابعت أبيها وهو يلتفت حول الفراش ويتسطح بجوارها من الجانب الآخر وهي بالمنتصف بين والديها .. رفع الغطاء وسحبه على جسده وتلقائيًا تدثرت هي أيضًا ثم التفتت للجهة الأخرى ودثرت أمها جيدًا وعادت مرة أخرى لأبيها تلقي بجسدها الصغير بين ذراعيه .
مد عدنان يده للضوء واطفأه فخرجت صيحة من هنا بخوف :
_ لا
فتح النور مرة أخرى مفزوعًا وحدجها باستغراب فهتفت هي بصوتها الطفولي :
_ كدا العفريت هيجي يابابي
_ عفريت أيه يابابا .. مفيش ياحبيبتي الكلام ده
اعتدلت جالسة ورفعت يديها لأعلى ورسمت على ملامحها الطفولية البريئة الجميلة ملامح مرعبة لا تناسب وجهها بتاتًا وهتفت تمثل لأبيها :
_ لا في هيعملي كدا اعاااا
قهقه بقوة فالتفتت هي برأسها مسرعة ناحية أمها وأشارت بسبابتها على فمها هامسة :
_ شششش مامي هتصحى !
اخفض من نبرة صوته وهو يجذبها لصدره متمتمًا :
_ طيب يلا مش هطفي النور نامي بقى متتعبنيش
امتثلت لكلام أبيها وسكنت تمامًا في حضنه ودقائق معدودة واغمضت عيناها سابحة في ثبات عميق .
***
بأمريكا الشمالية تحديدًا مدينة كاليفورينا داخل منزل حاتم في المساء ........
كان جالسًا بغرفة مكتبه ويمسك بيده الكتاب الذي اهدته له بعيد ميلاده الأخير قبل أن ترحل .. لا تزال صورتها عالقة بذهنه .. صوتها يرن في أذنه بين الحين والآخر ، لم ينساها ولن يتمكن بسهولة كما ظن .. لكن الجيد في الأمر أن شوقه له يتناقص يومًا بعد يوم ، ولم يعد مشتاقًا لرؤيتها كالسابق .. سيعاني قليلًا في تحمل نتيجة الخطأ الذي ارتكبه حين سمح لقلبه بأن يتعلق بها مرة أخرى وهو يعرف بأن الأمور قد لا تسير كما تهوى نفسه .
قطع لحظات تفكيره طرق الباب القوى .. ضيق عيناه بريبة وأسند الكتاب فوق سطح المكتب واستقام واقفًا مغادرًا الغرفة ومتجة نحو الباب ، أمسك بالمقبض وجذب الباب إليه فقابل أمامه نادين ووجهها ممتلئ بالدموع ، صابه الفزع من مظهرها وهتف بصدمة :
_ نادين !
ارتمت عليه دون أي مقدمات ولفت ذراعيها حول رقبته دافنة وجهها في كتفه وتبكي بحرقة .. ارتفعت علامات الاستفهام والقلق لعيناه لكنه لف ذراعه حولها يملس على ظهرها برفق متمتمًا بصوتًا ينسدل كالحرير ناعمًا :
_ مالك يانادين إنتي كويسة ؟!!
ابتعدت عنه وردت عليه من بين بكائها بصوت متقطع :
_ كنت بحفلة عيد ميلاد صديقتي وأنا وعلى الطريق للبيت قابلت شوية شباب مو متربين ضلوا يضايقوني بالكلام وبالذول لعرفت امشي وكمان ضلوا ورا سيارتي بسيارتهم فخفت اروح على البيت وأجيت لعندك
احتدمت ملامح وجهه وهتف بغلظة :
_ فضلوا وراكي لغاية ما وصلتي هنا عندي !
نادين ببكاء وجسد يرتعش :
_ ما بعرف أنا كتير خوفت وضليت سوق بسرعة حتى اوصل لعندك
أمسك بيدها في رفق وادخلها ثم اغلق الباب ورمقها بنظرات حانية مطمئنة بعدما احس بارتعاشة جسدها وخوفها الشديد :
_ متخافيش خلاص أنا معاكي أهو .. اهدي يانادين
نادين بصوت مرتجف :
_ كانوا مو بوعيهم لهيك خفت اكتر
لف ذراعه حول كتفها وسار معها للداخل حتى وصلا للأريكة المتوسطة واجلسها عليها ثم جلب لها كوب ماء ومد يده لها فالتقطت الكوب وشربته كله دفعة واحدة .. بينما هو فهتف بنبرة صارمة تحمل السخط :
_ وإنتي إيه اللي يقعدك في عيد ميلاد صحبتك للوقت ده يا هانم
_ كانت الحفلة كتير حلوة وهي رفضت تتركني امشي إلا بعد ما تنتهي الحفلة
حاتم بنبرة أشد غلظة من السابق :
_ ومرنتيش عليا ليه آجي اخدك !!
نادين بصوت مبحوح من أثر البكاء :
_ ما حبيت ازعجك ياحاتم ، وأكيد ما كنت بتوقع إن هيك راح يحصل
مسح على وجهه متأففًا بنفاذ صبر وغضب ملحوظ ثم هتف بتحذير حقيقي ونظرات مخيفة :
_ أول وآخر مرة يا نادين مفهوووم .. من هنا ورايح متتأخريش برا وحدك
اماءت برأسها وهي مطرقة رأسها أرضًا ، بينما هو فتفحص بعيناه بداية من قدماها وفستانها القصير حتى أعلى كتفها الذي تتدلي من حمالات الفستان التي فوق كتفيها فتحة مثلثية عند منطقة الصدر وتترك الحرية لشعرها البني .. طال تأمله بها للحظات لا يتمكن من إزالة نظره عنها حتى سيطر على ذاته وهتف بعصبية :
_ إيه اللي لبساه ده .. ما طبيعي تلاقي شباب بتضايقكي باللبس ده
نزلت بنظرها لملابسها وعادت له تهتف باستغراب وبعض الغيظ :
_ شو به فستاني !!!
حاتم بغضب وحدة :
_ فستان إيه .. ده قميص نوم !
ردت عليه مشتعلة بغيظ :
_ احترم حالك .. وبعدين ما إلك دخل انا بلبس ياللي بيعجبني
_ ولما مليش دخل جاية تعيطيلي ليه !
وثبت واقفة بانفعال وهدرت بغيظ وهي تهم بالانصراف :
_ أي أنا غلطانة إني اجيتلك أساسًا
اندفعت نحو الباب لكنه اسرع وقبض على رسغها يهتف بنبرة رجولية حازمة :
_ خدي هنا رايحة فين ؟!
_ رايحة على بيتي .. شو عندك مانع !!
_ آه عندي هتطلعي بالشكل ده تاني !! .. اطلعي فوق في أوضة ماما هتلاقي هدوم في الدولاب غيري والبسيلك حاجة عدلة بدل القرف ده
نادين بعناد وباستياء شديد وهي تصيح به :
_ ما تقول قرف عم تفهم .. ومو راح اطلع لفوق وراح امشي على بيتي غصب عنك
استدارت وسارت مسرعة نحو الباب لكنها أصدرت شهقة عالية بفزع عندما وجدته يحملها فوق كتفه عنوة ويسير بها عائدًا نحو الأعلى إلى غرفة والدته ، صرخت بأعلى صوتها تضربه بكفيها على ظهره :
_ نزلني يا منحط .. حاتم اتركني .. عم اقلك اتركني .. حــــاتــــم
لم يعيرها إهتمام حتى وصل بها إلى الغرفة وانزلها على الأرض ثم قال بلهجة آمرة :
_ غيري يلا وأنا هستناكي برا
همت بأن تندفع نحوه وتضربه وتشتمه لكنه كان اسرع منها حيث تراجع واغلق الباب فاتاها صوته من الخارج وهو يقول بحزم :
_ خمس دقايق وتكوني خلصتي
سمع صرختها المغتاظة من الداخل :
_ انقلع من هون !
ابتسم ولم يجيب عليها فقط ابتعد عن الباب قليلًا ووقف يستند بظهره على الحائط منتظرًا أياها .. وبعد دقائق طويلة نسبيًا فتحت الباب وخرجت وهي ترتدي بنطال واسع يعلوه كنزة بأكمام طويلة ، وقفت أمامه وهي تنظر لنفسها بعدم رضى فرد هو عليها مبتسمًا برضا على عكسها تمامًا :
_ الاحترام حلو برضوا .. كدا اقدر اقولك يلا عشان اوصلك لبيتك
هتفت بخنق :
_ لا راح روح وحدي
استقرت في عيناه نظرها مرعبة جعلتها تصمت وسارت أمامه دون أن تتفوه ببنت شفة متقبلة الأمر الواقع .. فهي من لجأت له في خوفها ويجب عليها الآن أن تتحمل النتائج ! .
***
بصباح اليوم التالي داخل شركة أل الشافعي تحديدًا بغرفة الاجتماعات .......
انفتح الباب ودخل أولًا عدنان وخلفه كان آدم ، جلس عدنان على مقعده في صدر الطاولة وهو ينقل نظره بين الجميع بتدقيق وآدم عيناه النارية ثابتة على نادر .
هتف صاحب الشركة الأخرى التي سيعقد معه الصفقة :
_ حمدلله على سلامتك يا عدنان بيه
عدنان بثبات ونظرات ثاقبة كالصقر :
_ خلينا ندخل في المهم .. اعتقد إنك عرفت إن الملفات والتصميمات اللي وصلت ليك مزورة ومش الحقيقية وكمان الحقير اللي وصل ليك على إنه من شركتنا ده واحد نصاب
نظر سليم لآدم وتمتم مبتسمًا :
_ آه آدم بيه بلغني .. دي عملية نصب عيني عينك
عدنان باسمًا بشيطانية :
_ اللي عمل كدا غبي وعقله خيل ليه إنه هيقدر على عدنان الشافعي ، بس الحمدلله ياسليم بيه إننا لحقنا المصيبة دي قبل ما تمضي العقد معاه
هز سليم رأسه بإيجاب وتمتم :
_ أيوة الحمدلله
مد عدنان بالملفات الحقيقية على سطح الطاولة يعطيها لسليم الذي التقطها منه واستغرق دقائق وهو يتفحص كل جزء بها بإمعان وبالأخير تمتم مبتسمًا بإشراقة وجه :
_ فعلًا دي التصميمات والاوراق اللي احنا متفقين عليها من البداية .. كدا نقول مبروووك علينا ياعدنان بيه أول تعامل بينا
أشار سليم لمدير أعماله بأن يخرج الاوراق الخاصة بالعقود وبدأوا كلاهما بالامضاء على العقود ، وفور انتهائهم استقاموا واقفين وتصافح كل من سليم وعدنان الذي هتف بوجه سمح :
_ إن شاء الله يكون في اجتماع قريب بينا ياسليم بيه ونتكلم فيه على كل حاجة بالتفصيل
_وأنا في الانتظار أكيد
سار سليم ومدير أعماله للخارج ولحق به آدم فورًا بعد أن القى نظرة خبيثة على أخيه ، كان نادر يجلس بمقعده وهو عبارة عن جمرة ملتهبة من فرط الغيظ والغضب .. ولم يلحظ نظرات عدنان المميتة له إلا عندما التفت برأسه ناحيته في تلقائية فاربكته نظراته له لكنه ابتسم بطبيعة متصنعة وتمتم :
_ مبروووك ياعدنان وأخيرًا صفقة العمر حصلت عليها رغم اللي حصل
ابتسم بأعين تطلق شرارات مخيفة وهتف بكلمات ذات معنى :
_ اللي حصل ده كان بتخطيط مني .. والصفقة كانت بتاعتي من البداية ، مش عدنان الشافعي اللي تفوت عليه إن في شوية ***** حواليه .. ودلوقتي هفضالهم
سقط قلبه في قدمه من الخوف .. كان يحدثه وكأنه يعرف بكل شيء ويلقي إليه بالتلمحيات أن نهايته قد اقتربت كثيرًا .. استقام واقفًا وهتف مضطربًا :
_ طيب أنا هروح ااا ... اشرب فنجان قهوة تحب اجبلك معايا
_ شكرًا
استدار نادر واندفع لخارج الغرفة فورًا مسرعًا ولحظات ودخل آدم الذي قابل سؤال أخيه المهتم :
_ هااا عرفت منه أسم ومكان الحقير اللي وداله الملفات المزورة
هتف آدم متنهدًا وهو يجلس على المقعد المجاور له :
_ عرفت عرفت .. أنا مش فاهم إيه لزمته طالما عارف إن ال**** نادر هو اللي ورا الموضوع
تشجنت ملامح وجهه وظهر الحقد والغضب عليه وهو يجيب على أخيه دون أن ينظر له :
_ الصفقة حاجة واللي هيوصلني ليه الراجل ده حاجة تاني
زفر آدم بعدم حيلة وطال النظر في أخيه .. لكم يرغب في أخباره بالعلاقة القذرة التي تمارسها زوجته من خلفه ، لكن خوفه من ردة فعله يجعله يتراجع بكل مرة وخصوصًا أنه مازال لم يتعافى تمامًا من أثر الحادث .
خرج صوت آدم خافت ومترقب لرده :
_ فريدة مقالتش حاجة ليك صح ؟
_ حاجة زي إيه ؟!
كانت جملة بنبرة قوية منه قابلت الصمت من آدم وهو يوميء بتفهم ، بينما هو فتوقف وسار للخارج وهو يتمتم بوعيد في صوت غير مسموع :
_ مش هتلحق تقول حاجة أصلًا
***
_ حصل إيه امبارح ؟!
كان سؤال فضوليًا ومتحمسًا من فريدة فردت عليها أسمهان بعصبية :
_ متحبليش سيرة امبارح نهائي يا فريدة .. بقى أنا ولادي محدش يصدقني ويصدقوا الحرباية بنت نشأت دي !
فريدة باستغراب :
_ ازاي يعني محصلش أي حاجة .. ولا حتى عدنان زعقلها !
_ ولا إي حاجة ! وطلعت أنا الكاذبة قدام ولادي
لمعت بعين فريدة فكرة خبيثة حيث قالت بتشويق :
_ طيب أنا عندي فكرة وأكيد المرة دي هتصيب
أسمهان بخنق ونفاذ صبر :
_ هي إيه
فريدة بابتسامة لئيمة :
_ حاتم
هيمن السكون على أسمهان للحظات تحاول فهم ما تلمح إليه حتى لمعت عيناها أخيرًا وارتفعت الابتسامة الشيطانية لشفتيها وهي تتبادل النظرات معها .
***
تقف جلنار في المطبخ وتقوم بتحضير وجبتها الصباحية المعتادة هي وابنتها ، وهنا تجلس فوق سطح المطبخ الرخامي وتتابع ملامح وجه والدتها المستاءة بصمت حتى هتفت بخفوت :
_ بابي قالي إنه مش هيتأخر ياماما والله
جلنار بعصبية :
_ يتأخر ولا ميتأخرش بابي لسا تعبان ، ازاي يروح الشغل .. وإنتي ليه مصحتنيش ؟
ردت الصغيرة وهي تزم شفتيها بيأس :
_ هو قالي متصحيش ماما
جلنار بغيظ :
_ آه لازم يقولك متصحيش ماما .. عشان عارف لو ماما صحيت مش هتخليه يخرج
تنهدت الصغيرة بعدم حيلة ثم ابتسمت فجأة عندما قذفت فكرة في ذهنها وهمست لأمها بذكاء طفولي لطيف :
_ عارفة ياماما .. بابي امبارح قالي إنه بيحبك أوي
تسمرت بأرضها كالصنم واختفت علامات الغضب عن وجهها بلحظة ليحل محلها الصدمة والسكون التام .. ثم همست بعدم تصديق :
_ هو قالك كدا ؟!!!
_ أيوة
تخبطات أصابت عقلها وهي تنفر عنه أي أفكار وتهز رأسها بالرفض لتصديق شيء كهذا .. مقنعة نفسها أن ابنتها قامت بالضغط عليه فلم يجد مفر أمامه إلا من أن يخبرها بأنه يحب أمها كثيرًا .
انفتح باب المنزل فصاحت هنا في تلقائية باسم والدها " بابي " بينما جلنار فأخذت نفسًا عميقًا واستعادت قوتها للتتصرف بطبيعية أو بالطريقة الجديدة التي قررت اتباعها معه .
وصل إلى المطبخ وانحنى للأمام حتى يستقبل صغيرته التي هرولت إليه راكضة ، حملها فوق ذراعيه ولثم وجنتيها بحب شديد متمتمًا :
_ امممم وحشتيني أوي ياهنايا في الكام ساعة دول
هنا بدلال طفولي جميل وهي تطبع قبلة دافئة فوق وجنة أبيها :
_ وأنت كمان يابابي
ثم انحنت على أذنه وهمست وهي معلقة نظرها على أمها :
_ مامي متعصبة عشان روحت الشغل
دقق النظر في وجه جلنار التي تتجاهله تمامًا وكأنه غير موجود ثم همس لصغيرته بإيجاب :
_ اه مهو واضح .. اوعي تكوني قولتليها حاجة عن المفاجأة
ضمت يدها وفردت سبابتها فقط وهزتها يمينًا ويسارًا بالرفض وهي تبتسم بمكر فعاد هو يقبّل وجنتها متمتمًا بغمزة :
_ شطورة .. روحي استنيني برا يلا عشان جايب لملاكي لعبة حلوة أوي .. بس الأول هشوف ماما وأجيلك
صاحت بسعادة غامرة ثم هزت رأسها بإيجاب وهي تنزل من فوق ذراعيه وتقول بحماس :
_ بس بسرعة
عدنان ضاحكًا :
_ حاضر
هرولت راكضة للخارج كما طلب منها بينما هو فاقترب بخطواته من جلنار ووقف بجوارها يتابعها بنظراته المستمتعة وهي تتصنع عدم الاكتراث به .
خرج صوته خافتًا بلؤم :
_ بقى هو ينفع تشكيني لبنتي وتقوليلها بابا مزعلني
ودت بشدة أن تجيب عليه من فرط غيظها لكنها تمالكت نفسها حتى لا تفسد مخططها واكملت تجاهلها له .. استمر هو بالتكلم قاصدًا إثارة غيظها أكثر :
_ إنتي زعلانة ليه .. أكيد مش عشان بوستك يعني صح !
نجح في إشعال نيرانها وكانت ستنفجر من فرط الغيظ ونجحت أيضًا بتجاهله ولكنها شعرت أنها إذا لم تتكلم وتصرخ ستصاب بنوبة قلبية ، فغرزت السكين بعنف في الطماطم وصاحت بنبرتها المرتفعة :
_ وطي TV يا هـــنـــا
ضحك وانحنى عليها يطبع قبلة فوق شعرها هامسًا بدفء :
_ متزعليش !
رمقته بنظرة نارية وصاحت مرة أخرى وهي عبارة عن بركان ثائر :
_ ياهـــــنــــا
كانت ستنطلق منه ضحكة عالية لكنه تمالك نفسه بصعوبة حتى وجدها تندفع للخارج وتتركه ، فترك العنان لضحكته تنطلق بحرية .
***
كان آدم يقود سيارته في طريق عودته للمنزل ، لكنه فتح الدرج الصغير في السيارة حتى يأخذ منديلًا ورقيًا .. فلمح العقد الفضى الخاص بمهرة ، التقطه وقلبه بين يده بتمعن ، تارة ينظر له وتارة للطريق .. وبعد دقائق من التفكير العميق استدار بالسيارة متجهًا في طريق مغاير لطريق منزله .
على الجانب الآخر كانت مهرة في طريقها للمنزل بعد انتهاء دوام عملها اليومي .. كانت تسير في طريقها المفضل والأقرب لمنزلها رغم أنه يكون هاديء دائمًا ولا يسير به أحد إلا أنها لا تبالي .. سمعت صوت بدرية من الخلف وهي تهتف :
_ مهرة !!
توقفت وتأفف بصوت مسموع وبخنق ثم استدارت لها بعد ثواني وهي تقول بقرف :
_ خير !
اقتربت منها بدرية وهي تمسك بيدها قماشة بيضاء صغيرة وهدرت بغل :
_ مكنش ينفع معاكي غير كدا .. معلش بقى يابنت الغالي
ثم غارت عليها تكمم فمها وانفها بالقماش الممتليء بمادة مخدرة .. وسط محاولات مهرة لأبعادها عنها ونجحت بالأخير فعلًا ، حيث استدارت تركض بعيدًا عنها لكن بعد خطوات قصيرة تشوشت الرؤية أمامها وكل شيء أصبح يتراقص من حولها ، فتوقفت محاولة استعادة وعيها لكن الدوار يشتد أكثر ورغمًا عنها دون أن تشعر سقطت على الأرض فاقدة الوعي .
 

رواية كيان الفهد كاملة جميع الفصول ( الفصل 21 ) 


توقف بسيارته بأحد الشوارع الجانبية لتلك المنطقة الشعبية .. تفحص المارة بعيناه التي تخفيها نظارات شمسية سوداء وهو داخل سيارته .. التقط العقد ووضعه في جيب بنطاله ثم فتح الباب ونزل وأغلقه بهدوء ، وقف والتفت حوله بنظرات تائهة ، وصل لمنطقتها لكنها لا يعرف منزلها .. لاحظ نظرات الفتيات والنساء والرجال وهم يمرون من جانبه .. بعضها نظرات استغراب وفضول والآخرى غامضة ما بين همسات الفتيات وهم يعلقون نظرهم عليه بإعجاب ، تنهد بقوة ثم سار بخطواته في الطريق وهو ينقل نظره بين كل شيء .. فوجد طفل حوالي في التاسعة من عمره يركض خلف صديقه الآخر فاقترب منه واوقفه هاتفًا بخفوت :
_ في بنت هنا اسمها مهرة متعرفش بيتها فين ؟

صمت الطفل وهو يحدق بآدم في تدقيق .. ملابسه الاشبه بملابس الأثرياء ونظارته الفاخرة .. جعلته يتساءل عن سبب سؤاله عن فتاة حارتهم فقال له بقوة لا تليق بصوته :
_ وإنت مين وتعرف مهرة منين ؟!
آدم باسمًا ببعض التعجب من لهجة الولد وطريقته في التكلم :
_ اعرفها من الشغل
نزل الولد بنظره يلقي نظره متفحصة على آدم بريبة فور قوله بأنه يعرفها من الشغل ، ثم أجاب عليه بالأخير في مضض :
_ تعالى ورايا
القى بجملته واستدار وسار باتجاه منزل مهرة بينما آدم فتأفف ببعض الحنق وسار خلف ذلك الطفل حتى وقفا أمام بناية صغيرة متهالكة مكونة من طابقين والتفت له الولد هاتفًا وهو يسير بأصبعه لأعلى :
_ الدور التاني
اماء له آدم بالموافقة وقبل أن يستدير الطفل وينصرف هتفت الجارة سماح من شباك شقتها بالطابق الأرضي :
_ مين ده ياواد ياسيد ؟!
نظر إلى آدم وقال باقتضاب :
_ واحد عايز مهرة بيقول يعرفها من الشغل
ارتدت سماح نظارة النظر خاصتها وتفحصت آدم بتدقيق شديد فابتسمت بخبث وقالت ساخرة :
_ هو إنت اللي بيقولوا عليه ولا إيه !
ضيق آدم عيناه بعدم فهم ولكنه لم يكترث وهم بدخول البناية حتى يصعد لشقة مهرة لكنها أوقفته هاتفة بفضول شديد :
_ ومن امتى بقى على كدا !
توقف والتفت لها برأسه هادرًا بصوت رجولي غليظ :
_ نعم !!
سماح بتوضيح أكثر وبلؤم أنوثي وهي تتفقد بعيناها كل جزء بآدم :
_ من امتى يعني وإنت ماشي مع البت مهرة .. والله وطلعتي قادرة يابنت رمضان الولا باين عليه ابن بشوات أوي
رفع حاجبه بنظرة مخيفة استقرت في عيني آدم .. لكنه أصدر زفيرًا حارًا بنفاذ صبر ولم يعيرها اهتمام للمرة الثانية .
كانت سهيلة على بعد خطوات من منزل مهرة متجهة إلى السوق حتى تقوم بشراء بعض متطلبات منزلهم ، وحين وقعت عيناها على آدم كأن صاعقة برق أصابتها من الصدمة والفرحة بذات اللحظة .
كان آدم على وشك أن يدخل ويصعد لولا الصوت الأنوثي الناعم الذي سمعه وهو يصيح عليه :
_ أستاذ آدم
تملكته الدهشة حين سمع اسمه ، فمن الذي يعرفه بهذه المنطقة !! .. توقف واستدار بجسده كاملًا للخلف وتابع تلك الفتاة وهي تهرول مسرعة نحوه بتلهف ، كانت ترتدي عبائة سوداء وحجابها من نفس اللون .. تلفه على شعرها بعشوائية ... لحظات معدودة وتوقفت أمامه هاتفة بلهاث :
_ إنت جاي لمهرة ؟!!!
_ أيوة .. إنتي تعرفيني ؟!
سهيلة بوجه مشرق :
_ وهو حد ميعرفش الفنان آدم الشافعي .. أنا كنت في افتتاح معرض حضرتك مع مهرة ، في الواقع أنا اللي اخدتها معايا
ابتسم لها ابتسامة متكلفة ورد بود :
_ آااه اهلا وسهلًا .. طيب عن أذنك عشان مستعجل أنا هطلع لمهرة
ردت عليه زامة شفتيها بأسف :
_ بس مهرة مش موجودة .. طلعت راحت الشغل
_ امممم هو إنتي اختها ؟!
_ لا صحبتها وتقدر تعتبرني اختها برضوا عادي
هدر آدم بصلابة وهو يهم بالاستدارة والرحيل :
_ اه مش مشكلة ابقى اجيلها مرة تاني
سهيلة بفضول وحماس :
_ هو حضرتك كنت جاي ليه ؟
اضطرب قليلًا في باديء الأمر لكنه اسرع ورد بثبات :
_ هااا .. كنت جاي اديها حاجة بس خلاص مرة تاني
همت بأن تجيب عليه لكن اوقفها صراخ صبي وهو يركض باتجاههم ويصيح بهلع :
_ يا أبلة سهيلة الحقي .. الحقي
التفتت سهيلة باتجاهه بزعر هاتفة :
_ في إيه يا ولا سرعتني
توقف أمامها وانحنى للأمام مستندًا بكفيه على ركبتيه يلتقط أنفاسه المتسارعة ويهتف بلهاث :
_ مهرة .. الحقي مهرة
صرخت به مزعورة فور سماعها لاسم مهرة الذي لفت انتباه آدم الذي كان سيرحل لكنه توقف :
_ مالها مهرة يا ميدو انطق
التقط أنفاسه وهتف بهلع وخوف :
_ بدرية الشحات خدرتها في الشارع وهي راجعة وبعدين مهرة اغمي عليها وجات عربية ميكروباص نزل واحد منها شالها ودخل بيها العربية ومشي .. أنا شوفتها بعيني والعربية بتاعت ريشا حتى عليها نفس العلامة اللي على ميكروباص ريشا
شهقت سهيلة بزعر وصاحت وهي تضرب على صدره بارتيعاد :
_ ريشا خطفها .. وفين اللي ما تتسمى بدرية دي
_ رجعت على محلها
صرخت سهيلة بعصبية :
_ وحياة أمي لأشرب من دمك ياولية يا ****
قبض آدم على يدها قبل أن تندفع وهتف بقلق بسيط :
_ استني فهميني مين ريشا ده و ليه يخطفها ؟!
سهيلة بغضب هادر وخوف ملحوظة في نبرتها :
_ ده واحد **** ربنا يستر وميأذيهاش .. أنا هروح اشوف الولية بنت ***** دي واخليها تقولي خدها فين
_ طيب استني أنا جاي معاكي

***
تجوب الغرفة إيابًا وذهابًا وهي عبارة عن بركان تفوح حممه البركانية فوق سطحه ، وتضغط على قبضة يده بقوة من فرط الغيظ وتردد كلماته بعصبية ويد تهتز من فرط السخط :
_ إنتي زعلانة ليه .. طيب متزعليش !! ... أنا زعلانة ليه !!! .. طيب أنا هوريك زعلانة ليه ياعدنان
اندفعت ثائرة باتجاه أحد إدراج المكتب الصغير الموضوع بجوار فراشهم وفتحت الدرج ثم التقطت المقص وعادت نحو خزانته وهي تشتعل غضبًا .. فتحت الخزانة وأخرجت ملابسه واحدة تلو الأخرى وكل قطعة تمسكها من ملابسه تشقها بالمقص إلى قطعتين أو ثلاثة بحسب ماتهوى ، وبينما تقوم بتمزيق ملابسه في غل تتمتم ببعض الكلمات المستاءة نتيجة لردوده الباردة عليها منذ الأمس وتهتف بازدراء :
_ طبعا ماهو إنتي اللي غبية عشان بتهيني نفسك قدامه يا جلنار .. كنت منتظرة منه إيه مثلًا يقولك لا أنا بحبك ياحبيبتي .. طبيعي هيرد بكل برود وتناحة كدا .. ماشي ياعدنان مبقاش أنا بنت الرازي إما شربتك من نفس الكاس
فتح الباب ودخل بكل هدوء وطبيعية وحين وقع نظره عليها تسمر بأرضه منذهلًا مما يراه ، وباللحظة التالية فورًا هتف في شبه صيحة ساخطة :
_ بتعملي إيه !!!
جلنار ببرود وهي تصر على أسنانه :
_ اصل لقيتها هدوم قديمة ومش حلوة ابقى روح اشتريلك هدوم جديدة
اندفع نحوها وجذب ملابسه من يدها صائحًا بها بانفعال :
_ إيه اللي بتعمليه ده ياجلنار .. إنتي اتجننتي !
رفعت المقص ولوحت به أمام وجهه صارخة بعصبية وعدم وعي :
_ أه اتجننت وابعد من وشي بدل ما اقتلك واخلص منك خالص

تراجع برأسه للخلف كرد فعل طبيعي لتهديدها له بالمقص ، وعيناه تطلق إشارات الصدمة من انفعالها وما تفعله لكن كلمتها الأخيرة قلبت كل شيء حيث رسمت الريبة على ملامحه بلحظة وبالأخرى كان ينفجر ضاحكًا وهو يردد كلمتها :
_ تقلتيني !!!!
مد يده إليها بهدوء شديد وجذب المقص من يدها وبيده الأخرى يحاوط خصرها متمتمًا من بين ضحكه :
_ طيب هاتي المقص ده بس يارمانتي عشان أنا كدا هخاف على نفسي منك بجد
دفعته بعيدًا عنها بعنف وصاحت به منفعلة :
_ قولتلك مية مليون مرة متلمسنيش
_ طيب مش هلمسك أهو .. ممكن افهم إيه اللي عملتيه في هدومي ده !
جلنار بابتسامة شرسة ومستاءة :
_ ده ولا حاجة .. دي لسا البداية طول ما إنت مش عايز تطلقني يبقى تستحمل
ضحك وهتف ساخرًا :
_ وإنتي لما تقطعي هدومي بالشكل ده أنا هطلقك يعني !
_ ما أنا قولتلك دي لسا البداية
وضع كلتا قبضتيه في جيبي بنطاله وتمتم بابتسامة متسلية وبنظرة معجبة :
_ والخطوة الجاية هتكون إيه بقى .. هتقطعي الملابس الداخلية ؟!
جزت على أسنانها واقتربت منه تهتف أمام وجهه باغتياظ وبغل :
_ هقطعك إنت
هتف ضاحكًا بخفة :
_ آه ده إنتي بتتكلمي بجد بقى وناوية تخلصي مني فعلًا

استمرت في التحديق به بشراسة وتحدي بعيناها البندقية وشعرها الأسود الكاحل ، وهي تقابل منه ثبات انفعالي مستفز ونظرات مثلجة لكن تحمل في ثناياها الإعجاب بزهرته الحمراء الشرسة .. شعرت به يلف ذراعه حول خصرها ويجذبها إليه فجأة ثم يستدير بها ويحاصرها بينه وبين الخزانة وينحنى على أذنها هامسًا بمتعة ملحوظة في نبرته :
_ برضوا مش هسيبك
هدأت حدة نظراتها قليلًا وهي تتطلع إليه وهو على هذا القرب الحميمي منها ، لكن سرعان ما دفعته عنها حين شعرت بضعف موقفها وهمت بالانصراف لكنه اسرع وجذبها مرة أخرى من ذراعه ودفن رأسه بين خصلات شعرها يشم رائحته الجميلة بتلذذ مغمضًا عيناه وهو يهمس بهيام دون أن يشعر :
_ ريحة شعرك حلوة
سيطرت على نبضات قلبها بصعوبة ولملمت شتات نفسها في لحظة ثم جذبت يدها من بين قبضته واندفعت لخارج الغرفة وهي تتمتم بغيظ ممتزج ببعض الاضطراب :
_ مستفز
بحركة تلقائية منها أمسكت بخصلات شعرها وقربتهم من أنفها تشم رائحته وسرعان ما تركته وهي تعيد جملته الأخيرة تقلده بقرف ! .

***
غارت سهيلة على بدرية تجذبها من حجابها غير مبالية لفرق السن بينهم وصاحت بها :
_ مهرة فين يا ولية يا *****
حاولت بدرية فك حجابها وشعرها من قبضة سهيلة صارخة بها بغضب :
_ وأنا مالي بمهرة كنت الحارس الشخصي بتاعها
صاح الولد الصغير بانفعال :
_ أنا شوفتك وإنتي بتخدريها وبعدين ريشا أخدها في عربيته
بدرية ببعض الارتباك والعصبية المبالغ بها :
_ أنا مخدرتش حد وشيلي إيدك عني يامجنونة إنتي

كان آدم يقف على عتبة المحل يتابع ما يحدث في الداخل بعيناه بصمت تام وشعور الاستياء يتملكه من تلك المرأة الشمطاء ، مسح على وجهه بالاخير متأففًا بنفاذ صبر ثم دخل وقاد خطواته الثابتة تجاه بدرية ، ابعد سهيلة عنها بيده ووقف أمامها مباشرة يهمس بنظرة مميتة ونبرة محذرة :
_ عملتي فيها ايه واخدتوها فين .. سؤال واضح وبسيط وإنتي هتجاوبي عليه بالذوق وإلا صدقيني لو رفعت تلفوني واتصلت بالبوليس مش هتطلعي منها

تفحصت هيئته الفخمة وملابسه باستغراب امتزج ببعض الخوف من تهديده الصريح الذي يبدو أنه ليس فارغ مطلقًا .. سيطرت على توترها وصاحت :
_ وده مين ده كمان ؟!
آدم بعيناه المخيفة :
_ الأفضل متعرفيش انا مين عشان متندميش .. ويلا انطقي
صرخت بها سهيلة بانفعال هادر وزمجرة :
_ما تخلصي انطقي يا ولية خدتوها فين ؟
خضعت بالأخير وظلت تقلب نظرها بينهم بخوف وتردد وبعد لحظات من التحديق بذلك الغريب عن منطقتهم الذي يقف أمامها وقد أصابها ببعض الاضطراب جعلها تستسلم وتهتف بمضض :
_ معرفش أنا ساعدته بس أنه ياخدها من المنطقة .. معرفش خدها فين
سهيلة بصراخ هستيري :
_ متعرفيش إزاي .. إنتي هتستعبطي علينا
آدم بخفوت وهدوء مريب وهو يعلق نظره عليها بقوة :
_ اتصلي بيه واسأليه خدها فين
طالت النظر في عين آدم التي تحمل في طياتها الانذار فأخذت نفسًا عميقًا والتقطت هاتفها تجري اتصال بريشا الذي أجابها بعد لحظات قصيرة وقبل أن ينفتح الخط جذب آدم الهاتف من يدها وفتح مكبر الصوت ليستمعوا جميعهم له وهو يهتف :
_ لا بس عفارم عليكي يابدرية .. دي البت مش حاسة بأي حاجة لغاية لوقتي انتي خدرتيها بإية !
ضربت سهيلة بكفيها على خديها في هلع ورعب بينما بدرية فابتلعت ريقها وهتفت بصوت جاهدت في إظهاره طبيعيًا :
_ هي لسا مفاقتش ؟
_ لا لسا .. كدا احسن عشان اعرف اخد راحتي
اندفعت سهيلة وكانت على وشك أن تصيح في الهاتف وتسبه ببعض الألفاظ البذيئة لولا أن آدم منعها بيده وأشار لبدرية بأن تتحدث وتسرع فقالت له :
_ هو إنت اخدتها فين صحيح
_ في بيت ( ..... ) القديم
انزل آدم واغلق الاتصال فورًا ثم هتف :
_ فين البيت ده ؟
هتفت سهيلة بقلق ووجه مرتعد :
_ أنا عرفاه يلا هدلك عليه في الطريق
جذبت الهاتف من يد آدم ووضعته بكف ميدو هاتفة بحزم :
_ هتفضل قاعد هنا ياميدو وإياك عينك تزوغ عنها ولا تخليها تطلع والتليفون يفضل معاك
_حاضر متقلقيش
ثم اندفعت للخارج ولحق بها آدم الذي اخذها لسيارته واستقلت بالمقعد المجاور له ثم انطلق بالسيارة يشق الطرقات وهي تدله على الطريق .

***
فتحت عيناها تدريجيًا والألم يجتاح رأسها بعنف ، وفور إدراكها لكل شيء حولها شعرت بيد تعبث بشعرها ، ففتحت عيناها على آخرهم وحين رأته وثبت جالسة وهي تصرخ وتتلفت حولها بهلع في ذلك المنزل المتهالك والفراش المتسطحة عليه .. نظرت لملابسها فوجدتها كما هي ، وثبت من الفراش واقفة وهمت بالركض لكنه قبض على ذراعه وجذبها هاتفًا :
_ استني يابطل رايحة فين دي لسا الليلة هتبدأ !
تململت بين قبضته وهي تصرخ به بهستريا :
_ ابعد إيدك ال**** دي عني يا حيوان

جذبها إليه أكثر عنوة وهو يحاول تقبيلها وهي تصرخ وتضربه بكل قوتها وتسبه بكل لفظ يخطر على عقلها .. وللأسف صراخها المرتفع لا يصل لأحد نظرًا لأن ذلك المنزل بمنطقة مهجورة من السكان .. استمرت في الدفاع عن نفسها بكل الطرق تارة تحاول دفعه دون أن يلمسها بشفتيه وتارة تضربه بكلتا يديها في عنف وهي لا تتوقف عن الصراخ حتى بالأخير بصقت في وجهه بقوة وهي تخرج من بين شفتيها ابشع واقذر الألفاظ المناسبة له .

اغضبته وأثارت سخطه بشدة مما جعله يمسك بها بعنف ويلقيها على الفراش وسط محاولاتها البائسة للفرار من بين براثينه .. فهو يفوقها بقوته الجسمانية ، اقترب منها بتريث وعلى وجهه ابتسامة شيطانية تعبر عن نوياه ، ولحسن حظها لمحت بجوار الفراش كوب ماء متوسط الحجم فمدت يده مسرعة والتقطته ثم نزلت به فوق رأسه فتحطم الكأس كله فوق رأسه وتناثرت أجزائه على الأرض بينما هو فوضع يده على رأسه يصرخ بألم وقد ابتعد عنها قليلًا بتلقائية نتيجة لألمه .. فدفعته هي واسقطته على الأرض ثم هرولت راكضة باتجاه الباب وفتحته ثم اندفعت راكضة على الدرج تفر هاربة وهي تلهث برعب ولا ترى أمامها سوى طريق الخروج تركض وهي تتلفت خلفها حتى تتأكد من عدم تعاقبه لها .. خرجت من البناية وهي ترتجف ولا تزال تركض دون أن ترى أمامها فقط تحمي ظهرها برأسها .. وإذا بها فجأة ترتد للخلف حين اصطدمت بآدم وهي تركض ، أمسك بها قبل أن تسقط وحدق بمعالم وجهها المزعورة .. بينما هي فدفعته بحركة عفوية في زعر وخوف ورأت صديقتها تركض إليها من خلفه وهي تصيح بسعادة :
_ مهرة
وصلت إليها وضمتها تعانقها بقوة وتهتف باهتمام وقلق :
_ عملك حاجة الحيوان ده ؟
كان ريشا يركض على الدرج حتى يلحق بها وهو ممسك برأسه وعندما خرج من البناية ورأى سهيلة ومعها ذلك الرجل الغريب وهي معهم ، فتوقف بدهشة يتطلع إليهم بارتيعاد والتقت نظراته المرتبكة للحظة بنظرات آدم النارية وفورًا باللحظة التالية كان يركض مهرولًا بعيدًا ، فلحق به آدم ركضًا .

ابعدت سهيلة مهرة عنها واحتضنت وجهها بين كفيها هاتفية بقلق تتطلع لمعالمها المرتعدة :
_ مهرة ردي عليا إنتي كويسة
انهارت جميع حصونها وانهمرت دموعها على وجنتيها بغزارة وتدريجيًا بدأت تشتد حدة بكائها وهي تمسك بشعرها بقوة وعنف كمن ترغب في جذبه من جذوره وتصرخ باكية بحالة هسيتريا :
_ لمسني يا سهيلة منه .. نفس المكان .. لمسني .. نفس المكان
حاولت تهدأتها وهي تفلت خصلات شعرها من بين قبضتيها مردفة بقوة حتى تجعلها ننتبه لها :
_ مهرة ... اهدى .. اهدى .. إنتي بخير الحمدلله .. بصيلي

سكنت لوهلة فجأة واعادت تشغيل الشريط لترى كل شيء أمام عيناها ، المأسآة كاملة .. ثم عادت مرة أخرى للبكاء لكن بعنف أشد وهي ترتجف بشكل يثير القلق وثواني معدودة حتى بدأت تفقد وعيها تدريجيًا وسهيلة أدركت ذلك فأمسكت بها وهي تصيح بها حتى لا تغمض عيناها :
_ مهرة فوقي .. مهرة .. مـــهـــرة

استسلمت واغمضت عيناها متغيبة عن الواقع .. فتلفتت سهيلة حولها تبحث بنظرها عن آدم ولكن لا وجود له ، فتأففت بعدم حيلة وانهمرت دموعها بأسى على صديقتها ثم جلست على الأرض وهي تضع ذراعها اسفل رأسها وتحاول إفاقتها لكن دون فائدة .. دقيقة بالضبط وعاد آدم وهو يلهث من أثر الركض ، فوقف أمامها وهتف :
_ مالها ؟
_ اغمي عليها وبحاول افوقها مفيش فايدة
انحنى على الأرض وحملها على ذراعيه ثم سار بها متجهًا نحو سيارته هاتفًا :
_ يلا هناخدها المستشفى
هرولت سهيلة خلفه وفتحت باب السيارة الخلفي ووضع هو مهرة بحذر شديد ثم اغلق الباب واتجه لباب مقعده ليفتحه ويستقل به واستقلت سهيلة بالمقعد الخلفي بجوار صديقتها ثم هتفت بتساءل :
_ هرب ؟!
حرك محرك السيارة وانطلق بها وهو يجيب عليها بغضب :
_ ايوة ركب الميكروباص وهرب بس هجيبه هيروح مني فين يعني

***
كانت تجلس أمام التلفاز تشاهد أحد البرامج الترفيهية وإذا بها تسمع صوت رنين هاتفها يصدع من الغرفة بالداخل فاستقامت واقفة واتجهت للغرفة والتقطت الهاتف الملقي فوق الفراش ، ثم حدقت في الشاشة تقرأ اسم المتصل " نشأت الرازي " .. أصدرت زفيرًا حارًا بخنق ثم اجابت عليه باقتضاب :
_ خير
نشأت بنبرة دافئة :
_ عاملة إيه يابنتي
جلنار في جفاء :
_ كويسة يا نشأت بيه .. خير إيه سبب الاتصال ؟!
صعب عليه أن تناديه ابنته باسمه دون أن تقول " أبي " كما اعتاد أن يسمع اسمه منها هكذا .. فتنهد بيأس وغمغم في ندم :
_ كفاية ياجلنار .. صدقيني يابنتي أنا ندمان على كل حاجة ، كرهك ليا بيقتلني ومش قادر استحمل اشوفك مش طيقاني كدا
_ إنت السبب في الكره ده يا نشأت الرازي .. مفكرتش ليه في النتائج قبل ما تبيعني عشان مصلحتك وفلوسك

نشأت بخزي وصوت مبحوح :
_ عندك حق أنا غلطت وكنت استاهل كل حاجة واستاهل عقابك ليا بس كفاية يابنتي عشان خاطري ، سامحيني

_ ياريت بس مش قادرة اسامحك للأسف .. إنت حتى محاولتش تثبتلي ندمك وتطلقني من عدنان
نشأت باندفاع وبصدق :
_ مطلقتكيش منه عشان بيحبك وهو قالي وطلب مني اديله فرصة يصلح علاقته بيكي
التزمت الصمت للحظات في دهشة بسيطة قبل أن تهتف بعدم تصديق وحدة :
_ مش مصدقاك ولا مصدقاه .. عدنان عمره ما حبني ولو قالك كدا يبقى كان بيخدعك عشان تبعد عن طريقه
كان على وشك أن يجيب عليها لكنها أسرعت وهتفت هي تمنعه من استرسال الحديث :
_ كفاية انا زهقت ومبقتش قادرة اسمع كذبكم إنتوا الاتنين .. انسى إن ليك بنت يا نشأت الرازي

انزلت الهاتف من فوق أذنيه وأغلقت الاتصال ثم ألقت به فوق الفراش وهي ترفع أناملها تخللهم بين خصلات شعرها في محاولات بائسة منها حتى لا تبكي ، وعندما التفتت بجسدها للخلف رأته يقف عند الباب يستند بكتفه عليه عاقدًا ذراعيه أمام صدره .. أدركت أنه سمع كل حديثها فرمقته باشمئزاز وهتفت في غضب :
_ كـــذاب
لوى عدنان فمه ومصمص شفتيه بهدوء مريب ثم انتصب في وقفته وابتعد عن الباب واغلقه بحرص شديد حتى لا تخرج أصواتهم لأذن صغيرتهم بالخارج ثم التفت لها وتقدم إليها في خطوات ثابتة وهادئة تمامًا حتى أصبح في مقابلتها مباشرة وهتف بصوت رجولي غليظ وخافت :
_ إنتي عايزة تطلقي ليه ؟!!
استنكرت سؤاله وضحكت ثم هتفت ساخرة :
_ يمكن مثلًا عشان مش عايزة اعيش مع راجل مش بيحبني !
أجابها بثبات انفعالي يحسد عليه :
_ ويعني هي كلمة بحبك اللي هتخليكي تنسي الطلاق ده !!!
كان يعرف ردها قبل أن يسأل السؤال وبالفعل طالت نظرتها إليه بصمت حتى قالت بقسوة وعناد :
_ لا
بدا صوته أكثر وداعة لكن ازدادت صلابة نظراته إليها وهو يجيب عليها :
_ طيب امال عايزة إيه بظبط !
جلنار بسخرية وقوة تليق بها :
_ أكيد مش بعد ده كله هقولك أنا عايزة إيه .. المفروض تعرف وحدك ، بس هيفيد بإيه حتى لو عرفت خلاص فات الآوان

مرت من جانبه وهمت بالانصراف لكنه قبض على ذراعها ليوقفها واقترب منها ثانية ثم تمتم في صوت رخيم :
_ وفات الآوان ليه ؟!
_ عشان مهما عملت ياعدنان هفضل مصممة على الانفصال برضوا
استفزته بشدة جملتها لكنه نجح في تمالك أعصابه وانحنى على وجهها يهتف بحدة :
_ وانتي مهما تعملي أنا برضوا هفضل رافض الانفصال
صاحت به مستاءة في غيظ :
_ ليه عايزة افهم لـــيـــه .. طالما مش بتحبني مش عايز تطلقني لـــــــيـــــه
قابل انفعالها وصياحها عليه بالصمت والجمود في الملامح وهو يقف كالصنم التي لا حياة فيه ، وهي تستمر في التحديق به وبعيناه تبحث عن ثغرة تنفي كلامها لربما تفسر سبب رفضه لتركها ، ولكنها لم ترى سوى ثلوج المشاعر وانعدامها .. لم ترى اي من الكره أو الحب فقط الجمود الذي ينجح به في كل مرة بمهارة .
ادمعت عيناها وردت عليه مغلوبة على أمرها :
_ مش بترد ! .. اقولك أنا ليه .. عشان أناني ومتجبر

انتظرت أن تقابل ردة فعل منه ولكنه لا يزال يقف كما هو بنفس السكون ، فهزت رأسها باستهزاء واستدارت وسارت مغادرة الغرفة بأكملها .

***
بمدينة كاليفورنيا .......
كان يجلس على مقعده أمام مكتبه بغرفته الخاص به في الشركة وتجلس نادين على المقعد المقابل للمكتب وهي تتفحص بعض الاوراق المهمة الخاصة بالعمل .. فرفع هو رأسه ونظر لها متمتمًا :
_ أنا حجزت الطيارة لمصر على بكرا .. جهزي نفسك
رمقته بذهول وهتفت بشيء من الاستياء :
_ بس أنا ما خبرتك إذا راح سافر معك أو لا .. على أي أساس بتحجزلي معك !
حاتم باسمًا بلؤم :
_ ما خبرتيني بس كانت واضحة زي الشمس إنك موافقة ، وعملتيلك شويتين قدامي قال هفكر !

اتسعت عيناها بدهشة من رده عليها وأنه كان يفهمها منذ البداية لكنه تصنع الحماقة .. رسمت ملامح الغضب على محياها حتى تنقذ نفسها من الموقف المحرج وقالت بعناد :
_ لا مو موافقة
رفع حاجبه باستنكار وهو يبتسم باتساع ثم هدر ضاحكًا بمشاكسة يقلدها في الكلام :
_ بلا ولدنة
نادين بغيظ :
_ عم تتريق مو هيك !!
_ أبدًا هو أنا اقدر .. بلاش بس عناد وقولي حاضر بسكات عشان كدا كدا هتروحي
اشتعلت نظراتها وهبت واقفة ثم انحنت عليه وهي مستندة بكفيها على سطح المكتب وتهتف بكره مزيف :
_ تعرف شيء .. أنا كتير بكرهك ياحاتم
كتم ضحكة عالية كانت ستنطلق منه وأجابها بابتسامة عريضة وببرود مستفز :
_ ميرسي ياحياتي وأنا كتير بحبك والله

فرت الدماء من وجهها وتزايد تدفق هرمون الادرينالين في جسدها فور سماعها لاعترافه بحبها حتى لو لم يكن يقصد ذلك الحب الذي تكنه هي له لكن الكلمة كفيلة لتبثعرها كليًا ! .. انتصبت في وقفتها وهتفت بتلعثم ملحوظ وهي تلملم الأوراق :
_ أي .. طــيب أنا راح روح حط هاي الأوراق بالمكتب عندي مشان ما يضيع منها شيء
لاحظ هو ارتباكها وتوترها ولم يعلق .. اكتفى بالابتسام وهو يوميء لها برأسه مغمغمًا :
_ تمام
ثم تابعها بنفس ابتسامته وهي تلملم الأوراق وتندفع لخارج المكتب مسرعة .. فور مغادرتها زدات ابتسامته اتساعًا بتلقائية وهو يعلق نظره على أثرها بشرود .

***
أمسكت زينة بالهاتف تجيب على المتصل في صوت مرهق :
_ أيوة يا رائد
رائد باستغراب :
_ برن عليكي من الصبح بدري مش بتردي ليه ؟!
فركت رأسها بألم وتمتمت بتعب :
_ نزلت أنا وماما وسمر نشتري حجات عشان الخطوبة والتليفون كان في الشنطة ومسمعتهوش
_ طيب إنتي مال صوتك كدا !
زينة بخفوت وهي تلقي بجسدها على الفراش وتجيبه وهي مغمضة عيناها بتذمر طفولي :
_ اتهلكت في اللف يا رائد وتعبت أوي وماما بتدقق في كل تفصيلة وأنا بكره التفاصيل ، والصداع هيفرتك راسي
سمعت ضحكته العالية في الهاتف وهي يجيبها بحنو :
_ معلش يازوزوا ماهو عشانا .. حتى أنا مشغول جدًا بس خلاص فاضل يومين الحمدلله .. وفي علاج بجيبه للصداع هبعتلك اسمه في رسالة جبيه وهيخفف معاكي خالص
زينة بصوت يغلب عليه النعاس :
_ حاضر .. أنا هقفل بقى يا رائد عشان ممكن لحظة وتلاقيني نمت وتفضل تكلم نفسك في التلفون
رائد بدفء :
_ طيب ياحبيبتي ارتاحي ونامي وشوية بليل كدا هبقى اكلمك تاني
_ تمام .. سلام
ودعها والغى الاتصال ثم ألقي بالهاتف بجواره .. دخلت أمه الغرفة واقتربت منه تهتف بتساءل :
_ كنت بتكلم زينة ولا إيه يا رائد ؟
_ أيوة ياماما
هزت رأسها بإيجاب ثم رتبت على كتفه وتمتمت باسمة بحنو :
_ ربنا يصلح حالك يابني وتهدى شوية على حس الخطوبة والجواز بدل ما إنت تاعبنا معاك أنا وأبوك
رائد بحنق :
_ إن شاء الله ياماما .. بلاش اسطوانة كل يوم دي بقى
نرمين بعدم حيلة :
_ طيب يلا غير هدومك وتعالى عشان الغدا جهز
_ حاضر

***
داخل إحدى المستشفيات الخاصة .....
متسطحة على فراش صغير نسبيًا يتسع لجسدها الضئيل ونائمة وهو يجلس على مقعد أمام فراشها لكن على مسافة بعيدة قليلًا منها ويمعن النظر في وجهها الملائكي الهاديء وهي نائمة على العكس تمامًا عندما تكون مستيقظة .. وكأن تلك الفتاة الشرسة والمجنونة أصبحت أخرى وهي نائمة .
فتحت عيناها ببطء ثم حركت عيناها في حركة دائرية تتفحص المكان النظيف والجميل الذي يشبه المستشفى !! ، ثم مالت برأسها الجانب فرأته يجلس على المقعد فزعت وهتفت بهلع :
_ سلام قولًا من رب رحيم
رد عليها ببرود :
_ إيه شوفتي عفريت
مهرة وهي تتلفت حولها بارتيعاد بسيط :
_ أيوة أنا فين وإنت بتعمل إيه هنا !
_ اغمي عليكي وجبناكي على المستشفى
_وسهيلة فين ؟!
_ طلعت برا تكلم جدتك تقريبًا لأنها مبطلتش رن عليكي
سكتت لوهلة تمنع نفسها من تذكر الأحداث الأخيرة حتى لا تنهار مرة أخرى واعتدلت في الفراش وانزلت قدمها منه تهم بالقيام وهي تقول :
_ أنا لازم اروح .. تيتا مش هترتاح غير لما تشوفني
أمسك بيدها في تلقائية حتى يمنعها من الوقوف وهتف :
_ هتمشي بس اصبري ترتاحي شوية عشان متشوفكيش بالمنظر ده

نفرت يدها عن لمسته بسرعة في زعر وارتيعاد لاحظه في نظرتها ، فسحب هو يده فورًا وهتف معتذرًا :
_ أنا آسف مقصدش والله .. إنتي كويسة ؟
انتصبت في جلستها بشموخ وردت بثبات مزيف وقوة متصنعة :
_ كويسة .. معاش ولا كان اللي يعرف يأذيني بس ورحمة أمي ما هسكت عن حقي
_ أنا بلغت البوليس وكلها كام ساعة وهيجبوه والست اللي من منطقتكم دي ابقى اتصرفي إنتي معاها بقى

لمعت عيناها بشر الانتقام عندما تذكرها لبدرية وقال بوعيد :
_ ده أنا هخليها تقول حقي برقبتي وهعرفها مين بنت رمضان الأحمدي على حق
سكتت فجأة وانتبهت أنها تتحدث مع نفس ذلك الذي كانت تبحث عن اسمه في مواقع التواصل وتشاهد صوره .. فطالعته بعدم فهم ودهشة متمتمة :
_ إنت بتعمل إيه هنا !!
ضحك رغمًا عنه وهتف بنفاذ صبر :
_ إنتي بتفقدي الذاكرة ولا إيه ! .. أنا اللي جبتك المستشفى يامهرة

_ ايه ده يا حلاوة وعارف اسمي كمان ! .. اعترف إنت طلعت معجب وبتراقبني في صمت صح !

رمقها آدم بذهول وعدم فهم مضيقًا عيناه في حيرة من تلك الفتاة لكنه لم يتمكن من منع ضحكته التي انطلقت وهو يجيبها مستنكرًا :
_ معجب إيه إنتي هبلة يابنتي .. بعدين إنتي مش كنتي لسا منهارة وبتعيطي قبل ما نجيبك المستشفى لحقتي ترجعي لطبيعتك امتى

ظهر العبوس والأسى على محياها ثم اطرقت رأسها أرضًا وغمغمت :
_ بيني وبينك أنا بحاول اتناسي اللي حصل .. يعني بمثل قدامك ، بس اقنعتك مش كدا !
_ اه اقنعتيني .. ده إنتي بني آدمة غريبة !
_ غريبة بس قمر
ضرب كف على كف ضاحكًا وهو يهتف :
_ لا إنتي لا يمكن تكوني طبيعية .. يابنتي انتي كنتي مخطوفة وواحد حيوان حاول يعتدي عليكي
مهرة بغيظ وضيق :
_ ما خلاص بقى ياعم انت مصمم تفكرني ليه .. قولتلك بحاول اكون طبيعية وانسي اللي حصل عشان لو افتكرت هيحصل زي ما حصل قبل ما يغمى عليا وعشان كمان مينفعش ارجع لجدتي وأنا كدا .. لو عرفت ممكن يجرالها حاجة ، وبعدين إنت لسا متعرفنيش عشان كدا مستغرب .. محدش يقدر يكسرني وهاخد حقي منهم تالت ومتلت
طال النظر إليها في نظرة إعجاب بشجاعتها قوتها ثم هتف باسمًا :
_ إنتي بلاء ونزل فوق راسي يامهرة .. كل ما اشوفك تكون في مصيبة .. اول مرة تلفوني وتاني مرة كنت هخبط جدتك بالعربية وتالت مرة في المعرض لما عصبتيني وكنت همسك في زمارة رقبتك بس تمالكت اعصابي ورابع مرة اهي زي ما أنت شايفة
ابتسمت وهتفت بمرح لا يلائم الوضع أبدًا وبمكر :
_ ما محبة إلا بعد عداوة
_ نعم !!
اقتحمت سهيلة الغرفة ودخلت وهي تهتف محدثة آدم قبل أن تنتبه لمهرة التي استفاقت :
_ خالتي فوزية قلقانة أوي يا أستاذ آدم و .....
سكتت عن الكلام فور رؤيتها لمهرة وهرولت عليها تهتف باسمة بسعادة :
_ مهرة إنتي كويسة
_ كويسة يا سهيلة الحمدلله .. مالها تيتا قالتلك إيه
_ مش مصدقة ومصممة إن في حاجة واحنا مخبين عنها بالعافية اقنعتها وقولتلها اننا جايين في الطريق
استقامت مهرة واقفة وقالت بجدية :
_ طيب يلا بينا عشان لما بتقلق جامد ضغطها بيعلى عليها
سهيلة باستغراب من حالتها الطبيعية التي تتحدث بها :
_ مهرة إنتي متأكدة إنك كويسة ؟!
_ ياعم كويسة اغنهالكم .. ودوني بس البيت ارتاح كدا عشان بعدين انزل لبدرية الكلب دي اشق بطنها بإيدي اطلع مصارينها كدا وسعتها ابقى كويسة بجد .. ده أنا هفضحها في المنطقة كلها الولية العايبة دي
آدم بقرف وباستغراب :
_ مصارينها !!!!
التفتت برأسها لها وهتفت في عفوية :
_ اهاا كرشها يعني .. كلت كرشة قبل كدا ولا لا هبقى اعزمك عليها في مرة هتعجبك اوي
نغزتها سهيلة في جنبها بخفة وهي تزغرها بنظرها حتى تتوقف فرمقتها مهرة باستياء من نغزتها لها حتى تصمت وقالت :
_ في إيه .. ما إنتي بتاكليها هتعملي نفسك نضيفة قدامه
رد آدم مبتسمًا بعدم حيلة وهو يكتم ضحكته :
_ خوديها ياسهيلة وأنا هخلص إجراءات الخروج وهاجي وراكي

سارت بها سهيلة للخارج وهي تهمس بغيظ :
_ ياحمارة انا بقولك اسكتي تقوليلي ما إنتي كمان بتاكليها .. كرشة ايه اللي تعزميه عليه يامعفنة ياقذرة
_ ما يمكن تعجبه !
_ اسكتي يامهرة مسمعش صوتك خالص لغاية ما نروح

***
في مساء ذلك اليوم ......
فتح عدنان باب غرفته بعد أن تأكد من خلود صغيرته للنوم وقد ذهب هو أيضًا لينل قسطه من الراحة المسائية .. اغلق الباب ودخل متجهًا نحو الفراش فوجد جلنار نائمة في هدوء على جانبها ، تنهد الصعداء بقوة واقترب منها ثم وقف أمامها يتأملها للحظات في صمت يتذكر كلماتها بالصباح له ومع أبيها ( عدنان عمره ما حبني ) .. ( عشان أناني ومتجبر ) .. أصدر زفيرًا حارًا بعد لحظات طويلة من التأمل في ملامحها الجميلة والتفتت من الجهة الأخرى ثم دخل بجانبها للفراش ، اقترب منها حتى أصبح ملاصقًا لها فاحتضنها من الخلف وهمس بصوت خافت ومبحوح :
_ مش قادر اسيبك .. حتى لو عايز اريحك مش هعرف ياجلنار ، قولي عني زي ما تقولي أناني أو أي حاجة بس غصب عني مش عارف ابعدك عني لا إنتي ولا بنتي ! .


رواية كيان الفهد كاملة جميع الفصول ( الفصل 22 )


شعر بتسارع أنفاسها بعد أن كانت منتظمة وهادئة ، فأدرك أنها تتصنع النوم وسمعت ما قاله .. تنهد الصعداء بابتسامة ثم رفع جسده قليلًا عنها ومد أنامله يزيح خصلات شعرها عن وجهها وعيناها ، ودقق النظر في وجهها فلاحظ ارتجافة رموشها فتأكد حينها أنها بالفعل مستيقظة .
أخذ يعبث بأنامله في خصلاتها برقة وانفاسه الدافئة تلفح رقبتها ونصف وجهها ، وبعد لحظات من الصمت بينهم هو مستمر في تمرير أنامله فوق خصلاتها ويغلغلها داخلهم وهي لا تزال تتصنع النوم ، أصدر تنهيدة حارة ورأى أنه لا بأس من بعض الاعترافات البسيطة التي لا تعرفها .. عاد يتحدث من جديد بصوت رخيم ولكن هذه المرة هو يعرف أنها تسمعه :
_ لما وافقت على الطلاق كنت مضطر لما ملقتش حل معاكي تاني .. وتقدري تقولي كانت غلطة مني والحمدلله ادركتها قبل فوات الآوان .. أنا متفقتش مع نشأت إني اطلقك وآخد هنا منك ، أنا مش قذر للدرجة اللي تخليني احرم بنتي من أمها .. لو كان في اتفاق بيني وبينه فكان اتفاق إننا نفهمك إني هاخد هنا منك لو أطلقنا على أمل إنك تتراجعي عن اللي في دماغك .. وبرضوا ده تصرف غلط معترف بكدا بس ملقتش طريقة غير دي ولو كنتي برضوا صممتي على الطلاق مكنتش هاخدها منك أكيد

سكت للحظة ثم أخذ نفسًا عميقًا واسترسل كلامه بلهجة باتت أكثر قوة :
_ لغاية ما خدتيها وهربتي بيها .. مش عارف كان تفكيرك إزاي وقتها ، كنتي بتحاولي تحميها مني عشان مخدهاش .. أو عملتي كدا قصد عشان تحرقي قلبي على فراقها لإنك عارفة أنا روحي متعلقة بيها إزاي .. ولو كان هروبك ده عشان الاحتمال التاني فأحب اقولك إنك نجحتي في كدا ، كنتي السبب في إني عيشت شهرين في ألم ورعب وقلق .. من كتر خوفي واحساسي بالعجز بقيت افكر إنكم ممكن يكون حصلكم حاجة ، شوقي وخوفي على بنتي كان مش بيخليني عارف أنام حتى ، كنتي بتقوليلي هنتقم منك بس إنتي انتقمتي شر انتقام لما حرمتيني من هنا .. كنت في حالة غضب لا يمكن تتخيلها ومن كتر غضبي كنت متوعدلك إني هندمك على اللي عملتيه ده ؛ لأن وسط خوفي وقلقي على بنتي كنت قلقان والشك هيقتلني وأنا بفكر بتعملي إيه ورحتي فين وقاعدة مع مين .. ولما عرفت إنك قاعدة مع اللي اسمه حاتم ده اتجننت وحجزت على أول طيارة وسافرت ، وطول الطريق كنت منتظر اشوفك بس عشان اخد روحك بإيدي من كتر عصبيتي .

لحظة أخرى مرت وهو يتنهد بعمق ويعود ويكمل بنبرة رخيمة عادت لسابقها :
_ بس لما شوفتك معرفش ايه اللي حصل هديت 50 درجة ومعرفتش انفذ اللي كنت ناوي اعمله أول ما اشوفك .. بعترف إنك وحشتيني ويمكن عشان كدا ضعفت لما شوفتك .. كنت غيران أه وإنتي عارفة إني بغير ورغم كدا بتتعمدي تجيبي سيرة حاتم قدامي ولما بتعصب بتزعلي ! .. يعني في الآخر الشهرين دول علموني حجات كتير أولهم إن قرار الطلاق كان غلطة ولا يمكن أكررها

توقف أخيرًا عن الكلام ونظر لوجهها يتابع تعبيراتها .. لا تزال رموشها ترتجف لكن أنفاسها هدأت قليلًا فانحنى وطبع قبلة على وجنتها ثم رجع بشفتيه للخلف إلى أذنها وهمس :
_ كنت ناوي اقولك الكلام ده من بدري وأعتقد إن ده انسب وقت .. بما إنك مش فاهمة سبب رفضي للطلاق فيمكن دلوقتي تكوني لقيتي إجابة سؤالك .. تصبحي على خير يا رمانتي

ثم ابتعد عنها وتسطح على ظهره بجوارها واضعًا كفيه أسفل رأسه وبقى محدقًا في السقف لثواني قبل أن يغمض عيناه ويخلد للنوم .. بينما هي ففتحت عيناها والتفتت برأسها للخلف تتطلع إليه في دهشة ممتزجة بالقليل من الراحة .. لم تكن أبدًا تتخيل أن مكالمتها مع أبيها وحديثهم معًا بالصباح سيؤثر به لهذه الدرجة .. ابتسمت بثقة مع قليل من الخبث ثم عادت برأسها لوضعها الطبيعي وأغلقت عيناها تنوي النوم حقًا هذه المرة .

***
تسللت أشعة الشمس من خلف ستار النافذة الشفاف إلى عيناه ، فسببت له الإزعاج .. أخذ يتململ في الفراش بخنق ثم رفع يده لعيناه يفركها ويفتحها بصعوبة في وجه الضوء ، اعتدل في نومته وهب جالسًا مستندًا بظهره على ظهر الفراش وهو يمسح على شعره نزولًا إلى وجهه متأففًا ، التفت برأسه على جانب الفراش الفراغ منها وهم بأن يمد يده ويتلقط هاتفه ليتحقق من الساعة ، لكن انفتح باب الحمام وخرجت منه وهي تجفف شعرها وترتدي منامة قطنية قصيرة .. تابعها بعيناه متفحصًا إياها وهي لا تعطيه اهتمام تتصرف وكأنه غير موجود .. اقتربت ووقفت أمام المرآة ثم نفرت برأسها يمينًا ويسارًا تنفض الماء عن شعرها وتبدأ في تسريحه ، عيناه لم تحيد عنها وما دهشه إن نظراتها لم ترتفع للمرآة عن طريق الخطأ حتى لتنظر له .. قرر هو أن يبدأ بتحية الصباح حيث هتف مترقبًا لردها :
_ صباح الخير !
ردت بنبرة جامدة من المشاعر بعد ثواني دون أن تنظر له :
_ صباح النور
ازدادت نظراته قوة وهو يثبتها عليها متعجبًا من أسلوبها فقد توقع أن بعد ما قاله بالأمس ستلين قليلًا ولكن يبدو العكس الآن .. نزل من الفراش واستقام واقفًا ثم تحرك باتجاه الخزانة .. فتح الجزء الخاص بملابسه في الخزانة وبرأسه يلتفت للخلف قليلًا ينظر لها بتدقيق حيث أن المرآة تقع بالقرب من الخزانة فكانت هي تقف قريبة منه وتلاحظ بطرف عيناها نظراته لها وتتجاهلها عمدًا .. أخرج منشفته حتى يدخل ويأخذ حمامه الصباحي وعيناه لا تزال ثابتة عليها وما يثير غيظه تجاهلها له ، يتطلع لها وكأنه ينتظرها أن تقول شيء ولكنها تتصرف كأنها لا تراه من الأساس .. اغلق باب الخزانة بقوة والتفت بجسده ناحيتها وهتف بصوت غليظ :
_ أنا هروح الشغل واحتمال مجيش بليل
لم تجيب واستمرت في تجاهله وهي مهتمة بتسريح وتجفيف شعرها ، فسمعته يهتف بحدة وهو يقترب منها :
_ سمعتي أنا قولت إيه !
خرجت عن إطار صمتها أخيرًا والتفتت برأسها له تهتف ببرود :
_ سمعت .. براحتك أساسًا مش هتفرق معايا بحاجة
اتسعت عيناه من ردها واحتدمت نظراته وهو يجيبها بصوته الخشن :
_ اممم أنا قولت اعرفك عشان متعمليش زي كل يوم وتقولي إنت لسا تعبان ومينفعش تخرج
ابتسمت وهدرت بعدم مبالاة مثيرة للأعصاب :
_ لا مش هقول إنت مش طفل صغير وعارف مصلحتك أكيد .. روح خد الشاور يلا عشان تلبس ومتتأخرش على work
رفع حاجبه مستنكرًا ردها وهو يبادلها الابتسامة ببرود ظاهري مزيف ، بينما هي فزدادت ابتسامتها اتساعًا وهي ترى مجاهدته في الظهور بهدوء على عكس ما يخفيه خلف هذا الوجه .. استدارت بجسدها مرة أخرى للمرآة واكملت ما كانت تفعله وتتطلع لوجهه في انعكاس المرآة فترى نظراته المشتعلة .. باللحظة التالية اقتحمت الصغيرة الغرفة وهي تهتف بعفوية :
_ مامي .. مامي
لكنها ابتسمت بساحرية بمجرد رؤيتها لأبيها وهرولت إليه فانحنى وحملها على ذراعيه ولثم وجنتها بحب هامسًا :
_ إيه الجمال ده يا هنايا
أمسكت الصغيرة بخصلات شعرها في رقة وقالت بسعادة من مغازلة أبيها لها :
_ مامي عملت ليا شعري كدا .. حلو ؟
_ إنتي كلك على بعضك حلوة يا ملاكي
ضحكت بخجل والقت برأسها تدفنها بين ثنايا رقبة أبيها تخفي استحيائها ، فيبادلها هو الضحك .. ثم رفعت رأسها بعد ثواني وتطلعت لأمها التي تتابعهم مبتسمة بدفء فانحنت على أذن أبيها وقالت بحماس :
_ بابي امتى هنقول لمامي ؟!
انحنى هو الآخر على أذنها وهمس :
_ لسا مش دلوقتي .. اوعي تقوليلها !
هزت رأسها بالإيجاب في ابتسامة حماسية فطبع هو قبلة على شعرها وانزلها ثم اتجه إلى الحمام ، بمجرد دخوله أمسكت جلنار بهنا وهمست بفضول :
_ إنتي وبابا مخبين إيه عني ؟!
هنا بتوتر وهي تهز رأسها بالنفي باسمة :
_ لا بابي قالي مقولكيش
هتفت بجملتها وسحبت ذراعها بسهولة من قبضة أمها ثم هرولت للخارج وتركتها تتساءل بفضول عن ما يخفوه عنها ! .

***
بمطار القاهرة الدولي .....
كانت تقف بمنطقة صغيرة بعيدة عن أشعة الشمس وهو يقف بعيدًا عنها يتحدث في الهاتف مع أحدهم وماهي إلا لحظات حتى توقفت أمامه سيارة سوداء وترجل منها شابًا ثم بدأ يتبادل أطراف الحديث مع حاتم وهم يضحكون بصفاء ، وانتهي حديثهم بتوديعهم لبعض وهو يشير له بأن يرحل وكأن مهمته قد انتهت .. فور رحيله التفت برأسه لها وأشار لها بأن تأتي فتحركت باتجاهه وصعدت بالمقعد الأمامي المجاور له وهو وضع الحقائب في حقيبة السيارة الخلفية وعاد لها ثم استقل بمقعده المخصص للقيادة .. نظر لها وتمتم مبتسمًا باستغراب :
_ مالك ؟!
نادين بخنق وهي تلوح بيدها أمام وجهها :
_ the sun is too hot ( حرارة الشمس مرتفعة جدًا )
حاتم ضاحكًا :
_ مش للدرجة إنتي بس عشان اتعودتي على جو أمريكا
اخرجت منديلًا ورقيًا مبلل ومسحت على وجهها وهي تزفر بينما هو فانطلق بالسيارة يشق الطرقات متجهًا إلى منزله .. بقت هي تتابع الطرق من خلال زجاج السيارة تتفحص كل شيء تقع عيناها عليه في الطرق حتى هتفت بالأخير في رقة :
_ لوين رايحين ؟!
_ على البيت
نادين بحيرة :
_ بيتك
هز رأسه بإيجاب فسألته بريبة وتعجب :
_ وأنا لوين راح روح ؟!!
حاتم ببساطة مبتسمًا :
_ معايا يا نادين يعني هتروحي فين !
اعتدلت في جلستها وقالت بتوضيح أكثر وبجدية :
_ شو بتقصد يعني ! .. راح نضل أنا وإنت بس بالبيت !
طالعها بنصف نظرة وهو يبتسم بخبث ثم أجاب عليها بمشاكسة :
_ لو حابة نفضل وحدينا معنديش مشكلة
نادين بحزم بسيط :
_ حاتم لا تتواقح أنا عم اتكلم جد
قهقه بخفة ثم هدر بصوت هادئ :
_ لا مش لوحدينا يا نادين خالتي فاطمة مستنيانا وهتقعد معانا
تحمست بشدة وهتفت بعفوية :
_ عنجد .. تعرف أنا كتير كان نفسي اتعرف عليها وهلأ راح شوفها ، أكيد بتشبهك
_ اممم بما إني شبه ماما الله يرحمها وهي شبه ماما فأكيد هيكون فينا شبه من بعض

اماءت بتفهم وهي تبتسم بساحرية ثم عادت لجلستها الطبيعية وهي تتابع الطريق من جديد ، حتى توقفت السيارة بعد دقائق طويلة أمام بوابة كبيرة ولحظة وانفتحت البوابة ثم عبر بسيارته للداخل وهي تتفحص المنزل الكبير بنظرها من نافذة السيارة حتى توقفت ونزل هو أولًا ثم لحقت هي به .. وقفت تتلفت برأسها في كل الاتجاهات وعيناها تتنقل في كل مكان بالمنزل حتى هتفت بإعجاب تحدثه وهو يخرج الحقائب :
_ البيت كتير حلو يا حاتم
رأته يخرج الحقائب فهرولت هي إليه حتى تساعده في حملها وهي تهتف :
_ لا تحملها كلها أنا بساعدك
هتف بصوت رجولي حازم رافضًا :
_ سيبي ملكيش دعوة إنتي بلا اساعدك
زمت شفتيها بغيظ من حدته وكانت على وشك أن تجيب لكنها رأته يحمل الحقائب ويسير بها باتجاه باب المنزل الذي فتح وظهرت من حالة سيدة متقدمة قليلًا في العمر وتهتف بلهفة وسعادة غامرة :
_ حاتم
أسرعت إليه في شوق فترك هو الحقائب وفرد ذراعيه يستقبل خالته معانقًا إياها بحرارة وعينان تلمع بشوق مماثل لها .
فاطمة بفرحة :
_ وحشتني أوي يا حبيبي
اقترب وطبع قبلة حانية على جبهتها متمتمًا :
_ وإنتي كمان والله وحشتيني أوي .. بيني وبينك أنا اتلككت بالشغل ده عشان الاقي فرصة واجي اشوفك
نكزته في كتفه بغيظ هاتفة :
_ وهو لازم يكون في شغل عشان تنزل مصر وتشوفني يا ندل
_ اعمل إيه ما إنتي عارفة والله مش بلاقي وقت فاضي نهائي عشان انزل زيارة سريعة حتى وارجع
التفتت فاطمة برأسها تجاه نادين التي ابتسمت لها بحرج وتوتر فهتفت فاطمة ببشاشة :
_ وأخيرًا اتقابلنا ده مش بيبطل يشكر فيكي كل ما أكلمه
نادين بضحكة بسيطة وهي تتطلع لحاتم باستحياء بسيط وتهتف :
_ عنجد .. وهو كمان كتير بيحكيلي عنك
بادلتها الضحك وهتفت :
_ لا احنا كدا لينا قعدة مع بعض بقى وتحكيلي كان بيقولك إيه عني
لف حاتم ذراعه حول كتف خالته وتمتم بمداعبة :
_ تعالي بس يافطوم وقوليلي عملالي إيه على الغدا لاحسن انا وحشني أكلك أوي
_ عملالك كل الاكل اللي بتحبه .. اطلع إنت بس غير هدومك وخد دش وانزل وهتلاقي الأكل جاهز
خطف قبلة عميقة من وجنتها وهو يهتف ضاحكًا :
_ ياسلام وهو أنا بحبها من قليل الست الطيبة دي
قهقهت بقوة ثم أمسكت بيد نادين وهتفت في عذوبة :
_ تعالي ياحبيبتي اوريكي اوضتك .. ده أنا جهزتلك اكتر أوضة مريحة في البيت كله
نادين برقة معهودة منها وهي تبتسم بود :
_ ميرسي كتير

***
قادت مهرة خطواتها الواثقة وهي تبتسم بشر وغل حتى توقفت أمام بقالة بدرية .. تبادلا النظرات لبعضهم بحقد ، فاندفعت نحوها مهرة وجذبتها من حجابها صائحة بها في غصب :
_ بقى إنتي يا ولية يا زبالة تخدريني وتسلميني لـ ***** اللي اسمه ريشا ده
حاولت الإفلات من قبضة مهرة وهي تصرخ بها :
_ ابعدي ايدك دي
تركتها مهرة ثم ابتسمت بخبث وهتفت :
_ ده حتى اللي بيته من ازاز ميحدفش الناس بالطوب مش كدا ولا إيه
_ قصدك إيه ؟!
كان يقف خلفها ميدو فالتفتت مهرة برأسها له ورمقته بنظرة ذات معنى فاندفع هو يبحث بين منتجات البقالة ويخرج أكياس ممنوعات ، صرخت به بدرية بخوف وارتباك وهي تندفع إليه لتمنعه :
_ إنت بتعمل إيه يا **** .. ابعد
أمسكت بها مهرة وابتسمت لها بغل ثم هدرت :
_ احنا بلغنا البوليس وزمانه في الطريق دلوقتي عشان يقبض عليكي
بدرية برعب وهي تصرخ بهستريا بعد أن رأت تجمع أهل المنطقة حول بقالتها :
_ المخدرات والبودرة ده مش بتاعتي
انحنت مهرة على أذنها وهمست بغضب مكتوم وعين تلمع بنار الانتقام :
_ عشان تبقي تفكري كويس قبل ما تلعبي مع بنت رمضان وتحاولي تأذيها .. أنا عارفة إنك بتبيعي البودرة دي من بدري وكنت ساكتة .. بس إنتي ولية عرة وو**** مكانك في السجون
كانت تقف بالخارج سهيلة تتابع صديقتها وهي تعقد ذراعيها أمام صدرها وتحدق ببدرية في تشفي وسعادة وما هي إلا لحظات واقتحمت سيارة الشرطة المنطقة بعد أن حصلت على أخبرية أن هناك محل بقالة يبيع ممنوعات في منطقة شعبية .. ترجل الضابط من السيارة واقترب من المحل ثم نقل نظره بين مهرة والولد وبدرية فهتفت مهرة بابتسامة نصر :
_ أنا اللي بلغت يا باشا والمحل للست دي وبتبيع بودرة لعيال المنطقة
اندفعوا العساكر إلى المحل وبدأو في التفتيش وبالفعل عثروا على كميات كبيرة مخفية بين منتجات الطعام ، بينما بدرية فكانت تقف مصدومة لا تستوعب ما يحدث أمامها وإذا بها فجأة تجد أحد العساكر يكبلها من ذراعها ويسحبها معه للخارج باتجاه سيارة الشرطة وهي تصرخ وتهتف محاولة الدفاع عن نفسها :
_ ياباشا والله العظيم الحجات دي مش بتاعتي .. أنا فاتحة محلي من سنين وعمري ما بعت فيه حاجة مش ولا بد .. يا باشا ابوس إيدك اسمعني
ولكن لم يستمع لها أحد تستمر في الدفاع عن نفسها دون فائدة ، فصرخت بالأخير وهي تلتفت برأسها تجاه مهرة وتتوعد لها :
_ منك لله .. بس ورحمة أمي ما هسيبك يا بنت رمضان
مهرة بضحكة متشفية :
_ حاضر هبقى آجي ازورك متقلقيش
صعدت بسيارة الشرطة واستقل الضابط بمقعده بجانب السائق في الأمام ثم انطلقت السيارة وبدأت الهمسات والهمهمات من أهل المنطقة مع بعضهم البعض .. بينما مهرة فعبرت من جانبهم هي وسهيلة غير مكترثة لنظرات الاستفهام الموجهة نحوها .

***
في تمام الساعة الثانية عشر بعد منتصف الليل .....
فتح باب السيارة ونزل ثم رفع نظره لأعلى تحديدًا إلى غرفتها فوجد الأضواء مغلقة وفقط ضوء بني خافت منبعث من الغرفة .. تنهد الصعداء بحرارة واغلق باب السيارة ثم تحرك باتجاه باب المنزل الرئيسي ، مد يده في جيب بنطاله وأخرج المفتاح ليضعه في القفل ويديره لجهة اليسار فينفتح الباب ويدخل ثم يغلقه خلفه بهدوء شديد حتى لا يحدث ازعاج .
قاد خطواته أولًا باتجاه غرفة ابنته فوجدها نائمة في فراشها بثبات عميق ومتدثرة بغطائها الصغير ، فاقترب منها وانحنى عليها يطبع قبلة سطحية رقيقة فوق جبهتها حتى لا تستيقظ ثم ينتصب في وقفته مجددًا ليستدير وينصرف بعد أن أغلق الباب بحذر وتركه مواربًا قليلًا .
تحرك إلى الغرفة المجاورة حيث غرفتهم .. معتقدًا أنها سيجدها أيضًا نائمة لكنه بمجرد ما أن فتح الباب ودخل .. وجدها تقف تولي ظهرها للباب وتقوم بترتيب الفراش .. تصلب بأرضه وهو يحدق فيما ترتديه .. قميص أخضر اللون قصير وبحمالات سوداء وعاري الظهر .. فور رؤيته لها قذفت بذهنه ذكرى تخص ذلك القميص المفضل خصيصًا .

تتلفت حول نفسها يمينًا ويسارًا بعد أن ارتدته وهي تزم شفتيها بحزن شديد من يراها يظن أنها على وشك البكاء من فرط الحزن .. تضع يدها على بطنها المرتفعة وتنظر لنفسها في المرآة بتحسر .. التفتت بجسدها تجاه الباب عندما انفتح ودخل ولم تمهله لحظة حتى لينظر لها حيث صاحت بحزن طفولي :
_ عدنان !
تفحصها بعيناه .. ترتدي القميص لكنه غريب فوق جسدها نظرًا لحجم بطنها المرتفع بسبب الحمل وزيادات الوزن التي اكتسبته ، رأت هي علامات الاستغراب على محياه فصاحت وهي على وشك البكاء :
_ شكله وحش فيا صح .. ده اكتر قميص بحبه وبرتاح فيه
أجابها بجدية محاولًا اخفاء ابتسامته على حركاتها الطفولية :
_ لا مش وحش هو شكله بقى غريب عليكي بس حلو
جلنار بعينان لامعة بالدموع :
_ دخل فيا بالعافية .. بقيت شبه الكورة
ضيق عيناه بدهشة فور ملاحظته لدموع عيناها فاقترب منها وهتف بريبة :
_ إنتي بتعيطي عشان القميص مدخلش فيكي !
انهمرت دموعها وقالت بصوت مبحوح :
_نص هدومي مبقتش تدخل فيا ياعدنان
ابتسم رغمًا عنه وهو يتنهد بعدم حيلة ثم لف ذراعه حول كتفيها وضمها لصدره متمتمًا بنبرة حاول إظهارها جدية دون أن يضحك :
_ مش معقول كدا يا جلنار أنا كل يوم اجي الاقيكي بتعيطي على حاجة مختلفة .. بعدين كلها كام شهر وتولدي وهدومك كلها ترجعي تلبسيها تاني مش مشكلة يعني !

ابتعدت عنه وجففت دموعها بظهر كفها فانحنى هو برأسه لمستواها وطبع قبلة فوق شعرها ومد يده يتحسس بطنها بحب متمتمًا :
_ بلاش زعل وعياط بقى الدكتور قال الانفعالات والزعل بتأثر على الطفل وعليكي ، خلينا نعدي شهور الحمل دي على خير وإنتي تقومي بالسلامة والقردة الصغيرة دي تشرف بالسلامة

عودة للوقت الحاضر .. التفتت جلنار بجسدها للخلف بتلقائية وفور وقوع نظرها عليه انتفضت شاهقة بفزع وقالت :
_ إيه ده إنت مش قولت مش جاي النهارده !
ظل معلقًا نظره عليها بشرود دون أن يجيبها فعادت هي تهتف بصوت أعلى :
_ عــدنان !!!
استفاق من شروده وغمغم بخفوت لكنه مازال لم يستفيق من تأثيرها :
_ غيرت رأي
لاحظت هي نظراته المعلقة عليها بغرابة فنزلت بنظرها لجسدها وفورًا فهمت سبب نظراته ، فأسرعت وجذبت رداء القميص الخاص به وارتدته فوقه .. ثبتت قدميها بالأرض في قوة عندما رأته يقترب منها حتى وقف أمامها مباشرة وتمتم بابتسامة ساحرة :
_ آخر مرة شوفتك لبساه لما كنتي حامل في هنا
فضلت الصمت وهي تتطلع إليه في ثبات رائع .. حتى وجدته يكمل بهمس خافت ونظرات معنى تحمل القليل من المكر :
_ كنتي جميلة وقتها وانتي لبساه ومازالتي
توترت وتسارعت نبضات قلبها لكنها تحكمت في زمام نفسها وردت عليها بجفاء :
_ أنا أساسًا كنت رايحة اغيره
وهمت بالابتعاد والاندفاع نحو الحمام حتى تبدله لكنه قبض على رسغها يوقفها هاتفًا :
_ متغيرهوش !
ازدردت ريقها بارتباك ولوهلة أحست بأنها ستضعف فدفعت يده بعنف وهتفت في قسوة :
_ أصل مرة واحدة حسيت إني مش مرتاحة فيه
القت بجملتها الجافة في وجهه ثم استدرات واندفعت نحو الحمام .. رفع هو يده يمسح على وجهه متأففًا بخنق .. فارتفع صوت رنين هاتفه في جيبه فأخرجه وأجاب على المتصل دون أن يتحقق من هويته أولًا :
_ الو
أتاه صوت أمه المبحوح وهي تهتف بصعوبة :
_ أيوة يا عدنان أنا تعبانة وبرن على آدم مش بيرد عليا
هتف بزعر ملحوظ في نبرته :
_ انتي مخدتيش علاج الحساسية ولا أيه ياماما
_ مش فاكرة ياعدنان أنا مش قادرة اخد نفسي
_ طيب أنا جايلك علطول أهو مسافة الطريق بس

انزل الهاتف من فوق أذنه واندفع للخارج فورًا مغادرًا المنزل ، بينما جلنار فخرجت من الحمام بعدما سمعت محادثته معها وابتسمت بسخرية هاتفة :
_ مش بعيد تكون بتمثل عشان متخلهوش يقعد عندي .. اصبري عليا يا أسمهان قريب أوي هفضحك وهقوله كل حاجة .. والحقيرة التانية لولا إني خايفة من اللي هيعمله لما يعرف كنت فضحتها من بدري

***

_ قالك إيه ؟!
كان سؤال فضولي من فريدة التي تجلس بجوارها فردت عليها أسمهان بابتسامة خبيثة وبثقة :
_ جاي طبعًا .. كفاية أوي عليها كدا سبتلها ابني كتير

ابتسمت لها فريدة بلؤم وبقت جالسة بجوارها تنتظر وصوله وبعد مرور دقائق طويلة نسبية سمعت أسمهان صوت سيارته تتوقف بالأسفل أمام المنزل فهتفت مسرعة تحدث فريدة :
_ بصي بسرعة كدا من الشباك ده صوت عربيته ولا إيه
هبت فريدة واقفة واسرعت نحو النافذة تنظر منها قرأته وهو يفتح الباب ويخرج من السيارة ثم يندفع للداخل مسرعًا فقالت باسمة :
_ أيوة هو وصل
تسطحت أسمهان على الفراش جيدًا وتدثرت بالغطاء ثم رسمت معالم التعب المزيف على وجهها منتظرة دخولها عليها وبالفعل ما هي إلا لحظات حتى انفتح باب غرفته ودخل هو مسرعًا نحوها يهتف بقلق :
_ ماما عاملة إيه دلوقتي أنا كلمت الدكتور وهو جاي في الطريق !
ردت عليه بصوت أخرجته متعبًا بمهارة كممثلة :
_ لا يا حبيبي خلاص مش مستاهلة دكتور أنا كنت ناسية ما اخد العلاج ولما اخدته بقيت كويسة الحمدلله شوية
تنهد الصعداء براحة وهتف :
_ الحمدلله .. بس برضوا خلي الدكتور يكشف عليكي ونطمن اكتر
أسمهان برفض وصوت خافت :
_ ياعدنان ملوش لزمة والله يابني .. وأنا مش بحب الدكاترة إنت عارف فطالما بقيت كويسة ملوش لزمة تجيب الدكتور
وصل آدم أخيرًا وكان في طريقه إلى غرفته لكنه رأى غرفة أمه مفتوحة ولمح أخيه يجلس بجوارها على الفراش ممسكًا بيدها فاقترب من الغرفة ودخل وهو يهتف باستغراب :
_ في إيه ؟!
التفت له عدنان برأسه وهتف بحدة ساخطًا :
_ مش بترد على تلفونك ليه يا أستاذ امك كانت تعبانة ورنت عليك مش بترد عليها
فرت الدماء من وجه آدم بقلق واسرع يقترب من أمه هاتفًا :
_تعبانة ! .. أنا تلفوني كنت عامله صامت والله ومشفتش اتصالاتها
جلس بجوار أمه من الجانب الآخر للفراش وهتف بملامح وجه تحمل القليل من الفزع وهو ممسكًا بيدها :
_ عاملة إيه دلوقتي يا ماما وتعبتي إزاي ؟!
ضغطت أسمهان على يده في لطف وهي تجيب عليه بحب أمومي :
_ أنا بقيت كويسة الحمدلله ياحبيبي متقلقش
_ أنا آسف والله مخدتش بالي من التلفون
أسمهان بابتسامة حانية :
_ خلاص يا آدم حصل خير يابني كفاية إنكم جنبي أنا حتى لو تعبانة لما شفتكم وإنتوا جنبي كدا بقيت زي الفل

رفع عدنان كفها إلى شفتيه وقبّل ظاهره بحنو متمتمًا بحب نقي وصافي :
_ ربنا يخليكي لينا يا ست الكل
التفتت برأسها تجاه عدنان وحدقته بحنان جارف مغمغمة :
_ ويخليكم ليا وميحرمنيش منكم يا اغلي ما ليا

انتبه عدنان لفريدة التي تقف بجواره فرمقها بنظرة مميتة قذفت الرعب في قلبها وجعلتها تتراجع خطوة للخلف مبتعدة عنه ، لم يتبقى إلا القليل حتى يتأكد من كل شكوكه بها حينها سيريها كيف يكون عقاب خيانتها وخداعه .. سمع صوت رنين هاتفه فأمسك به واستقام واقفًا ثم غادر الغرفة حتى يجيب على المتصل .. لحقت هي به مسرعة ووقفت على مقربة منه منتظرة انتهائه من مكالمته .. وفور انتهائه تقدمت نحوه وهمست :
_ عدنان
لم يستدير لها ولم يجيب فقط حاول التحكم في زمام انفعالاته فوجدها تلتف وتقف أمامه وتهتف بنظرة عتاب :
_ إنت ليك أيام مش بتيجي البيت وحتى مش بتسأل عليا .. للدرجة دي قدرت تسيطر عليك وخلتك تنساني

تطلع إليها باشمئزاز وبغضب حقيقي وبغض تراه لأول مرة في عيناه فمدت يدها تهم بوضعها على كتفه وهي تهمس :
_ معقول مبقتش تحبني خلاص !
قبض على رسغها بعنف قبل أن تلمسه .. تأوهت بقوة من قبضته القوية على يدها وهي ترمقه ببعض الخوف ثم رأته ينحني بوجهه عليها هامسًا بصوت أشبه بفحيح الأفعى :
_ جهزي نفسك عشان دي ايامك الأخيرة يا فريدة
ثم ألقي بيدها ودفعها من أمامه ليتركها ويرحل ، فتظل هي تقف بأرضها مدهوشة ومرتعدة بذات اللحظة .

***
بصباح اليوم التالي .....
نزل من سيارته ووقف يتطلع إلى البناية الكبيرة ، اندفع إلى الداخل بخطواته الواثقة ، ثم استقل بالمصعد الكهربائي وضغط على زر الطابق الرابع فانغلق باب المصعد وارتفع به للطابق المطلوب .. بعد لحظات انفتح الباب فخرج منه وتلفت هو برأسه ينقل نظره بين الشقتين ثم تحرك باتجاه شقة اليسار .. طرق الباب عدة طرقات قوية وماهي إلا لحظات وفتح له الباب .. فور رؤيته لعدنان هم بأن يغلق الباب مسرعًا في زعر لكن عدنان وضع قدمه يحول بين الباب وإغلاقه وهو يحدقه بنظرات قاتلة ، ثم بيده دفع الباب في قوة ودخل هاتفًا بابتسامة مريبة بعدما رأى الرجل يتقهقهر للخلف في ارتيعاد :
_ مالك خايف كدا ليه متخفش أنا قولت اجي نشرب حاجة مع بعض علي رواق وإنت بتحكيلي كل حاجة عن نادر

 

رواية كيان الفهد كاملة جميع الفصول ( الفصل 23 )


يجلس فوق أريكة عريضة رافعًا ساقًا فوق الأخرى ويبسط ذراعه على الحافة العلوية من الأريكة ، متطلعًا بنظراته المميتة في ذلك الرجل الجالس أمامه باضطراب وخوف .. كان هدوئه مريبًا لا يبشر بخير وهو ينتظر أن يبدأ في الحديث ، لكن الصمت طال وبدأ يفقد صبره فصاح به بصوت جهوري :
_ انطق
اجابه الآخر بنبرة مرتبكة :
_ نادر هو اللي طلب مني اروح لسليم بيه و...
صاح به عدنان بعينان تطلق شرارات نارية مرعبة :
_ غيره .. أنا عارف إن نادر هو اللي سرق الملفات .. فاكرني جاي هنا عشان اسمع الكلمتين دول
_ عايز تعرف إيه ؟
عدنان بصوت خافت ومخيف :
_ كله
حدجه الرجل بارتباك وتردد للحظات ليست بطويلة ، يفكر هل يخبره بكل شيء يعرفه عن نادر أم لا .. لكن ليس هناك خيار آخر أمامه هو محاصر بين ذئب بشري لا يرحم .
أخذ نفسًا طويلًا قبل أن يتكلم بصوت مضطرب :
_ نادر هو اللي خطط للحادث اللي إنت عملته .. كان عايز يخلص منك عشان يفضاله الجو تمامًا من كل الجهات
تشنجت عضلات وجهه فور سماعه لآخر جملة فقد وصل للنقطة المنتظرة منذ بداية الحديث والسبب في قدومه لهنا .
عدنان بنبرة محتدمة ونظرة قاتلة :
_ جو إيه اللي يفضاله ؟!
صمت الرجل وهو يتطلع له بخوف مترددًا في أن يكمل ، فقد وصل للنقطة الأخطر على الإطلاق .. لم يكن يتوقع أنه استنفذ طاقة صبر عدنان كلها وأصبح كالوحش الجائع هكذا حيث وجده يثب واقفًا من الأريكة ويندفع إليه يجذبه من لياقة قميصه صائحًا :
_ جو إيه !
_ مراتك فريدة وهي اللي ساعدته أنه ياخد نسخة من مفاتيح مكتبك في الشركة عشان يقدر يسرق الملفات
لحظة من الصمت القاتل مرت وقد ارتخت عضلات وجهه ويده ، الآن اتضحت الصورة كاملة أمام عيناه وتأكد من شكوكه حولهم .. شعر الرجل بالخوف الحقيقي وهو يرى ابتسامة بسيطة تنبع بالشر ارتفعت لثغره ، وكأنه هدوء ما قبل العاصفة ، ثم تركه وانتصب في وقفته وهتف بنظرات شيطانية بعد أن أخذ مبتغاه وحصل على سبب قدومه لهنا :
_ البوليس مستنيك تحت .. لتكون كنت فاكر إن اللي عملته ده هيعدي من غير عقاب ، تبقى لسا متعرفنيش .. أما **** نادر انا شايله الكبيرة وهيحصلك قريب بس مش قبل ما اصفي حساباتي معاه
ثم استدار واتجه إلى باب المنزل ليغادر بينما الآخر فوثب واقفًا بهلع وهرول إلى النافذة يتطلع للأسفل ، حتى يتأكد من حقيقة ما قاله وبالفعل وجد سيارة الشرطة تقف بالأسفل وفي طريقهم إليه بالأعلى الآن .. اسرع راكضًا للباب حتى يهرع في تصرف سخيف منه كمحاولة للهرب لكنه وجد ضابط الشرطة يقف أمامه ! .
***
يشق الطرق بسيارته في سرعة هائلة .. ويده تقبض على مقود السيارة بقوة مريبة ، عيناه معلقة على الطريق لكن عقله بمكان آخر .. نظراته تقذف الرعب في اقوي واعتى الرجال .
أصبحت النقاط فوق الحروف الآن ، وبات يقرأ الحقيقة كاملة .. لا يعرف أهي حقيقة سذاجته وغبائه أم حقيقة زوجة منحها حب وثقة لا تستحقهم ، كان ينتظر أن يحصل على التأكيد لشكوكه حتى يطلق سراح الوحش المحجوز في قفص داخله ، وهاهي قد حانت لحظة إطلاقه .
توقفت سيارته أمام المنزل .. نزل منها وقاد خطواته السريعة للداخل ، مظهره يثير الرهبة في قلوب كل من يراه .. طرق عدة طرقات متتالية وعنيفة على الباب وماهي إلا لحظات وانفتح الباب وكانت أسمهان التي فتحت له ، لم تتمكن من التفوه بكلمة حيث وجدته يبعدها من طريقه ويندفع نحو الأعلى صاعدًا الدرج تمامًا كقنبلة القت وتعرف أين مكان وقوعها بالضبط .. ضيقت عيناها باستغراب ولحقت به فورًا لأعلى بقلق ، رأته يقتحم غرفته دافعًا الباب بعنف يفتحه عن مصراعيه ووقف لثانية وهو يغلي عندما لم يجدها ثم اندفع للداخل نحو الحمام وفتح الباب بقوة ولكن لا أثر لها أيضًا .. كان يزأر من بيت شفتيه كالأسد فالتفت لأمه يهتف بوجه محتقن بالدماء :
_ فينها !
ارتبكت أسمهان من مظهره وقلقت فلأول مرة تراه بهذه الحالة المخيفة .. ردت عليها بخفوت وريبة :
_ فريدة ؟!!
صرخ بانفعال :
_ أيوة هو مين غيرها في البيت
أسمهان بصوت يحمل الحيرة :
_ خرجت .. في إيه ياعدنان ؟
تقلصت عضلات وجهه وأصبح أكثر رهبة وهو يهتف بعدم استيعاب وكأن هدوء نبرته بداية لطوفان عاتي سيدمر المكان بأكمله الآن :
_ يعني إيه خرجت وراحت فين ؟!
باتت هيئة ابنها المرعبة تخيفها وتقلقها هي أيضًا خصوصًا أنها لا تفهم ما سبب تحوله هكذا .. لكنها ردت عليه بهدوء :
_ قالت رايحة تشتري كام حاجة وراجعة علطول
اندلع الطوفان وصرخ بصوت اهتزت له الجدران :
_ أنا مش قايل ومنبه رجلها متعتبش برا عتبة البيت
أسمهان ببعض الخوف :
_ وأنا هقدر امنعها ازاي كل مرة إنت مش عارف مراتك يعني
ارتفعت ابتسامة مريبة ومخيفة على شفتيه وهو يجيب على أمه بإيجاب :
_ اعرفها طبعًا بس هي اللي لسا متعرفش عدنان الشافعي .. إنتي قولتيلي راحت تشتري حجات مش كدا ، تمام
اختفت ابتسامته واندفع للخارج ثائرًا يغادر المنزل بأكمله .. وبينما كان في طريقه لسيارته اصطدم بآدم الذي رمقه بدهشة من مظهره وسأل :
_ عدنان ! .. في إيه ؟!
لم يجيب عليه فقط دفعه من أمامه واتجه لسيارته واستقل بها .. وسط نظرات آدم المنذهلة وحين التفت بجسده للخلف رأى أمه وهي تخرج من باب المنزل مهرولة وعلى محياها علامات الزعر فسألها فورًا بقلق :
_ في إيه ياماما ؟
أسمهان بحيرة وقلق مماثل :
_ معرفش يا آدم هو دخل البيت بالمنظر ده وفضل يدور على فريدة ولما قولتله أنها خرجت زعق وبهدل الدنيا وبعدين خرج
توقع آدم ما حدث فسأل أمه مرة أخرى حتى يتأكد :
_ هي فريدة راحت فين ؟
_ معرفش معرفش يا بني قالت رايحة تشتري حجات واول ما قولت كدا لاخوك خرج زي المجنون وكأنه عارف راحت فين
لحظة مرت على آدم وهو يحدق بأمه ويفكر في ذلك الاحتمال الذي يدور برأسه وحتمًا أنه اكتشف كل شيء .. باللحظة التالية كان آدم يندفع راكضًا تجاه سيارته ليستقل بها ويلحق بأخيه وسط صياح أسمهان وهي تقول :
_ رايح فين يا آدم استني فهمني طيب .. آدم
***
_ إنت متأكد إن عدنان عرف كل حاجة ؟
كان سؤال مرتعد من فريدة وهي تجلس بالسيارة مع نادر وهو يقودها .. فرد عليها بعصبية :
_ايوة يا فريدة بقولك بلغ على منصور وكان عنده قبل ما تاخده الشرطة
فرت الدماء من وجه فريدة وهي تجيبه وتضع ابعد الاحتمالات :
_ طيب ما يمكن يكون مقالهوش حاجة يا نادر
نادر منفعلًا وبوجه يحمل بعض الزعر :
_ قاله يافريدة أكيد ومنصور يعرف كل حاجة وبالأخص علاقتي أنا وإنتي .. وحتى لو مقالهوش احنا هنفضل قاعدين مستنين الساعة اللي يعرف فيها كل حاجة وياجي يقتلنا
أخذت فريدة تفرك يديها برعب حقيقي ونبضات قلبها تسارعت بقوة ، مجرد التفكير في حالة عدنان كيف هي الآن اذابت أوصالها من فرط الخوف ، حتمًا لو وجدها سيقتلها بدم بارد دون أن ترف له جفن .. التفتت برأسها تجاه نادر وهتفت بصوت مرعوب :
_ هنعمل إيه دلوقتي .. عدنان لو عرف مكاني هيقتلني ، غضبه أعمى ومش بيشوف قدامه
تنهد نادر محاولًا تهدئة نفسه وهتف بثبات متصنع :
_ هنروح على بيت قديم ليا محدش يعرفه هنقعد هناك ونشوف هنتصرف ازاي ونعمل إيه مع عدنان .. أنا كنت ناوي اقتله واخلص منه نهائي بس الظاهر إنه لسا في عمره بقية ولو كنت حاولت اتخلص منه تاني إنتي مكنتيش هتوافقي
انسابت دموعها على وجنتيها من فرط الخوف وهتفت تلوم نفسها بعنف :
_ أنا اللي غبية لو كنت حريصة اكتر في تصرفاتي وافعالي وخروجي مكنش هيشك فيا ومكنش ده كله هيحصل
_ لا عشان مكنتيش هتعرفي تخدعيه طول العمر يا فريدة هو أنا أساسًا مصدوم إنتي ازاي قدرتي تخدعيه طول السنين دي
جففت دموعها وهي ترد عليه بصوت مبحوح :
_ أنت عارف إن علاقتنا مبدأتش بجد غير من سنة وقبل كدا كان مفيش حاجة بينا ، فمكنتش بخليه يحس بحاجة لأننا مكناش بنتقابل ولا بنتكلم كتير ، لكن طول السنة اللي فاتت وأنا كنت بعاني اني مخلهوش يحس بحاجة بس في الفترة الأخيرة بغبائي كشفت نفسي
ضحك نادر بسخرية ورد عليها بحدة :
_ فريدة أنا وإنتي نعرف بعض من اربع سنين مفرقتش بقى إمتى علاقتنا بدأت بظبط من سنة ولا اتنين ولا غيره .. احنا دلوقتي في ازاي نتصرف مع عدنان بعد ما كشف خيانتك أو خيانتنا بمعنى أصح
لم تجيب عليه استمرت في البكاء بصمت وهي تعلق نظرها على الطريق أمامها في شرود ويدها ترتجف من فرط الخوف بينما هو فاستمر في القيادة يشق الطرق متجهًا لذلك المنزل الذي أخبرها عنه .
***
توقف بسيارته أمام بناية كبيرة ثم فتح باب مقعده ونزل وسار لداخل البناية مسرعًا .. حاول الحارس أن يوقفه لكنه لم يستطيع ، لحظات قليلة وتوقف آدم بسيارته فنزل منها هو الآخر وهم بأن يركض لداخل البناية حتى يصعد لشقة نادر ويلحق بأخيه لكن حارس البناية أمسك به واوقفه هاتفًا بحدة :
_ استني يا أستاذ رايح فين وفي واحد قبلك دخل برضوا كدا على علطول وفضلت انده عليه مردش عليا
هتف آدم بصوت رجولي خشن :
_ هو نادر المصري موجود في شقته فوق
_ لا طلع من شوية .. هو إنت مين لا مؤاخذة ؟!
تجاهل آدم سؤاله وهتف بترقب :
_ طلع وحده ولا كان معاه حد
رد عليه بنظرات دقيقة :
_ كان معاه الست فريدة مراته
_ نـــعـــم !!
هم بأن يجيب عليه لكن آدم رمقه بنظرة مميتة واندفع للداخل خلف أخيه .. هرول صاعدًا الدرج ركضًا وعندما وصل إلى طابق شقة نادر سمع صوت الطرق العنيف على الباب فأسرع تجاه أخيه وهتف :
_ عدنان ، نادر مش موجود
التفت برأسه تجاه أخيه ورد عليه بعينان تعطي انعكاس مريب :
_ راح فين ؟!
آدم بصوت رزين :
_ معرفش البواب قالي طلع .. تعالى نروح مكان وتهدى الأول وبعدين نبقى ندور عليه ونشوفه راح فين
عدنان صائحًا بصوت جهوري وعصبية :
_ اهدى ازاي يعني وأنا عارف أن مراتي معاه
آدم بجدية وهو دمائه تغلي من الغيظ على أخيه :
_ هنلاقيهم ياعدنان يعني هيروحوا فين .. تعالى بس مينفعش اللي انت بتعمله في العمارة كدا
أبعد عدنان آدم من طريقه واتجه نحو الدرج ينزل ويمسك بهاتفه ثم يجري اتصال بأحدهم .. تنهد آدم الصعداء بغضب ونزل خلفه .
***
كانت فوزية في طريقها لمنزلها بعد أن قامت بشراء بعض مستلزمات المنزل .. وأثناء عبورها من أمام بنايتها الصغيرة أوقفتها السيدة العجوز ( سماح ) الملازمة لنافذتها تجلس أمامها طوال الوقت نظرًا لأنها تسكن بالطابق الأرضي للبناية .
_ ازيك يا فوزية
التفتت لها فوزية برأسها وابتسمت بود هاتفة :
_ بخير الحمدلله ياحجة سماح .. عاملة إيه إنتي ؟
سماح بلهجة ماكرة :
_ أنا كويسة .. هو انتي مسمعتيش اللي حصل لبدرية ولا إيه ؟
عقدت فوزية حاجبيها باستغراب وهدرت :
_ لا مالها بدرية ؟
_ جات الحكومة قبضت عليها وشمعتلها محلها ، طلعت بتبيع بودرة ومخدرات
_ ايه إزاي ده .. معقول بدرية تعمل كدا
ضحكت الأخرى ساخرة وقالت :
_ وتعمل اكتر من كدا انتي بس اللي غلبانة ومش دايرة باللي بيحصل حواليكي .. عارفة مين بلغ عنها كمان ؟!
قرأت علامات الاستفهام على محياها والفضول فكانت على وشك أن تخبرها لولا أن مهرة صاحت على جدتها وهي تهرول نحوها بعد أن رأتها من منتصف الطريق .. التفتت فوزية تجاه مهرة تتابعها بعيناها حتى وصلت أمامها وهدرت بصوت لاهث :
_ إيه ده .. إيه اللي نزلك بس يازوزا ؟
فوزية بابتسامة عذبة :
_ نزلت اشتري شوية طلبات للبيت .. إنتي رجعتي بدري من الشغل كدا ليه ؟
القت مهرة نظرة جانبية مشتعلة على سماح لكنها تصرفت بطبيعية أمام جدتها وهي تهتف :
_ لا مش بدري ولا حاجة .. تعالى يلا نطلع البيت بس عشان متتعبيش
تطلعت فوزية إلى سماح ورسمت ابتسامة صافية على شفتيها ثم استدارت وسارت مع مهرة التي كانت تلتفت للخلف برأسها وتنظر لسماح بغيظ ، فبالتأكيد كانت تسرد لجدتها كل الأحداث الأخيرة التي حدثت لها ولحسن الحظ أنها أنقذت الموقف بالوقت المناسب .
هتفت فوزية وهم يصعدون الدرج :
_ صحيح بدرية اتقبض عليها ؟!
مهرة بنبرة عادية حتى لا تظهر شيء لجدتها :
_ أيوة اخدت جزائها والبوليس أخدها
استكملت فوزية اسألتها بفضول أشد :
_ وهو مين اللي بلغ عنها وعرف إزاي ؟
_ معرفش يازوزا اهو اللي بلغ بلغ بقى احنا مالنا .. خلينا في الأكياس دي جبتي إيه ؟!
ضحكت بعذوبة وردت على حفيدتها بحنو :
_ جبت لحمة وقولت نعمل كفتة النهارده بما إنك بتحبيها
انحنت عليها مهرة وطبعت قبلة قوية على وجنتيها هاتفة بضحكة وبمرح :
_ أصيلة يا حجة فوزية والله ربنا يجبر بخاطرك زي ما جابرة بخاطر بطني كدا دايمًا
انطلقت من فوزية ضحكة عالية على مزاح حفيدتها المعتاد ، ثم وقفوا أمام الباب وأخرجت المفتاح لتفتح ويدخلوا .
***
كانت تجلس زينة بالمقهى المفضل لها كالعادة .. وبينما هي تمسك بفنجان القهوة ترتشف منه بتريث وتتابع حركة الناس والسيارات في الشارع من خلال زجاج المقهى بشرود .. استمعت إلى صوت أنوثي بجانبها يهتف :
_زينة ؟!
التفتت برأسها تجاهها وتطلعت إليها بابتسامة باهتة هادرة بتعجب :
_ إنتي تعرفيني ؟!!
كانت فتاة متحررة بشكل زائد عن الطبيعي من خلال ملابسها وطريقة وقفتها وكلامها .. حيث ردت عليها بخبث دفين :
_ مش إنتي برضوا خطيبة رائد .. أو خلينا نقول خطوبتكم بعد يومين
تلاشت ابتسامة زينة واعتدلت في جلستها لتجيبها بلهجة جادة :
_ أيوة أنا .. إنتي مين ؟
رأت ابتسامة لعوب تظهر على ثغرها وتردف بثقة :
_ معقول رائد مقالكيش عني !!
احتدمت نظرات زينة وطالعتها بقرف هاتفة في شيء من الاستهزاء :
_ لا مقاليش والله .. بس أنا حابة يحصلي الشرف واعرف مين سيادتك !
قهقهت بأسلوب مستفز وردت عليها في برود :
_ لا الأفضل تسأليه وهو يقولك بقى .. وعلى العموم مبروك .. معلش ازعجتك
تابعتها زينة بنظراتها النارية وهي تراها تستدير وتسير مبتعدة عنها وبداخلها تشتعل غيظًا .. كيف له أن يتعامل مع فتيات بهذا الشكل أساسًا ، أي كانت علاقتها به فمظهرها وأسلوبها مثير للأعصاب ولن تدع ما حدث يمر مرار الكرام .
***
مع تمام الساعة العاشرة مساءًا ......
خرجت من الحمام بعد أن أخذت حمامها المسائي وعقلها شارد بأكثر من شيء مختلف .. تحركت باتجاه المرآة ووقفت أمامها تجفف شعرها وتقوم بتسريحه ، وبلحظة شرودها قذفت في ذهنها جملة والدها لها ( مطلقتكيش منه عشان بيحبك وهو قالي وطلب مني اديله فرصة يصلح علاقته بيكي ) .. توقفت يداها عن تسريح شعرها وجعلت تنظر لانعكاس وجهها في المرآة بتفكير فاسترجع عقلها بعض مشاهدهم معًا ، تبحث بأي منهم عن حب خفي يضمره لها في أعماقه لكنه لم يشعرها بأي من شيء بل حتى أنه أخبرها بوضوح أنه لا يحبها ولا تزال حتى الآن تتذكر تلك اللحظة بالتفصيل
صرخة عنيفة خرجت منها وهي تصيح به :
_ أنا زهقت من تهميشك ليا وكأني مش موجودة ياعدنان
رد عليها بتعجب :
_ تهميش !!
جلنار بصياح وانفعال هادر :
_ أيوة مبقتش قادرة استحمل اكون على الرف تاني .. وأنا عارفة كويس أوي إنك مش بتحبني ومتنكرش وتقول إني بحبك
مرت لحظة وهو يمعن النظر فيها بسكون حتى هتف بقسوة دون أن يشعر :
_ لا مش هنكر يا جلنار وإنتي كمان متنسيش سبب جوازنا
توقفت عاصفتها فجأة وهدأت معالم وجهها الثائرة ، وظهر شبح ابتسامتها المنكسرة على ثغرها تهتف بعينان متلألأة بالعبارات :
_ يعني معترف إنك مش بتحبني
صاح بها بعصبية وصوت رجولي غليظ :
_ عايزاني اقولك إيه يعني وإنتي كل ما تشوفيني تقوليلي الكلام ده .. تهميش ومعتبرني مش موجودة ومش مهتم بيا ومعرفش إيه .. أنا مبقتش فاهم إنتي عايزة إيه بظبط
غامت عيناها بالدموع من جفائه لكنها استعادت رباطة جأشها وردت عليه بثبات وقوة :
_ عايزة اتطلق وده قرار نهائي ومفيش رجعة منه .. عشان كل حاجة انتهت وأنا وإنت مينفعش نكمل اكتر من كدا مع بعض
عادت لواقعها ووجهها ممتليء بالدموع .. أخذت تنظر لنفسها في المرآة وبالأخير هزمت أمام آلامها فانفجرت باكية بحرقة وأسى يمزق قلبها إلى أربًا ، هي فقط أرادت حياة هادئة وسعيدة تنعم بها مع رجل يعشقها ولكنها لم تحصل على أي منهم .. أعطت دون مقابل وهي الآن التي تعاني فقدان جزء من قلبها .
سمعت صوت طرق الباب وابنتها تهتف من خلف الباب :
_ مامي افتحي الباب
اعتدلت فورًا في جلستها وجففت دموعها جيدًا ، وعادت لطبيعتها الشامخة المعتادة ، ثم اتجهت نحو الباب وفتحت لصغيرتها التي دخلت وتطلعت لها بعينان يائسة وهي تسأل :
_ هو ليه بابي مجاش امبارح والنهارده تمان ( كمان ) ؟!
جلنار بنبرة عادية وهي تهز كتفيها بجهل :
_ معرفش ياحبيبتي يمكن معاه شغل ولما يخلصه هيجي
_ طيب أنا عايزة اكلمه !
تنهدت جلنار بقوة واصدرت زفيرًا حارًا ثم انحنت لمستوى ابنتها وحملتها على ذراعيها هاتفة بنعومة محاولة تغير الموضوع :
_ أنا كلمته ومكنش بيرد عليا هو لما يفضى هيكلمنا .. المهم إيه رأيك نروح نتفرج كرتون حلو على TV
اماءت لأمها بالموافقة في وجه عابس وسارت بها جلنار للخارج نحو التلفاز وجلسا على الأريكة ثم بدأو بمشاهدة أحدى قنوات الأطفال .
***
خرجت نادين من باب المنزل ثم تلفتت حولها في الحديقة تبحث عنه لكن لا أثر له .. تحركت وهي تجوب الحديقة بنظرات دقيقة على أمل أن تعثر عليه يجلس في أحد الأركان بمفرده .. وإذا بها تلمح ضوء خافت منبعث من غرفة خلفية في الحديقة لديها باب خشبي ضخم ! .. تقدمت نحوها بخطوات بطيئة ثم وقفت أمام الباب وحاولت النظر من فتحات الباب الخشبية علها ترى شيء ولكنها لم تتمكن من رؤية شيء .. مدت يدها وفتحت الباب بهدوء شديد وهي تدخل جزء من رأسها تلقي نظرة متفحصة أولًا في المكان حتى ترى إذا كان هو من يجلس هنا أم لا .. وبالفعل وجدته يجلس على أريكة عريضة وكلاسيكية جميلة وأمامه شاشة تلفاز ضخمة أشبه بشاشة السينما ، غضنت حاجبيها بحيرة ثم دخلت بخطوات هادئة تمامًا كصوتها :
_ حاتم !!
التفت لها برأسه فور سماعه لصوتها وابتسم لها بدفء يهتف وهو يشير لها بأن تقترب وتنضم له :
_ تعالي يا نادين
بادلته الابتسامة لكن بأخرى كلها ريبة وسارت إليه ثم جلست بجواره فوق الأريكة وهدرت بتعجب :
_ شو اللي مقعدك وحدك هيك ؟!
لاحظت العبوس على ملامحه وهو يبتسم لها بمرارة ثم يعود بنظره للشاشة ويتمتم بصوت خافت وحزين :
_ من وقت وفاة بابا وماما اللي يرحمهم وأنا مدخلتش الأوضة دي .. كل ما آجي البيت مش بقدر ادخلها ، وبعد تفكير طويل دخلتها النهارده أخيرًا بعد خمس سنين متخيلة
_ لشو كانت هاي الأوضة ؟!
سألته بفضول واهتمام بعد أن رأت العبوس والحزم على محياه ، بينما هو فأخذ نفسًا عميقًا ورد عليها بألم :
_ بابا كان أغلب الوقت مشغول ومش بيعرف يقعد معانا فماما اقترحت إننا نعمل الأوضة دي وكنا كل خميس بليل بنقعد كلنا هنا كعائلة نتفرج ونلعب ونهزر .. وكان في قوانين إن بابا بيقفل تلفونه تمامًا في الوقت ده عشان محدش يزعج جلستنا .. في الوقت ده كنت أنا لسا في الابتدائي ولغاية ما وصلت للثانوي واحنا كنا مواظبين على العادة دي .. وحتى لما بقينا مش بنعلمها كل اسبوع زي الأول كنا كل فترة والتانية بنيجي نقعد هنا كلنا مع بعض .. بس بعد الحادث وبعد وفاتهم أنا سافرت تاني لأمريكا ومبقتش بنزل مصر إلا زيارات قليلة وكأني بهرب من ذكرياتهم في البيت والأوضة دي بذات
تلألأت عيناها بالعبارات في تأثر .. تأثرت ربما ليس بسبب ما سرده لها من ذكريات جميلة كانت بينه وبين والديه ولم تعد موجودة بعد رحليهم .. بل لحزنه هو وعيناه التي لأول مرة تراها تلمع بالدموع ، ضعفت والمها قلبها لألمه .. فوجدت نفسها دون أن تشعر تمد يدها وتضعها فوق كفه تحتضنه بقوة وتثبت نظراتها عليه بثقة تخبره من خلالهم أنها ستظل دومًا معه ولن تتركه .
أخفض نظره إلى كفها الناعم الذي يحتضن كفه ولاحت ابتسامة محبة على شفتيه وبكفه الآخر أمسك بكفها الذي فوق يده وحتضنه بين كفيه بقوة متطلعًا في عيناها كأنه يجيب عليها بنظراته أيضًا .. وباللحظة التالية رأته يقترب منها ويلف ذراعيه حول خصرها ويضمها إليها معانقًا إياها في رقة هامسًا بالقرب من أذنها في نبرة تنسدل كالحرير ناعمًا :
_ شكرًا إنك موجودة يا نادين
بقدر ما صدمها بضمه لها بقدر ما أسعدها وكان شعور رائع وهي تعانقه .. فلفت ذراعيها حول رقبته وهمست فى صوت رقيق ساحر :
_ أنا دايمًا هكون موجودة معك وما راح اتركك أبدًا
رد عليها بخفوت جميل :
_ ربنا يخليكي ليا
لوهلة أحست بنفسها تحلق في السماء من فرط سعادتها وهي تسمع منه هذه الكلمات لأول مرة ، اتسعت ابتسامتها فوق ثغرها واغمضت عيناها بفرحة تستمتع بأول لحظة لطيفة بينهم .
***
بعد مرور ساعات قليلة .....
أجاب على الهاتف بهدوء وهو يقود سيارته :
_ الو
_ أيوة يا عدنان بيه أنا قلبت الدنيا على نادر ملوش أثر بس عرفت إنه ليه بيت قديم هعرفلك عنوانه فيه وهقولك فورًا
عدنان بصوت رجولي خشن ومريب :
_ عايز عنوان البيت ده قبل طلوع الشمس مفهووم
_ حاضر باشا متقلقش كمان كام ساعة بالظبط ويكون العنوان بين ايديك
انهى الاتصال وألقى الهاتف بجانبه على المقعد المجاور وعاد يثبت نظره على الطريق وهو يقود بهدوء .. توقف الطوفان وهدأت العاصفة لكن الخراب الذي خلفته لن يُمحي ، سكونه غريب وكأنه تحول مائة وثمانون درجة عن الصباح .. الوحش المخيف الذي كان منذ ساعات أصبح هادئًا بشكل ربما يخيف أكثر .
توقف بسيارته أمام منزله ونزل منها ثم قاد خطواته في الحديقة متجهًا نحو الباب الرئيسي للمنزل ، أخرج المفتاح من جيبه ووضعه في القفل ثم فتح الباب ودخل .. وكالعادة كان المنزل يعمه السكون والهدوء الشديد ، فتحرك أولًا تجاه غرفة ابنته ليطمئن عليها في فراشها ثم اتجه إلى غرفته .. فتح الباب ببطء ودخل فوجدها نائمة في الفراش والغطاء بعيدًا عن جسدها ، تنهد الصعداء بعد أن تأملها لدقيقتين واقترب منها ثم انحنى عليها ومد يده يمسك بالغطاء ويسحبه على جسدها ، لمست يده جسدها بعفوية وهو يدثرها فانتفضت هي وفتحت عيناها مفزوعة هادرة :
_ بتعمل إيه ؟!
عدنان في صوت رخيم :
_ ولا حاجة كنت بغطيكي
دققت النظر في وجهه ولا تعلم لما حدثها قلبها بأن هناك شيء حدث خصوصًا بعدما سمعت نبرته الرخيمة التي نادرًا ما يتحدث بها .. سحبت الغطاء على جسدها جيدًا وهي تعتدل في نومتها وتهمس باقتضاب :
_ شكرًا
تحدث للمرة الثانية يسأل بنفس نبرته السابقة :
_ اكلتي ؟
تعجبت سؤاله وطريقته لكنها اماءت بإيجاب في نظرات تطلق علامات استفهام ، انتصب في وقفته أخيرًا وتمتم بإيجاز وخفوت :
_ كملي نوم .. تصبحي على خير
تابعته بعيناها في تدقيق وهو يستدير ويغادر الغرفة ، كانت شبه مدوهشة من هدوئه وأسلوبه المختلف في الحديث .. بعد ثواني معدودة سمعت صوت باب المنزل ينغلق فضيقت عيناها بذهول ( هل رحل مجددًا بهذه السرعة !! ) وثبت من الفراش واقفة واسرعت نحو الشرفة تنظر منها فوجدته جلس على الأريكة المتوسطة في نصف الحديقة واطفأ جميع الأضواء ليبقى في الظلام الدامس لا ينير الحديقة سوى ضوء القمر الخافت .. سؤال وحيد طرحته على نفسها في هذه اللحظة وهي تهتف بحيرة :
_ واضح إن في حاجة حصلت !!
بينما في الأسفل فكان هو هادئًا بشكل يخنقه هو ذات نفسه ، يمكن القول أنه احتفظ بالموجة الثانية من الطوفان حين يعثر عليهم .. فنيران الخذي والألم المندلعة في صدره أوشكت أنه تجعله رمادًا ، كان يتساءل عن هوية ذلك الوغد الذي تقوم بخيانته معه واتضح أنه مع اقرب صديق له تمامًا كما كان يشك ، كلاهما تآمرا عليه وكان هو الأغبي في المؤامرة لكنه لن يخرج خاسرًا .. سيذيقهم العذاب الوانًا وأشكال .. وبالأخص هي ! ، لم تستحق ذرة واحدة من الحب الذي منحه لها .. ثقته العمياء وتعلقه بها جميعهم كانوا لسذاجته فقط .. منذ الصباح وهو يطرح سؤال واحد ( لماذا وكيف ؟! ) .. ربما لم يكن عليه أن يكون وفيًا إلى هذا الحد .. فهذا هو جزاء الإحسان .. الطعن في الظهر والشرف ، يقسم لها أنه كما أشبعها بحبه وأظهر لها كيف يكون الحب سيريها أيضًا كيف يكون العذاب والكره الحقيقي .
رفع يديها ومسح على شعره نزولًا إلى وجهه وهو يزأر من بين شفتيه كالأسد المجروح ويرغب في الانتقام والثأئر لجرحه .
***
في صباح اليوم التالي .......
ارتفع صوت رنين الباب فنهضت هي من مقعدها وسارت باتجاه الباب لتفتحه ، وهي تهتف بتلقائية بعد أن ظنت أنه هو وقد نسى شيء وعاد ليأخذه :
_ إنت مخدتش المفتاح ولا إااا......
ابتلعت بقية الكلمة في جوفها فور رؤيتها لعدنان يقف أمامها بهيئته المخيفة ويتطلع لها بنظرات لا يمكن وصفها إلا أنها أشبه بجحيم سيبتلعها الآن .
 

رواية كيان الفهد كاملة جميع الفصول ( الفصل 24 ) 


كان تمامًا كبركان وحممه البركانية تفوح على سطحه ولا يتبقى سوى لحظات على الانفجار ليقضي على الأخضر واليابس ، وجهه يعطي لون الأحمر الداكن من فرط احتقان الدماء والغضب وهو يتطلع لها كأسد وجد فريسته التي يبحث عنها وسيتفنن في طريقة تعذبيها قبل أن يقتلها .
ازدردت ريقها برعب اعتلى كل معالمها وتراجعت للخلف في تلقائية ، بينما هو فتقدم نحوها ورفع يده ثم هوى به على وجنته في صفعة قوية اسقطتها أرضًا وهي تصرخ من الخوف والدهشة .. اندفع إليها كالثور الهائج وقبض على شعرها يجذبها من خصلاتها بدون رحمة صارخًا :
_ بتخونيني أنا يافريدة !!
ارتفع صوت نحيبها وبدأت ترتجف من الرعب وهي تهتف متوسلة :
_ سامحني يا عدنان ابوس ايدك
وجدت صفعة أخرى تنزل على وجنتها من كفه الكبير وكانت أشد وأقسى من السابقة جعلتها تصرخ من الألم وهي تبكي ، خرجت صيحة منه نفضتها في أرضها نفضًا :
_ هو فين ال******
استمرت في البكاء القوى دون أن تجيب عليه فعاد يصرخ بصوته الجهوري :
_ انطقي فينه ؟
ردت عليه بصوت مرتجف وجسدها يرتجف معه :
_ خــ ... خر .. ج
_ اممم فاكر نفسه هيعرف يهرب مني
تقهقرت في الأرض للخلف وهي تهتف بتوسل وسط بكائها :
_ خليني اشرحلك كل حاجة عشان خاطري ياعدنان
ضحك بشكل مرعب تمامًا كشبح وتقدم إليها هادرًا بسخرية :
_ هتشرحيلي متقلقيش وبالتفصيل كمان .. بس الأول اشرحلك أنا هعمل فيكي إيه
قبض على ذراعها في عنف وبحركة مفاجأة يرغمها على الوقوف وهي تأبي فصرخ بها في صوت نفضها :
_قــــومـــي
وقفت بقدم مرتعشة وهي تبكي بصوت مرتفع فجرها هو خلفه كالحيوان وسط توسلاتها ونحيبها الشديد الغير مبالي لها .. اوصلها إلى سيارته وفتح المقعد المجاور له ثم ألقي بها في قسوة للداخل وهو يصيح بها :
_ ادخلي يلا
جلست في المقعد وهي ترتجف وتتابعه بعيناها الباكية وهي تراه يستدير حول السيارة ويستقل بالمقعد المخصص للقيادة المجاور لها وينطلق بالسيارة كالسهم .. خرج منها سؤالًا مرتجف وصوت مبحوح :
_ إنـ .. إنــ .. ـت ماخدني فين ؟
التفت لها برأسه وهتف بابتسامة ارعبتها أكثر من الجملة التي تفوه بها :
_ على قبرك
همت بالتحدث مرة أخرى فصرخ بها في غضب هادر :
_ مش عايز اسمع صوتك .. بتخونيني أنا بعد كل اللي عملته عشانك وحبي ليكي .. تستغفليني أنا وتخونيني لا وكمان مع مين .. مع نادر !! .. بس أنا هخليكي تشوفي عدنان الشافعي على حقيقته بجد

ارتفع صوت بكائها وهي تنكمش على نفسها في المقعد بارتيعاد ، بينما هو فاستمر في القيادة وهو مشتعل من فرط الغضب ، وبعد دقائق طويلة توقفت السيارة أمام منزل كبير نسبيًا في أحد المناطق الراقية والقليلة السكان .. نزل من السيارة والتفت من الجهة الأخرى وفتح الباب ثم أمسك بها من ذراعها وجذبها للخارج وهو يجرها خلفه لداخل المنزل .. تطلعت حولها بدهشة فلا تفهم سبب جلبه لها هنا وبذلك المنزل بالأخص .
فتح الباب ودخل هو أولًا ثم جذبها والقاها للداخل فكادت أن تسقط لولا أنها توازنت بقدمها قبل أن تقع ، اغلق هو الباب واقترب منها هامسًا بابتسامة مريبة وعينان تنبع بالغل :
_ متخافيش مش هقتلك .. بس قصاد كدا هخليكي تتمنى الموت يافريدة

تراجعت للخلف في رعب وهتفت بدموع تنهمر على وجنتيها في صمت :
_ جبتني هنا ليه ؟!
_ عشان كل حاجة تنتهي في المكان اللي بدأت فيه
اندفعت نحوه واستندت بيدها على صدره تهتف في توسل باكية بقوة :
_ متطلقنيش يا عدنان ابوس إيدك .. اعمل فيا اللي إنت عايزه .. بس أنا مليش حد
دفعها بجفاء واشمئزاز فسقطت فوق الأريكة .. اقترب هو وانحنى عليها يقبض على فكها بقسوة ويهدر أمام وجهها يتقن وقرف ممتزج بالوعيد :
_ تعرفي نفسي اقتلك واخد روحك بإيدي عشان أطفي ناري .. بس متستاهليش ادخل السجن فيكي وأنا معايا بنت محتاجاني .. إنتي متستالهيش أي حاجة .. استغليتي حبي وثقتي فيكي وطعنتيني في ضهري .. بس العيب مش عليكي .. العيب عليا أنا عشان انتي اثبتيلي قد إيه أنا كنت غبي ومغفل
لحظة مرت سكت فيها ثم لمعت عيناه بنار الغضب والخزي وهتف بوعيد حقيقي :
_ إنتي مخدتيش مني غير الحب والاحترام بس دلوقتي جه الوقت اللي تشوفي فيه عدنان في وجهه الآخر ، دوقتي طعم الجنة وجه دور الجحيم .. جحيمي !

ثم تركها وانتصب في وقفته ليقبض على ذراعها ويجذبها خلفه باتجاه إحدى الغرف الصغيرة ويلقى بها في الداخل واقفًا عند الباب وهو يبتسم بعدم رحمة .. أدركت هي فورًا ما ينوى فعله ولما القى بها في تلك الغرفة الضيقة والصغيرة .. يعرف جيدًا أنها تخشي الأماكن المغلقة والضيقة .
وثبت واقفًا وهرولت إليه راكضة لكنه كان اسرع منها حيث أغلق الباب ووضع المفتاح في القفل واغلقه ، غير مكترثًا لصياحها وهي تضرب على الباب من الداخل وتهتف باكية :
_ افتح الباب ياعدنان ابوس ايدك متعملش فيا كدا إنت عارف إني بخاف من الأماكن المغلقة
وكأنه اخرج قلبه ووضع مكانه حجر لا يشعر ولا ينبض .. لم يؤثر به صياحها وبكائها وتوسلاتها بقدر ذرة بل لم يكترث لها حتى حيث استدار وسار للخارج مغادرًا المنزل بأكمله تاركًا أياها تصرخ متوسلة إياه .. فتح الباب وكان أمامه يقف احد رجاله فألقى عليه نظرة صارمة وحادة فهم الآخر من خلالها تعليماته فور دون الحاجة إلى حديث .. وتابعه بعيناه وهو يتجه نحو سيارته ويستقل بمقعده ثم ينطلق بها .

***
تقف في الحديقة وتسقي ورودها الحمراء وهي شاردة الذهن .. ترتدي عبائة منزلية طويلة لكنها دون أكمام .. بالكاد اكمامها تخفي أكتافها .. سمعت صوت سيارة تقترب من المنزل ظنته هو في باديء الأمر لكن حين رأت السيارة المختلفة عن سيارته ضيقت عيناها باستغراب وباللحظة التالية كان يخرج منها آدم .
تركت الدلو المخصص لسقي الورود ووقفت تجاه آدم تتطلع له بحيرة وهو يقترب منها مسرعًا ويهتف :
_ عدنان فين يا جلنار ؟!
غضنت حاجبيها بحيرة وقد اقلقها تلهفه في السؤال عن أخيه بهذه الطريقة ولوهلة ظنت أن مكروه قد أصابه فهدرت بنبرة مهتمة :
_ مش موجود .. هو في حاجة حصلت ولا أيه يا آدم ؟!!

مسح على وجهه بقوة متأففًا بقلق فهو يحاول الوصول له منذ أمس ولكنه لا يجيب على هاتفه .. رفع نظره لها فرأى القلق الحقيقي بدأ يرتفع لملامحها وهي تحدق به منتظرة منه أن يفسر لها ما يحدث .. فتنهد آدم بحرارة وتمتم :
_ عدنان عرف كل حاجة امبارح
شهقت بصدمة وهتفت :
_ عرف بفريدة ونادر ؟!
هز رأسه لها بالإيجاب لتعود وتهتف ولا تزال الصدمة تعتلي ملامحها :
_ عرف إزاي ؟!!
_ معرفش مقاليش أي حاجة أنا أساسًا بحاول أوصله من امبارح بليل ومش بيرد عليا ولا عارف راح فين

صعد الخوف والقلق لوجهها وهي تجيب عليه بعبوس :
_ هو كان هنا امبارح بليل متأخر وكان واضح عليه إنه متضايق بس أنا متوقعتش إنه يكون عرف .. قولت يمكن مشاكل في الشغل

توجه آدم وجلس على أقرب مقعد وجده أمامه وهتف بصوت خشن :
_ عدنان مكنش طبيعي إمبارح .. أنا خايف يكون عرف مكان فريدة ويعمل فيها حاجة ويضيع نفسه
تسرب الارتيعاد إلى قلبها فور سماعها لكلمات آدم ووجدت نفسها تهتف بسرعة في توتر ملحوظ :
_ طيب حاول كلمه تاني يا آدم .. ولو رد عليك قوله أي حاجة خليه ييجي مثلًا قوله هنا تعبت .. على الأقل يهدى شوية عشان ميتصرفش بتهور
_ مش بيرد يا جلنار ماهو ده اللي مجنني
_ طيب والحل ايه دلوقتي ؟
_ مش عارف مش عارف
أخذت تفرك يديها في قلق ظاهر على ملامحها .. لا تتمكن من إخفاء خوفها من أن يقوده غضبه لأفعال جنونية ويقتلها فيتسبب في دخول نفسه للسجن .

***
كان يقف أمام روضة الأطفال يستند بجسده على سيارته .. عاقدًا ذراعيه أمام صدره وعيناه معلقة على الباب ينتظر خروج صغيرته .. يصدر زفيرًا بين كل آن والآخر في محاولات بائسة منه للتنفيس عن صدره المختنق .
خرجت هنا من البوابة وهي تحمل فوق ظهرها حقيبتها الطفولية الصغيرة وتركض باتجاه أبيها في وجه مشرق ، قابلها هو بابتسامته الدافئة والعاشقة رغم ما يمر به من خراب داخلي إلا أن رؤيته لملاكه الصغير كافية لرسم البسمة تلقائيًا على وجهه .. انحنى بجزعة للأمام يفرد ذراعيه ليستقبلها بمجرد وصولها إليه حاملًا إياها فوق ذراعيه ولاثمًا وجنتيها بحب متمتمًا :
_ وحشتيني ياروحي
عبست هنا وزمت شفتيها للأمام في حزن متمتمة وهي تشيح بوجهها عنه في تمرد :
_ لا أنا زعيانة ( زعلانة ) منك
_ زعلانة مني !!
هنا بعتاب وغضب طفولي :
_ أيوة أنت مجتش امبارح وكمان أول امبارح
ظهر الضيق على محياه فرد عليها معتذرًا بأسف :
_ أنا آسف ياحبيبتي كان معايا شغل .. وعد مش هتتكرر تاني ياملاكي
صعدت البسمة الساحرة لثغرها الجميل وهي توميء له بالموافقة فابتسم لها بحنان .. حرص على أن يأتي بنفسه ويأخذها من روضتها حتى يكون مطمئن فهو لا يأمن خطوة نادر القادمة ستكون أين .. وأيضًا كان يعلم أن رؤيته لها ستهدأ من نيران صدره قليلًا وربما ستنسيه الأمر مؤقتًا .
استدار بها من الجهة الأخرى للسيارة وفتح باب المقعد المجاور له ثم اجلسها به واغلق الباب واتجه نحو مقعده المخصص للقيادة ليستقل به بجوارها وينطلق بالسيارة .. خرج صوتها الطفولي وهي تسأل بحماس :
_ هنروح البيت يابابي
_ أيوة يا حبيبتي هنروح البيت
ارتفع صوت رنين هاتفه وأخيرًا قرر أن يجيب عليه فأمسك به وضغط على زر الإجابة ثم فتح مكبر الصوت وهتف :
_ الو
اندفع آدم به صائحًا بغضب :
_ مش بترد عليا من امبارح ليه يا عدنان .. أنا لما غلبت روحت البيت عند جلنار قولت يمكن الاقيك هناك .. ولسا يدوب خارج من هناك
عدنان بهدوء مريب وصوت أجش :
_ استناني في الشركة يا آدم وأنا هخلص كام حاجة ضروري وبعدين وهروح وراك .. نبقى نتكلم هناك
_ إنت فين دلوقتي وعرفت مكانهم ولا لسا ؟!
عدنان بإيجاز ولهجة حازمة :
_ أنا بسوق يا آدم .. نتقابل في الشركة قولت

كان آدم على وشك أن يجيب عليه لكنه سمع صوت صافرة إنهاء الاتصال .. فانزل الهاتف من فوق أذنه وهو يتأفف بخنق وعدم حيلة ، ثم غير وجهة سيارته ليسير في طريق الشركة .

***
_ سبتي الشغل ليه وإزاي ؟!!
زمت مهرة شفتيها بأسى وتمتمت بمعالم وجه عاجزة :
_ مش أنا اللي سبته يا سهيلة .. عم سمير عرف بالكلام الداير في المنطقة واداني بقية مرتبي وقالي شوية كلام كدا يعني بمعنى اصح إنه مش حابب يشغلني عنده في المكتبة بعد اللي سمعه عني

استشاطت سهيلة وهتفت بغيظ :
_ أما راجل قليل الأصل بصحيح .. طيب وإنتي هتعملي إيه دلوقتي ؟
رفعت مهرة كتفيها لأعلى بعدم حيلة وهدرت بعبث :
_ مش عارفة أنا شوفت أعلان لشركة محتاجين موظفين في قسم الحسابات فقدمت فيها وبكرا هروح اعمل الإنترڤيو وأشوف هتقبل بقى ولا إيه
تنهدت سهيلة بأسى وحزن على صديقتها ثم تمتمت باهتمام :
_ طيب إنتي قولتي لخالتي فوزية على اللي حصل ولا لسا

هزت رأسها بالنفي هاتفة في يأس :
_ لا ما إنتي عارفة ياسهيلة تيتا تعبانة وأنا خايفة اقولها حاجة تتعب اكتر مستنية بس تسترد صحتها كويس وهقولها على كل حاجة
اقتربت منها سهيلة وضمتها لصدرها معانقة إياها في حرارة ودفء متمتمة بتأثر :
_ متزعليش نفسك يا حبيبتي .. إن شاء الله اللي جاي كله خير .. وأنا واثقة إنك هتتقبلي في الشغل الجديد ده خصوصًا إنهم عايزين موظفين في تخصصك
أخذت مهرة نفسًا عميقًا وردت بضيق ملحوظ في نبرتها :
_ آمين يا سهيلة .. آمين

***
وثبت واقفة بلهفة فور سماعها لصوت الباب وهو ينفتح .. فأسرعت مهرولة نحو الباب حتى تراه فوجدته يدخل ومعه صغيرتهم التي هرولت نحو أمها وتعلقت بقدمها هاتفا في سعادة :
_ بابي جه اخدني من الحضانة يا ماما
رسمت ابتسامة باهتة على ثغرها بعين تنظر بها لصغيرتها والأخرى عالقة على عدنان الذي نزع حذائه عنه واتجه للداخل بصمت نحو غرفتهم .
التفتت برأسها للخلف تتابعه في قلق ، ثم عادت برأسها تجاه ابنتها وهتفت بحنان أمومي ولطف :
_ طيب روحي يلا ياحبيبتي غيري هدومك عشان ناكل كلنا مع بعض
وثبت الصغيرة وهي تصيح فرحًا ثم ركضت مسرعة تجاه غرفتها حتى تبدل ملابسها كما اعتادت كل يوم بعد عودتها من دوامها .. بينما جلنار فتنهدت بقوة وسارت متجهة خلفه .. دخلت الغرفة وبحثت عنه فلم تجد له أثر لكنها سمعت صوت الماء في الحمام .. فتقدمت إلى الفراش وجلست فوقه تنتظر خروجه .. وبعد دقائق قصيرة خرج وهو يرتدي فقط بنطال وعاريًا الصدر .. حدقها بنظرة قوية للحظة ثم هتف وهو يسير نحو الخزانة :
_ هنا مش هتروح الحضانة اليومين الجايين
ضيقت عيناها بعدم فهم وسألت :
_ ليه ؟!
تجاهل سؤالها واكمل بنفس لهجته السابقة :
_ وإنتي كمان مفيش خروج من البيت غير معايا من هنا ورايح
_ مش فاهمة ليه برضوا !!

عدنان بعصبية خفيفة وحدة :
_ من غير ليه ياجلنار .. نفذي اللي بقوله وخلاص من غير نقاش

تأففت بصوت مسموع وتوقفت لتسير نحوه في خطوات هادئة وتقف بجواره متمتمة بلطف :
_ إنت كويس ؟
رقمها بنظرة مطولة يمعن النظر بها يقرأ نظراتها الموجهة إليه ، فأدرك الهدف وراء سؤالها .. اشاح بوجهه وأخرج ملابسه بجيبها بنبرة قوية :
_ إنتي شايفة إيه !
جلنار بخفوت :
_ مش عارفة .. بس حبيت اقولك فكر في هنا قبل أي تصرف تعمله

لم يجيب ولم ينظر لها فقط سار مبتعدًا عنها وهو يشرع في ارتداء ملابسه .. ترى في عيناه قسوة وجبروت مريبين جعلوها هي من تخشاه لوهلة .. يبدو أن الطوفان قضي على الكثير وسوف يحتاج لوقت طويل حتى يعيد ترميم ذلك الخراب .
غمغمت تسأله بترقب لرده رغم توقعها الرد إلا أنها سألت :
_ الغدا جاهز .. هتاكل معانا ؟
_ لا
حرفين فقط لكنه نطقهم بصوت غليظ ومثير للرهبة فتنهدت هي الصعداء بيأس ثم استدارت وغادرت الغرفة بأكملها .

***
كان يقف أمام النافذة الكبيرة يتحدث في الهاتف ومن خلال حديثه فهمت أنه يتحدث عن العمل .. فاقتربت منه ووقفت خلفه منتظرة أن ينتهي من حديثه ، وبعد دقيقة تقريبًا انتهى ثم التفت برأسه للخلف وابتسم لها بعذوبة وهو يمد يده ويتلقط فنجان القهوة من يدها هاتفًا :
_ ربنا يخليكي ليا يافطوم
رتبت على كتفه بحنو مردفة :
_ ويخليك ليا ياغالي .. في مشكلة في الشغل ولا إيه
هز رأسه بالنفي وهو يرفع الفنجان لفمه ويرتشف منه ببطء ثم يجيب عليها بعد أن انزله :
_ لا مفيش مشكلة ولا حاجة الحمدلله
ابتسمت فاطمة براحة ثم همست بخبث وهي تنكزه في ذراعه بخفة :
_ مش ناوي تفرحني بيك بقى ياحاتم ؟!
حاتم بمداعبة وهي يبتسم ببساطة :
_ الاقيها بس وأنا مش هسيبها متخافيش
غمزت له بلؤم أشد وهمست بنظرات ذات معنى :
_ طيب ما هي موجودة !
_ موجودة فين ؟!!!
كان سؤال مستغربًا يحمل بعض الاستنكار فضحكت هي واجابته بتحمس :
_ نادين .. دي البنت قمر ما شاء الله أنا متوقعتش إنها تطلع كدا .. جمال وأدب ورقة يعني تبقى غبي لو ضيعتها من إيدك

رفع حاجبه متطلعًا لخالته بدهشة من كلماتها وارتفعت الابتسامة لشفتيه تدريجيًا ثم تحولت لضحكة وهو يجيبها بعدم استيعاب :
_ احنا لسا يدوب لينا يومين يا فطوم .. لحقتوا تبقوا حبايب بالشكل دي وكمان عايزة تجوزهالي !

فاطمة بغيظ وهي تلكمه في ذراعه بلطافة :
_ هو مش إنت اللي كنت قارفني كل ما اكلمك في التلفون نادين .. نادين .. نادين
حاتم ضاحكًا بقوة :
_ أيوة عشان أنا معيش حد في امريكا غيرها ياخالتي وإنتي عارفة .. وهي أقرب حد ليا !
_ طيب وفيها إيه بقى لما تبقى اقرب وتتجوزها

قطع حديثهم صوت نادين الرقيق وهي تنزل الدرج وتهتف بمرح :
_ لا الحرارة بمصر هون كتير عالية أنا ماني قدرانة اخد نفسي .. الله يعينكن عن جد
قهقهت فاطمة بقوة واكتفى حاتم بابتسامته الواسعة التي من بينها همس بصوت منخفض لخالته :
_ قفلي على السيرة دي دلوقتي بقى هااا
لم تبالي له فاطمة وعمدًا حتى تثير غيظه هتفت محدثة نادين بخبث دفين :
_ تعالي بس يانادين شاركينا الحديث عشان أنا تعبت من حاتم

رقمها بنظرة مشتعلة ومغتاظة فكتمت ضحكتها وتابعت نادين وهي تقترب منهم وتهتف بنظرات مستفهمة تنقلها بين حاتم وبين فاطمة :
_ شو سوى ؟!
هدرت فاطمة بنصف عين تنظر بها لحاتم في مكر :
_ بحاول اقنعه إنه يتجوز ومفيش فايدة فيه .. تعبت معاه وأنا نفسي افرح بيه
تلاشت ابتسامة نادين فورًا وتشنجت ملامح وجهها وهي تتطلع بحاتم وتهتف بتعجب :
_ يتجوز !!
_ أيوة ده هو داخل على 31 سنة كفاية أوي كدا .. لازم يتجوز ويكون ليه بيت وأسرة ولا إنتي إيه رأيك ؟!
ظهرت الغيرة على وجهها وهي تجيب برفض وحدة امتزجت بغضب مكتوم :
_ لا أنا برأى مش لازم إلا إذا كان هو بدو يتجوز
حك حاتم مؤخرة رأسه وهو يبتسم ببعض اللؤم ثم هتف مغيرًا مجرى الحديث :
_ طيب ياخالتو خلاص مش وقته الكلام ده دلوقتي .. وانتي يا نادين اجهزي عشان في اجتماع شوية بليل تبع الشغل ولازم تكوني معايا
تطلعت إليه بغيظ ونظرة مشتعلة ثم هتفت بالموافقة :
_ أي تمام راح أجهز
نظراتها وطريقتها وهي ترد عليه جعلته لم يتمكن من منع ضحكته التي انطلقت بتلقائية وهو يلوح بيده في عدم حيلة ثم يسير مبتعدًا عنهم متجهًا إلى غرفتها .

***
فتح آدم باب الغرفة دون أن يطرق ودخل فوجد عدنان يجلس على الأريكة فاردًا ذراعه على أعلى الأريكة ويضع ساقًا فوق الأخرى وبيده سيجارة يدخلها في فمه ثم يخرجها وينفث الدخان في شراسة .
فهم آدم بتلك اللحظة أن هدوئه الظاهري ما هو إلا قناع كاذب يرتديه أمامهم ومن الداخل هناك أعصار مدمرة لو خرجت لقضت على كل شيء .. هو لا يشرب السجائر إلا في حالات غضبه العاتية .. وكأنه يفرغ غيظه بها .
تحرك آدم وجلس بجواره فوق الأريكة يرمقه بنظرات ثاقبة ، ولكن عدنان كان ينظر في الفراغ أمامه دون أن ينظر لأخيه وهدر بعد ثواني معدودة :
_ عرفت من إمتى ؟
آدم بخشونة :
_ لما عملت الحادث عرفت
_ إزاي ؟
يسأل بسكون تام ولم يكن ذلك الهدوء مطمئن لآدم مطلقًا لكنه أصدر زفيرًا حارًا بعد دقيقة كاملة من الصمت وهو يجيب عليه يخبره بالحقيقة :
_ عرفت من جلنار
كان ينفث الدخان من فمه وبعدما صكت تلك الجملة أذنه صابه الذهول فكتم بقية الدخان في فمه دون أن ينفثه ورمق أخيه بنظرة حمراء هاتفًا :
_ جلنار كانت تعرف !
_ أيوة راقبت فريدة يوم افتتاح المعرض وشافتها وهي رايحة لنادر وعرفت بعدها وأنا لما ضغطت عليها قالتلي

يبدو أن الوحش استيقظ من جديد حيث ألقي بالسيجارة في الأرض واطفأها بقدمه يدهسها بعنف هامسًا بهدوء ما قبل العاصفة :
_ وأنا آخر من يعلم .. ولا خلينا نقول المغفل اللي الكل عرف خيانة مراته وهو مش حاسس بيها
أشفق على أخيه وهو يشعر بمدى المه الذي يمزقه من الداخل ويتظاهر بالقوة والثبات ، فأجاب عليه بأسى :
_ مش ذنبك إنك حبيتها ياعدنان وكنت بتثق فيها ومتوقعتش منها الطعن في الظهر ولا إنها قذرة وو*** بالشكل ده
_ مقولتليش ليه ؟!
سؤال آخر يطرحه وبهمس منخفض أكثر .. أخذ إجابة سؤاله بالصمت من أخيه مما جعله يهب واقفًا وهو يصرخ معلنًا هبوب الرياح المدمرة :
_ مقولتش ليه !!!
صاح آدم مثله مغلوبًا على أمره :
_ كنت عايزاني اقولك مثلا مراتك بتخونك مع ال**** اللي بتعتبره صديق ومأمنه على شغلك وشركتك .. كنت عايزاني اقولك كدا في وشك !! ، حط نفسك مكاني وقولي كنت هتقدر تقولي ولا لا ياعدنان

لحظات قاتلة من السكون المرعب مرت فأعتقد آدم أنه الانفجار الحقيقي سيأتي الآن لكنه على العكس تمامًا رآه يبتسم بشكل مريب ويهدر بخفوت في ملامح وجه لأول مرة يراها على وجهه :
_ وجلنار اللي قالتلك !!!
ادرك جيدًا شعوره الآن بعد جملته تلك فاستقام آدم واقفًا وتابعه وهو يتجه نحو النافذة يقف ينظر منها واضعًا كفيه في جيبي بنطاله ، تقدم إليه وهتف بصوت رزين :
_ الأهم دلوقتي هو إنك عرفت حقيقتها قبل ما يفوت الآوان
ابتسم بسخرية وهو يهمس :
_ كل ده ولسا مفتش
آدم بجدية :
_ لا مفتش يا عدنان .. إنت كان عندك استعداد تطلق جلنار بسببها وكنتوا هتطلقوا بالفعل بس الحمدلله محصلش .. ودلوقتي اهي جات الفرصة انك تحافظ عليها هي وبنتك ومتخسرهمش
تطلع لأخيه وهو يبتسم بدفء .. ثم رتب على كتفه وهمس باسمًا :
_ كبرت وبتديني نصايح كمان يا آدم !
بادله الابتسامة وهو يجيب عليه بصوت رخيم :
_ لا دي مش نصايح يا Boss أنا بقولك الحقيقة اللي إنت مكنتش شايفها
اكتفى بابتسامته الباهتة فاستكمل الآخر باهتمام :
_ مش هسألك عرفت مكانهم ولا لا عشان أكيد لقيتهم .. بس قولي عملت فيهم إيه ؟!
_ نادر هرب بس هجيبه هيروح مني فين يعني
_ وفريدة ؟!
عدنان بنظرات نارية :
_ لا دي عقابها مختلف معايا
تنهد آدم الصعداء براحة بعد أن فهم أنه لا ينوي أن يأذيها وهمس :
_ كويس إنك معملتش فيها حاجة
عدنان بنظرات تنبع بالشر والغل :
_ بس قصاد كدا هخليها تدوق العذاب أشكال والوان

***
في تمام الساعة الثانية بعد منتصف الليل ......
فتح باب المنزل ودخل .. ولم يكن المنزل هادئًا كالعادة كما اعتاد أن يجده بكل ليلة .. بل الأصوات المنبعثة من المطبخ أثبتت له أنها مازالت مستيقظة .. نزع حذائه بجانب الباب وتحرك في اتجاه المطبخ بخطوات متريثة بينما صوت خطواتها وتحركها فكان يصل لأذنه ويشعر به كأنه يراها أمام عيناه .
وصل أخيرًا ووقف عن الباب يتطلع لها بصمت وهو يراها تمسك بسكين وتقوم بتقطيع الخيار وترتدي إحدى قمصان النوم خاصتها القصيرة ، لم يمر الكثير من الوقت وهو يتأملها حتى هتف بصوت رخيم :
_ بتعملي إيه ؟
انتفضت في وقفتها بفزع وسرعان ما التفتت بجسدها كاملًا له تقول بصوت مزعور :
_ إنت إمتى جيت ؟!!
انتظرت أن يجيب عليها لكنه كان ينظر بجمود وبعيناه الثاقبة فتنهدت والتفتت بجسدها مرة أخرى توليه ظهرها وتهمس :
_ جعت وبعمل أكل ليا تحب اعملك معايا ؟

لم تسمع رد منه أيضًا سوى الصمت .. لحظات معدودة وشعرت به يتقدم نحوها في خطوات مدروسة .. يقترب ويقترب ، لا تنكر إن اقترابه المتريث هذا اربكها وخصوصًا عندما وجدته يقف بجوارها تمامًا شبه ملاصقًا لها ويجذب من يدها السكين هاتفًا بخفوت يحمل بحة صوته الرجولية المريبة :
_ خبيتي عني ليه ؟

رفعت رأسها لها وتطلعت في عيناه القوية .. ياله من جبار رغم خراب نفسه بعد كشفه لخيانة " فريدة " له إلا أنه يتفنن في إظهار القوة والشموخ أمامهم وكأن ما حدث لم يحدث .. طالت النظر في وجهه بثبات ثم مدت يدها وسحبت السكين من يده وعادت تكمل تقطيع الخيار هامسة :
_ مكنتش هتصدقني !
جذب السكين مرة أخرى من يدها لكن هذه المرة كانت بعنف وهو يجيب عليها بصوت غليظ :
_ ومجربتيش ليه ؟
رغبت في أن تجذب السكين من يده وهي ترمقه بحدة وتجيب عليه بغيظ لكنه رجع بيده خلف ظهره يمنعها من أخذ السكين :
_ عشان مكنش عندي استعداد استحمل كلامك الفارغ لو مصدقتنيش .. كانت هتحصل مشكلة كالعادة وأنا مليش مزاج اخش في جدال معاك وكنت ممكن تتهمني وتقولي إني غيرانة منها عشان كدا بقول إنها بتخونك

عدنان بنظرات مستاءة وصوت بدأ يصبح خشنًا :
_ فتروحي تقولي لآدم ومتقوليش ليا
_ أنا مقولتش لآدم هو اللي صمم إني اقوله لأنه كان شاكك في تصرفات فريدة زيك وزي وزينا كلنا ، ولما حس إني عارفة حاجة أصر إني اقوله
أخذ نفسًا عميقًا محاولًا السيطرة على انفعالاته واجابها بشبه ابتسامة ساخرة ظهرت على شفتيه :
_ طبعًا إنتي شمتانة فيا دلوقتي !

هزت رأسها بالنفي بعد لحظات عابرة من الصمت وهدرت :
_ تؤتؤ مش شمتانة .. بالعكس أنا عارفة كويس أوي احساس إنك تتطعن في ضهرك .. احساس إنك تدي الخير ومتاخدش غير الشر .. تمنح الحب وتحصل على الكره .. وإنت دلوقتي حاسس بكدا .. زي .. أنا في اللحظة دي بس اقدر اقولك بقينا متعادلين ياعدنان

رمقها بنظرة مطولة وآخر كلماتها تردد في أذنه ( بقينا متعادلين ) .. ألقت الغاز بتلك الكلمات وكان يتوجب عليه هو إيجاد الحل .. هي من أعطته الخير ولم تأخذ سوى الشر .. منحته الحب وحصلت على الكره .. وحين لجأت لأبيها طعنها بظهرها وسلمها له ، عقدوا اتفاقيات دنيئة بينهم حتى يحصل هو عليها ويحصل أبيها على أمواله ومكانته .. هم الآن في خط التعادل فعليًا ولكن الحقيقة أنها هي الرابحة ! .

انتهت من تقطيع الخيار وكذلك طعامها كله فحملت الصحون فوق يديها وخرجت بهم تاركة إياه يقف متسمرًا كالصنم .. خرج خلفها بعد لحظات لكنه ذهب لغرفته ليأخذ حمامًا دافيء .. وبعد دقائق طويلة خرج وهو يلف نصفه السفلي بالمنشفة الكبيرة وبيده المنشفة الصغيرة يجفف بها شعره .. وجدها تقف أمام المرآة تقوم بتسريح شعرها بعد أن انتهت من تناول طعامها ، تأملها لثواني ثم القى بالمنشفة التي بيده على الفراش واقترب منها .. تركت هي الفرشاة وهمت بأن تستدير وتتجه للفراش حتى تخلد للنوم .. لكن تجمد جسدها بأرضه حين شعرت بذراعه يلفه حول خصرها من الخلف وحرارة جسده بعد حمامه الدافيء انتقلت منه إليها .. انحنى عليها من الخلف وطبع قبلة ناعمة فوق شعرها بجانب أذنها هامسًا لأول مرة :
_ أنا آسف


رواية كيان الفهد كاملة جميع الفصول ( الفصل 25 )


لأول مرة تسمع تلك الجملة منه .. هل حقًا يعتذر منها !! .. والآن !!! .. رغم أنه اعتذار ليس بوقته تمامًا وأنه كان عليه أن يفعله منذ وقت طويل إلا أنها تطلعت في عيناه فرأت الحزن والأسف الصادق ، نبرته العذبة لا تزال تتردد في أذنها .. طالت النظرات بينهم حتى قطعت هي اللحظة وهمست بهدوء :
_ آسف على إيه ؟
كان ذراعه لا يزال حول خصرها وبيده الأخرى أمسك بكف يدها يحتضنه بين كفه الضخم هامسًا في ندم :
_ على كل حاجة .. انتي عندك حق أنا فعلًا أناني ودلوقتي بدفع تمن انانيتي دي
لمسة يده اذابت الكثير وأثرتها بسهولة لا تصدق أن من يقف أمامه هو " عدنان " صاحب القلب المتحجر .. هل يعترف لها بخطأه حقًا ! .. يبدو أن حقًا الخراب الذي خلفته تلك المشؤومة لم يكن هينًا .. لمعت عيناها بالعبارات وردت عليه في ابتسامة تحمل القليل من السخرية مع الكثير من الألم :
_ يااااه .. دلوقتي بتقول الكلام ده .. اتأخرت أوي
عدنان بصوت خافت وجميل :
_ عارف إني اتأخرت بس حبيت أوضح ليكي ندمي حتى لو بمجرد كلمة .. كنت زي الأعمي ودلوقتي فتحت عيني وبدأت اشوف حجات كتير مكنتش شايفها

رغم سعادتها بكلماتها لكنها لن تخنث وعدها مع ذاتها .. ستستمر في تنفيذ العهد حتى يحين الوقت المناسب ، تفهم جيدًا ألمه وندمه أنه فضل الأخرى عنها .. لكن ماذا إن كانت هذه مجرد مشاعر زائفة خرجت منه بلحظات عجزه وحزنه عندما شعر بحاجته لها .. هل سيتراجع ويتخلى بعد أن يستعيد رباطة جأشه أم سيستمر أثر الكلمات في الوجود والتجديد .. لا تعرف ويأسفها الاعتراف أنها تخشي الوثوق به ! .
استجمعت رباطة جأشها وابتسمت بلطف في وجه لا يحمل ضغينة أو غضب ، فقط ملامح هادئة وصوت ناعم خرج منها مع ثبات استمدته من أعماقها بصعوبة :
_ فاهمة ياعدنان .. بس أنا من وجهة نظري ياريت نأجل الكلام في الموضوع ده بعدين .. إنت دلوقتي مرهق وتعبان وأنا كمان عايزة أنام

ليس أحمق حتى لا يقرأ في عيناها نظرات الحزن وعدم الثقة .. لا تثق بكلامه وربما لا تصدقه حتى ولن يلومها فلديها الحق .. وكيف تأتي الثقة بين علاقة مبنية على اتفاقيات ورقية منذ البداية ! .

لم يضغط عليها ولم يتفوه بحرف آخر فقط ابتسم بدفء وانحنى عليها قليلًا يطبع قبلة رقيقة على جانب جبهتها هامسًا :
_ تصبحي على خير
بادلته الابتسامة لكن بأخرى باهتة وابتعدت من أمامه بعد ثلاث ثواني بالضبط واتجهت إلى فراشها تسطحت عليه وتدثرت بالغطاء وهي توليه ظهرها وتحدق بالفراغ أمامها في سكون تام .. تشعر بحركاته وهو يرتدي ملابسه دون أن تراه وبعد دقيقتين بالضبط سمعت خطوات قدمه تتجه نحو الباب وباللحظة التالية كان يفتح الباب وينصرف بعد أن اغلقه خلفه .. هبت فورًا جالسة وهي تعلق نظرها على الباب بتفكير تتساءل بين نفسها ( هل غادر المنزل أم خرج ليجلس بالخارج أو بالحديقة ! ) .. أزاحت الغطاء عنها ووقفت على قدميها ثم تقدمت بخطواتها نحو الباب تسير بتريث حتى لا تحدث أي ضجة .. وصلت عند الباب وامسكت بالمقبض وانحنت بجزعة للأمام وهي تديره ببطء شديد وكانت على وشك أن تجذب الباب إليها لكن دفعه هو من الخارج ودخل .. شهقت بفزع وتراجعت للخلف وهي ترمقه باضطراب بسيط .. فضيق عيناه متطلعًا لها باستغراب وقبل أن يسأل ما بها هتفت هي مسرعة بتوتر ملحوظ :
_ كنت رايحة اشرب
نزلت بنظرها إلى جسده فوجدته يرتدي بنطاله الأسود وفوقه قميصه المماثل للون البنطال وفوق قميصه جاكت جلدي لونه بني .. فسألت بعفوية :
_ إنت هتمشي تاني ؟!
اماء برأسه في إيجاب ثم اندفع نحو طاولة التسريحة يتلقط من فوقها مفاتيح سيارته ويعود في طريقه نحو الباب وهو يحدثها بنبرة رخيمة :
_ الصبح بدري قبل ما تصحي هنا هاجي .. عايزة حاجة ؟

هزت رأسها بالنفي ورغبت بأن تسأله إلى أين سيذهب لكنها كتمت سؤالها في نفسها وتابعته بصمت وهو يغادر ، وفور سماعها لصوت غلق باب المنزل استدارت واتجهت لشرفة غرفتها تنظر منها فتراه وهو يستقل بسيارته وينطلق بها .. وسؤال واحد يتردد في ذهنها تطرحه بفضول ( هل يذهب لها ؟! ) .

***
أوقف حاتم السيارة على جانب الطريق .. ثم نظر لها وابتسم متمتمًا بنبرة عادية :
_ كلي وأنا هنزل أقف شوية برا
اماءت له بالموافقة وفور نزوله التقطت الكيس الممتليء بالطعام وأنواع مختلفة من الحلوى قام بشرائها لها عندما أخبرته أنها جائعة بعد انتهاء اجتماع العمل وعودتهم في طريق المنزل .
فتحت الكيس وأول شيء وقع نظرها عليه كان الآيس كريم .. لمعت عيناها بنظرات مشتهية وجذبته فورًا تفتحه وتبدأ بأكله في استمتاع وتلذذ .. وبسبب تركيزها المنصب كله على الآيس الذي بيدها لم تلاحظ نظراته لها من الخارج وهو يلتفت برأسه للخلف يتطلع إليها بتعجب وهي تلتهم الآيس كالأطفال ، اتسعت ابتسامته حتى ملأت وجهه يمعن النظر بها مستغلًا فرصة عدم ملاحظتها له ، بعد لحظات قصيرة قرر العودة للسيارة فتحرك باتجاه باب مقعده وفتحه ثم دخل واغلقه وهو يتطلع لها باسمًا ويهتف بمشاكسة :
_ بالهنا والشفا واضح إنك جعانة أوي فعلًا
أماءت له بالإيجاب وهي تهتف بعفوية :
_ مش أوي .. بس الآيس طعمه كتييير طيب
حاتم ضاحكًا :
_ أه ما أنا لاحظت إنه عجبك
تطلعت فيه بتلقائية وهدرت بحيرة :
_ أنا ما راح أكل كل هاد وحدي طبعًا .. ليش ما بتاكل معي ؟!
_ لا مش جعان كلي إنتي والباقي خليه اتسلي عليه براحتك
زمت شفتيها بيأس ثم رفعت الأيس لفمها تأكله برقة .. هم هو بأن يحرك محرك السيارة وينطلق لكنه ألقى نظرة أخيرة عليها فانتبه لجانب ثغرها الذي تلطخ بقطعة صغيرة من الآيس فابتسم وهو يرمقها مطولًا ثم مد يده يجذب منديل من عبوة المناديل الصغيرة الموضوعة في الدرج الصغير للسيارة ويمده لها .. فتطلعت هي ليده الممدودة بمنديل ورقي في حيرة ليضحك ويغمز لها بخبث متعمد منه وهو يشير بيده الأخرى على جانب ثغره .. رفعت أناملها بتلقائية لجانب فمها تتحسسه وفورًا فهمت ما يقصده فجذبت المنديل من يده بقوة ومسحت فمها بإحراج متمتمة في غيظ :
_ غليظ !
_ بتقولي حاجة ؟!
_ لا ولا شيء
ضحك بخفة ثم نظر أمامه وحرك محرك السيارة انطلق بها يشق الطرقات .. فهتف محدثًا إياها في لؤم بعد دقيقتين من الصمت :
_ صحيح هو إنتي اتضايقتي ليه الصبح لما خالتي قالتلك إني عايز اتجوز
رمقته بشراسة وهتفت :
_ ما قالت إنك بدك تتجوز .. ولا شو إنت غيرت رأيك من الصبح لهلأ !
رفع حاجبه بدهشة بسيطة من انفعالها السريع وهدر ضاحكًا :
_ طيب براحة اهدي في إيه هتاكليني !
اعتدلت في جلستها وردت بهدوء وثبات انفعالي متصنع :
_ أنا هادية
حاتم باستنكار وهو يضحك بقوة :
_ هو كدا هادية .. امال لو متعصبة هتعملي فيا إيه !
نادين بغيظ مكتوم :
_ لك إنت ليش بتسألني وأنا لشو اتضايق يعني !! ، سوي ياللي بدك ياه بتتجوز بتهاجر بتحب شو دخلني فيك أنا

الغيرة المتأججة في صدرها لم تتمكن من أخفائها وهو فهم جيدًا أنها تشعر بالغيرة فقرر سكب القليل من البنزين حتى تزداد النيران اشتعالًا .. هتف بمكر وهو يغمز :
_ يعني إنتي معندكيش مانع اتجوز !!

أوشكت على الانفجار من فرط الغيظ والغيرة .. فجاهدت في تمالك أعصابها قبل أن تجيب لكنها فشلت لتهفت منفعلة :
_ لك اتجوز شو بيخصني أنا ! .. إنت عنجد انسان غريب والله
سمعته يقهقه بقوة يطلق ضحكته الرجولية المرتفعة والساحرة ويرد عليها من بين ضحكته :
_ أنا برضوا اللي غريب ! .. طيب اجهزي بقى عشان قريب كدا تحضري فرحي
رمقته بقرف وهي تشتعل من الغيرة واردفت بصوت ساخط وساخر بنفس اللحظة :
_ والله .. وشو كل هاي الثقة كأن البنت ياللي راح تتجوزها منتظراك قدام باب البيت .. حاتم أنا ما بدي اجرح مشاعرك بس إنت عم تتوهم أساسًا ما في بنت راح تتطلعك

ضحك بقوة وأجابها بنظرة جانبية خبيثة :
_ متأكدة ؟!!
أماءت برأسها في ثقة ونظرات تحدي فأكمل وهو يبتسم بلؤم :
_ أصل في واحدة قبل كدا قالتلي إنت أي بنت تتمناك .. تعرفيها ؟!

جزت على أسنانها بغيظ وقالت بابتسامة سمجة :
_ كانت عم تكذب عليك .. برأي ما تصدق هاي الكلام مرة تاني ولا تفكر بالجواز لأن وقتها راح تزعل عن جد لما تلاقي كل البنات عم ترفضك
رفع حاجبه بلؤم دفين ولا تزال الابتسامة تزين ثغره فأوقف السيارة جانبًا وانحنى عليها يهمس بنظرة اربكتها :
_ نادين
ذابت في نظرته ورمقته بهيام دون أن تجيب فوجدته يكمل همسه بصوت رقيق مع ابتسامة رائعة ونظرة بمثابة تعويذة سحرية :
_ تتجوزيني ؟
لجمت الدهشة لسانها .. ورمشت بعيناها عدة مرات في صدمة .. حتمًا أنه يمزح لا يمكن أن يكون جادًا ! .. تابع هو تغيرات وجهها ووجنتيها الحمراء وصدمتها وهي لا تفهم شيء فابتسم وهتف ضاحكًا بمداعبة :
_ إيه مرفضتنيش ليه ؟!!
يمزح كما توقعت .. لكن هل يتلاعب بمشاعرها حتى لو لا يعرف شيء عن حقيقة ما تضمره له في قلبها .. لم تتمكن من ضبط انفعالاتها فانفعلت وهي تهتف بعصبية :
_ حاتم إنت عم تستخف دمك .. هاد الشيء مافيه مزح

غضن حاجبيه بدهشة من عصبيتها الحقيقية .. لم يكن يقصد أن يغضبها حقًا فقط كان يشاكسها بالكلام كما اعتادوا معًا .. اعتدل في جلسته وهو يجيب عليها باعتذار :
_ أنا آسف مقصدش اضايقك والله .. متوقعتش إنك هتتعصبي كدا !
نادين بحزم وهي تشيح بوجهها عنه :
_ بليز اتحرك بالعربية وخلينا نرجع البيت .. أنا تعبت وبدي أنام

كان سيجيب عليها لكن الغضب الذي يعتلي ملامحها كان حقيقيًا وجديًا فلم يرغب في زيادة سوء الوضع حيث تنهد بخنق وعاد ينطلق بالسيارة من جديد وهو يلقي عليها نظرة من آن إلى آن يرمقها بنظرات ندم وأسف .. يبدو أنه كان سخيف حقًا لكنه يقسم لها أنه لم يقصد !! .

***
فتح باب المنزل ودخل ثم اغلقه خلفه .. كان شخصًا بالخارج وبمجرد أن خطت قدمه ذلك المنزل أصبح شخصًا آخر .. احتدمت نظراته وتشنجت عضلات وجهه بغضب عارم .. لكنه رغم ذلك نجح في البقاء هادئًا .. يقسم أنه لو أطلق الوحش الجامح والجائع المتعطش للدماء الذي بداخله ستلفظ أنفاسها الأخيرة على يديه ..
تحرك باتجاه الغرفة الذي زج بها بداخلها في صباح اليوم واغلق عليها وتركها .. مد يده في جيب بنطاله وأخرج المفتاح ثم وضعه في القفل يديره لجهة اليسار ليفتحه ويدخل فيجدها جالسة على الأرض منكمشة بخوف وهي تحتضن ساقيها إلى صدرها وتهز قدمها بشكل لا إرادي نابع عن توترها وخوفها .. لم يستغرب هيئتها فيبدو أن هذا كان تأثير الغرفة الضيقة والمغلقة التي حبسها بها .. ابتسم بعدم شفقة واغلق الباب بالمفتاح من الداخل ثم أخرجه وأدخله في جيب بنطاله مجددًا وتحرك باتجاهها في خطوات مريبة ثم جثى على ركبتيه يجلس القرفصاء أمامها ويغمغم بسخرية في قسوة :
_ لا اجمدي كدا ده هما كلهم كام ساعة بس اللي سبتك فيهم في السجن ده .. لسا هتقعدي كتير هنا لغاية ما تحسي إن روحك هتطلع
رفعت نظرها وتطلعت له بعينان دامعة تتوسله بصوتها المبحوح :
_ متعملش فيا كدا ياعدنان ابوس إيدك .. طلعني من الأوضة دي .. إنت عارف إني بخاف من الأماكن المغلقة
تجاهل توسلاتها وابتسم بعد رحمة وهو يسألها ببرود تام :
_ احساس صعب أوي مش كدا ؟!
هزت رأسها بإيجاب وعيناها تنهمر منها الدموع بصمت ، فتتلاشى الإبتسامة من على شفتيه تدريجيًا ويصبح ذلك الشبح الذي رأته بالصباح .. التصقت بالحائط أكثر في خوف من بطشه وهي تسمعه يغمغم بهمس مرعب :
_ وأنا كمان كانت صعبة أوي عليا .. لما اكتشف إن مراتي والست اللي شايلة اسمي تتطعني في ضهري .. اللي كنت بتمنى يكون عندي أولاد منها وكنت بحبها ومستعد أعمل أي حاجة عشانها طلعت في الآخر ****** وبتستغفلني وبتخوني .. عارفة أنا حاسس بإيه دلوقتي .. حاسس بنار قايدة جوايا والنار دي اول حد هتحرقه هي إنتي .. طعنتيني في شرفي .. في أكتر حاجة ممكن توجع الراجل

سكت للحظة قبل أن تتغير ملامحه ويتطلعها كشيطان بنظرات كانت كفيلة لبث رجفة بسيطة في سائر جسدها ثم يكمل همسه لكن بابتسامته الشيطانية المخيفة :
_ كام مرة ؟!
ترتجف بخوف أمامه وعلى محياها تظهر معالم الدهشة من سؤاله ، ومن فرط خوفها سالت دموعها بغزارة على وجنتيها دون أن تجيبه .. فقبض هو على فكيها بعنف وانحنى عليها يهمس بالقرب من أذنها في صوت جعل جسدها يرتعش :
_ كام مرة نمتي في حضنه وخنتيني معاه .. ولا أقولك تعالي نلعب لعبة حلوة إنتي تقوليلي من إمتى بتخونيني معاه وأنا اخمن بعدين بنفسي
زاد انهمار دموعها لكنها لم تكن بصمت هذه المرة حيث ارتفع صوت نجيبها وبكائها وهي تشهق برعب .. فانتفضت كالذي لدغها عقرب فور سماعها لصرخته الجهورية بها :
_ من إمــــتـــى ؟
ترتجف في أرضها بقوة وتبكي بشدة ، ليخرج صوتها مرتعش وهي تكذب عليه :
_ من تلات شهور
رأته يبتسم مرة أخرى .. تقسم أنها تخشاه أكثر حين يبتسم .. فتلك الابتسامة تصيبها بالزعر لأن ما يتبعها لن يكون سوى خروج الوحش مجددًا .. أجابها بضحكة ساخرة ومريبة :
_ تؤتؤتؤ الكذب مش في صالحك أبدًا .. وكمان بتحاولي تستغلفيني تاني وده عقابه أشد .. خلينا نعيد السؤال للمرة التانية ونشوف الرد هيتغير ولا لا .. من إمتى بتخونيني ؟

كانت نظراته ونبرته تحمل في طياتها التحذير الحقيقي من الكذب عليه مرة أخرى وإلا ستكون العواقب وخيمة وقاسية جدًا .. فابتلعت ريقها بخوف وهمست بعد لحظات من الصمت بصوت ينتفض كجسدها :
_ بـ.. ـعد ما اتجـ..ـوزت جلنار

وقعت الجملة عليه كالبرق .. تجمد بأرضه والصدمة تعتلي وجهه كله .. تخونه منذ زواجه .. منذ أربع سنوات !!! .. كيف لم يشعر بها ولم يكشفها .. هل كان مغفل وأعمى لهذا الحد ؟!! .. كيف خدعته هكذا وجعلته لا يشعر بشيء ؟!!! .
غلت الدماء في عروقه وتقوصت ملامحه لتعطي إشارة الخطر القادم .. فَقَدَ السيطرة على وحشه الجامح وأصبح هو الوحش حيث نزل بكفه على وجهها في عنف فسقطت هي على الأرض وهي تصرخ بخوف وتبكي .. جذبها من خصلات شعرها وهو يصرخ بها كالمجنون :
_ من أربع سنين يا **** .. هقتلك يافريدة واخد روحك بإيدي يا *****
عاد يصفعها مرة أخرى على وجهها بكامل قوته ، فقدت صعدت لعيناه غمامة الغضب السوداء ولا تجعله يرى أمامه ولا يدرك ما يفعله حتى .. سالت دماء فمها وانفها من أثر صفعاته لها .. ووسط صراخها وبكائها وجموحه الذي يصبه عليها .. تراخت مقاومتها وفقدت وعيها معلنة تغيبها عن الواقع .

فاق هو بعد أن وجدها أغمضت عيناها ، تطلع بوجهها ليرى فمها وأنفها يسيل منهم الدماء .. استقام واقفًا وابتعد عنها وهو يمسح على شعره .. رغم قذراتها وما فعلته إلا أنه استنكر ما فعله بها ، جعلته يرفع يده ويأذيها وهو قط لم يأذي أنثى من قبل .. تراجع للخلف وجلس على الفراش ، ثم انحنى للأمام دافنًا رأسه بين كفيه وهو يزمجر من بين شفتيه ، ساقيه تهتز بعنف وبركانه يحرقه من الداخل .. فرفع رأسه واستقام واقفًا يتلقط كل ما تقع يده عليه ويلقيه بعرض الحائط يكمل إفراغ غضبه على الأشياء .. وبعد لحظات توقف وهو يلهث كالذى كان في سباق للعدو .. غادر الغرفة وتركها فمجرد النظر إليها يجننه .. جلس على الأريكة بالخارج لدقائق يحاول الهدوء وإخماد النيران المشتعلة في صدره لكن دون فائدة .. وبعد ما يقارب الخمس دقائق هدأت ثورته قليلًا فتوقف وضغط على نفسه ليعود لها بالداخل .. ولحسن الحظ أن كان يوجد بالغرفة زجاجة عطر قديمة قليلًا لكنها ستفي بالغرض .. حيث نثر القليل منها على يده وقرب يده باشمئزاز وقرف من أنفها حتى تستيقظ وبعد لحظات قصيرة فتحت عيناها تدريجيًا .. بمجرد ما أدركت صورته أمامها انتفضت ووثبت جالسة تلتصق في الحائط برعب .. لكنها لم تعد ترى ذلك الوحش الجامح الذي غار عليها منذ قليل .. حيث كان يتطلع لها بغضب وقرف امتزج بنظرات البغض الحقيقي .. ثم استقام واقفًا وسار باتجاه الباب ليخرج ويغلقه خلفه بالمفتاح يتركها من جديد حبيسة سجنها الصغير والمخيف .

***
تسير ذهابًا و أيابًا وهي تمسك بهاتفها في يدها وتضرب على كفها به في قوة بسيطة .. والقلق والغضب يهيمن عليها .. فالتفتت تجاه آدم وصاحت به في عصبية :
_ عدنان مش بيرد عليا .. أنا هتجن
آدم بهدوء :
_ سبيه ياماما ، هو اليومين دول مش في وضع لا يتكلم ولا يتناقش مع حد
صرخت في انفعال وغضب هادر :
_ اسيبه عشان يروح يعمل حاجة في الحيوانة دي ويضيع نفسه !
_ مش هيعملها حاجة متقلقيش
ضمت أسمهان قبضة يدها بغيظ وتهتف بغضب هادر :
_ بقى بنت الخدامة والقذرة دي تخدعنا كلنا وتطلع بتخون ابني .. وكانت بتمثل قدامنا كلنا دور الحب والإخلاص
ابتسم آدم وقال بسخرية في استياء بسيط :
_ مش القذرة دي كنتوا إنتي وهي حبايب
أسمهان بسخط :
_ أنا ابدًا ما اعتبرتها مرات ابني .. وكنت من البداية رافضة جوازه منها .. قولتله دي واحدة قذرة من الشارع وبيئة متنفعش لينا ومش من مستوانا وهو اللي صمم عليها ومسمعش كلامي وفي الآخر عملت إيه عضت الإيد اللي اتمدتلها .. طلعت كل همها الفلوس .. وفوق ده كله حاولت تقتل ابني
سكتت للحظات تأخذ أنفاسها قبل أن تهتف بعين مشتعلة بنار الحقد :
_ هي قاعدة فين ؟!
آدم بخفوت وهو يهز كتفيه لأعلى :
_ معرفش .. ابنك أكيد مش هيقولي وداها فين يعني
اتجهت أسمهان وجلست على مقعد وثير وغمغمت بحزن على ابنها وضيق :
_ هو لو كان سمع كلامي بس من البداية مكنش ده كله حصل .. لكن هو صمم يتجوزها ولما فكر يتجوز تاني برضوا اتجوز بنت نشأت اللي زي ابوها بتجري ورا الفلوس .. بس أنا مش هسيب ابني ليها هي كمان عشان تدمره كفاية اللي عملته فريدة الحقيرة

هب آدم واقفًا ثائرًا فور سماعه لجملتها الأخيرة وقد نجحت في إخراجه عن إطار هدوئه حيث صاح منفعلًا :
_ إنتي مش بتدوري على سعادة عدنان .. إنتي بتدوري على سعادتك إنتي .. لأن لو يهمك سعادته فعلًا هتسيبه يتهنى مع بنته ومراته ويصلح علاقته بجلنار هو مبقيش ليه غيرهم دلوقتي .. لو خسرها هي كمان سعتها فعلًا هيتدمر ، أنا مبقتش عارف اقولك إيه بجد أنا تعبت

انتهى من كلامها واندفع لأعلى متجهًا إلى غرفته .. بينما هي فبقت تعلق نظرها على أثره بسكون وجفاء !! .....

***
في صباح اليوم التالي ........
كانت لا تزال " هنا " نائمة وجلنار كان الصداع الشديد يضرب برأسها منذ استيقاظها مسببًا لها الآمًا لا تحتمل .. حاولت كثيرًا تحمل الألم وتجاهله لكن الأمر أصبح لا يطاق ، فارتدت ملابسها وقررت الخروج لتذهب إلى الصيدلية القريبة من المنزل .. تقوم بشراء الأقراص المضادة للصداع وتعود بسرعة قبل أن تستيقظ ابنتها .
خرجت من المنزل وسارت في الحديقة متجة نحو البوابة الرئيسية ، فلمحت من بعيد عم حامد يجلس مع أثنين من الرجال ويتبادلون أطراف الحديث باستمتاع وضحك .. كانوا ذو بنية ضخمة وعريضة كأنهم رجال مصارعة .. ضيقت عيناها بحيرة ولكنها لم تبالي كثيرًا فحين يعود ستسأله عن هؤلاء الرجال .. همت بالعبور من البوابة لكن فورًا وثب أحدهم واقفًا ووقف أمامها يهتف باحترام :
_ آسف يا هانم بس مينفعش تطلعي
_ نعم !!!
هم حامد واقفًا وابعده من أمامها بنظرة حادة ثم تطلع لجلنار وغمغم بود :
_ عدنان بيه منبه أن ممنوع حضرتك تطلعي من البيت إنتي وهنا
التهبت نظراتها وهتفت بغضب :
_ أنا مليش دعوة بكلام عدنان .. خلي الاتنين اللي واقفين دول يا عم حامد يبعدوا من وشي بالذوق احسن
حامد بأسف ونبرة مؤدبة :
_ يابنتي دي تعليمات عدنان بيه ومنقدرش نكسرها

نقلت نظرهم بينهم في نظرات نارية وهي تشتعل من الغيظ فرفعت هاتفها واستدارت مبتعدة عنهم تنوي الاتصال به وهي تهتف بنبرة محتقنة :
_ خلينا نشوف البيه بتاعكم ده !
همت بأن تضغط على زر الاتصال لكنها التفتت بجسدها للخلف فور سماعها لصوت البوابة وهو ينفتح وثم يدخل هو بسيارته .. وقفت عاقدة ذراعيها أمام صدرها تنتظره أن يوقف السيارة وينزل منها ، وفور نزوله رمقها باستغراب ثم التفت برأسه تجاه حامد الذي زم شفتيه للأمام في عدم حيلة ففهم من نظرته ما حدث .. اتجه نحو جلنار التي تتطلع إليه بعصبية وأمسك بذراعها في لطف وهو يحسها على السير معه هامسًا بلهجة شبة آمرة :
_ تعالي معايا جوا يلا
استقرت في عينها نظرة ملتهبة وهي تهمس بسخط :
_ سيب ايدي
لم يكترث لها واحكم قبضته على ذراعها وهو يأخذها معه للداخل وتسير هي معه مجبرة رغم محاولاتها البائسة في إفلات ذراعها من قبضته .. أخرج المفتاح وفتح الباب ثم دخل وادخلها معه ليغلق الباب بيده في هدوء ثم يحررها من قبضته وهو يهتف :
_ أنا مش قولت مفيش خروج من غيري
جلنار بانفعال :
_ وهو إنت عايز تحبسني ولا إيه ، كمان هو ده اللي ناقص !!
أجابها بهدوء متصنع وهو يبتسم بريبة :
_ صوتك ميعلاش عليا ياجلنار
اندفعت نحوه ووقفت أمامه مباشرة تقول بتحدي وهي تثبت نظرها في عيناها بشجاعة :
_ هعلي صوتي براحتي .. هتعمل إيه يعني ؟!
هو أساسًا يغلي منذ أمس ولا يريد أن يلحق بها لهيب نفسه المشتعلة .. فتمالك أعصابه وهتف بنفس نبرته الهادئة والمزيفة :
_ كنتي عايزة تروحي فين ؟
_ مش لما تقولي إنت الأول مين الرجالة اللي برا دول وبيعملوا إيه ومش عايزاني أخرج ليه !
_ جاوبي على السؤال كنتي رايحة فين ؟!
لا يجيبها ولا يحاول حتى اعطائها سبب واحد لما يفعله ، فإذا كان هو يعاند فهي أشد عنادًا منه ، استدارت وسارت للداخل وهي تهتف بعناد :
_ طالما مش عايز ترد عليا وأنا كمان مش هرد
إن زاد النقاش بينهم أكثر من ذلك ستكون النتائج سيئة .. قرر هو تجاهل الأمر وكأنه لم يحدث ثم هتف بصوت رجولي غليظ :
_ أي كان سبب خروجك إيه .. اديني بقول تاني مفيش خروج من البيت ياجلنار إلا معايا واللي حصل برا ده ميتكررش واضح الكلام ولا أعيد تاني
طفح الكيل وثارت من السخط حيث التفتت له وصاحت بغضب هادر :
_ يعني مش كفاية مستحملة كل حاجة منك وكمان عايز تحبسني من غير سبب
اقترب منها وغمغم في نبرة عادتها لطبيعتها :
_ طالما قولتلك ممنوع تخرجي يبقى أنا أكيد ليا أسبابي .. بعدين أنا مش حابسك لو عايزة تروحي مكان يبقى معايا أنا
هدأت ثورتها قليلًا واجابته بخفوت :
_ وهي إيه أسبابك بقى ؟!
عدنان متأففًا بنفاذ صبر من الحاحها :
_ لغاية دلوقتي معرفتش نادر فين ومش بعيد يحاول يأذيكي إنتي و هنا ، فلغاية ما اعرف مكان **** ده تسمعي الكلام ومن غير جدال
لوت فمها بتهكم ولم تتفوه بحرف آخر ، فقط أصدرت تنهيدة حارة واستدارت على وشك الذهاب لغرفتها لكنها رأت هنا تنزل من الدرج وهي تفرك عيناها بنعاس وتهمهم ببعض الكلمات الغير مفهومة .. وحين وصلت لآخر الدرج رفعت رأسها ورأت أبيها فسارت نحوه في بطء وهي مستمرة في فرك عيناها ، انحنى عدنان عليها وحملها فوق ذراعيه لاثمًا شعرها بحنو هامسًا :
_ صباح الفل والياسمين يا ملاكي
القت برأسها فوق كتفه والدها مغمضة عيناها بتكاسل فداعب أنفها بسبابته في رفق متمتمًا :
_ يلا فوقي يابابا عشان نفطر مع بعض
أماءت برأسها في إيجاب دون أن ترفع رأسها عن كتفه أو تفتح عيناها حتى فاتسعت ابتسامته وسار بها باتجاه الدرج يصعد للطابق العلوي ثم يسير نحو غرفتها ويدخل الحمام المحلق بها .. انزلها على الأرض وهتف بلهجة شبه آمره لكنها لينة وهو يبتسم :
_ يلا اغسلي وشك
لا تستطيع مقاومة شعور النوم الذي يهيمن عليها .. ترغب بالعودة مرة أخرى إلى فراشها وحين كانت تفكر في هذا .. فتح هو صنبور الماء وادخل يده تحت الماء يبللها ثم ينثر الماء بلطف على وجهها في مشاكسة .. فتهتف هي باستياء طفولي :
_يوووه يا بابي
كانت جلنار قد دخلت الغرفة قرأته يقف عند باب الحمام يستند بكتفه عليه ويجيب على هنا بحزم مزيف :
_ بلاش دلع يلا .. ولا تحبي اتصل بمس صابرين واقولها متجيش
فتحت عيناها بدهشة وبلحظة فر النعاس من عيناها لتجيب علي أبيها بفرحة غامرة :
_ هي مس صابيين ( صابرين ) جاية
_ امممم جاية عشان تديكي الدرس في البيت
وثبت فرحًا وهي تصرخ ( هييييه ) .. بينما جلنار فضيقت عيناها بدهشة واقتربت منه تقف بجواره تهدر بتعجب :
_ إنت كلمتها وقولتلها تيجي ؟!
التفت برأسه نحوها وغمغم بإيجاب :
_ أيوة كلمتها .. هتديها دروسها هنا لغاية ما ترجع الحضانة
طالت نظرتها إليها لثواني معدودة دون أن تجيب فقط توميء برأسها في صمت .. لكن نظراتها لم تكن راضية أبدًا .. ورغم ذلك هو تجاهل نظراتها وكأنه لا يلاحظها .

***
تجلس مهرة على مقعد وتتنقل بعيناها تتفحص كل جزء حولها في تلك الشركة الضخمة والرائعة .. شعرت بالسعادة والحماس عندما تخيلت فكرة أن تُقبل في هذا العمل وكل يوم تأتي لهنا ! .. بينما كانت تلك الأفكار تجول بذهنها قاطعها صوت السكرتيرة وهي تهتف برسمية وتشير بيدها إلى غرفة المدير التنفيذي ( عدنان ) :
_ آنسة مهرة اتفضلي
أماءت برأسها في موافقة وهبت واقفة فورًا ثم سارت باتجاه الغرفة .. طرقت طرقتين متتاليتين وانتظرت حتى سمعت صوته يقول ( ادخل ) .. أخذت نفسًا عميقًا وفتحت الباب ببطء وبعض التوتر ثم دخلت واغلقته خلفها والابتسامة تعلو وجهها باتساع .. وباللحظة التي وقع فيها نظرها عليه كأن دلو من الماء المثلج سكب فوق رأسها ، مرت ثلاث ثواني وهي تحدق به بدهشة وعندما رأته سيهم برفع رأسه عن الأوراق التي أمامه استدارت بجسدها مسرعة توليه ظهرها وتهمس لنفسها وهي تقوس وجهها وحاجبيها وكأنها على وشك البكاء :
_ لا أنا أكيد بيتهأيلي .. مش معقول يكون هو يعني .. هعد لتلاتة وابص بسرعة وان شاء الله ميطلعش هو واكون اتصيت في نظري .. 1 .. 2 .. 3
ثم التفتت برأسها بسرعة تلقي نظرة خاطفة عليه ولم تكن تتخيل ، فعادت بوجهها للأمام مرة أخرى وهي تهمهم بصدمة وارتباك :
_ تغيير في الخطة .. نعد لتلاتة ونجري
بينما آدم فبمجرد ما التفتت برأسها ولمح وجهها اعتلت وجهه معالم دهشة وهتف :
_ مهرة !!!
هرولت هي باتجاه الباب وكانت على وشك أن تمسك بالمقبض وتفتحه لتفر لولا أنه استقام واقفًا واسرع إليها يجذبها من ذراعها هاتفًا :
_ خدي رايحة فين .. إنتي بتعملي إيه هنا ؟!
اضطرت على النظر له وهي تبتسم ببلاهة وتقول :
_ لا مؤاخذة شكلي دخلت أوضة غلط
وهمت بأن تفتح الباب وتغادر بينما هو فضغط على ذراعها يمنعها من التحرك هاتفًا :
_ استني بقولك أوضة غلط إيه .. هو CV اللي في معايا ده ليكي بجد ؟!!!!
توترت وخجلت بشدة لا تعرف لماذا ، فوجدت نفسها تجيب عليه بالنفي وهي تطلق ضحكة سريعة بطريقة كوميديا :
_ لا سرقاه .. سيبني بقى ياعم الله يكرمك
مد آدم يده واغلق الباب مرة أخرى بعد أن فتحت جزء منه وهتف بحزم بسيط :
_ ما تثبتي يابنتي .. مالك مش على بعضك كدا ليه .. CV ده بتاعك إنتي ولا لا ؟!
أصدرت زفيرًا حارًا وأماءت له بالإيجاب فلاحت على شفتيه ابتسامة تحمل القليل من الدهشة وهو يترك يدها :
_ لا الصراحة اندهشت .. CV بتاعك جميل أوي .. تعالي اقعدي

لم تبتسم ولم تبدي أي ردة فعل فقط تتطلع إليه في ذهول وعدم فهم ، فطرحت سؤالها الأهم بضحكة تشبه السابقة لكنها ساخرة :
_ وبعدين في الليلة الطين دي بقى .. إنت مش رسام وفنان بتعمل إيه هنا !! .. ولا استني متقولش ، أنا هرد عليك بطريقتك .. مهرة اقعدي وكفاية كلام لو سمحتي

قالت جملتها الأخيرة وهي تقلده تمامًا في طريقة التحدث مما جعله يضحك بتلقائية ويهتف من بين ضحكته :
_ لحقتي تعرفي تقلديني كمان .. طيب يلا اعملي زي ما قولتي بما إنك عرفتي أنا هرد عليكي بإيه
تنهدت بعدم حيلة وهي تبتسم ثم سارت باتجاه المقعد المقابل لمكتبه وجلست عليه فتسمعه يتمتم بجدية :
_ ده مكتب المدير التنفيذي عدنان الشافعي اللي هو اخويا في العادة أنا مش بدخل هنا إلا لما يكون مش موجود ويكون في حاجة ضرورية وحظك النهارده إنه مش موجود ولقتيني أنا .. بس خلينا في المهم دلوقتي لو على حسب CV بتاعك اللي موجود قدامي ده فكل اللي موجود فيه جميل أوي ومؤهلاتك وخبراتك السابقة في مجال العمل ده رائعة .. إنتي كنتي شغالة في شركة قبل كدا ؟!

_ أيوة اشتغلت لفترة في شركة أدوية وكنت شغالة في قسم الحسابات برضوا
_ جميل
انحنت للأمام على سطح المكتب تستند بكفيها عليه وتقول بحماس :
_ إيه هو أنا كدا اتقبلت خلاص !
_ أعتقد إنك جاية عشان الإنترفيو مش تعرضي CV بتاعك بس وخلاص
ضحكت بلطافة وهي تقول تجيب عليه بعفوية :
_ يعني أصل أنا قولت بما إننا نعرف بعض فممكن تعدي موضوع الإنترفيو ده واتقبل في الشغل .. وسايط وكدا يعني ههه

بدأت تثير غيظه حيث رد عليها بحدة بسيطة :
_ مهرة كلمة تاني وهقولك إنتي وCV بتاعك برا
كتمت على فمها وهي تهتف باعتذار حقيقي وخوف من أن يطردها حقًا :
_ لا لا خلاص هسكت أهو والله .. اتفضل عشان نبدأ الإنترفيو
مسح على وجهه متنهدًا الصعداء في عدم حيلة ثم بدأ مقابلة العمل معها وهو يسألها عدة أسئلة وكانت تجيب عليه برسمية تامة وجدية .. بعد أن تخلت تمامًا عن مزاحها وأسلوبها الطبيعي .

***
كان جالسًا على مقعد عريض ووثير بالصالون وبيده فنجان القهوة يرتشف منه ببطء ، وهي تجلس على الأريكة المقابلة له تمسك بأحد الكتب وتقرأ فيه بتركيز .. فقد وصلت المعلمة منذ قليل وتعطي الدرس الآن لصغيرتهم في غرفة الضيوف .
كانت عيناه ثابتة عليها يتأملها في سكون .. ويفكر أنه كل اهتمامه وحبه كان منصب لتلك الخائنة ولم يمنح لزهرته إي اهتمام .. وفي حين أنه أهدر الوقت عبثًا في تجاهلها من أجل فريدة .. كانت الأخرى تتمتع بين أحضان ذلك الوغد ، تخونه وهو لا يشعر بها .. مهما حاول أن يشرح لها بالكلام مدى شعوره بالندم الآن لن يجدي بنفع .. لقد فات الآوان على الكلمات .
رفعت جلنار نظرها بتلقائية فالتقت بعيناه التي تتأملها بغرابة ، توترت لوهلة وسرعان ما اخفضت نظرها مرة أخرى للكتاب لا تعطي لنظراته اهتمام فوجدته يهتف بنبرة دافئة :
_ لو لسا حابة تخرجي ممكن لما تخلص هنا الدرس اخدك واوديكي

هزت رأسها بالرفض تجيب دون أن تنظر له :
_ لا شكرًا مش عايزة خلاص
وضع فنجان القهوة بجواره على المنضدة الصغيرة وانحنى بجزعة للأمام يغمغم بترقب لردها :
_ مش عايزة تعرفي عملت إيه مع فريدة ؟!
جذب سؤاله انتباهها فتركت الكتاب من يدها وردت بجفاء :
_ تؤتؤ عشان مش مهتمة اعرف أساسًا
القت بجملتها عليه ثم استقامت واقفة وسارت باتجاه الدرج تصعد لأعلى قاصدة غرفتها حتى تقطع الحديث معه .. بينما هو فتأفف ماسحًا على وجهه وبعد دقيقة بالضبط توقف هو الآخر يذهب خلفها .. صعد الدرج وسار نحو غرفتهم وعند وصوله فتح الباب ودخل فلم يجدها لكنه سمع صوت مياه الصنبور في الحمام ، تحرك إلى الأريكة وجلس فوقها ينتظر خروجها .. وبعد دقائق قصيرة خرجت وهي تجفف وجهها بمنشفة بيضاء صغيرة .. تجاهلت وجوده وأكملت طريقها باتجاه الفراش لكنه قبض على رسغها ليوقفها متمتمًا :
_ بتتجاهليني ليه !!
لم يعجبها ضعفها أمامه بالأمس عندما اعتذر منها .. هي لا تعترف بذلك الاعتذار ولم تصدقه ولن تدعه الآن يضعفها مجددًا .. تمتمت ببرود :
_ أنا مش بتجاهلك .. إنت اللي عايز تشوفني بتجاهلك
استقام واقفًا وتقدم منها مغمغمًا :
_ قولتلك قبل كدا إنك فاشلة أوي في الكذب وخصوصًا عليا
ابتسمت بمرارة وهدرت وهي تسحب يدها من قبضتها :
_ يارتني كنت بعرف أكدب فعلًا
استدارت وهمت بالابتعاد لكنه أمسك بكف يدها في لطف هذه المرة .. أثرت بها لمسته واستاءت من هذا فوجدت نفسها تلتفت له من جديد وتصرخ به بعصبية وهي تسحب كفها بعنف :
_ قولتلك مليون مرة متلمسنيش .. بكره لمستك ياعدنان .. فاهم ولا لا بكرهها وبكرهك

رواية كيان الفهد كاملة جميع الفصول ( الفصل 26 )


تراخت قبضته على كفها وتدريجيًا سحب يده ببطء متطلعًا لها بعينان يائسة .. لطالما أبدت له عن الكره الذي تكنه له في ثنايا صدرها .. واعتاد أن يسمع منها ذلك الكلام .. لم يكن يبالي وربما لم يشعر بأنها تنبع حقًا من قلبها .. معتقدًا أنها فقط نابعة من غضبها منه وهذا ما يدفعها لتلك الكلمة باستمرار ، لكن اليوم شعر بصدق الكلمة .. غصبها وانفعالها من مجرد لمسة والذي تبعه اعترافها بنفورها من لمسته وكرهها ، لا يعرف لما أحسها حقيقية ! .
قرأت هي معالم الحيرة الممزوجة ببعض الضيق على وجهه ، فاخفضت نظرها لأسفل تجده يسحب يده ببطء تاركًا يدها ، عادت ورفعت نظرها له تتطلع إليه بصمت للحظات عابرة تتلاقي فيها أعينهم معًا .. هو يبحث عن أشارة تأكد له تكذيب الكلمة وهي تدقق النظر في عيناه بتعجب من نظرة الخيبة الظاهرة بهم كطفل كان يصدق حقيقة ويأمل في تحقيقها وحين لم تسير السفن كما تهوى نفسه خاب أمله ! .
شدت على محابس دموعها التي تجمعت بعيناها وردت عليه بجفاء امتزج بثباتها المزيف :
_ متقربش مني تاني لأن اعتقد مفيش حد فينا حابب يجرح التاني .. ندمك مش هيغير الحقيقة ياعدنان حتى لو أنا مقدرة ده ومتقبلة ندمك اللي متأخر .. مش هيغير حقيقة تهميشك ليا ولا حقيقة إنك إنت وبابا اعتبرتوني صفقة هو باع وإنت اشتريت .. وكمان مش هيغير أهم حقيقة وهي إنك مبتحبنيش

أبدًا لم ينظر لها على أنها صفقة .. قد يكون اشترك حقًا في تلك المؤامرة القذرة ضدها .. لكنها دومًا كانت زوجته قبل أن تكون أم ابنته .. ظهرت ابتسامة مريرة على شفتيه متمتمًا بنظرة تلمع بوميض مختلف :
_ بس غيرني أنا .. وده كافي إنه ممكن يغير كل اللي قولتيه دلوقتي
بادلته الابتسامة بأخرى مستنكرة ونبرة بائسة :
_ معتقدش

ثم استدارت وسارت لخارج الغرفة وتركته يمسح على وجهه وشعره متأففًا بخنق وعدم حيلة .. ! .

***
كانت تمسك بيدها كوب اللبن الصباحي الخاص بها .. وتجلس بحديقة المنزل تنقل نظرها بحركة تلقائية في كل جهة لكن عقلها شارد بمكان آخر .. جذبها من شرودها صوت باب المنزل وهو ينفتح فحركت رأسها باتجاهه لترى حاتم يخرج منه ويتجه نحوها بخطواته الثابتة .. اشاحت بنظرها عنه وتصنعت عدم ملاحظتها له ، ادرك هو تجاهلها له عمدًا فتنهد بخنق واستمر في الاقتراب منها حتى جلس على المقعد المجاور لها هامسًا :
_ صباح الخير
رفعت كوب اللبن لفمها ترتشف منه ثم تنزله وتجيب بمضض دون أن تنظر له :
_ صباح النور
شرد للحظة بها عندما رآها ترتشف من كوب اللبن برقة وشعرها البني يغطي نصف وجهها ونصفه الآخر منسدل على ظهرها بانسيابية وتتطاير منه خصلات قصيرة بفعل نسمات الهواء الناعمة .. هز رأسه بحركة نافرة حتى يستيقظ من تأثره اللإرادي بها وغمغم يعتذر للمرة الثانية :
_ نادين إنتي لسا زعلانة مني ! .. والله مقصدش أنا آسف فكيها بقى وابتسمي في وشي
نادين باقتضاب دون أن تنظر له :
_ ماني زعلانة
حاتم رافعًا حاجبه مستنكرًا ردها :
_ طيب بصي في وشي الأول حتى وقولي إنك مش زعلانة عشان اصدق
التفتت برأسها تجاهه وغمغمت بابتسامة صفراء :
_ مش زعلانة ياحاتم موضوع وانتهى خلص .. ما بعتقد أنه يستحق اننا نزعل من بعضنا مشانه
رد بضيق ملحوظ على معالم وجهه :
_ حقك عليا أنا آساسًا بني آدم سخيف والله .. وعد من هنا ورايح هخلي بالي في كلامي عشان اللي حصل ده ميتكررش تاني

علقت بتعجب وبعض الحدة :
_ شو هاد .. ليش إنت ناوي تكرره مرة تاني مثلًا !
حاتم موضحًا لها قصده ببساطة وهو يهز رأسه بالنفي مسرعًا :
_ لا قصدي متزعليش مني تاني يعني
لانت نظراتها الحادة والتفتت بوجهها للجهة الأخرى تخفي ابتسامتها الخجلة وهي تجيب بخفوت :
_ أي خلاص .. حصل خير ماني زعلانة عن جد
ابتسم باتساع وفجأة وثب من مقعده للأريكة يجلس شبه ملتصقًا بها ويتمتم بغمزة مشاكسة :
_ عن جد عن جد يعني ولا نص نص
انتفضت بفزع بسيط وحدقته مدهوشة لثواني قبل أن ترتفع قسمات الحزم لوجهها وهي تهتف :
_ حاتم شو عم تساوي بعد هيك عني وارجع لكرسيك

لم يزيده غضبها إلا اتساعًا في ابتسامته وهو يوميء بإيجاب مغمغمًا :
_ تمام أنا كدا اتأكدت أنه عن جد فعلًا
حدقته شزرًا بغيظ وهبت واقفة تسير باتجاه باب المنزل مسرعة لكنها هدأت من سرعة خطواتها حين سمعته يهتف بخبث :
_ جهزي نفسك عشان في خطوبة واحد صاحبي بكرا وعازمني ومش حلوة اروح وحدي
استشاطت غيظًا منه ، هو حتى لا يسألها عن رأيها بل يتحدث بلهجة آمرة وبكل ثقة .. التفتت برأسها له تهدر بعناد وغيظ تتحدث اللهجة المصرية :
_ مش هروح
ثم التفتت مرة أخرى وأكملت خطواتها بينما هو فغمغم مغازلًا إياها بعد أن انتبه لثوبها الأصفر :
_ هتروح ياجميل يا أصفر إنت
توقفت وقد اشتعلت من الغيظ والغضب حقًا فلمحت على الأرض حجرًا صغيرًا لا يؤذي لكنه سيرضى غيظها منه ، استدارت بجسدها نحوه والقت بالحجر عليه هاتفة :
_ هاد مشان تحترم حالك ياوقح
كاد أن يصيبه الحجر لولا أنه تداركه على آخر لحظة وتفاده برأسه الذي ماله بها للجانب فمر الحجر من جانب رأسه تمامًا ، كانت تراه يضحك باستمتاع وبرود استفزها لكنها قررت عدم الدخول معه في شجار الآن وتجاهلته ثم استدارت مرة أخرى وسارت للداخل وتركته .

***
في مساء ذلك اليوم ......
سارت باتجاه جدتها التي تجلس أمام التلفاز تشاهد مسلسلًا مصريًا كلاسيكيًا ( البخيل وأنا ) .. جلست بجوارها على الأريكة وهي تحمل بين يديها صحن كبير ممتليء بالفشار ، مدت فوزية يدها داخل الصحن دون أن تحيد بنظرها عن التلفاز والتقطت ثلاث حبات من الفشار بين اصابعها ورفعتهم بفمها تتناول كل واحدة على حد .. بينما مهرة فالتقطت حبة والقت بها داخل فمها مردفة وهي تشير بنظرها على التلفاز في ملل :
_ يازوزا حرام عليكي بقى كفاية المسلسل ده أنا حفظته من كتر ما بتخليني اسمعه معاكي غصب كل ما يكون شغال
روحت فوزية يديها لها بعدم اكتراث مغمغمة بسخرية :
_بس اسكتي إنتي ولا عارفة حاجة اتفرجي وشوفي بس
مهرة بإصرار :
_ والله عارفة حتى الراجل البخيل اسمه عوض اللي هو فريد شوقي يعني و بيفضل يحوش في فلوسه وميديش لولاده حاجة ومطفحهم المر وفي الآخر لما يموت ولاده هيكتشفوا أنه عنده ثروة و .... يووووه أنا كل شوية بحكي في الموال ده ، بصي معايا كدا طيب عايزة اقولك حاجة مهمة

فوزية بعينان ثابتة على شاشة التلفاز دون أن تنظر لها :
_قولي
أخذت نفسًا عميقًا واخرجته زفيرًا متهملًا قبل أن تهتف في نفس واحد :
_ أنا سبت الشغل
توقفت فوزية عن التحديق في التلفاز والتفتت برأسها تدريجيًا تجاه حفيدتها تتطلعها بدهشة امتزجت ببعض الغضب فقالت مسرعة تتفادى غضب جدتها :
_ يازوزا مش مرتاحة مع عم سمير والشغل مرهق أوي الصراحة وأنا بتعب
فوزية باستياء بسيط :
_ وماله عمك سمير ما الراجل ربنا يباركله ليكي سنين بتشتغلي معاه في مكتبته وعمرنا ما شوفنا منه حاجة وحشة وأنا عارفاه وببقى مطمنة عليكي عنده
ابتسمت مهرة بمرارة وودت لو تخبرها بكل شيء .. حتى تجعلها ترى هذه الملائكة المزيفة على حقيقتها .. لكنها آثرت الصمت بالنهاية خوفًا على صحة جدتها وقالت بابتسامة دافئة ونبرة رزينة :
_ معلش ياتيتا إنتي أكيد عايزة تشوفيني مرتاحة وأنا قولت اشوف مكان تاني اكون مرتاحة فيه وأفضل بنسبالي
ضربت فوزية بكفها الايمن فوق ظهر كفها الأيسر وهي تهتف بحيرة بعد تنهيدة طويلة أصدرتها :
_ وإنتي هتلاقي فين شغل تاني يا ناصحة
ابتسمت بارتباك بسيط وأجابت بخوف :
_ لا ما أنا لقيت !
علقت فوزية مدهوشة :
_ لقيتي فين هو إنتي لحقتي !!
تنحنحت مهرة واتسعت ابتسامتها البلهاء وهي ترد على جدتها برقة مصطنعة :
_ أصل أنا شوفت أعلان بالصدفة لشركة وكانوا محتاجين موظفين في قسم الحسابات ، تخصصي يعني فقولت اقدم .. قدمت وروحت الصبح عملت المقابلة وقالولي هيردوا عليا بكرا

اتسعت عيني فوزية بذهول وسرعان ما صاحت بحفيدتها في غضب حقيقي :
_ وإنتي تعملي ده كله من غير ما تقوليلي ولا تشاوريني .. ده إنتي ليلتك سودة يامهرة
رأتها تنزع حذاء قدمها عنها فأدركت ما سيحدث بعد ذلك ، وثبت واقفة وهرولت راكضة تجاه غرفتها ولسوء حظها أن فوزية ألقت بالحذاء فأصابها في ظهرها .. توقفت وهي تلف ذراعها للخلف تضعه على ظهرها صارخة بألم وتهتف من بين صراخها :
_ آاااه جالي الغضروف .. ياولية عايزة تعجزيني وأنا لسا في عز شبابي .. طب افرض اتقبلت في الشغل دلوقتي اروح للواد التركي ازاي .. اروحله وأنا على كرسي على متحرك يعني
فوزية مضيقة عيناها باستغراب وغضب :
_ مين الواد التركي ده كمان !!!
تداركت مهرة جملتها وقالت وهي تضحك ببلاهة :
_ لما اروح تركيا يعني واقابل عريسي هناك قصدي
فوزية بعصبية :
_ انجري يابت على اوضتك يلا .. تركيا في عينك .. قال قدمت وروحت عملت المقابلة أصل أنا مليش كلمة يا بنت رمضان
تجاهلت كلمات جدتها الغاضبة وسارت باتجاه غرفتها وهي ممسكة بظهرها وتتلوي بألم مغمغمة في عينان تبكي بكاء مزيف دون دموع :
_ ياعيني على شبابك اللي راح يامهرة .. الولية ماشاء الله تاخد جايزة نوبل في التنشين بالشبشب .. آه ضهري اتقطم !!

***
أمسكت بهاتفها الذي يصدع رنينه للمرة الثانية على التوالي .. قرأت هوية المتصل فتنهدت بقوة وأجابت عليه في نبرة جادة :
_ أيوة
ضيق عيناه باستغراب من نبرة صوتها لكنه أجاب بصوت لين :
_ عاملة إيه ياحبيبتي
_ كويسة يا رائد وإنت
لم تتغير نبرتها بل كانت مثل السابقة تمامًا وربما أشد حزم وجدية .. مما جعله يسألها بحيرة :
_ أنا كويس .. إنتي في حاجة مضيقاكي ولا إيه ؟!
لوت زينة فمها بتهكم وهدرت بعدم مبالاة مزيفة :
_ لا عادي مفيش حاجة
رائد بترقب لردها وصوت رجولي جاد :
_ زينة واضح من صوتك إن في حاجة حصلت .. قوليلي في إيه !
كانت قد عزمت أنها لن تسأله .. لكن كلما تتذكر تلك الفتاة وتقذف لذهنها صورتها تشتعل غيظًا من أسلوبها والطريقة التي تحدثت بها معها .
زينة بصرامة :
_ أصل من يومين أنا كنت في الكافيه قاعدة بشرب قهوة .. وفجأة لقيت واحدة وقفت جنبي وبتقولي إنتي زينة خطيبة رائد قولتلها إيوة ولما سألتها هي مين ضحكت بطريقة مستفزة وقالتلي معقول رائد مقالكيش أنا مين وفي الآخر تقولي اسأليه هو أفضل مين أنا وهو يقولك
انقطع صوته في الهاتف للحظات حتى عاد واجابها بصوت غليظ :
_ مين دي وتعرفني منين أساسًا
زينة باقتضاب :
_ والله معرفش أنا بسألك إنت .. هي كانت لبسها مش لطيف وطريقتها كمان في الكلام وشعرها صبغاه احمر وحاجة كدا تسد النفس
لعن في نفسه بغضب وهو يمسح على وجهه متأففًا بصوت منخفض ثم هدر بصوت حاني ومحب :
_ متشغليش بالك ياحبيبتي .. يمكن تكون واحدة تعرفني من الشغل أنا بتعامل في الشغل مع ناس كتير إنتي عارفة .. أكيد واحدة مش كويسة وحبت تضايقك بالكلام لو هي تعرفني صح يعني
زينة بنبرة لم تعود للطافتها بعد :
_ اممم ما أنا قولت برضوا إنت هتعرف الأشكال دي منين !
رائد باسمًا وهو يجيبها بمداعبة :
_ سيبك منها .. مش معقول خطوبتنا بكرا وهتبقى مضايقة في وشي عشان واحدة معرفهاش أساسًا

_ طيب ما هي تعرفك يا رائد !!
رائد موضحًا بلطف :
_ ياحبيبتي وهو لازم كل اللي يعرفني اكون عارفه !
أصدرت تأففًا ممتزجًا بتنهيدة حارة مجيبة عليه في رقة أخيرًا :
_ طيب خلاص متستهلش افكر فيها من الأساس
_ بظبط كدا ياروحي .. احنا دلوقتي ورانا حجات أهم نفكر فيها
اكملت زينة بدلًا منه وهي تبتسم باتساع :
_ زي الخطوبة مثلًا
رائد ضاحكًا ببساطة :
_ آه مثلًا !!
سمع صوت ضحكتها الرقيقة يرتفع في الهاتف .. ولم يتكلم حتى لا يفسد لحظات ضحكها فقط استمع لها وهي تضحك ! .
***
داخل منزل عدنان تحديدًا بغرفتهم .....
فتحت عيناها دفعة واحدة بزعر ثم استقامت جالسة في الفراش وهي تلهث بقسمات وجه مفزوعة .. التفتت بسرعة ومدت يدها لكبس الكهرباء حتى تفتح الضوء ، بقت تحدق أمامها في خوف أنها المرة الثالثة التي تراودها فيها الكوابيس في أحلامهما هذه الليلة.. رفعت نظرها بتلقائية لساعة الحائط فتجد الساعة تخطت الثانية بعد منتصف الليل ، تجولت بنظرها في أرجاء الغرفة بحثًا عنه ولكن لا أثر له ، تشعر بالنعاس الشديد ولكن الخوف هو الشعور الغالب عليها أكثر الآن .. تخشى أن تنام وحدها فيزورها الكابوس الرابع هذه المرة .
انزلت قدماها من الفراش ووقفت ثم سارت إلى خارج الغرفة ، ومن الغرفة إلى الدرج تنزله بتمهل ، كان الظلام الدامس يملأ الطابق السفلي من المنزل .. انتهت من نزول الدرج وسارت ببطء شديد حتى لا تصطدم بشيء .. وبتلقائية خرجت همسة خائفة منها دون أن ترى شيء :
_ عدنان !
ثلاث ثواني بالضبط بعد همستها وانفتح ضوء التحفة المنزلية الصغيرة ( الاباجوره ) الموضوعة فوق منضدة صغيرة بالقرب من الأريكة .. ورأته جالسًا فوق الأريكة و يلتفت برأسه لها للخلف هامسًا :
_ أنا هنا ياجلنار
تنهدت الصعداء براحة وهدأت نفسها المرتعدة بعد رؤيتها له .. تحركت نحوه بهدوء ثم جلست على آخر الأريكة بجواره في صمت .. فسمعته يسألها بتعجب :
_ إيه اللي صحاكي ؟!
هزت كتفيها تجيبه في خفوت دون أن تخبره بالسبب الحقيقي :
_ عادي
استنكر ردها بكلمة واحدة لكنه لم يعقب . فأخذت تخطف إليه نظرات خلسة وهي تراه يرجع برأسه للخلف على ظهر الأريكة ويغمض عيناه بسكون .. لم تتمكن من منع لسانها الذي تحدث وسأله :
_ إنت ليه قاعد هنا وفي الضلمة للوقت ده ؟
خرجت تنهيدة منه تبعها رده بصوت رخيم :
_ حبيت اقعد وحدي شوية
رفعت كفها تغلق فمها الذي انفتح لتتثاؤب وتجيب عليه بصوت غير واضح بعض الشيء :
_ معلش قطعت عليك خلوتك
التفت لها برأسه يتطلعها مبتسمًا ، مدققًا النظر في وجهها وعيناها الناعسة ثم يهمس :
_ إنتي متأكدة إن مفيش حاجة !!
هزت رأسها بالإيجاب وهي تفرك عيناها كالأطفال .. وحين تطلعت إليه بوضوح أكثر رأته يبتسم باتساع ونظرات غريبة .. اضطربت قليلًا وهتفت بحيرة :
_ في إيه ؟!!
انحنى برأسه للأمام قليلًا إليها وغمغم بلؤم :
_ حلمتي بكوابيس وخايفة تنامي وحدك في الأوضة مش كدا ؟

رمقته بدهشة للحظات .. ذلك الخبيث لم ينسى حين كانت دومًا تستيقظ من النوم لذلك السبب وتطلب منه أن يبقى بجوارها حتى تخلد للنوم مرة أخرى .
توترت وحركت رأسها نافية بسرعة تهتف في حزم مزيف :
_ لا ، وبعدين أكيد مش هخاف من كابوس يعني !
رفع حاجبه بسخرية وهو يضحك بصمت ثم هدر :
_ طيب تعالي يلا نطلع فوق لأن حتى أنا عايز أنام
جلنار بعناد وغيظ :
_ لا أنا مش عايزة أنام .. اطلع إنت براحتك
زفر بعدم حيلة مبتسمًا وبقى جالسًا مكانه ثم أمسك بهاتفه وبدأ يتصفح به .. وهي تجاهد بكل قوتها حتى لا تنغلق عيناها وتنام .. تخترق عيناها الهاتف معه تشاهد ما يشاهده في محاولات بائسة منها حتى تطرد النوم من عيناها لكن دون جدوي .. ودون أن تشعر انغلقت عينيها تدريجيًا رغمًا عنها وبعد لحظات قصيرة مالت برأسها بلا وعي على كتفه معلنة خروجها في رحلة نومها القصيرة .

التفت برأسه قليلًا للجانب بعد أن احس برأسها فوق كتفه ، تأملها لدقيقة في أسف ثم انحنى بشفتيه عليها يطبع قبلة دافئة فوق مقدمة جبهتها وبأنامله يملس على شعرها في لطف هامسًا في ندم :
_ مش عارف هقدر اخليكي تسامحيني ولا لا .. طول الأربع سنين وأنا كنت مهملك ومدتكيش حقك وظلمتك عشانها .. وهي كانت بتخوني وفي حضن راجل غيري .. كنت مغفل وغبي لدرجة اللي خلتني مكتشفش خيانتها ليا طول السنين دي .. لو كانت طعنتني بسكينة كان المها هيكون اهون من اللي حاسس بيه دلوقتي .. صدقيني أنا لو ندمان على حاجة فهي خسارتي ليكي .. سامحيني ياجلنار .. أنا آسف يارمانتي
عاد يلثم جبهتها مرة أخرى بقبلة مطولة يستنشق رائحتها بقوة وبدون سابق إنذار سقطت دمعة متمردة من عيناه .. دمعة ألم وندم ، رآها تحرك رأسها بعفوية وتدفن وجهها بين ثنايا رقبته فتضرب أنفاسها الدافئة والرقيقة بشرته الخشنة .. اغمض عيناه حتى يتحكم بالشعور الذي داهمه للتو وفورًا اعتدل في جلسته قبل أن يزداد الأمر سوءًا لف ذراع خلف ظهرها والآخر في منتصف قدمها يحملها على ذراعيه ويتجه بها نحو الدرج قاصدًا غرفته وهو يتمتم :
_ شكلي أنا اللي هقولك متقربيش مني بعد كدا
استمر في صعود الدرج حتى انتهي وسار في الردهة المؤدية لغرفتهم ، وفتح الباب بقدمه ليدخل ويتجه بها نحو الفراش ثم ينحني للأمام قليلًا ويضعها برفق فوقه ويسحب الغطاء على جسدها .. فتحت هي جزء من عيناها تتطلع إليه بنعاس وعدم ادراك للوضع ، لكن حين أظلمت الغرفة انتبهت حواسها وهتفت بنعاس وضيق :
_ افتح النور
_ أنا قاعد معاكي ياجلنار متخافيش
سمعت صوته فقط ولم تدرك ما يقوله حتى أنها لم تعلق مرة أخرى على الضوء واستسلمت لسلطان نومها .

***
فتح عيناه بصباح اليوم التالي عندما تسلل الضوء لعينه مسببًا له الإزعاج .. التفت برأسه للجانب فلم يجدها بجواره .. استقام جالسًا ونزل من الفراش وكان سيهم بالذهاب للحمام لولا أن صوت رنين هاتفه أوقفه .. عاد خطوتين للخلف والتقطه يجيب على المتصل بحزم :
_ الو
_ أيوة ياعدنان بيه .. نادر ملوش أي أثر
أجاب عليه بغلظة صوته الرجولي :
_ طيب خلاص اقفل دلوقتي
انهي معه الاتصال وغمغم لنفسه بعينان تلمع بوميض شيطاني مخيف :
_ هتفضل مستخبي مني زي **** لغاية امتى يعني مسيري هجيبك

القى بالهاتف على الفراش في عدم مبالاة وسار نحو الحمام حتى يأخذ حمامه الصباحي قبل أن يغادر المنزل .. وبعد دقائق طويلة نسبيًا خرج من الحمام وهو يرتدي بنطال فقط ويترك قطرات الماء تتساقط من شعره فوق صدره العاري .. وصل إلى خزانته وأخرج ملابسه ثم بدأ في ارتدائها وبعد برهة من الوقت انتهي وغادر الغرفة ومنها إلى الدرج حيث نزل درجاته على عجلة وهو يتفقد ساعة يده .
وثبت هنا من مقعدها أمام التلفاز مسرعة فور رؤيتها لأبيها وهرولت نحوه تتعلق به في فيحملها هو فوق ذراعيه يلثم شعرها بحب متمتمًا :
_ صباح الخير ياهنايا
هنا بإشراقة وجه ساحرة :
_ بابي هنروح بليل فرح خالتو زينة ؟
عدنان باستغراب وهو يبتسم لها :
_ مين قالك إن الفرح النهارده ؟!
هنا بعفوية وهي تزم شفتيها بيأس :
_ مامي بس قالت إنت مش هتوافق !
رمقها بدفء وحنو فيغمز بمداعبة هامسًا :
_ إنتي عايزة تروحي ؟
أماءت برأسها في إيجاب بابتسامة تملأ وجهها الصغير ، ثم وجدته يعود ليسألها بترقب أكثر :
_ ومامي ؟
هنا بخبث طفولي جميل محاولة إخفاض نبرة صوتها :
_ أيوة عايزة تروح تمان ( كمان )
سكت لبرهة يتصنع التفكير وهو يبتسم لها بمكر ومشاكسة ثم يتنهد بالأخير مغلوبًا على أمره :
_ خلاص هنروح
صاحت بفرحة غامرة وتعلقت برقبته في قوة هاتفة :
_ بحبك أوي يابابي
_ وأنا كمان بحبك أكتر ياروح بابي
طبع قبلة ناعمة فوق وجنتها ثم انزلها من فوق ذراعيه وغمز لها قبل أن يستدير ويتجه نحو غرفة الصالون .. فتح الباب وألقى نظرة بعيناه أولًا وعندما تأكد من وجودها دخل واقترب منها بخطوات متريثة .. وقف خلف مقعدها تمامًا واستند بكفيه فوق الحافة العلوية من المقعد ينحنى عليها قليلًا من الخلف هامسًا بالقرب من أذنها :
_ جهزي نفسك بليل عشان نروح خطوبة زينة
فزعت قليلًا من صوته المفاجيء خلفها والتفتت برأسها له تتطلعه مدهوشة ثم هدرت أخيرًا بعد لحظات من الصمت :
_ هو إنت رايح ؟!!
حرك حاجبيه بمعنى لا واجاب عليها في لطف :
_ كنت ناوي إني مروحش ، مليش مزاج احضر افراح يعني .. بس بما إنك إنتي والأميرة الصغيرة حابين تروحوا .. خلاص هروح عشانكم
رفعت حاجبها بابتسامة ماكرة .. تفهم جيدًا محاولاته في نيل رضاها وتلافي أخطائه بكل الطرق المتاحة أو تعويضها بمعنى أدق .. ولكن يؤسفها أن تعترف بأن جميع محاولاته البائسة لن تطفيء نيرانها بسهولة .
ردت عليه بجمود تام :
_شكرًا
لم يعقب على جمودها معه فهذا هو المتوقع ولو فعلت العكس سيكون الأمر ليس طبيعي بالنسبة له.. ابتسم بحنو وهم بأن ينحنى عليها ليقبلها من شعرها وهو يهمس :
_ العفو يارمانتي
لكنها رجعت برأسها للخلف فورًا قبل أن تلمسها شفتيه وقالت بنظرات مشتعلة :
_ عدنان !
تلاشت ابتسامته وهز رأسه لها بتفهم حتى لا يغضبها أكثر ثم غمغم بهدوء :
_ لو عوزتي حاجة لغاية بليل كلميني
أماءت برأسها في إيجاب ومعالم وجه حازمة بينما هو فأصدر زفيرًا حارًا قبل أن يستدير وينصرف .

***
في تمام الساعة الثامنة مساءًا ........
يجلس على المقعد بالأسفل وفوق قدميه تجلس صغيرته التي ترتدي فستان قصير ورائع يناسب حجمها وطولها ومن اللون الوردي مزخرف بنقوش صغيرة على شكل فراشات من نفس لونه .. كانت تتحدث مع أبيها بمرح وصوت ضحكتها الطفولية ترتفع في أرجاء المنزل .. تارة هو يبادلها الضحك وتارة يكتفى بابتسامته ويتولى هو مهمة مداعبتها .
رفع رسغه لمستوى نظره يتفقد الساعة حول يده ، فتأفف بنفاذ صبر وانزل هنا من فوق قدميه وهو يهتف :
_ خليكي هنا يابابا هروح اشوف ماما اتأخرت ليه

أماءت له بالموافقة وتابعته وهو يصعد الدرج حتى اختفى عن انظارها .
فتح باب الغرفة ودخل وكان على وشك أن يتحدث لولا أنه بلع كلماته في حلقه فور رؤيته لها ، تأملها بإعجاب للحظات .. فقط حبست أنفاسه بذلك الفستان الذي ترتديه وشعرها الذي تترك حريته لينسدل على كتفها العاري .

هام بها ولم يسمعها جيدًا حتى عندما قالت له وهي تلقي نظرة أخيرة على مظهرها أمام المرآة :
_ أنا خلصت خلاص دقيقتين وهنزل وراك
ثواني طويلة نسبيًا مرت وهو لا يزال يتأملها في ذلك الفستان المثير .. لكن اشتعلت نيران الغيرة في صدره حين انتبه لذراعين الفستان المنسدلين حتى منتصف كتفيها مما جعل كل من كتفيها والجزء العلوى من صدرها عاري .. فسمعته يهتف بحدة ونظرة مشتعلة :
_تنزلي فين إنتي عايزة تطلعي بالشكل ده !
ضيقت عيناها بحيرة من جملته ثم عادت تتفقد مظهرها مرة أخرى أمام المرآة بتشكك هامسة :
_ ماله شكلي ! .. هو الفستان وحش !
عدنان بغضب بسيط :
_ غيري الفستان ده ياجلنار والبسي واحد كويس
جلنار بعناد وغيظ من لهجته الآمرة :
_ مش هغيره أنا عاجبني
أثارت سخطه أكثر حيث أجابها بعينان نارية :
_ وأنا قولت هتغيريه مش هتخرجي بيه يامدام .. ضهرك وكتفك وصدرك عريان وعايزة تطلعي كدا !!!
لم تبالي بنظراته النارية لها وهتفت بإصرار في برود :
_ مش هغيره .. إنت حتى لبسي هتتحكم فيه !

استشاط غيظًا والتهبت عيناه من فرط الانزعاج والغيرة ، فاندفع نحوها يلف ذراعه حول خصرها ليجذبها إليه وبيده الأخرى يلفها خلف ظهرها تحديدًا عند سحاب الفستان ليمسك به ويسحبه للأسفل بقوة .
تململك بين قبضته وهي تشهق بدهشة من فعلته وتحاول دفعه صائحة :
_ بتعمل أيه ابعد !!
عدنان بهمس مخيف وعينان تعطي إنذار أحمر :
_ بساعدك تغيريه بما إنك مش عايز تغيريه بالذوق
جلنار بعصبية وهي تحاول دفعه بعيدًا عنها :
_ عدنان ابعد عني احسلك .. بقولك ابعد مـ.....
توقفت عن الكلام حين شعرت بيده تمسك بذراع الفستان لينزله .. هو لا يمزح سينزع الفستان عنها بنفسه لو استمرت في العناد .. ابتلعت ريقها بارتباك وصاحت مسرعة باستسلام قبل أن يتمادى أكثر :
_ خلاص هغيره
توقف وهو يبتسم بلؤم ثم رد عليها بخفوت مريب :
_ أيوة كدا شطورة يارمانتي .. هستناكي برا ، خمس دقايق وتكوني خلصتي عشان اتأخرنا
ثم تركها واستدار لخارج الغرفة بينما هي فضمت ذراعيها عند صدرها حتى لا يسقط الفستان وبداخلها تشتمه في غضب وغيظ .

نزعت عنها الفستان وارتدت آخر كان لونه من نفس لون فستان ابنتها .. هذه المرة كان بحمالات عريضة تنزل بفتحة مثلثية عند الصدر لكنها لا تظهر داخلها وظهرها من الخلف لا يظهر منه شيء .. عندما انتهت وخرجت من الغرفة كان هو يقف بجانب الباب ينتظرها .. القى عليها نظرة متفحصة من أعلاها لأسفلها دون أن يعقب بينما هي فكانت تتطلع إليه بقرف وازدراء .

***
داخل القاعة الخاص بحفل الخطبة .......
كانت جلنار تجلس على مقعد حول طاولة متوسطة الحجم نسيبًا وتجلس على مسافة قريبة منها بعض الشيء أسمهان .
كانت جلنار تحاول تفادي نظرات نادين بعدما رأتها .. لا ترغب في رؤية حاتم الآن أبدًا .. ليست في مزاج لتتحمل شجار عنيف بينه وبين زوجها ، أما أسمهان فكانت عيناها ثابتة على حاتم الذي يقف في جهة بعيدًا عنهم يتحدث مع مجموعة من الرجال .. تحدق به وعلى شفتيها ابتسامة شيطانية تنتظر اللحظة المناسبة حتى تفجر القنبلة .. وماهي إلا دقائق معدودة حتى رأته يمسك بهاتفه ويجيب عليه وهو يسير مبتعدًا عن الحشود حتى دخل بغرفة منعزلة عن الحفل والقاعة ليتمكن من التحدث براحة .
التفتت أسمهان برأسها تجاه جلنار فقد أتت لها الفرصة على طبق من ذهب .. وحين لاحظت عدم وجود هنا بجوارهم حول الطاولة ولمحتها مع آدم الذي كان يحملها ويتجه بها لخارج القاعة فابتسمت بخبث وانحنت على أذن جلنار وهتفت بقلق مزيف :
_ جلنار قومي شوفي هنا شوفتها بتدخل الأوضة اللي هناك دي وحدها

بتلقائية نظرت جلنار باتجاه الغرفة متعجبة ودارت بنظرها حولها تبحث عن ابنتها بين الحشود فلم تجدها .. زعرت وتسارعت دقات قلبها بخوف خشية من أن يصيبها مكروه .. وفورًا هبت واقفة تهرول باتجاه تلك الغرفة التي رأتها جدتها تدخل إليها كما أخبرتها ! .

تابعتها أسمهان بنظرها وهي تضحك بخبث وتشفي وفور تأكدها أنها دخلت بالفعل ، التفتت برأسها تجاه ابنها المنشغل بالحديث مع أحدهم وأشارت له بأن يأتي لها مسرعًا .
اعتذر عدنان من الرجل وسار نحو أمه حتى وصل لها فيجدها تهتف بحدة :
_ شوف مراتك بتعمل إيه .. قامت من حوالي خمس دقايق ودخلت الأوضة اللي هناك قالت هترد على التلفون ومرجعتش لحد دلوقتي !!

التفت برأسه للخلف ينظر لتلك الغرفة بنظرات كلها حيرة وريبة .. ثم عاد برأسه مرة أخرى يتطلع لأمه بعينان تلمع بوميض غريب .. فينتصب في وقفته ويسير متجهًا نحو تلك الغرفة بخطوات سريعة قليلًا .. هناك أسئلة كثير تدور في حلقة ذهنه تثيره بالغضب .. وعند وصوله أمام الباب لم يتمهل للحظة حتى بل أمسك بالمقبض وانزله للأسفل لينفتح الباب ويدفعه للداخل بقوة .

رواية كيان الفهد كاملة جميع الفصول ( الفصل 27 )


 


لحظات من الصمت القاتل مرت .. بعد أن دخل ورأى حاتم .. لم تتمكن من سماع صوت بالغرفة سوى صوت زمجرته وهو يحدق في حاتم شزرًا كأسد يستعد لينقض على فريسته ويلتهمها .. اضطربت من وجوده ونظراته المخيفة التي لا تبشر بخير أبدًا .. فالتفتت برأسها تجاه حاتم لتجده يتطلع إلى عدنان بثبات انفعالي رهيب وعلى ثغره ابتسامة ساخرة بها بعض التحدي .
خرج صوت عدنان متحشرجًا وهو يقترب باتجاه حاتم :
_ إنت بتعمل إيه هنا !
نقلت جلنار نظرها بينهم في خوف ، واحد لا يبالي ويبتسم عمدًا حتى يثير خصمه .. بينما الآخر احتقنت ملامح وجهه بالدماء وبدأ يضغط على قبضة يده يجهزها للكمة مبرحة سيوجهها للثاني .
رفع عدنان قبضة يده المغلقة حتى يلكم حاتم في وجهه هاتفًا بنبرة خرجت تحمل كل أشكال الغضب والشر :
_ سبق وحذرتك متقربش من مراتي .. بس شكلك مش بتفهم بالذوق
تفادى حاتم لكمته ورفع هو يده بدوره ليوجه اللكمة لعدنان بقوة .. مال عدنان بوجهه للجانب وهو يبصق نقطة الدم التي سالت من جانب شفتيه .. التهبت عينيه وأصبح لونهم أحمرًا حتى أن معالم وجهه تقوصت بشكل مرعب ويبدو أن الوحش استيقظ بالفعل .. حيث انتصب في وقفته وهذه المرة وجه لكمة لحاتم كادت أن تطيح به أرضًا من عنفها وسالت دماء أنفه على أثرها وكان على وشك أن يكمل ويعود ليوجه له المزيد لولا أن جلنار هرولت ووقفت بينهم تمسك بيد عدنان صائحة بهلع ورجاء :
_ عـــدنـــان ارجوك بلاش مشاكل
القى نظرة نارية على حاتم الذي كان يرمقه بنفس النظرة وهو يتحسس دماء أنفه .. فأخفض نظره لجلنار يتطلع لها بغضب ثم عاد ينظر لحاتم وهو يهدر بتحذير :
_ ده آخر تحذير ليك .. بعد كدا أنا مش مسئول عن اللي هعمله
جلنار بانفعال بسيط :
_ عدنان كفاية بقولك
قبض على ذراعها بحزم وسحبها معه للخارج ، سارت خلفه حتى غادروا الغرفة ونزعت قبضته عنها بعنف فباغتها بصيحته الجهورية :
_ امشي قدامي على العربية يلا
هرولت أسمهان نحوهم وهي ترسم على وجهها ملامح الذهول المزيفة وتقول :
_ في إيه يابني إيه اللي حصل ؟
استغلت جلنار الفرصة والتفتت برأسها للخلف تنظر لحاتم الذي يقف وعيناه ثابتة على عدنان بغل .. فرسمت معالم الأسف والحزن على معالمها وهو تهمس بصوت غير مسموع :
_ أنا آسفة .. آسفة
اماء برأسه لها يرسل إشارة لا بأس بملامح وجه لينة .. فالتفتت هي تجاه عدنان الذي أجاب على أسمهان بإيجاز :
_مفيش حاجة ياماما
ثم التفت برأسه إلى جلنار ورمقها بنظرة مميتة يغمغم في خفوت مخيف أكثر من نبرة صوته المرتفعة :
_ سمعتي أنا قولت إيه !
حدقته بنظرة مستاءة وغاضبة .. ثم تطلعت إلى أسمهان بسخط أشد ، الآن أدركت أن ما حدث لم يكن إلا أحد مخططاتها الشيطانية .. استقرت في عيني جلنار نظرة حاقدة وخبيثة تحمل في طياتها الوعيد قبل أن تندفع لخارج القاعة بأكملها تذهب في طريقها لسيارته كما قال أو أمرها بمعنى أدق ! .
***
داخل منزل عدنان تحديدًا بغرفتهم بعد مرور ما يقارب الساعة منذ خروجهم من حفل الخطبة .....
خرجت صيحة مرتفعة وعصبية من جلنار التي كانت تجيب عليه :
_ إنت شاكك فيا يعني !!
صاح بها في صوت جهوري :
_ أنا مقولتش شاكك فيكي .. أنا سألتك سؤال واضح ، كنتي بتعملي إيه في الأوضة مع حاتم ياجلنار
جلنار صائحة :
_ متزعقليش فاهم ولا لا .. ده بدل ما تروح تشوف مامتك اللي عملت كدا عن قصد بتزعقلي وتتعصب عليا كأني أنا المذنبة !
هدر منفعلًا :
_ جاوبي على السؤال من غير لف ودوران ومتجننيش .. ثم إن إيه دخل ماما في الموضوع !!
ابتسمت بسخرية واجابت عليه مزمجرة :
_ مامتك هي اللي قالتلي أنها شافت هنا بتدخل الأوضة اللي هناك يعني عشان اروح اشوفها أنا .. وبما إنك جيت ورايا فأكيد هي اللي قالتلك إني دخلت الأوضة طبعًا .. يعني من الآخر هي كانت عارفة إن حاتم جوا وعشان كدا اتحججت بهنا وخلتني ادخل وبعدين قالتلك إنت .. عشان تعمل مشكلة وتخليك تشك فيا
هدأت ثورته الهائجة قليلًا واستمر في التحديق بها بسكون للحظات فاحست بأنه لا يصدقها بعد أن قابلت رده بالصمت والتمعن بالنظر لتصيح به بغضب :
_ كلمها وأسالها لو مش مصدقني
وسرعان ما ارتسمت الابتسامة على ثغرها لتكمل مستنكرة :
_ ولا تكلمها إيه ملوش لزمة .. هتنكر طبعًا وهتطلعني أنا الكذابة وإنها بريئة وملاك
جلنار ليست بامرأة تتقنن فنون الكذب وحين تحاول تفشل وتصاب بالتلعثم والتوتر ، اعتاد دومًا أن يذكرها بأنها لا تستطيع الكذب أمامه و الآن هو لا يشك بصدق ما تقوله فلا يستبعد أن والدته تفعل هكذا حقًا خصوصًا أنه يعلم بمشاعر النقم التي تكنها لزوجته ، لكن لا مانع من أن يستخدم سلاحه الأقوى حتى يتأكد .. حيث اقترب ووقف أمامها مباشرة يخترق عيناها بنظراته الثاقبة ويغمغم بهمس مترقب :
_ يعني إنتي مكنتيش تعرفي إنه موجود في الأوضة ؟
عقدت ذراعيها أمام صدره تقف أمامه بثبات وتضع عيناها بعيناه في شجاعة وثقة متمتمة :
_ قولتلك لا
أخذ نفسًا عميقًا وأخرجه زفيرًا متهملًا بعد أن هدأ تمامًا ونيران غيرته المرتفعة انخفضت قليلًا .. أردف بصوت خافت ومنذرًا :
_ طيب ياجلنار .. بس صدقيني لو شفتك مع البني آدم المستفز ده تاني ردة فعلي مش هتكون مسالمة أبدًا
ضحكت بصمت في استهزاء وتشفي بعد أن لمست الغيرة الحقيقية في نبرته ونظرته ، وهدرت تجيب عليه ببرود وتحدي قبل أن تهم بالابتعاد من أمامه :
_ صدقني إنت .. أنا لو شفت حاتم وكلمته تاني فهيكون بس عشان احرق دمك واشفي غليلي منك
قبل أن تخطو خطوة مبتعدة عنه كان يمسكها من ذراعها يوقفها وينحنى على أذنها من الجانب يهمس في نبرة تثير الرعشة في البدن :
_ وماله شوفيه .. بس قبل ما تعملي كدا ابقى افتكري كلامي كويس هاااا
لم يحرك شعرة واحدة منها بل على العكس ازدادت ابتسامتها اتساعًا التي اختفت باللحظة التالية فورًا بعد أن سحبت ذراعها بحدة هاتفة :
_ ابعد إيدك عني .. واحد مريض
لم يعلق ولم يبدي ردة فعل .. كظم غيظه وبلع اهانتها مجبرًا حتى لا ينفعل عليها .. اكتفى فقط بمتابعتها وهي تتركه وتسير نحو الحمام .
***
رأته يقف عند السيارة ويمسك منديل ورقي بيده يمسح دماء أنفه فتسمرت بأرضها للحظة تتطلع إليه بصدمة وسرعان ما تمكن منها هلعها حيث هرولت إليه شبه راكضة تهتف :
_ حاتم شو صار ؟!
انزل المنديل واجابها بغلظة :
_ مفيش حاجة .. اركبي يلا عشان نمشي
بتلقائية أمسكت بوجهه بين كفيها تمعن النظر به بقلق .. وتهدر بزعر :
_ ليش عم تنزف .. إنت منيح ؟
انزل يديها بلطف وتمتم بصوت حاول إخراجه لين :
_ كويس يا نادين والله .. يلا بقى
قالت بعناد :
_ خبرني الأول شو صار لك !
حاتم بنظرة صارمة وصوت خشن :
_ نادين مش وقته أنا على أخرى أساسًا .. بعدين هقولك
ثم استدار وفتح باب مقعده الخاص حتى يستقل بالسيارة لكنه التفت برأسه أولًا لها فيجدها لا تزال تقف خلفه ترمقه بحيرة .. خرج صوته الرجولي بنظرات حادة :
_ اركبي يانادين !!
تأففت بخنق والتفت حول السيارة لتفتح الباب وتستقل بالمقعد المجاور له .. هم بأن يحرك محرك السيارة لينطلق بها لكنها اعتدلت في جلستها حتى تصبح في مقابلته تمامًا ومدت أناملها تلمس برقة جانب أنفه وتهمس باهتمام وعبوس :
_ بتوجعك ؟
لمستها الناعمة جمدته فجعل ينظر لها بسكون لكن عيناه تطلق إشارات الإنذار كدليل على تأثره .. ولوهلة تمنى لو لا تسحب يدها لكنه فاق بسرعة من مفعولها السحرى وأمسك بكفها يهز رأسه بالنفي إجابة على سؤالها ، وبلا وعي ينزل بأناملها إلى شفتيه يطبع قبلة ناعمة عليهم وهو يبتسم لها بدفء .
ضربت صافرات الإنذار في عقلها هي الأخرى فسحبت يدها فورًا في ارتباك وخجل ملحوظ بعد قبلته الدافئة .. واعتدلت في جلستها تتطلع أمامها بصمت وتحتضن كفها الذي قبله بين كفها الآخر تخبأه عن عينيه ! .
***
بعد انتهاء حفل الخطبة .......
تجلس زينة على أريكة طويلة نسبيًا ويجلس هو بجوارها .. كانت جلسة منفردة لهم فقط بعد الحفل .
مرت عشر دقائق حتى الآن وهي مازلت تتأمل المكان من حولها بجمود دون أن تتطلع له حتى أو تتفوه بكلمة واحدة .. فتنهد هو مغلوبًا على أمره وانحنى عليها عليها قليلًا حتى يجذب انتباهها له هامسًا :
_ مبروووك
نظرت له أخيرًا فور همسه بالقرب من أذنها وابتسمت باستحياء متمتمة :
_ الله يبارك فيك
رائد بغمزة مشاكسة :
_ عقبال كتب الكتاب ياحبيبتي
تلونت وجنتيها بالون الأحمر وسارعت في تغيير مجرى الحديث حيث قالت بخفوت :
_ مش ناوي تقولي بقى تعرفني من فين ؟
ضحك بخفة وادرف :
_ إنتي لسا فاكرة !!
_ طبعًا .. لا يمكن انسى ودلوقتي هتقولي يا رائد بيه
تنهد الصعداء بقوة ولا تزال الابتسامة تزين ثغره ثم اعتدل في جلسته ليصبح مواجهًا لها مباشرة وبدأ في الحديث بهدوء تام ونظرات خبيثة :
_ أنا المدير النرجسي والمستفز !
رددت كلمة " نرجسي " بين شفتيها بتفكير .. تذكر أنها عملت لفترة وجيزة لدى شركة ترجمة صغيرة وكانت تبغض مديرها دون أن تراه بسبب ما تسمعه من الموظفين عنه وأوامره الصارمة للجميع .
لحظات طويلة مرت حتى أدركت جملة رائد فصاحت بصدمة :
_ إنت بتهزر مش كدا !!
انطلقت منه ضحكة عالية تبعها رده عليها بالنفي :
_ لا مش بهزر .. إنتي متعرفنيش لأني مكنتش ببقى موجود اغلب الوقت ومحدش بيشوفني كتير بس أنا اعرفك أكيد .. وبعدها بفترة ماما لما جات الشغل بالصدفة عندي وشافتك قالتلي إنك بنت طنط ميرفت
رفعت يدها تمسح على وجهها بذهول وهي تجيبه بعدم استيعاب :
_ أنا مش مستوعبة .. وإزاي متقوليش يا رائد ده كله
_ هتفرق في إيه إنتي سبتي الشغل من بدري .. وأنا كدا كدا كنت ناوي اقولك بس حبيت نصبر شوية لغاية ما تتعرفي عليا اصل لو كنت قولتلك من البداية كنتي ممكن تكرهيني اكتر لمجرد إنك ماخدة الفكرة دي عني
ابتلعت ريقها بإحراج بسيط ثم تطلعت له ببراءة تهمس بنبرة تعتذر قبل أن تهتف بالاعتذار حتى :
_ إنت عرفت منين إني كنت بقول عنك كدا !
غمز لها في مكر ضاحكًا وهدر :
_ أنا بعرف كل حاجة فكان طبيعي اعرف اللي بتقوليه عني وحظك إني عرفت بعد ما ماما قالتلي انتي مين وإلا للأسف تصرفي كان هيبقى مش لطيف
زينة بغرور وثقة :
_ أنا أساسًا سبت الشغل بنفسي كنت بني آدم لا تطاق من غير ما اشوفك
رفع حاجبه بابتسامة لئيمة ورد عليها مستنكرًا في ترقب :
_ ودلوقتي إيه ؟!
حركت رأسها يمينًا ويسارًا بحركة مترددة تهمس في برود مقصود :
_ عادي لا وحش ولا حلو
_ لا والله !!!
قهقهت بقوة واردفت مسرعة بعدما لاحظت غيظه من ردها :
_ بهزر .. اكيد اختلفت وجهة نظري عنك يعني .. واتغيرت للأفضل
عادت الابتسامة تزين شفتيه ليقول بمداعبة :
_ بداية مبشرة الحمدلله
***
بعد مرور ساعات قليلة .....
خرجت من الغرفة متسللة على أطراف أصابع قدمها وبرأسها تتلفت حولها وعيناها تتجول بكل مكان بحثًا عنه ، حتى رأت ضوءًا خافتًا منبعثًا من غرفته الخاصة بالعمل .. سارت بحرص أشد دون أن تصدر أي صوت كلص يخشى أن يمسك به صاحب المنزل .
وصلت إلى باب الغرفة .. أمسكت بالمقبض في حذر وتطلعت له خلسة من الخارج فرأته يقف وينحنى على الأدراج يضع بعض الأوراق الخاصة بعمله بها ، تابعته بعيناها لدقيقة تمامًا حتى وجدته يغلقهم وينتصب في وقفته مستندًا لمغادرة الغرفة .. فتركت المقبض وتراجعت للخلف مسرعة تركض على أطراف اصابعها نحو الغرفة .. دخلت وأغلقت الباب بالمفتاح من الداخل ووقفت خلفه تنتظر وصوله وبالفعل أقل من خمس دقائق سمعت صوت خطواته تقترب من الغرفة وحين أمسك بالمقبض واداره حتى يفتحه لم يفتح .. ظل يعيد الكرة أكثر من مرة ظنًا منه أن قفل الباب تعطل .. حتى أتاه صوتها من الداخل وهي تقول :
_ متحاولش أنا قافلة الباب بالمفتاح !
اتسعت عيناه بريبة وهيمن عليه الصمت للحظات حتى رد عليها بعدم فهم :
_ نعم !!!
جلنار بابتسامة متشفية وبحدة تخرجها باحترافية في صوتها الناعم :
_ زي ما سمعت مش هتقعد معايا في نفس الأوضة ياعدنان .. روح نام في أي أوضة تاني أو نام على الكنبة برا
تمالك أعصابه ورد عليها بثبات انفعالي مصطنع :
_ افتحي الباب ياجلنار وبلاش شغل الأطفال ده
صاحت به من الداخل بغضب :
_ شغل أطفال !!!
عدنان بنبرة محذرة وهو يصر على اسنانه بغيظ :
_ افتحي ومتخلنيش اعلي صوتي والبنت نايمة في الأوضة اللي جمبنا
جلنار ببرود مقصود وهي تضحك بتشفي دون أن يراها :
_ وتعلي صوتك ليه .. أنا قولتلك الحل البيت كبير الحمدلله والأوض كتير
ضرب بقبضة يده القوية على الباب يهتف باسمها مصحوبًا بزمجرته :
_ جـلـنـار
فزعت قليلًا من ضربته لكنها لم تبالي وقالت هذه المرة بغضب حقيقي متخلية عن برودها :
_ من هنا ورايح مش هتنام معايا في أوضة واحدة ياعدنان .. إنت في أوضة وأنا في أوضة .. كفاية أوي لغاية كدا
انفعل بشدة فعاد يضرب على الباب من جديد محاولًا إخفاض نبرة صوته مما جعله نبرته تخرج متحشرجة بشكل مخيف :
_ هو إيه ده اللي كفاية .. افتحى الزفت ده بدل ما اكسره فوق دماغك
جلنار بإصرار وعناد :
_ مش هفتح واللي عايزه اعمله
كور قبضة يده ورفعها لأعلى في حركة تلقائية كمحاولة شبه بائسة لتمالك انفعالاته ثم رد عليه كاظمًا غيظه بصعوبة :
_ ماشي ياجلنار لينا كلام الصبح
سمعت صوت خطواته وهي تبتعد عن الغرفة فابتسمت بخبث ثم أصدرت تنهيدة طويلة واتجهت إلى الفراش لتتسطح فوقه وتتدثر بالغطاء مستعدة للنوم .
***
في صباح اليوم التالي ......
توقفت مهرة أمام مقر الشركة ترفع نظرها لطول ارتفاع البناء وهي تطلق تنهيدة طويلة .. وصلها الرد بالأمس وحصلت على الموافقة في العمل .. وهاهي في أول يوم لها الآن .
كانت ترتدي بنطال عريض قليلًا من اللون الأبيض يعلوه ( بادي كات ) وفوقه جاكت جينز من اللون البني .. والحذاء الرياضي المفضل لها ترتديه .. أما شعرها فكانت ترفعه لأعلى وتترك نصفه ينسدل من الخلف ليأخذ شكل التسريحة المشهورة ( ذيل حصان ) .
أخذت تسير في فناء الشركة الواسع من الداخل حتى وصلت للمصعد الكهربائي .. وقفت تنتظر المصعد وكان يقف بجوارها آدم الذي لم تلاحظه ، حين التفت هو للجانب برأسه ورآها .. امعن النظر بها للحظة مبتسمًا قبل أن يعود برأسه لوضعها الطبيعي ويتمتم بجدية بسيطة وهو يتفقد ساعة يده :
_ الساعة 9 وربع والمفروض تكوني هنا 9
نظرت له مدهوشة ، تتساءل متى جاء هذا ؟! .. فابتسمت بلطافة وغمغمت معتذرة :
_ أسفة .. الطريق كان زحمة شوية .. بس مش هتتكرر تاني
رمقها بطرف عيناه بنظرة غريبة لم تكن صارمة لكنها مريبة .. حتى انفتح باب المصعد فظلت هي واقفة تنتظر أن يدخل هو أولًا فوجدته يتنحى جانبًا ويبسط يده تجاه المصعد يشير لها بأن تدخل .. فابتسمت له بطريقتها المرحة المعتادة ودخلت أولًا ثم هو بعدها .
تابعته وهو يضغط على رقم الطابق فانحنت عليه بعفوية تهمس في قلق ملحوظ :
_ هو الاسانسير ده آمان ؟
التفت لها برأسه وهدر بتعجب :
_ آمان إزاي يعني !
هدرت بسرعة تشرح له مقصدها :
_ أصل أنا ركبت اسانسير في مرة وعطل بيا وكنت وحدي ومحدش حس بيا غير بعدها بساعتين .. بس الحمدلله اليوم ده كنت جاية من فرح وكنت مشترية أكل كتير وحلويات فضلت اتسلى عليهم وانا محبوسة لولا كدا كانوا دخلوا لقوني انتقلت لرحمة الله من الخوف .. بس تعــ ......
كتم على فمها بيده وهتف بحدة وانفعال بسيط :
_ هشششش ايه راديو !! .. أنا مالي إنتي هتحكيلي قصة حياتك
تطلعت إليه بعينان مضطربة قليلًا وانزلت يده تبتسم ببلاهة مغمغمة :
_ على فكرة لسا التشويق جاي أنا محكتلكش لما اشتغل حصل إيه
_ مش عايز اعرف يامهرة
زمت شفتيها بقرف وردت عليه متذمرة :
_ دي مش اخلاق مديرين على فكرة
لم يعطيها اهتمام وتجاهلها بينما هي فانتبهت للجاكت الذي يرتديه وسرعان ما هدرت بعفوية :
_ بس حلو الجاكت الجلد ده .. تعرف أنا كان معايا واحد زيه بس اااا ....
آدم بغيظ من ثرثرتها الكثيرة :
_ مـــهـــرة
ابتلعت بقية الكلمات في جوفها ومطت شفتيها بيأس ومضض ثم اشاحت بوجهها للجانب الآخر وهي تتمتم بصوت غير مسموع :
_ عدو البهجة .. بس يلا هستحمله عشان وسامته
بينما آدم فتأفف بعدم حيلة مغمغمًا بينه وبين نفسه :
_ أنا اللي جبته لنفسي والله
انفتح باب المصعد وخرج هو أولًا .. يسير بخطوات سريعة تجاه مكتبه ، هرولت هي خلفه تنده عليها بتلقائية :
_ آدم
توقف على أثر صوتها يسمعها تهتف باسمه لأول مرة .. التفت لها برأسه فضحكت هي ببلاهة بعدما أدركت ما تفوهت به للتو وغمغمت بخفوت يحمل القليل من الإحراج :
_ بـيـه !!
تحدثت بجدية وامتنان حقيقي مع ابتسامة صافية فوق ثغرها :
_ شكرًا .. يعني إنك وافقت توظفني
رأت ابتسامته اللطيفة تظهر على وجهه أخيرًا وهو يوميء برأسه لها كرد على شكرها دون أن يتحدث .. بادلته هي الإبتسامة حتى استدار وأكمل طريقه فاستدارت هي الأخرى واتجهت لمكان عملها .
***
تتجول أمامه منذ الصباح بطبيعية وبرود يثير الأعصاب .. تتجاهله وتتصرف بأسلوب جديد مستفز .. وهو لا يتمكن من احتجازها حتى يضع حد لما تفعله .. يكتم غيظه منها بصعوبة ولا يستطيع حتى الاقتراب منها بسبب وجود هنا .
عيناه لا تنزل عنها ، في كل خطوة تخطوها تلازمها نظراته المشتعلة والمتوعدة .. انتبه لاختفاء صغيرته .. فهب واقفًا واتجه لغرفتها .. رآها تجلس فوق فراشها ومن حولها العابها تلعب بهم باندماج .. ابتعد من أمام غرفتها واندفع لجلنار يقبض على ذراعها ويجذبها معه للغرفة .. دفعها برفق للداخل ودخل خلفها ثم اغلق الباب .. ليسمعها تهتف باستياء وعدم فهم :
_بتعمل إيه !!
تقدم نحوها بأعين ملتهبة فتقهقرت للخلف بتلقائية حتى اصطدمت بالحائط خلفها ، لا تنكر أن حالته الغريبة اخافتها قليلًا ، لم تكن تتوقع إنه سيغضب هكذا ، وجدته يستند بكفه على الحائط بجانب رأسها وينحنى عليها يهتف أمام وجهها وحرارة غضبه تشعر بها في وجهها :
_ أنا اللي المفروض اسألك إيه اللي بتعمليه ده !!!
اضطربت بشدة فحاولت أن تعبر من الجانب الفارغ حتى تخرج لكنه اغلق الطريق عليها من الجهتين بعد أن رفع يده الأخرى يسندها على الحائط من الجانب الآخر بجوار رأسها ويتمتم بغيظ وغضب :
_ إنتي في أوضة وأنا في أوضة ! .. ده مين اللي طلع القرار ده !
جلنار بثبات وحزم :
_ أنا
عدنان بصوت غليظ :
_ بس أنا مش موافق
هدرت ساخرة بعصبية :
_ وأنا مخدتش رأيك .. مش عايزة اقعد معاك في أوضة واحدة وأكيد مش هنتظر موافقتك
صاح بها مستاءًا :
_ يعني غلطانة وقوية كمان !
صرخت منفعلة :
_ أنا مش غلطانة وإنت عارف .. مامتك هي اللي خططت ومكنتش أعرف إن حاتم موجود في الأوضة أساسًا
مسح على وجهه متأففًا بغضب هادر واجابها بنفاذ صبر :
_ وأخرة تصرفاتك دي إيه يعني ؟!!
سنحت لها الفرصة لتتلذذ به على طريقتها ، حيث عقدت ذراعيها أمام صدرها وهدرت بشموخ :
_ تعتذر مني
_ ليه ؟!
كان سؤال شبه استنكاري منه فردت عليه بقوة :
_ عشان اللي عملته امبارح مثلًا !
_ عملت إيه !!
بروده استفزها فصاحت به مغتاظة :
_ تشدني في ايدك زي الحيوانات وتزعق فيا وتبهدلني وأنا مليش ذنب .. إيه ده كله ومعملتش حاجة تستحق إنك تعتذر عليها !
سكت لثواني وهو يحدق بها بنظراته الثاقبة وبالأخيرة هتف باقتضاب من أسلوبها الفظ يحقق لها ما تريده :
_ حقك عليا أنا اتعصبت عليكي فعلًا امبارح
هزت رأسها بالرفض تخفي ابتسامتها المنتصرة وتجيب عليه بجفاء :
_ تؤتؤ أنا آسف مش حقك عليا
عض شفاه السفلى بغيظ مكتوم وكور قبضة يده ثم ضربها على الحائط بجانب رأسها في خفة .. رغم أنه يرى نظرات التحدي والسعادة في عيناها إلا أنه غمغم كالمجبور :
_ أنا آسف .. حلو كدا !!!
هزت رأسها بالنفي متمتمة في ثبات :
_ لا اعتذارك وحدك مش كفاية
عدنان قاطبًا حاجبيه باستغراب :
_ امال عايزة إيه ؟
هدرت بابتسامة صفراء تضمر خلفها المكر :
_ مامتك .. أسمهان هانم تعتذر مني
وقبل أن ترى ردة فعله على ملامحه أو تسمع رده حتى استكملت عاقدة ذراعيها أمام صدرها :
_ وحاجة تاني كمان
لم تسمع منه أي رد فقط رأت قسمات وجهه متطلعًا لها ببعض الدهشة رافعًا حاجبيه .. كأنه ينتظر منها أن تبدأ في طلبها الثاني أو أمرها بمعنى أدق .. فأخذت هي نفسًا عميقًا وتطلعت في عيناه بقوة تجيبه بثقة :
_ تعتذر من حاتم
هنا بالفعل احسته كأنه قدر يغلى من الغضب حيث نزل بيده يقبض على خصرها في غيظ ويهتف بنبرة محتقنة :
_ اعتذر مني واعتذرت هتخلي مامتك تعتذر وعديتها .. لكن إنتي شكلك مينفعش معاكي الأدب
تململت من قبضته على خصرها ترد عليه بجدية :
_ وفيها إيه لما تعتذر منه .. أنت غلطت في حقه والمفروض تعتذر
خرجت منه صرخة هادرة بغضب حقيقي هذه المرة :
_ جــلـنـار .. متختبريش صبري ومليون مرة اقولك متجبيش سيرته قدامي .. خليني هادي معاكي كدا افضل
حاولت أبعاد يده عن خصرها لكنها فشلت فتطلعت في عيناه بشراسة وهدرت :
_ وأنا كمان مليون مرة اقولك متلمسنيش .. شيل إيدك
أحكم قبضته عليها أكثر بعند وقربها منه أكثر مبتسمًا بشيطانية فقالت هي محذرة أياه :
_ عدنان ابعد عني
هز رأسه بالرفض في استمتاع ، فاستشاطت غيظًا ورفعت قدمها تضغط على قدمه بقوة .. بحركة تلقائية منه لانت قوة قبضته عليها فدفعت يده وهمت بأن تغادر مسرعة لكنه لحق بها وجذبها إليه وكان على وشك أن يبحر بها للحظات على طريقته الخاصة لكن طرق ابنتهم على الباب وسط صوتها الرقيق قطع اللحظة :
_ بابي .. مامي
دفعته جلنار بكامل قوتها ترمقه شزرًا ثم استدارت وفتحت الباب لابنتها فتقابلها بابتسامة متصنعة ثم تمر وتعبر من جوارها مغادرة .. اقتربت هنا من أبيها الذي حملها فوق ذراعيه وهمس بضيق من توقيتها الخطأ دومًا في القدوم :
_ دي تاني مرة ياهنايا .. كدا هبدأ أشك إنك متفقة مع أمك
ردت عليه بعدم فهم وبراءة جميلة :
_ مش فاهمة يا بابي
عدنان متنهدًا بعدم حيلة :
_ اجمل بابي من اجمل هنا في الدنيا
ارتفعت ابتسامتها لشفتيها الصغيرة ولفت ذراعيها حول عنق أبيها تعانقه بقوة فيبادلها هو العناق لاثمًا شعرها ووجنتيها بحب .
***
في تمام الساعة الثامنة مساءًا .........
كانت أسمهان تجلس بغرفة الصالون على مقعدها الوثير تمسك بيدها كتاب تقرأ به في تركيز وبيدها الأخرى كوب عصير فراولة طازجة .. رفعت نظرها عن الكتاب عندما سمعت صوت الباب ينفتح .. وفور رؤيتها لعدنان الذي دخل واغلق الباب خلفه تركت الكتاب وقالت بحنو وسعادة :
_ اهلًا ياحبيبي تعالى
تحرك باتجاه الأريكة الواسعة المقابلة لمقعدها وجلس فوقها متطلعًا لأسمهان بغضب دفين ، فضيقت عيناها بحيرة وسألته :
_ مالك ياعدنان ؟!
لوى فمه بحركة تلقائية منه حين يكون مستاء وهتف بحزم :
_ ممكن تفهميني إيه اللي عملتيه امبارح ده ياماما !!!
توترت في باديء الأمر وسرعان ما تخطت الأمر تجيبه بتصنع البراءة :
_ عملت إيه امبارح ؟!
عدنان بعصبية بسيطة :
_ ماما إنتي فاهمة قصدي كويس .. هل التصرفات دي تليق بيكي يا أسمهان هانم ؟ .. أنا عارف إنك مبتحبيش جلنار بس متوصلش بيكي للدرجة دي .. اللي عملتيه امبارح ده ملوش غير تفسير واحد هو إنك معملتيش حساب ليا نهائي .. ده إهانة ليا أنا قبل ما يكون كره منك لجلنار
تأثرت قليلًا بتوبيخ ابنها لكنها لم ترضخ حيث صاحت بسخط تخفي ورائه اضطرابها من كشف مخططها :
_ هي قالتلك إيه بنت الرازي .. وكمان إنت صدقتها وجاي تحاسبني !!
عدنان بانفعال بسيط :
_ أنا مش بحاسبك أنا بقولك إنك غلطتي .. وغلطتي في حقي أنا عايزة تخليني أشك فيها وأنها هي كمان بتخوني ! .. إنتي آخر شخص اتوقع منه تصرف زي ده يا أمي
لان قلبها وحزنت على ابنها فنهضت من مقعدها وتوجهت نحوه تجلس بجواره وتملس على كتفه بحنو هامسة في اهتمام :
_ ياحبيبي إنت وأخوك اغلى حاجة عندي .. صدقني بنت نشأت دي ملهاش آمان ، أنا عايزالك الخير واشوفك مبسوط ومرتاح مع زوجة تليق بيك وبينا .. لكن جلنار دي آخر واحدة تنفع تكون زوجة ليك
هز رأسه بخنق ونفاذ صبر ثم أمسك بيدها التي فوق كتفه ينزلها برفق ويهتف بلهجة صارمة وصلبة :
_ بنت نشأت دي مراتي وأم بنتي وكمان أم حفيدتك .. والمفروض تعتذري منها على اللي حصل امبارح .. لما تعتذري منها ده هعتبره تقدير ليا كأنك بتعتذري مني أنا .. ده طبعًا لو أنا فارق معاكي !
ثم استقام واقفًا واكتفى بتوديعه لها من خلال نظراته قبل أن يستدير وينصرف تاركًا إياها تشتعل كجمرة النار من الغيظ ...


رواية كيان الفهد كاملة جميع الفصول ( الفصل 28 )


وضع المفتاح في قفل الباب واداره مرتين لليسار ثم دفع الباب بهدوء ودخل .. بمجرد ما أن تخطو قدمه لذلك المنزل يشعر بدمائه ترتفع وتبدأ في الغليان من الغضب .. قاد خطواته تجاه غرفتها وفتح الباب بالمفتاح ثم دخل .
بمجرد ما إن فتح الباب ورأته وثبت واقفة من الفراش وهرولت نحوه تتشبث بملابسه وتهتف متوسلة :
_ عدنان أخيرًا جيت .. ابوس إيدك طلعني من هنا أنا هموت مش قادرة استحمل
دفعها بعيدًا عنه بنفور من لمستها فسقطت فوق الفراش .. القى عليها نظرة مشمئزة قبل أن يستدير ويغلق الباب من الداخل عليهم .. انهمرت دموعها وهي تتابعه يسير نحو المقعد المقابل لفراشها بمعالم وجهه أقل ما يقال عنها بلا رحمة .. لا يشفق عليها بمقدار ذرة واحدة .. انتزعها من قلبه والقاها كالقمامة تمامًا .

وقعت عيناه على الطعام الذي لم تتناوله ويملأ الصحون فابتسم بسخرية وقال في قسوة :
_ مبتاكليش ليه ! .. ولا اتعودتي على العز وأكل القصور .. اديكي بترجعي لأصلك بالتدريچ
فريدة ببكاء وتوسل :
_ أنا متأكدة إن لسا في شوية حب جواك ليا .. ارجوك طلعني من هنا واعمل فيا اللي إنت عايزه
قهقه بطريقة مريبة يجيب على جملتها مستنكرًا :
_ حب !!! .. إنتي ملكيش وجود أساسًا بنسبالي
صاحت ببكاء هيستيري تقول :
_ أنا معترفة بغلطي وإني استاهل عقابك .. طمعي وجشعي هما السبب .. وافقت اتجوزك عشان اطلع من الجحر اللي انا عايشة فيه ، بس والله العظيم عمري ما كنت بكرهك ياعدنان .. ولما اتجوزت جلنار وجابتلك الطفل اللي بتتمناه وشوفت اهتمامك بيهم معرفش أي حصلي حسيت إنك هتحبها وهتاخدك ومش هتبصلي تاني .. بعدها شوفت نادر ومش عارفة إزاي ضحك عليا و صدقته ومشيت وراه لغاية ما خنتك

يستمع إليها بثبات انفعالي غير متوقع يبتسم باستهزاء ويغمغم :
_ يعني اتجوزتيني عشان الفلوس .. وبتعترفي إنك عمرك ما حبتيني .. أنا مش مصدوم من كل ده لأنه أمر طبيعي بنسبة لواحدة خاينة زيك .. اللي صادمني أنا ازاي محستش .. ازاي كنت غبي ومخدوع فيكي كدا !! .
إجابته مسرعة تحاول الدفاع عن نفسها بأي حجة وهمية :
_ أسمهان هي اللي أجبرتني أحاول اقنعك إنك تتجوز .. أنا مكنتش موافقة
عدنان بصوت رجولي مخيف ونظرات واثقة :
_ صدقيني دي أفضل حاجة عملتها ماما
تطلعت إليه بحيرة من رده .. يبدو أن ابنة الرزاي حجزت مقعدها في المقصورة بالفعل .. انخفضت عيناها بتلقائية ليده فتراه يمسك بحافظة ورق كبيرة وبداخلها عدة أوراق .. ظلت تدقق النظر في يده بفضول واستغراب حتى رأته يفتحه ويخرج مجموعة اوراق ثم يضع يده في جيب سترته ويخرج قلم ويمد الأوراق والقلم إليها هاتفًا بصوت متحشرج :
_ امضى على كل ورقة يلا
_ ورق إيه ده ؟!
عدنان بغلظة :
_ تنازل عن كل حاجة كتبتها بأسمك ومن ضمنهم البيت ده
نقلت نظرها بين الورق وبينه بدهشة .. هاهي تخسر كل شيء تدريجيًا ولن يتبقى لها سوى ذاتها ! .. انتفضت بزعر فور سماعها لصيحته الجهورية بها :
_ يــــــلا
أمسكت القلم بيد مرتعشة تخط به على الورق ودموعها تنهمر بصمت .. وعند انتهائها من آخر ورقة جذبهم من يدها واعادهم للحافظة مرة أخرى .. ثم أخرج ورقة أخرى ورفعها أمام ناظريه يتطلع إليها بابتسامة مريبة .. هب واقفًا من مقعده واقترب منها بخطوات متريثة جعلتها تتقهقهر للخلف في رعب .. أحست وأن قلبها سيقفز من بين اضلعها ولم تهدأ إلا عندما وجدته ينحنى عليها وهو يمد الورقة هاتفًا بجفاء :
_ورقة الطلاق
فرت الدماء من وجهها ، وتسارعت نبضات قلبها بذهول ، وصلت لنهاية المطاف وحان الآن رسم نقطة النهاية ، انفجرت باكية بقوة ولأول مرة تشعر بالندم على ما اقرفته .. ليتها لم تفعل .. ليتها اختارته .. فلو فعلت لم وصلت لهذه الحالة .

وضع الورقة في يدها يأمرها بنظراته المرعبة أن تنهي الأمر ، ففعلت ما يريده مجبرة وعيناها لا تتوقف عن ذرف الدموع ، جذب الورقة من يدها بعنف وكذلك القلم ليمضي هو بدوره فقد تعمد أن يخط النهاية بيده أمامها .. وبعد انتهائه ابتسم واردف ببرود :
_ كدا فاضل الخطوة الأخيرة بس
انحنى بوجهه عليها أكثر يهمس في نظرات تنبع بالكره ونبرة حادة كالسكين :
_ إنتي طالق

لم تكن تتوقع أن تلك الكلمة ستضرب صدرها وتألمها بهذا الشكل .. على عكسه هو الذي كان جامدًا لم يجد أي صعوبة في نطقها بل شعرت أنه تلذذ بها .
انتصب في وقفته واستدار مغادرًا الغرفة لكنه قبل أن ينصرف تمامًا التفت برأسه لها يغمغم في جفاء :
_ متخافيش قريب أوي هتطلعي لأني خلاص مبقتش طايق اشوف وشك
ثبتت عليه نظراتها المشوشة بسبب كثرة البكاء وتابعته وهو يرحل مختفيًا عن عيناها ويصك سمعها صوت اغلاق قفل الباب بالمفتاح من الخارج .. فتعود لبكائها المرير مرة أخرى .....

***
خرجت نادين من غرفتها وقادت خطواتها باتجاه المطبخ حتى تشرب ، وأثناء مرورها من أمام غرفته رأت الباب مواربًا .. حركها فضولها لتقترب من غرفته بتريث ، والقت نظرة دقيقة عليه من فتحة الباب ، رأته يجلس على المقعد ويمسك بيده صورة .. حاولت بنظرها اختراق كل شيء يعيق قدرتها على رؤية الصورة لكن لم تستطع ، كان يتأمل الصورة بشرود وحزن ومجرد تخيلها أن الصورة قد تكون لجلنار اثارتها بالجنون .. هي أساسًا منذ أن سرد لها ماحدث بحفل الخطبة تشتعل غيظًا وغيرة ، وفكرة أنه مازال يكن لجلنار مشاعر لا تتحملها .
تراجعت للخلف واستدارت تسير مسرعة نحو المطبخ بخطوات قوية فوصل صوت خطواتها لأذنه بسبب الحذاء الحاد الذي ترتديه ، حدثه قلبه بأن الخطوات تلك لها فعادة خالته لا تستيقظ مطلقًا في ذلك الوقت ، استقام واقفًا وترك الصورة مكانه على المقعد ثم اتجه إلى خارج الغرفة ومنها إلى المطبخ بعد أن وصله الصوت المنبعث منه ، رآها تمسك بكوب الماء وترفعه لفمها تشربه كله دفعة واحدة وتخرج زفيرًا ملتهبًا من بين شفتيها .. تابعها بحيرة حتى انتبهت هي له فانزلت كوب الماء تدريجيًا من فمها تحدقه بصمت وغيظ في نفس اللحظة حتى قالت بحزم :
_ ليش عم تتطلع فيني هيك ؟!
حاتم بتعجب :
_ أنا عملت حاجة ضايقتك يانادين ؟!
هزت رأسها بالنفي تشغل نفسها بسكب المزيد من الماء في الكوب متمتمة :
_ لا ليش ؟
_ امال بتبصيلي كدا ليه ؟!!!
تجاهلت سؤاله وردت عليه بجفاء :
_ بدي ارجع كاليفورنيا بكرا
ضيق عيناه باستغراب من نبرتها وطلبها الذي لم يكن كطلب أبدًا بل أمر .. لكنه رغم ذلك رد عليه بخفوت في لطف :
_ كلها يومين أو اكتر ونخلص الشغل اللي جينا عشانه وبعدين نرجع تاني
صاحت به بغضب مفاجيء :
_ بدي ارجع وحدي ياحاتم .. إنت حابب تضل هون على راحتك تصطفل ما الي دخل فيك
رفع حاجبه بدهشة من صياحها به وغضبها الغريب .. هي منذ أمس تتصرف بشكل مريب معه .. تجيب عليه بردود مختصرة واحيانًا لا تجيب أساسًا .. لكن طفح الكيل فلم يعد يحتمل فحتى هو لديه مخزون من الصبر والهدوء .

اندفع نحوها يقطع المسافات التي بينهم يهمس أمام وجهها بنظرة محذرة :
_ وطي صوتك ومتزعقيش
ضحكت ساخرة وهدرت بعدم خوف :
_ جد والله !! .. لك رعبتني يا حاتم .. اتطلع شوف ايدي كيف عم ترجف من الخوف
رفعت كفها أمام وجهها تريه ارتجافه المزيف عمدًا منها .. فجعلته يشتعل أكثر من الاستياء وحدجها بنظرات مميتة يهتف في تحذير :
_ بلاش تستفزيني يا نادين
التهبت وتحولت إلى حمراء من فرط الغيظ لتصيح به في غيرة واضحة :
_ لسا عم تضلك تحبها لحد هلأ مو هيك !!!
ارتخت عضلات وجهه المتشنجة وغضن حاجبيه بعدم فهم يجيب :
_ هي مين دي ؟!
_ جلنار يا حاتم
لم تحصل على إجابة منه فقط تراه يستمر في التحديق بها باستغراب لا يفهم كيف وصل الأمر لجلنار وحبه لها .. فانفعلت عليه وعادت تصيح :
_ رد عليا .. عم تحبها ولا لا
بنبرة خشنة وقوية أجاب :
_ كنت بحبها .. دلوقتي جلنار بنسبالي صديقة مش اكتر
خمدت ثورتها بلحظة وتراقص قلبها فرحًا وكانت ستنطلق ابتسامة على شفتيها لولا أنها منعتها وردت عليها بحزم مزيف تسأل في فضول :
_ شفتك ماسك صورة بإيدك فوق .. لمين هاي الصورة ؟
انحنى بوجهه عليه يهمس في ابتسامة غامزًا :
_ بحب غيرتك عليا أوي
نظراته وهمسه الماكر اخجلها بشدة فلم تتمكن من الرد عليه حتى .. فقط شعرت بالحرارة ترتفع من أسفل قدميها حتى أعلى رأسها .. وكانت ستفقد وعيها عندما وجدته يقترب أكثر بتريث حتى يوهمها بأنه سيقبلها وعند وصوله للحظة الحاسمة انحرف بشفتيه نحو وجنتها يضع القبلة فوقها يهمس في عاطفة جيَّاشة :
_ قلبي أساسًا مبقيش ملكي عشان اتحكم فيه وابص لأي بنت

توقف عقلها عن العمل تسمعه يتحدث لكنها لا تتمكن من فهم من يقوله .. الشعور المهين عليها اقوى من أي شيء يجعلها لا تشعر بقدميها بل جسدها كله .. وبمجرد ابتعاده عنها وهو يبتسم استندت بكفيها مسرعة على رخامة المطبخ خلفها حتى لا تسقط وعلقت نظرها عليه تراه يغادر المطبخ وقبل أن ينصرف تمامًا هتف بثغر مبتسم في ساحرية :
_ دي صورة ماما
اكتفت بابتسامتها البلهاء له تحاول جمع نفسها الذي بعثرها ذلك المنحرف والماكر وفور رحيله دفنت وجهها بين ثنايا كفيها تضحك وتزفر بتوتر شديد ! ...

***
تنزل الدرج بهدوء عارية القدمين وترتدي منامتها الليلية القصيرة .. وعند وصلها لبداية الدرجة من الأعلى رأته يجلس على الأريكة كعادته يرجع برأسه للخلف على ظهر الأريكة ويتطلع في السقف مهمومًا .. أمعنت النظر به لدقيقتين تخوض حربًا مع قلبها وعقلها .. العقل يرفض الاستسلام ويستمر في عرض كل أفعاله معها حتى يزيد من جفائها .. بينما قلبها يتوسل أن توقف عقابها له مؤقتًا وتذهب إليه .
أثرت بالأخير الاستماع لعقلها واستدارت نحو الدرج حتى تصعد مرة أخرى .. لكن قبل أن تخطو فوق أول درجة توقفت قدمها بسبب صراخ قلبها الذي يعنفها بقوة .. فتنهدت مغلوبة وقررت تهدئة ذلك القلب حيث عادت من جديد تكمل نزولها الهاديء إلى الأسفل وسارت نحوه ثم جلست بجواره على الأريكة تهمس :
_ مالك ؟
عدل وضعية رأسه ونظر لها مبتسمًا على اهتمامها بأمره ثم غمغم :
_ مفيش حاجة .. مرهق شوية من الشغل
مصمصت شفتيها بتردد قبل أن تهتف بحيرة :
_ يعني مفيش حاجة مضايقاك
اتسعت ابتسامته أكثر ليجيب عليها بنظرة دافئة :
_ لا مفيش .. بتسألي ليه ؟!
جلنار بخفوت :
_ اصل تقريبًا كل يوم بشوفك قاعد كدا يأما هنا أو في الجنينة برا

أخذت نفسًا عميقًا قبل أن تستكمل بخنق ملحوظ :
_ يعني اقصد من وقت ما عرفت حقيقة فريدة

فهم ما تلمح له فتلاشت ابتسامته ومد كفه الكبير يضعه فوق كفها يحتضنه برفق وحنو ثم يهمس بمرارة :
_ مش زعلان عليها ياجلنار .. الحاجة الوحيدة اللي بتقتلني من جوا إنها استغفلتني كل السنين ده وأنا مكنتش حاسس بيها .. اخدت مني حجات كتير مكنتش تستحقها .. والنتيجة في النهاية اكتشف إنها بتخوني
سحبت يدها من قبضته بهدوء تام واشاحت وجهها للجهة الأخرى تجيب في أسى :
_ الثقة حاجة مش بإيدنا وعمرها ما كانت ذنب .. الحياة أخذ وعطاء واللي زي فريدة موجودين عشان ياخدوا بس .. أما اللي زيّ بيعطوا وعمرهم ما خدوا حاجة

جعلته يلعن نفسه الف مرة في اللحظة .. قلبه يتمزق أربًا ما بين ألم الخيانة وبين ندمه وبغضه لنفسه اللعينة على ما اقترفته في حق زهرته الجميلة .. اقترب منها واحتضن وجهها بين كفيه يرفع شفتيه لجبهتها يلثمها بحب وبعد لحظات طويلة يبتعد ويستند بجبهته على خاصتها يهمس أمام وجهها لأول مرة بعاطفة تشعر أنها حقيقية :
_ من هنا ورايح مش هتدي تاني ، هتاخدي وبس .. وهفضل اعتذرلك واقولك سامحيني على كل حاجة .. فوقت متأخر ياجلنار .. ومش فارق معايا حاجة دلوقتي غيرك إنتي وبنتي ، مش مستعد اخسركم لأي سبب كان .. صدقيني بحمد ربنا إنه كشفلي حقيقتها وفوقني من اللي أنا فيه قبل ما اخسرك .. أنا آسف .. آسف .. آسف

منذ أن اقترب منها وطبع قبلته فوق جبهتها أغمضت عيناها ولم تفتحها .. تستمع لكلماته دون أن تراه وتشعر بأنفاسها الحارة تلفح صفحة وجهها .. لكنها فتحت عيناها مجبورة عندما سمعت كلمة ( آسف ) تخرج منه ببحة غريبة .. ورأت ما لم تتوقعه عندما تطلعت له .. عيناه تتلألأ فيها الدموع وينظر لها كطفل صغير طالبًا العفو .. تعرف أن ما ستفعله الآن ستندم عليه بالصباح لأنها ضعفت أمامه حتى لو لمجرد دقائق .. لم تضعفها كلماته بقدر رؤية دموعه في عيناه لأول مرة .
خرت منهزمة أمام قلبها وانهارت حصونها فمدت أناملها إلى وجهه تملس على لحيته الكثيفة برقة وعيناها الدافئة تتلاقي بعينيه الحانية .. وباللحظة التالية كانت تلف ذراعيها حول رقبته وتعانقه بقوة .. لتشعر به يلف ذراعيه حولها ويقربها منه أكثر دافنًا وجهه بين ثنايا رقبتها وشعرها يثلمها بعدة قبلات محبة ودافئة ويهمس وسط قبلاته يعلن بداية عهد جديد :
_ اوعدك إنك هتشوفي عدنان مختلف من الليلة دي
لا تنكر أنها كانت بحاجة لذلك العناق .. وتعترف أنها اشتاقت له بشدة رغم جميع محاولاتها الكاذبة في إظهار نفورها من لمسته واقترابه منها إلا أن ذلك العناق الحميمي أطفأ القليل من شوقها .. ويؤسفها أيضًا الاعتراف بأنها حين تستيقظ في اليوم التالي ستعود لما كانت عليه فلن تمنحه ما يريد بسهولة .. لا مزيد من العطاء فقد حان دوره هو ليريها كيف سيعيطها كما قال .

***
في صباح اليوم التالي ......
يجلس آدم وأسمهان حول مائدة الطعام يتناولون وجبتهم الصباحية .. كان هو يأكل بعجلة حتى لا يتأخر وعيناه تنظر كل لحظة والأخرى على أمه التي تعبث في صحنها دون أن تأكل والغضب يعتلى ملامح وجهها .. فتوقف عن الأكل وهتف :
_ مالك ياماما ؟
نظرت له أسمهان بعينان مليئة بالحقد والغل وهدرت ساخرة :
_ بقى على آخر الزمن هعتذر أنا من بنت نشأت !!
ابتسم آدم وقال بتعجب :
_ هو عدنان طلب منك تعتذريلها ولا إيه ؟!
أسمهان باستياء :
_ ده عمره ما عملها وطلب مني قبل كدا اعتذر من فريدة في حاجة .. دلوقتي بيهددني ويقولي لو أنا فارق معاكي هتعتذري منها .. اعتذر من دي !!!

ضحك آدم بصمت وقال بتأييد لأخيه :
_ الصراحة حتى أنا اندهشت .. بس مش من فكرة إنك تعتذري لا أن عدنان هو اللي طلب .. وأنا معاه بعد اللي عملتيه أقل حاجة تعمليها تعتذري من جلنار ياماما
صرخت أسمهان بعصبية :
_ هو إنت هتعملي زيه كمان !!!!
آدم ببرود أعصاب :
_ إنتي غلطتي ولازم تعترفي بكدا يا ماما .. في وسط الحالة اللي فيها ابنك وانتي عايز تخليه يشك إن حتى مراته التانية بتخونه .. كرهك لجلنار مخليكي مش شايفة حاجة قدامك حتى ابنك

ضربت بقبضة يدها فوق سطح الطاولة وتهدر مشتعلة :
_ وكمان برن عليه من الصبح مش بيرد عليا
غرس آدم الشوكة في قطعة الخيار وهو يبتسم ويرفعها لفمه ثم بخرج الشوكة ويضعها بجوار صحنه ليهب واقفًا ويقول بخبث قاصدًا كل حرف يتفوه به :
_ طبيعي ميردش عليكي أنا كلمته ورد عليا عادي .. وطالما قالك تعتذري منها يبقى كان جاد في كلامه وخصوصًا إنه عمره ما طلب منك حاجة زي كدا .. فأنا برأى تروحي وتعتذري من جلنار يا ست الكل بدل ما تخسري عدنان بجد

ارتبكت وتوترت من كلماته وبالأخص الأخيرة .. هل حقًا قد تخسر ابنها بسبب اعتذار على خطأ اقترفته .. مستحيل أن تسمح لابنة الرازي بأن تنجح في هذا أيضًا .

***
عقلها مشغول بالتفكير منذ الصباح في تصرفها بالأمس لم يكن عليها أن تضعف له .. لكنها انصاعت خلف صوت قلبها كالمتغيبة .. بالتأكيد سيظن أن بعد ما فعلته أنها سامحته ولكن هيهات ، فما حدث لم يكن سوى لحظة ضعف منها وقد عادت مرة أخرى لسابقها .
تجلس على الأريكة الهزازة بحديقة المنزل تمسك بكتاب تحاول القراءة ولكن عقلها لا يسمح لها !! .. وأمامها تلعب صغيرتها على العشب الأخضر تضع طاولة صغيرة ومقعد بلاستيك أمام الطاولة تجلس عليه وفوق الطاولة تضع العاب المطبخ البلاستيكية خاصتها وعلى الجانب الآخر دميتها المفضلة .. تلعب باندماج وسعادة ، لكن جلنار التفتت برأسها لليسار عندما رأت ابنتها تثب واقفة من مقعدها وتركض في ذلك الاتجاه صائحة :
_ جدو
تطلعت جلنار لأبيها في جمود دون أن تلقى التحية عليه حتى وتابعته وهو يتحدث مع هنا بحنو يهتف :
_ عاملة إيه يا أميرة جدو
هنا بابتسامة تسرق القلب :
_ كويسة ياجدو
نشأت بغمزة مشاكسة وحب :
_ جبتلك معايا لعبة حلوة أوي
انتبهت ليده التي يخفيها عن انظارها خلف ظهره فوثبت فرحًا وهتفت بحماس طفولي :
_ الله لعبة
أخرج يده من خلف ظهره لتظهر اللعبة عبارة عن دمية ضخمة وجميلة من إحدى أميرات أفلام الكرتون المشهورة موضوعة داخل علبة كبيرة بالكاد تكفي حجمها .. جذبتها هنا من يد جدها وهي تصيح بدهشة وسعادة وسرعان ما ارتمت على جدها تعانقه بقوة وهو يضحك بحب ، ثم ابتعدت وهرولت ركضًا تجاه أمها ترفع الدمية أمامها وتهتف :
_ بصي يامامي جدو جابلي إيه
ابتسمت لها جلنار بحنان ومدت يدها تملس على شعرها وتتمتم بخفوت جميل :
_ جميلة ياحبيبتي .. قولي لجدو شكرًا
هنا بعفوية وحب طفولي صادق :
_ شكرًا ياجدو .. إنت حبيبي
ارتفعت ضحكته على مشاكسة حفيدته واقترب نحوها ينحنى على رأسها يطبع قبلة فوق شعرها .. ثم ابتعدت الصغيرة عنهم وانشغلت بإخراج دميتها الجديدة بينما نشأت فتوجه وجلس بجوار ابنته يهتف بأمل :
_ عاملة إيه ياجلنار ؟
جلنار بجفاء دون أن تنظر له :
_ كويسة
نشأت بنظرات راجية :
_ مش كفاية بقى يابنتي .. إنتي عمرك ما كنتي قاسية كدا ياجلنار

ردت عليه بعدم تأثر بكلامه :
_ عايز تيجي تشوف هنا وتقعد معاها أنا معنديش مشكلة بس متنتظرش مني إني اسامحك
نشأت بجدية ونبرة صارمة :
_ انا جاي مخصوص النهارده عشان اتكلم مع عدنان .. هصلح الغلط اللي عملته وهخليه يطلقك لو هو ده اللي هيخيليكي تصفيلي وتسامحيني مستعد اعمله يابنتي

طالت النظر في وجهه أبيها بصمت فمن المفترض أن تسعد لكنها لم تفعل .. استمرت في التحديق به حتى اشاحت بوجهها وقالت باقتضاب :
_ عدنان مش موجود راح الشغل
تنهد نشأت تنهيدة طويلة بيأس ثم قال في وعيد ابوي حاني وحقيقي :
_ كل اللي عايزاه ياجلنار هيتنفذ ياحبيبتي صدقيني وطالما مش مبسوطة معاه ومش بتحبيه هخليه يطلقك

لم تجيبه فقط استمرت في التحديق أمامها بشرود وتفكير .. وتتردد في أذنها كلمته ( مش بتحبيه ! ) .. لا ، لا ، هي بالفعل لا تحبه ومايقوله عقلها هو الصحيح ! .

***
في تمام الساعة الثانية ظهرًا.....
كانت تقوم بمراجعة الدروس لصغيرتها .. يجلسون في غرفتها الصغيرة ويذاكرون بتركيز شديد .. حتى قطع عليهم عدنان اندماجهم عندما فتح الباب ودخل ، فهبت هنا واقفة وركضت نحو أبيها ترتمي عليه بسعادة :
_ بابي حبيبي
التقطها وحملها فوق ذراعيه يلثم وجنتيها باستمتاع ومداعبة هامسًا :
_ إنتي حبيبتي اكتر
قبلته هي الأخرى من وجنته برقة تليق بفمها الصغير والجميل فسمعت تأوهًا منه متلذذًا يهتف بضحكة :
_ اوووخ واحدة هنا كمان
رأته يشير إلى وجنته الأخرى ففعلت مسرعة تقبله بقوة أكثر ليضحك هو ويضمها إليه أكثر لاثمًا شعرها بحنو .

خرج صوت جلنار الحازم قليلًا وهي تهتف :
_ يلا ياهنا عشان نخلص ياحبيبتي .. بابا موجود بعد ما نخلص اقعدي براحتك معاه

علق نظره على جلنار بتدقيق فمنذ أن استيقظ بالصباح قبل أن يغادر كانت تتجاهله وتعامله ببرود وحتى الآن تستمر في تجاهله .. لم يكن ينتظر منها مسامحة بعد تصرفها اللطيف في الأمس لكنه ظن أنها ستلين له قليلًا واتضح العكس .
أصدر زفيرًا طويلًا بعدم حيلة ثم انزل صغيرته من فوق ذراعيه وهو يشير لها بعيناه أن تطيع كلام والدتها وتذهب لتكمل دورسها .. واقترب من جلنار بخطوات هادئة لينحنى عليها يمسك برأسها يلثم شعرها هي الأخرى بدفء مبتسمًا ثم ينتصب في وقفته ويستدير مغادرًا الغرفة ويغلق الباب معه كما كان .. استمرت جلنار في التحديق على أثره ناحية الباب بشرود حتى انتشلتها هنا وهي تقول :
_ يلا يامامي
عادت برأسها ناحية ابنتها واكملا معًا من عند النقطة التي توقفا عندها .

***
دخلت غرفتها بعدما انتهت أخيرًا مع ابنتها .. فرأته يخرج من الحمام دون أن يمسك بيده أي منشفة كالعادة .. يترك قطرات الماء تتساقط فوق صدره العاري ، ابعدت نظرها عنه واتجهت نحو المرآة تقف أمامه وتمسك بالفرشاة حتى تقوم بالتسريح السريع لشعرها .. فسمعته يهتف بتعجب :
_ حامد قالي إن نشأت كان هنا الصبح
ردت عليه بجمود دون أن تنظر له :
_ أيوة كان جاي يتكلم معاك
_ ليه ؟!
تنفست الصعداء بقوة مجيبة :
_ معرفش لما يجي تاني تبقوا تتكلموا
مسح على وجهه متأففًا من طريقتها في التحدث ثم اقترب منها وغمغم بحيرة :
_ في إيه ياجلنار ؟!!
تطلعت له وكررت جملته بعدم فهم :
_ في إيه !
عدنان بضيق :
_ أنا اللي بسألك فيه إيه .. امبارح كنا زي الفل ومن أول ما صحيتي النهارده بتتصرفي بالبرود والتجاهل ده
عادت بنظرها للمرأة تنظر لنفسها مغمغمة في ثبات مزيف :
_ امبارح أنا كنت مرهقة وتعبانة ومكنتش عارفة بعمل إيه !
بدأ يستاء بالفعل ليجيب عليها بقوة :
_ مكنش باين عليكي إنك تعبانة .. بعدين إنتي نمتي طول الليل في حضني
_ عشان غبية !!
خرجت تلك الجملة من بين شفتيها بصوت منخفض ولحسن الحظ أنه لم يسمعها حيث هتف بترقب :
_ قولتي إيه ؟!
جلنار بصوت رقيق :
_ ولا حاجة ياعدنان
مسح على وجهها متأففًا بنفاذ صبر ثم انحنى عليها من الجانب يهمس بالقرب من أذنها :
_ احيانًا بتعصب جدًا من اسلوبك وتجاهلك ليا .. بس برجع واقول عندها حق هي استحملت معاملتي لسنين وجه دوري استحمل شوية .. وده اللي مصبرني

ابتسمت بسماجة وردت عليه في برود اعصاب مستفز :
_ بظبط استحمل .. طالما دي رغبتك يبقى هتستحمل

قبض على فكها يضمه للأمام مانعًا تلك الابتسامة المستفزة من الظهور فوق شفتيها وهو يجيبها بغيظ مكتوم :
_ وماله .. نستحمل يارمانتي .. حقك !
ابعدت يده بهدوء وهي تعود وترسم الابتسامة لكنها صفراء ثم تركت الفرشاة واستدارت تغادر الغرفة وتتركه يتنهد مغلوبًا على أمره .

***
في مساء ذلك اليوم ........
مر نشأت مرة أخرى على المنزل أثناء عودته من العمل وكمان توقع كان عدنان بالمنزل وتحديدًا بمكتبه الخاص يقوم بإنهاء بعض الأعمال حتى قطعه نشأت الذي استقبله بترحيب عادي هادرًا :
_ اهلًا .. اتفضل اقعد .. هو الموضوع مهم للدرجادي اللي يخليك تيجي مرتين ؟!
نشأت بحزم :
_ بنسبالي مهم جدًا
عدنان باستغراب وفضول :
_ خير !!
_ جلنار
انتبهت جميع حواس عدنان فور همس نشأت باسم جلنار ليقول بعدم فهم واهتمام :
_ مالها جلنار ؟!!
نشأت في حدة وصلابة :
_ هتطلقها ياعدنان ! ....




تستطيع رؤية العُقاب في السماء ..
لكن لا يمكنك تعقبه ..
فانقضاضه يكون مفاجيء وغير متوقع ! .

طالت النظرات الثاقبة في عيني عدنان يصوبها كالسهوم الجارحة في عين نشأت .. الذي يجلس بدوره في صلابة وقوة .
لم يسمع قط عن انقضاض الجوارح المفترسة كيف يكون ولكنه سيكون من المميزين الذين سيشاهدون العرض بعيناهم ! .
بدأ عدنان هادئًا بشكل يثير القلق ويمسك بيده قلم يطرق بسنه على سطح المكتب محدثًا صوتًا مزعجًا .. وبالخارج كانت جلنار تقف أمام الباب تستند بأذنها تستمع لحديثهم .. تترقب سماع رده لكن لا يوجد بالغرفة صوت سوى صوت طرق القلم ! ، وإذا بها آخيرًا تسمع صوت عدنان الذي أجاب :
_ اطلقها ليه ؟!
هتف نشأت بغضب :
_ عشان هي مش عايزاك ياعدنان !
يستمر في الطرق فوق سطح المكتب بالقلم ويبتسم في شكل مريب مجيبًا ببرود :
_ بس هي مقالتليش كدا !
نشأت بعصبية حقيقية :
_ اسمع ياعدنان أنا سبق وغلطت لما جوزتك بنتي ودلوقتي جه الوقت اللي اصلح غلطتي
رفع القلم وقلبه بين أنامله ومازال يحتفظ بإطار بروده وهدوئه المزيف حيث رد عليه :
_ هو قرار حلو ويحترم طبعًا .. بس أنا مش هطلقها
هب نشأت ثائرًا وصاحب به :
_ يعني إيه مش هتطلقها .. دي بنتي وأنا بقولك هي مش عايزاك ولازم تطلقها
وقف عدنان هو الآخر بدوره وسار نحوه يهتف بنبرة صوت بدأت تظهر خشونتها :
_ بنتك مراتي وهتفضل مراتي سواء وافقت أو رفضت
_ إنت متستاهلش جلنار وأنا اللي كنت قذر وبعت بنتي عشان شغلي ومصلحتي
فقد أعصابه ولم يعد لديه القدرة على تصنع البرود أكثر من ذلك ، فانفجر بنشأت كالثور يصرخ به بعينان حمراء كالدماء :
_ كنت قذر ومازالت يانشأت متعملش قدامي دور الأب المثالي والمحب .. دلوقتي افتكرت بنتك وجاي تقولي طلقها .. عايز تصلح علاقتك بيها يبقى بعيد عني ومتحاولش تفصلها عني .. لأن ده مش هيحصل ، جلنار وبنتي هيفضلوا معايا وجنبي ومش هطلقها .. تحب أعيد تاني ولا المعلومة دخلت !
ابتسم نشأت بسخرية وقال في نظرات شيطانية وساخطة :
_ إنت عارف إني اقدر اخليك تطلقها إن مكنش برضاك يبقى غصب عنك .. وإذا كنت أنت ابن الشافعي فمتنساش إني نشأت الرازي والاسم ده إنت عارف كويس أوي يقدر يعمل إيه
ضيق عدنان عيناه باستغراب يجيبه بصوت متحشرج :
_ تقصد إيه ؟!
نشأت بشيطانية وغضب عارم :
_ يعني زي ما الصفقات اللي بينا من سنين واللي كنت أنا السبب فيها خلت من اسم عدنان الشافعي يبقى ليه وضعه ومقامه في السوق كله .. بحركة واحدة مني اقدر اهد كل ده زي ما عملته .. بفضيحة ليك مثلًا ! .. عشان كدا تبعد عن بنتي بالذوق وتنهي كل حاجة بهدوء زي ما بدأت

انطلقت شهقة مدهوشة من جلنار بالخارج فور سماعها لكلمات أبيها .. ستندلع الحرب الآن إن لم تسرع وتتدخل لتنهي هذه المهذلة وتوقفهم عند حدودهم .. أسرعت وفتحت الباب تهرول وتقف بينهم صائحة بعصبية شديدة :
_ إنتوا إيه اللي بتعملوه ده .. لو هنا نزلت وسمعت كلامكم ده هتقولولها إيه .. بباها وجدها بيهددوا بعض !! .. ثم إن محدش فيكم ليه الحق ياخد قرارات تخص حياتي .. دمرتوها مرة قبل كدا ومش هسمحلكم تدمروها تاني .. أنا بس اللي اقرر عايزة إيه سواء اكمل معاه أو لا
تطلعت لعدنان هاتفة بشجاعة :
_ أنا لو لسا مكملة معاك يبقى اكيد مش عشان إنت رافض تطلقني .. أنا لو عايزاك تطلقني هيحصل وغصب عنك
ثم التفتت لأبيها تقول باستياء :
_ وإنت لو عايز تساعدني بجد يبقى تسيبني إنا اللي اتحكم في حياتي .. إنت لما جيت الصبح قولتلي إنك هتتكلم مع عدنان وهتخليه يطلقني مسألتنيش عن رأى حتى هل لسا عايزة اتطلق ولا غيرت رأى
نشأت بتعجب وصوت حاد :
_ وهو مش إنتي اللي دايمًا بتقوليلي طلقني منه .. ولو عايز تثبت ندمك يبقى صلح غلطتك وخلصني من عدنان .. إيه اللي اتغير !! .. لو مش عايزة تتطلقي امال عايزة إيه بظبط !
صرخت بانفعال شديد ونفاذ صبر :
_ مش عارفة .. مش عارفة أنا عايزة إيه .. كفاية بقى ابوس ايديكم أنا تعبت من أني أكون دايمًا الضحية وسط خنقاتكم ومشاكلكم واتفاقتكم .. أنا اللي في النص بينكم ومبقتش عارفة اعمل إيه زهقت من انانيتكم

اندفعت إلى خارج الغرفة مسرعة فتبادلا هم النظرات المستاءة فيما بينهم وكان عدنان هو أول من يغادر ليلحق بها وأثناء صعوده الدرج قابل صغيرته التي كانت خائفة قليلًا ومدهوشة تسأله :
_ بابي هو في إيه ؟!
جثى أمامها متحضنًا وجهها بين كفيه ويطبع قبلة رقيقة فوق وجنتها متمتمًا بمداعبة :
_ مفيش حاجة ياملاكي .. إنتي قاعدة صاحية لغاية دلوقتي ليه ؟
هنا بعبوس :
_ مامي كانت بتحكيلي قصة عشان انام وقالتلي هتنزل تشلب ( تشرب ) مايه وبعدين مرجعتش وأنا سمعت صوت عالي وخوفت

عاد يلثم وجنتيها بحب تعبيرًا عن اعتذراه .. ثم رفع نظره لأعلى تجاه غرفة زوجته فتنهد بعدم حيلة ويأس ليحمل ابنته فوق ذراعيه ويتجه بها للأعلى نحو غرفتها هامسًا :
_ ايه رأيك اكملك أنا القصة اللي كانت بتحكهالك ماما لغاية ما تنامي ؟
استندت برأسها فوق كتف أبيها وتمتمت برقة :
_ ماشي

بينما نشأت فصعد الدرج خلفهم مباشرة يتجه نحو غرفة ابنته حتى يتحدث معها .

***
رآها تجلس على الأريكة وتستند بمرفقها فوق ذراع الأريكة وبيدها الأخرى ترفعها لوجهها تجفف دموعها المنهمرة .. فتنهد بحزن ودخل ثم اغلق الباب بهدوء شديد وتقدم إليها ببطء ثم جلس بجوارها .. فابتعدت هي للجانب تترك مسافة بينهم دون أن تتطلع إليه لكنها سمعته يهمس بحنو ومشاعر أبوية صادقة :
_ جلنار .. أنا دلوقتي مش عايز حاجة غير سعادتك وراحتك والله يابنتي .. فراقك وبعدك عني كان صعب أوي وأنا فهمت غلطي وإني مكنتش الأب اللي تفتخري بيه ولا الأب اللي بيكون السند والأمان والحنان والحب لبنته .. غلطت ومفيش حد فينا معصوم من الغلط بابنتي .. مامتك لو كانت عايشة .....
اندفعت جلنار تكمل جملته بحرقة ودموع تملأ وجهها :
_ ماما لو كانت عايشة مكنتش هتسمح إن كل ده يحصلي ولا اتظلم كدا .. مكنش أي حاجة من ده كله حصلت
أجفل أنظاره بخزي والم ثم تمتم بعد لحظات :
_ يمكن فعلًا مكنش حاجة حصلت .. كنا هنفضل كلنا مع بعض ومكنش في حاجة هتفرقنا .. هي أكيد مش مبسوطة وهي شيفانا متفرقين كدا يابنتي
انهارت أمامه تهمس ببكاء وصوت متقطع تشهق بقوة :
_ وحشِتني أوي يابابا
اقترب منها يضمها لصدره لأول مرة منذ سنوات ، يملس على شعرها وظهرها بحنو متمتمًا في صوت مبحوح :
_ وأنا كمان وحشتني أوي ياحبيبتي والله .. بس دايمًا بصبر نفسي وبقول إنها في مكان افضل مننا

أدركت أنها بين ذراعيه بعد لحظات فابتعدت عنه بعبوس ، مازالت لا تتمكن من العفو بسهولة هكذا .. ستحتاج لوقت طويل حتى تصفح له ..
أخذ نشأت نفسًا عميقًا قبل أن يسألها بجدية :
_ إنتي عايزة تطلقي منه ولا لا ياجلنار ؟

سكتت لوهلة تفكر في سؤاله .. وتبحث في عقلها عن أجابة .. هل تريد الشتاء أم الخريف ؟ .. بقائها معه يعني المزيد من شتاء قارص وحاد لكنه أيضًا يبعث السعادة في نفسها ويحمل احيانًا بعض الدفء .. أما أنفصالهم فسيكون خريف عاصف وجنوني لا يحمل سوى الرياح القاسية وربما يكون بداية جديدة أو نهاية ! .

لا تجد إجابة .. تنسحق بين عضوين لا يجتمعان على رأى واحد .. كل منهم يريد ما يهواه وكلاهما يتميزان بالعناد .. أي منهما عليها أن تتبع ؟!! ..
هزت رأسها باليأس مردفة بعبوس :
_ مش عارفة .. يمكن أنا محتاجة وقت اكتر عشان اقدر اقرر أنا عايزة إيه واخد القرار الصح
أصدر نشأت زفيرًا حارًا مغلوبًا على أمره ويجيبها بتفهم :
_ طيب مش هضغط عليكي ياجلنار فكري براحتك .. بس اتأكدي إن أي كان قرارك أنا معاكي فيه .. زي ما قولتلك أنا دلوقتي يهمني سعادتك بس
أماءت برأسها له في جمود ملامح وتابعته وهو ينهض وينحنى طابعًا قبلة فوق شعرها ويهمس :
_ تصبحي على خير ياحبيبتي .. عايزة حاجة ؟
انكمشت على نفسها كدليل على أنها مازالت لم تسامحه واكتفت بهز رأسها بالنفي في حزم بسيط .. فتنهد هو واستدار يبعتد عنها حتى غادر الغرفة بأكملها .

***
سمعت صوت الباب ينفتح من جديد بعد رحيل والدها بدقائق ، لا تحتاج للالتفات حتى ترى من ذلك ! .. أساسًا لا يوجد غيرهم بالمنزل الآن .
كانت متسطحة فوق الفراش تنام على الجانب مولية ظهرها للباب ، ضربت خطواته بأذنها وهو يقترب منها ، حتى شعرت به يشاركها الفراش .. وصوت زفيره وتنهده هو الوحيد المسموع .
بالوضع الطبيعي لن تسمح له بإن يبقى بجانبها ، لكنها ليست في مزاج لتتحمل جدال مختلف بينهم ، استمر الصمت والسكون يملأ الغرفة حتى أحست بأنامله تمر فوق خصلات شعرها برقة ، تارة يغلغلها في لطف وتارة يملس فوقه فقط ، كانت على وشك أن تلتفت له وتوقفه لولا أنها سمعت صوته وهو يسألها بضياع :
_ إنتي بتكرهيني بجد ولا دي مجرد كلمة بتقوليها في وقت غضبك مني ؟!

تجمدت بمكانها فور وقع سؤاله المريب عليها .. ذلك السؤال وضعها في مهب الريح ، لوهلة ظنت أنه صوت عقلها من كثرة تفكيرها هل تريده أم لا .. تبغضه أم تحبه ! .
ليس وحده من يحتاج للإجابة على السؤال ، هي أيضًا تحتاج للإجابة التي تبحث عنها في ثناياها ! .
استدارت برأسها للخلف تتطلعه بعمق ثم همست :
_ عايز تسمع إيه !
_ الحقيقة
تنهدت بقوة واعتدلت في نومتها لترتفع بجسدها للأعلى قليلًا مستندة على ظهر الفراش تجيب بصدق :
_ مش عارفة .. يمكن اكون بكرهك ويمكن لا
عدنان باستغراب :
_ معناه إيه ؟!
جلنار ببساطة :
_ يعني مقدرش اجاوبك على سؤال أنا مش لاقية إجابته أساسًا
غمغم مبتسمًا بعبس بسيط ولهجة شبه استنكارية :
_ زي الطلاق كدا مش عارفة إنتي عايزة إيه !

طالت النظر في عيناه بتدقيق وقوة تحاول الولوج والوصول لما يجول داخل ذلك العقل المعقد ، لكنها فشلت فقالت باستسلام ونفاذ صبر :
_ إنت عايز إيه ياعدنان ؟!!
توقعت أن سيمهل نفسه اللحظة للتفكير ثم يجيب لكنه خيب ظنها ووجدته يجيب دون تردد :
_ عايزك
لم تكن سوى كلمة واحدة لكنها نجحت في ثرك بصمتها .. دهشها بثقته وعدم تردده في قول ما يريده بالضبط .. لم يبدي لها قط من قبل عن رغبته بها ، ربما لذلك ادهشتها الكلمة ! .
اكمل كلامه بجدية :
_ امبارح قولتلك مش مستعد اخسرك لأي سبب كان .. وطبيعي لما اسمع نشأت بيقولي اطلقك هتكون دي ردة فعلي
اعتدلت حتى انتصبت جالسة وحدقت في عيناه بقوة تهدر بعناد :
_ ليه عايزة افهم .. عايزاني ليه !!!
عم السكوت للحظات بينهم ، تراه يرمقها مبتسمًا بشكل غريب حتى وجدته يقترب إليها ويستند بجبهته فوق خاصتها .. يتنفس الصعداء بقوة ويخرج زفيرًا دافئًا بتمهل .. ثم يمد كف يضعه فوق وجنتها والآخر امتدت أنامله إلى خصلات شعره يعبث به في نعومة ويهمس أمام وجهها باسمًا بعاطفة جديدة :
_ وكيف يتخلى العُقاب التائب عن زهرته الحمراء !

تطلعت في عيناه مدهوشة .. لم تكن أبدًا تتخيل أنه مازال يتذكر تشبيهها له بطائر العُقاب .. هي لا تذكر أساسًا أنها أخبرته بذلك سوى مرتين أو ثلاثة فقط .. فانطلقت فوق شفتيها شبه ضحكة خافتة امتزجت ببعض الخجل لتجيبه هامسة :
_ لسا فاكر !
هز رأسه بالإيجاب واتسعت ابتسامته أكثر .. طال اقترابهم ووضعهم هكذا لثلاث دقائق تقريبًا كل منهم يستشعر دفء الآخر ويستنشق أنفاسه الدافئة .. علق نظره على ابتسامتها الساحرة برغبة .. تجاهل ذلك الصوت الذي يلح عليه بأن لا ينفذ ما يدور بمخيلته .. فمؤكد أن النتيجة لن تكون محببة .. دفن الصوت ولم يبالي به وتدريجيًا تلاشت ابتسامته وهو يميل عليها حتى ينل ما يرغب به .
هامت ووهنت فاللحظة كانت ستسقط رايتها وتعلن انهازمها إلا أنها استعادت وعيها المفقود باللحظة الأخيرة ودفعته ثم وثبت واقفة من الفراش تصيح به بغيظ :
_ مستغل وعايز تستغل كل فرصة ، بس بعينك تطول حاجة .. في حدود بينا متتعدهاش .. ومتنساش إني لسا مسامحتش ويمكن مسامحش
تعجب من انفعالها المفاجيء وثورانها لكنه مسح على وجهه متأففًا يستغفر ربه بخنق .. ليجدها تسحب وسادة وتحتضنها إلى صدرها وتسير لخارج الغرفة .. حدجها بغيظ وهتف بحدة :
_رايحة فين ؟!!
_ هنام مع هنا في اوضتها
هتف مغتاظًا بلهجة ساخرة ومرتفعة بعد أن انصرفت :
_ مش عايزة تاخدي البطانية معاكي كمان !

لم يسمع رد منها وفقط سمع صوت باب ابنته المجاور لغرفتهم وهو ينغلق .. فتأفف بنفاذ صبر وتمدد على الفراش يعدل من وضيعة وسادته في عنف ويهتف وهو يمد ذراعه ليطفيء الضوء :
_ خلصنا من متلمسنيش دخلنا في الحدود !! .. اووووف

***
وصل إلى طابق شقتها ووقف أمام الباب ثم رفع كفه يطرق بقوة .. ثم ينزل يده وينتظر للحظات وحين لم يجد رد يعود ويطرق من جديد حتى انفتح الباب فجأة على غرة .. ووجدها تتطلع إليه بابتسامة خبيثة ترتدي ثوب أزرق قصير يصل فوق الركبة ومن الأعلى يظهر من جسدها أكثر مما يخفي .
لاحظت تسمره وهو يتفحصها بنظراته فقبضت على ذراعه وجذبته للداخل ثم أغلقت الباب .. وقبل أن تهتف بكلمة كان هو يهتف بعصبية :
_ ايه اللي عملتيه مع زينة ده وازاي تتكلمي معاها أساسًا
اقتربت منه بدلال ثم مدت أناملها تعبث بلياقة قميصه متمتمة بسخرية :
_ قولت لازم اباركلها ياحبيبي
رائد بغضب وهو يزيح يديها عنه :
_ملكيش دعوة بيها خالص
أعادت أناملها مرة أخرى ولكن هذه المرة تمررها بمكر وحركات مدروسة :
_ طيب متعصبش نفسك كدا .. متخفش مش هقولها على اللي بينا أكيد .. بس لعلمك البنت دي ذكية وهتكتشف وحدها
رائد بلهجة محذرة :
_ مش هتعرف لوحدها ولو عرفت يبقى مفيش غير حاجة واحدة بس وهي أن حد قالها وصديقني لو ده حصل هـ ......
_ الله ما قولتلك مش هقولها .. هو إنت جاي عشان تحذرني وبس يعني !
لمس الغنج واللؤم في نبرتها فابتسم بمشاكسة وعيناه تدور على كل جزء بجسدها ثم تمتم :
_ على حسب
تدللت أكثر ورفعت نفسها لمستواه تطبع قبلة ناعمة فوق وجنته هامسة :
_ طب وكدا
انحنى وحملها فوق ذراعيه يستدير ويسير بها تجاه الغرفة وهو يقول بابتسامة لعوب :
_ لا كدا نبقى نفكر جوا بقى
انطلقت منها ضحكة وضيعة بصوت مرتفع .. بينما في تلك الأثناء كان صوت رنين هاتفه يرتفع ولكنه لا يهتم له دون حتى أن يعرف هوية المتصل الذي كان " زينة " !! .

***
في صباح اليوم التالي ........
خرجت مهرة من مقر الشركة بعد انتهاء دوامها اليومي في العمل .. وكانت تسير وعيناها في حقيبتها تعبث بها بيدها بحثًا عن الخاتم الخاص بها بعدما نزعته من إصبعها والقت به في الحقيبة دون اهتمام .
اخرجت يدها أخيرًا ومعها الخاتم وهي تبتسم بانتصار ، وبتلقائية اعتدلت في سيرها ورفعت رأسها تنظر للطريق أمامها لكنها تجمدت بأرضها وفرت الدماء من وجهها بزعر ، يقف على الجانب الآخر من الطريق وينظر لها بشيطانية ووعيد حقيقي .. لطالما كانت تخشى تلك النظرات ومازالت حتى الآن لا تغادر ذاكرتها ، ازدردت ريقها برعب وقد بدأت يدها ترتجف وبحركة تلقائية تقهقهرت للخلف حين رأته يقترب ليعبر الطريق ويصل إليها .. فالتفتت هي إلى الشركة الآن ذلك المكان هو الملاذ الوحيد لها ، هرولت ركضًا تعود للداخل دون أن تتلفتت برأسها للخلف حتى من فرط رعبها .

دخلت الشركة واسرعت تركض فوق الدرج .. وبتفكيرها لا يوجد شيء سوى أنه يلحق بها الآن .. تخشي أن تلتفت برأسها فتجده بوجهها .
وصلت إلى الطابق الثالث الذي تعمل به وبدون تفكير لا تعرف لما قادتها خطواتها المتعثرة تجاه مكتب آدم .. أسرعت إليه وفتحت الباب ثم دخلت واغلقته خلفها ووقفت تلتصق بالباب وتلهث بقوة ويداها ترتجف فوق المقبض .
ضيق آدم عيناه مدهوشًا من دخولها المفاجيء دون أي أذن وكان سيهم بتعنيفها لكنه لمح ارتجافها وخوفها وهي تلتصق بالباب تحكم قبضتها عليه بشكل غريب وتلهث ، نهض من مقعده وتقدم إليها يهتف بتعجب :
_ في إيه يامهرة ؟!!!
إجابته بصوت مبحوح دون أن تلتفت برأسها إليها :
_ كان ورايا .. أكيد بيدور عليا دلوقتي
اقترب أكثر حتى وقف بجوارها وابعد يدها بلطف من فوق المقبض يتمتم في صوت رخيم :
_ هو مين ده اللي كان وراكي ؟
مهرة بحالة هيستريا من الخوف وهي ترتجف وعيناها تذرف الدموع :
_ المرة دي مش هعرف اهرب منه .. ابوس ايدك متخلهوش يأذيني يا آدم
أشفق عليها بشدة لأول مرة يراها بهذه الحالة الغريبة .. فرد ذراعيه وحاوطها من كتفيها بدفء متمتمًا في خفوت جميل يبعث الأطمئنان :
_ محدش يقدر يأذيكي .. اهدي بس كدا وفهميني في إيه ومين ده اللي بتتكلمي عنه !
أخذت نفسًا عميقًا وأجابت عليه وهي لا تزال ترتجف :
_ أنا .. كـ..ـنـ..ـت طـ..طالعة من الشركة وشـ..ـوفته بعدين لقيته جـ..ـاي عليا فـ .. جريت على هنا
احتضن كفها بين يديه وحثها على السير معه حتى وصلا إلى الأريكة .. اجلسها فوقها ومد ذراعه يلتقط كوب الماء الممتلىء ثم يمده إليها فتجذبه من يده وتشربه كله دفعة واحدة بيد مرتعشة ، فور انتهائها جذب الكوب واسنده فوق الطاولة الصغيرة مجددًا وعاد يمسك كفها بيد واليد الأخرى يملس بها فوق ظهر كفها في لطف حتى تهدأ ويهمس :
_ مهرة .. مهرة بصيلي .. اهدي واحكيلي مين ده ، إنتي معايا دلوقتي مفيش حد هيقدر يأذيكي متخافيش
لم يجد إجابة منها فتابع بترقب :
_ اللي كان وراكي ده الراجل الحيوان اللي اسمه ريشا تقريبًا ولا لا ؟
هزت رأسها بالنفي ووثبت واقفة فورًا ثم هرولت نحو النافذة الزجاجية تقف أمامها وتشير على الطريق هاتفة :
_ كان واقف هناك .. أكيد دخل الشركة
نظر إلى حيث تشير بأصبعها ولم يجد أحد ليجيبها باستغراب :
_ مفيش حد يامهرة ومش أي حد يقدر يدخل الشركة
هتفت بانفعال بسيط وخوف :
_ بقولك كان ورايا أكيد دخل
تنهد بقوة ثم ابتعد عنها واتجه إلى مكتبه يمسك بالهاتف ويجري اتصال بأحد من أمن بوابة الشركة الذي اجابه بعد لحظة بالضبط .
آدم بجدية :
_ في حد دخل الشركة دلوقتي بعد أنسة مهرة علطول ؟
_ لا يا آدم بيه محدش دخل .. آخر حد شوفته كان الأنسة

اماء برأسه في تفهم وانزل الهاتف ثم نظر لها وقال بصوت جاد :
_ محدش دخل وراكي !
_ ازاي بس أنا شوفته والله .. كان بيبصلي بطريقة مرعبة واول ما قرب عليا أنا جريت ودخلت الشركة تاني
تقدم إليها ووقف أمامها يلف ذراعه حول كتفيها ويتمتم بلطف وصوت رزين :
_ تعالي يامهرة اقعدي واهدي الأول .. إنتي شكلك مرهقة من الشغل .. واول ما تهدي هاخدك واوصلك بيتك
سارت معه باتجاه الأريكة متطلعة إليه بيأس وتهتف في خوف :
_ آدم أنا شوفته بجد والله أنا مش مجنونه
وصلا إلى الأريكة فجلست هي اولا ثم جلس هو بجانبها وتمتم مبتسمًا بعذوبة :
_وهو مين قال إنك مجنونه بس .. أنا مصدقك بس وارد تحصل حجات زي كدا لما تكوني مرهقة وتتخيلي اشخاص مش موجودين .. عشان كدا بقولك اهدي ومتغشليش بالك انسي اللي شوفتيه أي كان هو إيه ومتخافيش ، وأنا بنفسي هوصلك لبيتك عشان تتطمني

اجفلت نظرها أرضًا عابسة .. هي بالفعل هدأت وارتجاف يديها اختفى لكن بعض الخوف مازال يتملكها .. ولا تصدق أن ما رأته كان تخيلات سخيفة من عقلها .

***
فور عودته للمنزل اتجه إلى غرفة ابنته أولًا كعادته فتستقبل الصغيرة والدها بحرارة وسعادة كما اعتادت كلما يعود للمنزل بعد غياب لساعات طويلة .
خرج من غرفة ابنته واتجه إلى غرفته ليبدل ملابسه ويأخذ حمامه الدافيء حتى يزيح عن جسده إرهاق العمل .

بعدما انتهى .. خرج من الغرفة واتجه إلى المطبخ حيث تقف هي ..
وجدها تقوم بتحضير كعكة ويبدو أنها انتهت منها فقط تضع اللمسات الأخيرة فوقها ، لم يكن هذا ما لفت نظره بقدر الثوب الستان الذي ترتديه .. قصير وبحمالات رفيعة وفتحة الظهر من الخلف تصل لمنتصف ظهرها .. ولون اللافندر لا يقاوم عليها .

ما الذي تحاول فعله تلك الماكرة .. بالأمس لا تسمح له بالاقتراب منها وتثرثر بحدود وأشياء سخيفة كهذه والآن ترتدي هذا ، هل ترغب في فقدانه لجزء من عقله !! .
انتبهت لوجوده فالتفتت له برأسها وهتفت بعفوية :
_ what ?! ( !ماذا ؟ )
عدنان بنظرات دقيقة ونبرة مغتاظة :
_ حلو اللافندر ده !!
لم تعيره الاهتمام المرغوب واكتفت فقط بالرد عليه وهي تكمل تحضير كعكتها :
_ thank you
عض على شفاه السفلية بغيظ ثم تقدم بخطواته إليها يقف بجوارها ويهمس في نظرة مشتعلة :
_ حلو النوم في أوضة هنا ؟!!
لاحظت الغيظ في نبرته المشتعلة فلم تتمكن من منع ابتسامتها ورمقته ببراءة مصطنعة تهمس :
_ جدًا ارتحت أوي الصراحة .. حتى قررت اني انام كل يوم معاها
ابتسم بطريقة مريبة وأجابها مستهزئًا كلامها :
_ كل يوم !!!
_ امممم .. هو إنت عندك مانع ولا إيه ؟!
ضحك ساخرًا يستنكر سؤالها بأسلوب اضحكها :
_ أنا !! .. لا أبدًا .. تحبي انقلك دولابك في اوضتها كمان ؟!
زمت شفتيها برفض تتمالك نفسها من الضحك بصعوبة وتجيب عليها بعذوبة صوتها :
_ لا لا ملوش لزمة وبعدين مفيش مكان في أوضة هنا .. أنا لما ابقى احب اغير هروح اجيب هدومي من الأوضة عادي
عدنان كاظمًا غيظه عنها بصعوبة :
_ اممم كتر خيرك والله
تطلعت إليه بسكون للحظات ولا تنكر أن نظراته المميتة لها اربكتها فصاحت بصوت مرتفع كاتمة ابتسامتها :
_ هنا تعالي ياحبيبتي شوفي cake بعد ما خلص

تستعين بصغيرتها حتى تنقذها من بطش أبيها إذا فقد تملكه لأعصابه .. لا يزال يرمقها بتلك النظرات المريبة فازدردت ريقها بتوتر وعادت تصيح مرة أخرى على ابنتها :
_ يلا ياهـــنــا
ركضت الصغيرة إلى بالمطبخ هاتفة بحماس طفولي :
_ وريني الكيك يامامي
حملتها فوق ذراعيها ترفعها لأعلى حتى تتمكن من رؤيته وبعيناها تتابع نظرات عدنان التي انخفضت تتفحص جسدها كله في ذلك الثوب بتدقيق وأعيان ليست بريئة اطلاقًا .. فقالت مسرعة بنبرة مرتفعة قليلًا تقصده من خلالها وهي تنظر له بشراسة :
_ بصي على الكيك ياهنا ياحبيبتي
فهم تلمحيها وتحذيرها فابتسم بخبث وحرك شفتيه يهمس دون صوت :
_ انهي واحد !
استشاطت غيظًا من تلمحيه الوقح واكملت هذه المرة لصغيرتها لكن عيناها عالقة على أبيها بنارية :
_ تعالي ياحبيبتي نقعد برا على TV شوية
هنا بعبس :
_ طيب والكيك
_ لا ده بليل ياروحي احنا دلوقتي معاد الغدا وبليل نبقى ناكل الكيك
أماءت هنا برأسها في موافقة رغم عبوسها البسيط ، ثم انصرفوا وتركوه يقف بمفرده في ذلك المطبخ الكبير ، انحرفت عيناه على كعكة الشكولاته المتوسطة والمزينة بقطع فراولة من الأعلى وقطع شوكولاته بيضاء تضعها بشكل منظم .. مد يده والتقط قطعة فراولة بالشكولاته صغيرة والقاها في فمه ثم استدار وغادر المطبخ هو أيضًا .

***

_ بس كفاية لغاية هنا أنا هنزل وأكمل وحدي لغاية البيت !
هتفت مهرة بها عندما وصل آدم بسيارته لبداية منطقتها ، لا تريد أن يراها أحد وهي تنزل من سيارته .. يكفي ما تتناقله الألسن في المنطقة حولها .
نظر آدم من نافذة السيارة فمازال هناك مسافة طويلة حتى منزلها .. عاد ينظر لها يسألها بترقب :
_ متأكدة ؟!
أماءت برأسها في إيجاب وابتسمت تهدر بامتنان حقيقي :
_ أيوة كويس أوي لغاية هنا .. متشكرة جدًا يا آدم بيه
ضحك وقال مداعبًا :
_ كنت آدم بس من شوية في المكتب !!
ضحكت هي الأخرى وقالت بمرح تعود لطبيعتها :
_ انا كنت مش قادر اخد نفسي أساسًا .. كنت لسا هقولك آدم بـــيــه .. ايه وجع القلب ده فاختصرت الوقت والمجهود وخليتها آدم بس .. الواحد صحته على قده بقى ربنا يبارلك في صحتك اصل .....
قاطعها مبتسمًا بعدم حيلة :
_ كفاية يامهرة .. أنا كنت لسا هسألك بقيتي كويسة ولا لا دلوقتي .. بس خلاص اخدت الإجابة من غير ما أسأل الحمدلله
مهرة بتلقائية :
_ يعني هيحصلك حاجة لو سبتني في مرة اكمل كلامي .. ما تجيب صبارة وتدفني احسن
قهقه بقوة وأجابها ساخرًا من بين ضحكه :
_ ما أنا لو سبتك والله ما هنخلص .. عشان انتي والراديو نفس الشيء .. لو فتحتيه مبيفصلش غيري لم تقفليه بنفسك
_ طيب يا سيدي شكرًا كفاية
فتحت الباب وقالت بابتسامة سمجة وهي تهم بالنزول من السيارة :
_ استمر كدا في احباطي لغاية ما تقتل روحي الفكاهية ياعدو البهجة
غضن حاجبيه بتعجب لكنه ضحك مغلوبًا على أمره .. وانزل زجاج السيارة يهتف بنبرة مهتمة وهو يضحك :
_ خلي بالك من نفسك !
التفتت له برأسها توميء بالموافقة في ابتسامة ساحرية وتشير له بيدها أن يرحل .. لكنه استمر في متابعتها بعيناه حتى دخلت في شارع موازي واختفت عن أنظاره فادار محرك السيارة وانطلق بها ....

***
بعد مرور ساعات قليلة ......
دخلت هنا الصغيرة على أمها الغرفة وقالت بإشراقة وجه بريئة ولطيفة مثلها :
_ مامي تيتا برا وبابي قالي اقولك تيجي
رفعت حاجبها منذهلة وردت :
_ تيتا برا !! .. طيب ياحبيبتي روحي وقولي لبابا جاية
ابتسمت جلنار بانتصار وثقة فور رحيل ابنتها هاتفة في وعيد :
_ ولسا يا أسمهان هانم .. هتشوفي مني كتير الأيام الجاية

خرجت بعد دقائق ورأتهم يجلسون في الحديقة فذهبت لهم وتقدمت نحوهم بخطوات واثقة ونظرات كلها شموخ حتى وصلت وجلست على مقعد مقابل لعدنان وكانت أسمهان تجلس على الأريكة في المنتصف بينهم .
لحظة من الصمت مرت حتى سمعت أسمهان تهتف باقتضاب لكنها تجاهد في إظهار الصدق المزيف في اعتذارها :
_ متزعليش مني ياجلنار ياحبيبتي .. بسبب اللي حصل في خطوبة زينة .. وعشان عارفة إني غلطت جيت اعتذرلك بنفسي

لا يهمها اعتذراها بقدر ما يهمها أن تراها تطلب العفو منها هكذا وأمام ابنها .. بعد كل ما فعلته معها منذ بداية زواجها الاعتذار ماهو إلا بداية فقط وإرضاء لكرامتها .

فرسمت جلنار ابتسامة صفراء فوق شفتيها وهدرت بعفو مزيف وخبث حتى تثير اعصابها :
_ حصل خير يا أسمهان هانم .. عدنان كان واثق فيا

رأت جلنار نظرة نارية في عين أسمهان مما زادت من سعادتها الداخلية بينما عدنان فكان يتابعهم بصمت وجملة جلنار الأخيرة ادهشته قليلًا .
ارتفع صوت هنا وهي تصيح على أبيها تطلب منه أن يأتي إليها فاستقام واقفًا واتجه نحو ابنته ، وانتهت الجلسة عليهم هم فقط .. قبل أن تهتف أسمهان ببنت شفة قالت جلنار في تهديد وشراسة :
_ خليكي بعيدة عني وعن بنتي ي أسمهان وإلا صدقيني هقول لعدنان وآدم على كل عمايلك وخلينا نشوف بعدين ولادك هيبصوا في وشك تاني ولا لا وبذات عدنان .. لو عرف إن أمه حاولت تقتل بنته وأنا حامل فيها .. الطفل اللي كان بيتمناه وبيستناه من سنين ده غير محاولاتك للتخلص مني أنا .. اعتبري ده أول تحذير مني ليكي ....



ذلك التهديد السخيف ! .. لم يحرك شعرة واحدة منها .. وبقت صامدة تحدق بجلنار في ابتسامة متهكمة .. وبعد ثوان من السكون المريب بينهم خرج صوتها المستنكر :
_ ومين قالك أنهم هيصدقوا كلامك أساسًا
عادت جلنار إلى مقعدها تجلس بارتياحية وتقول بثقة :
_ لو عايز اثبت مستعدة اجيب الإثبات .. بس انتي هتفضلي بعيدة عني هفضل أنا كمان بعيدة عنك
رأت الضحكة تنطلق فوق شفتيه ترمقها باستهزاء وخبث ، ثم اختفت ابتسامتها وسكنت في مقعدها تكتفى بتبادل النظرات النارية معها ! .

***
يجلس هو وخالته حول طاولة الغذاء وعيناه تتفقد المقعد الفارغ من الطاولة .. فنظر إلى الخالة وسأل باستغراب :
_ نادين ليه منزلتش ؟
غمغمت فاطمة بنبرة عادية تمامًا :
_ قبل ما ترجع إنت من برا خرجت قالت رايحة تعمل مشوار سريع وراجعة
استنكر الإجابة التي على حصل عليها .. وارتفع حاجبه اليسار بنظرات مدهوشة ثم هدر في حزم :
_ خرجت إزاي .. هي متعرفش حاجة في مصر هنا .. وليه مقالتليش ؟!
فاطمة ببرود أعصاب غريب :
_ معرفش بس أكيد عارفة المكان اللي هتروحوا طالما خرجت وحدها .. متقلقش هي زمانها على وصول دلوقتي
ضغط على الشوكة التي بيده في غضب دفين ثم ألقاها بقوة داخل الصحن محدثة صوتًا مزعجًا واستقام واقفًا يخرج هاتفه ويبتعد بضع خطوات عن خالته ليجري اتصال بها .
بعد انتظار للحظات طويلة والكثير من الرنين أجابت أخيرًا بصوت مبهج :
_ الو .. نعم يا حاتم
_ إنتي فين ؟
كانت نبرته بمثابة النار التي أحرقت بهجتها لكنها تحفظت بلطافتها وهي تجيب عليه :
_ مع رفيقي
ردها كالبنزين فوق النار .. حيث لاحت الابتسامة الساخرة على شفتيه يرد بلهجة لا تبشر بالخير :
_ نعم ياختي مع مين !!!
نادين ببساطة وهي تضحك بطريقة أثارت جنونه أكثر :
_ مع رفيقي ياحاتم عم اقلك .. هو اجى زيارة على مصر وحب يشوفني فأجيت لاشوفه
سمعت صوته الغليظ يهدر في غضب :
_ ومقولتليش ليه إنك هتطلعي ورايحة تشوفي البيه رفيقك ده
نادين بابتسامة ماكرة تتصنعها بمهارة :
_ الو .. حاتم صوتك ما عم يوصلي
بدأ يفقد تمالك أعصابه فهتف بنبرة شبه مرتفعة مستغلًا جملتها بأنها لا تسمعه :
_ إنتي فين يانادين ؟!
فهمت أنه ينوي المجيء إليها حتى يأخذها بنفسه فردت ببرود حتى تزيد من إشعال النيران أكثر :
_ ما في داعي تيجي هو راح يوصلني بسيارته على البيت
سمعت صوته غريب ومخيف قليلًا كأنه شخص مختلف :
_ يوصلك بسيارته !!! .. طيب معلش هقطع اللحظة على رفيقك واجي انا اوصلك للبيت ممكن !

استشعرت النيران الملتهبة التي تخرج من صوته إليها في الهاتف وكادت أن تضحك قبل أن تتمالك نفسها ووتتهرب من الرد عليه بذكاء كالمرة السابقة :
_ حاتم الو .. ما عم اسمعك .. الشبكة هون كتير سيئة .. حاتم .. حاتم .. أنا راح اقفل هلأ وبرجع بتصل بيك بعدين تمام

وفور خروج آخر كلمة من فمها أنهت الاتصال .. لتضرب بأذنه صافرة الإغلاق فينزل الهاتف ببطء ويتطلع في شاشته بأعين ملتهبة مخرجًا من بين شفتيه زفيرًا ناريًا كمحاولة بائسة للتحكم في انفعالاته .. لكن خرجت همسة مشتعلة منه وساخرة يعيد كلمتها :
_ رفيقي ! .. امممم وماله
ثم التفت إلى خالته التي ترمقه مبتسمة كأنها تنتظر منه أن يخبرها بمحادثته معها وماذا قالت له فيبادلها هو الابتسامة لكن بأخرى مغتاظة ويجيبها متهكمًا :
_ لما الهانم ترجع بسيارة رفيقها ابقى اندهي عليا

كتمت فاطمة ضحكة كانت ستنطلق فوق شفتيها وهي ترى غيرته تقتله ولا يتمكن من إخفائها .. وبمجرد رحيله وصعوده الدرج متهجًا لغرفته تركت العنان لضحكتها ! .

***
قبل أربع سنوات .......

صوتها المرتفع وشجارها مع أبيها كان يسمعه كل من يمر أمام غرفة المكتب .. رغم رفضها لذلك الزواج إلا أنه حدد الموعد غير مباليًا لرغباتها ، سواء رفضها أو موافقتها .. أجبرها ووضعها أمام الأمر الواقع حتى لا تجد مفر سوى القبول والخضوع لقراراته القاسية .

خرجت من مكتبه وهرولت راكضة باتجاه الدرج ووجهها تملأه الدموع كله .. مازال عقلها لا يستوعب أن خلال أيام ستكون زوجة ذلك الرجل المجهول .. هي حتى لم تراه من قبل ، كيف ستكون زوجته ؟! .
بينما تركض على الدرج والرؤية أمامها تهتز بسبب الدموع الممتلئة في عينيها .. اصطدمت برجل كانت وجهته معاكسة إليها هو يصعد الدرج وهي تنزل ، فارتدت للخلف وكادت أن تسقط لولا أنه أمسك برسغها وجذبها حتى تستعيد توازنها .
كانت عيناه بندقية واسعة ولديه نظرة ثاقبة .. حاجب كثيف ومقتضب .. وشعر أسود غزير .. مع بشرة حنطية مائلة البياض .. بينما جسده فكان صلب وضخم مقارنة بهيئتها الناعمة .. ملامحه القاسية والصلبة ذكرتها بطائرها المفضل الذي يمتلك نفس العينان البندقية الواسعة والحاجب المقتضب حتى نفس النظرات الثاقبة التي تشعرك بأنها تخترقك ( طائر العُقاب ) .
اضربت وابتعدت عنه تهتف باعتذار وصوت مبحوح :
_ أنا آسفة
تطلع عدنان في وجهها الغارق بالدموع وعيناها الحمراء من فرط البكاء وشعرها المنسدل فوق كتفيها بعبث .. أصبحت وجنتيها البيضاء حمراء من بكائها وغضبها .. هيئتها الناعمة والرقيقة كانت جميلة مع ملامح وجهها البريء وهي تبكي كالأطفال اللطيفة .. غضن حاجبيه واردف بتعجب :
_ إنتي كويسة ؟!
رفعت أناملها الرقيقة والمرتعشة تجفف دموعها وتوميء بالإيجاب متمتمة :
_ أيوة .. بعتذر مرة تاني كنت نازلة مستعجلة ومخدتش بالي

أنهت جملتها واندفعت تكمل طريقها على الدرج للأسفل مسرعة ، فالتفت برأسه للخلف في استغراب ثم اعتدل وهم بأن يكمل هو أيضًا طريقه لكنه لمح عقدًا على الأرض .. انحنى والتقطه بأنامله يقلبه بين يديه بتدقيق ثم عاد فورًا ينظر إلى الأسفل لكنها اختفت تمامًا .. فأغلق كفه على ذلك العقد وأكمل طريقه ، وصل أمام مكتب نشأت فاقترب من طاولة المساعدة الخاصة به وألقى بالعقد على سطح الطاولة يهتف في عدم اهتمام وبنبرة غليظة :
_ في آنسة كانت نازلة السلم وبتعيط لو رجعت تاني اديها السلسلة بتاعتها دي
دققت المساعدة النظر في العقد وحين أدركت جملته وأن صاحبة العقد كانت تبكي فهتفت وهي تهم بالتقاط العقد :
_ ده أكيد لجلنار هانم بنت نشأت بيه

رأت الجمود على معالمه بعد سماعه لجملتها ، وقبل أن تمد يدها لتأخذ العقد وجدته يضرب بقبضة يده فوق العقد ويغلق عليه بين كفه ليأخذه مرة أخرى .. ثم يتجه نحو مكتب نشأت ويدخل بعد أن وضع العقد في جيب سترته .

عودة للوقت الحاضر ........
استيقظ من تلك الذكرى وهو يمسك بيده ذلك العقد يتطلع إليه في شرود .. مرت السنين منذ زواجهم ولم يعطيها عقدها .. لا يعرف لماذا يحتفظ به حتى الآن معه .. لكن ربما قد حان الوقت المناسب حتى يعود ذلك العقد إلى مكانه .. حول تلك الرقبة البيضاء والرائعة ! .

***
فتح عيناه على أثر الرنين المرتفع لهاتفه .. مد يده وضغط على زر كتم الاتصال وعاد يلقي برأسه مرة أخرى فوق الوسادة مغمضًا عيناه بنعاس .. ولكن الرنين عاد يصدح من جديد فأصدر تأففًا عاليًا بنفاذ صبر ، ليمد يده ويجذب الهاتف يجيب على المتصل بحدة دون أن يعرف هويته :
_ الو
توترت قليلًا من نبرته لكنها ردت برقة :
_ أيوة يارائد مش بترد عليا من امبارح ليه .. قلقت عليك !

اعتدل في نومته فورًا وألقى نظرة على النائمة شبه عارية بجواره .. فتعود نبرته لطبيعتها وهو يرد عليها بلطف :
_ معلش ياحبيبتي اتأخرت في الشغل ومكنتش فاضي ونمت متأخر حتى مروحتش النهارده
زينة باهتمام ملحوظ في نبرتها :
_ طيب إنت كويس يعني ؟
هز رأسه بالإيجاب وهدر :
_ ايوة كويس متقلقيش .. إنتي عاملة إيه ؟
_ كويسة الحمدلله
أبعد الغطاء عنه ونزل من فوق الفراش يسير إلى خارج الغرفة ويجيب بتساءل :
_ إنتي في البيت مش كدا ؟
زينة بعفوية :
_ أه كنت ناوية نخرج أنا وسمر بس هي تعبت ومش هتقدر تطلع
غمغم مبتسمًا بمداعبة :
_ طيب أنا هخلص اللي ورايا وبعد كدا هاجيلك ونخرج مع بعض
تهللت اساريرها لتجيبه بتشويق وفرحة :
_ بجد !
_ أيوة بجد طبعًا
عضت على شفاها بحماس وخجل بسيط تتمتم برقة معهودة منها :
_ وأنا منتظراك .. متتأخرش !
_ مقدرش أتأخر عليكي ياحبيبتي
انهى معها الاتصال فشعر بكف ناعم فوق كتفه من الخلف .. التفت برأسه ورمقها مبتسمًا بدون مشاعر ثم انزل كفها بلطف وعاد لداخل الغرفة .. فلحقت به وسألته بتعجب :
_ انت هتمشى ؟!
رائد بإيجاز وهو يرتدى ملابسه :
_ أيوة ورايا شغل
اكتفت بالمتابعة في صمت وبداخلها تشتعل من الغيرة فقد سمعت مكالمته مع تلك الفتاة التي فضلها عنها وقرر الزواج بها بدلًا منها هي .. ومنادته لها بـ " حبيبتي " زادت من سوء الوضع لديها .

***
تقف أمام المرآة وتمسك بيدها فرشاة بيضاء اللون تغلغلها بين خصلات شعرها من أعلى إلى أسفل .. عيناها عالقة على انعكاسها في المرآة بشرود وهي تسرح شعرها ، فلم تنتبه له عندما دخل الغرفة واقترب منها بخطوات متريثة من الخلف ، لم تفق سوى على لمسته لخصرها بقبضته الكبيرة وهو يحطها فوق جسدها بتملك ويده الأخرى وجدت طريقها لشعرها تزيحه عن رقبتها وترجع به إلى ظهرها .. وكانت خطوته التالية بشفتيه التي مالت وطبعت قبلة ناعمة فوق كتفها .
سرت رعشة بسيطة بجسدها كفتاة يلمسها زوجها لأول مرة ! .. تسارعت نبضات قلبها فانزلت يدها إلى قبضته حتى تزيحها عن خصرها لكن سمعت همسته الخافتة وهو يبتسم لها في انعكاس المرآة :
_ استني !
أبعد كلتا يديه عنها وادخل كف في جيبه يخرج العقد ثم يرفعه ليمسك طرف بيد واليد الأخرى لفها حول رقبتها حتى يلتقط الطرف الآخر ويعود بالطرفين للخلف يعقدهم حول رقبتها .

التقطت عيناها ذلك العقد المفقود منذ سنوات .. من أين عثر عليه ؟! .. فقد بحثت عنه كثيرًا حتى فقدت الأمل ولم تجده .. تطلعت لانعكاسه في المرآة بدهشة فقرأ هو من نظراتها ما يدور بذهنها .. وظهرت ابتسامته الواسعة فوق شفتيه .
حتى وجدته ينحنى عليها من الخلف يهمس بالقرب من أذنها في عاطفة :
_ أول مرة اتقابلنا فيها لما كنتي في الشركة عند نشأت ونازلة السلم وبتعيطي وخبطتي فيا .. بعد ما مشيتي لقيته على الأرض اخدته ولما وصلت عند مكتب نشأت اديته للسكرتيرة على أساس إنك لو رجعتي تاني تدهولك بس لما قالتلي إنه اكيد بتاعك إنتي اخدته تاني

مرت دقيقة من الصمت بينهم .. كانت هي تستعيد تلك الذكرى في عقلها وبتلقائية ترفع أناملها للعقد تتحسسه برقة .. ثم التفتت بجسدها كاملًا له وهمست بحيرة :
_ ومدتهونيش ليه بعدين ؟!
_ مش عارف بس من وقتها وأنا محافظ عليه معايا .. وأعتقد إن جه وقته دلوقتي أنه يرجع لمكانه
رأى الابتسامة الجميلة تزين شفتيها ثم اخفضت نظرها تمسك بالعقد بين كفها الناعم وتتطلع إليه بفرحة متمتمة :
_ زعلت جدًا لما وقع مني .. العقد ده غالي عندي أوي وبحبه جدًا
عدنان بنظرات غرامية ومحبة :
_ حتى أنا غالي عندي
ابتسمت باستحياء جميل ثم قالت مسرعة وهي تهم بالانصراف :
_ أنا هروح اشوف هنا بتعمل إيه
قبض على رسغها يرغمها على الوقوف ليضع عيناه بعينها في عمق ويسأل باهتمام :
_ كنت بتعيطي ليه وقتها ؟
أخذت نفسًا عميقًا واعتدلت في وقفتها حتى تصبح مواجهة له تمامًا وتجيب بالصدق في عبس :
_ كنت أنا وبابا بنزعق وأنا كنت مضايقة ومتعصبة إنه حدد معاك معاد كتب الكتاب من غير ما يقولي وأنا أساسًا مكنتش موافقة

ابتسم بدفء ثم مد يده يلتقط كفها الرقيق بين يده ويميل عليها بوجهه هامسًا :
_ ويشاء القدر إننا نتقابل في اليوم واللحظة دي بذات

تطلعت في عيناه بشرود وهيام .. لكنها باللحظة التالية استندت بكلتا كفيها فوق صدره وابعدته برفق بعدما احست بأنه سيتمادى في اقترابه واردفت :
_ الحدود ياعدنان
تلاشت ابتسامته وظهر محلها الحنق ليجيبها بنفاذ صبر :
_ والحدود دي هتفضل لغاية امتى بقى ؟!
جلنار بلهجة حازمة :
_ لغاية ما اسامح
أصدر تنهيدة حارة بعدم حيلة ليجيبها بهدوء :
_ طيب ياجلنار وأنا هحاول احترم ده ومتخطاش الحدود

غمغمت بخفوت وهي تسير خارج الغرفة تاركة إياه يقف مغلوبًا على أمره :
_ كويس

***
استر الليل ستائره وارتفع ضوء القمر في السماء ......

الساعة تخطت التاسعة مساءًا ولم تعد حتى الآن .. محاولاته للاتصال بها كانت كلها بائسة وبلا فائدة .. يستمر الرنين فقط دون رد ، لم يصبح الأمر غضب عارم بقدر ماهو قلق وخوف من أن يكون قد صابها مكروه ، يجوب الطرقة إيابًا وذهابًا ويمسح على شعره بقوة مطلقًا زئيرًا مكتومًا من بين شفتيه .. بات لا يدري أيقلق عليها أم يشتعل من الغضب والغيرة أنها قد تكون حتى الآن مع صديقها ذلك !! .
التفت إلى خالته وصاح بانفعال :
_ الساعة تسعة ومش بترد ولا رجعت .. متلومنيش على اللي هعمله لما تيجي
أجابت عليه فاطمة بحدة :
_ لا إنت خطيبها ولا جوزها يبقى ملكش حق تعمل حاجة من الأساس معاها .. وهي أكيد بخير إن شاء الله وزمانها راجعة
حاتم في غضب هادر :
_ صديقها مين اللي نزل مصر .. هي متعرفش حد غيري وبعدين قاعدة معاه من الصبح لغاية دلوقتي .. دي ليلتها طين معايا

رفعت فاطمة سبابتها وقالت محذرة إياه بجدية :
_ حاتم لو عملت أي تصرف مش لطيف مع البنت أنا اللي هقفلك فاهم
حاتم بصوت محتقن وبه لمسة الاحترام :
_ لو سمحتي إنتي ياخالتو متدخليش بينا لما ترجع .. هي موجودة وقاعدة معايا دلوقتي لما تبقى ترجع امريكا تبقى تخرج وترجع براحتها مـ ....
ابتلع بقية عبارته في جوفه عندما صك سمعه صوت رنين الباب .. فهبت فاطمة فورًا مسرعة وهرولت لتفتح لها الباب .. كانت نادين تقف أمام الباب ومتوترة قليلًا بعدما سمعت صوته المرتفع وحين فتحت لها فاطمة الباب وانحنت عليها تهمس في عتاب :
_ اتأخرتي ليه ده كله !
نادين بخوف وهي تختلس النظرات للداخل :
_ عصب كتير مو هيك ؟!
فاطمة بملامح وجه عبثية :
_ اكتر من المتوقع .. ادخلي يلا
دخلت نادين بخطوات مضطربة فوجدته يقف على مسافة بعيدة نسيبًا ويرمقها بنظرات مميتة .. ازدردت ريقها وابتسمت في ارتباك ملحوظ ، ثم تبادلت نظرات الندم مع فاطمة ، ليتها لم تستمع لتلك النصائح ونفذتها .
حاتم بعصبية :
_ كنتي فين لغاية دلوقتي ؟!
توترت ولم تعرف بماذا تجيب .. إذا اكملت كذبتها وقالت أنها كانت مع صديقها المزيف ستهب العاصفة .. وبنفس اللحظة لا تريد كشف مخططها بعد كل هذا وهي وصلت للنقطة الحاسمة .
سمعت صيحته الملتهبة :
_ نادين أنا بسألك كنتي فين ؟
الحل الوحيد للهروب من الإجابة هي التصرف مثله تمامًا .. فصاحت هي الأخرى بغضب مزيف لكنها اتقنته بمهارة :
_ ليش عم تعيط عليا .. بأي حق بتكلمني هيك ، وإنت ما إلك دخل أساسًا وين كنت أنا ماني طفلة صغيرة فهمان ولا شو !!
اندفع نحوها كالثور الهائج يجذبها من ذراعها إليه ويصيح بعينان حمراء وغيرة عمياء :
_ كنتي مع *** رفيقك ده لغاية دلوقتي
استاءت حقًا وبعدما كانت تتصنع الغضب تملكها بالفعل حيث صاحت به :
_ احترم حالك واتركني
أسرعت فاطمة إليهم تهتف بحاتم في غضب وهي تبعد يده عنها :
_ حاتم أنا حذرتك
صرخ في صوت جهوري وعدم وعي لما يتفوه به :
_ إنتي مش شايفة بترد عليا ازاي ومش عاجبها إني بسألها كانت فين .. هيعجبها ازاي طبعًا ماهي كانت مبسوطة مع رفيقها و.....

لم يكمل كلمته وتوقف حين شعر بصفعتها له فوق وجنته .. لوهلة ظنها في البداية خالته لكن كانت هي من صفعته وتتطلع إليه بغضب وخزي مع عينان غائمة بالدموع .
اندفعت نحو الدرج تركض مسرعة تجاه غرفتها بالأعلى بينما فاطمة فألقت نظرة معاتبة على ابن أختها واسرعت تلحق بنادين .. بقى متسمرًا بأرضه يحدق في الفراغ وكأنه بعالم آخر حتى تحرك نحو الأريكة بعد دقائق وجلس فوقها يجز على أسنانه بغيظ مكتوم .

مرت خمسة عشر دقيقة تقريبًا حتى سمع صوت أقدامهم وهي تنزل الدرج وصوت خالته وهي تتوسلها أن تقف ولا تذهب ، بينما هي فتحمل حقيبة ملابسها معها على الدرج حتى وصلت لآخر درجاته فانزلتها على الأرض وجرتها خلفها وهي تسير مسرعة باتجاه الباب .
التفتت فاطمة إلى ذلك الجالس بجمود فوق الأريكة يتابع بصمت دون أن يتدخل وصاحت به :
_ إنت ساكت ليه ما تتكلم !!
لم يبدي أي ردة فعل استمر في الجلوس بسكون هكذا حتى رحلت فضربت فاطمة كف بكف في عدم حيلة وغضب ثم استدارت وصعدت لغرفتها بالأعلى .

أخرج حاتم هاتفه وأرسل رسالة لحارس بوابة المنزل وكان محتوى الرسالة كالآتي ( خليك ورا نادين هانم بالعربية وقولي راحت فين ) ! .

***
انتفضت واقفة عندما سمعت صوت المفتاح في قفل الباب .. هاهو يعود مرة أخرى .. لكن ياترى ماذا سيفعل هذه المرة .. المرة السابقة انهي كل شيء حتى زواجهم فماذا ستكون خطته اليوم .
انفتح الباب وظهر من خلفه مرتديًا بنطال وقميص أسود اللون ويعلو قميصه جاكت من نفس اللون .. انقبض قلبها فهو لا يرتدي الأسود مكتمل هكذا إلا في العزاء .. تقهقهرت للخلف بحركة لا إرادية منها تسأله بخوف :
_ لابس كدا ليه ياعدنان !
رأته يضحك دون صوت ويغلق الباب خلفه كالعادة ثم يتقدم منها بخطوات متريثة وهي تستمر في التراجع برعب أشد .. حتى وصل إليها بعدما اصطدمت بالحائط خلفها وتوقفت .
عدنان ساخرًا بنظرات مشمئزة :
_ متخافيش مش هقتلك .. قولتلك متستاهليش ادخل السجن فيكي أساسًا .. ده بالعكس أنا جاي اقولك إني هسيبك تطلعي خلاص
اشرق وجهها الذابل بسعادة وقالت غير مصدقة :
_ بجد ياعدنان هتسبني امشي
اماء لها بالموافقة يجيب في هدوء مريب :
_ أيوة هتمشي بس مع عمك أصل أنا اتصلت بيه وهو في الطريق دلوقتي
صابتها الصدمة وفرت الدماء من وجهها فور سماع لاسم عمها .. فإن أشفق عدنان عليها ولم يتمكن من قتلها .. لن يشفق عمها .

تعلقت بجاكت عدنان تهتف متوسلة إليه بعين دامعة :
_ ابوس ايدك متخليش عمي ياخدني ياعدنان إنت عارفه ممكن فيا إيه .. أقل حاجة يقتلني .. ابوس ايدك سيبني امشي وانا والله العظيم اوعدك إنك مش هتشوف وشي تاني ولا هقرب من جلنار ولا هنا أبدًا
التهبت نظراته ليقبض على ذراعها ويهدر في تهديد :
_ وهو مين قالك إنك هتقدري تقربي منهم .. لأنك لو تجرأتي وعملتيها سعتها هقتلك أنا واطفي ناري بجد .. احمدي ربك إني مبلغتش عنك بعد ما حاولتي تقتليني إنتي و ****
فريدة ببكاء قوي :
_ عدنان ابوس ايدك متعملش فيا كدا بقولك عمي ممكن يقتلني

_ كويس أهو يبقى عمل اللي أنا مقدرتش اعمله
جثت على الأرض تبكي بحرقة ورعب فتسمع صوته الرجولي يلقي عليها تحذيراته :
_ هتغوري مع عمك ومش عايز اشوف وشك تاني فاهمة ولا لا .. وأقسم بالله يافريدة لو حاولتي بس تقربي من جلنار وهنا مش هرحمك واللي هيعمله عمك فيكي هتولي أنا مهتمه واعمله بداله وبطريقة ابشع منه كمان

لم ترفع نظرها له وانخرطت في البكاء العنيف منكمشة في زاوية الغرفة .. رأت فقط قدميه وهي تتحرك باتجاه باب الغرفة ليغادر ويتركه مفتوحًا هذه المرة .. ومن شدة تدمرها النفسي وفقدانها للأمل لم تحاول حتى الخروج والهرب .
بقى هو جالسًا بالخارج فوق الأريكة يتفقد ساعة يده .. في انتظار الموعد المنتظر لقدوم عمها حتى يأخذها ويخلصه منها .. فلم يعد يحتمل رؤيتها أكثر من ذلك .. كلما يراها يتذكر حماقته وغبائه وهي تنام كل ليلة بين ذراعيه ويغمرها بحبه دون أن يشعر بخيانتها له .. لا يتمكن من تمالك أعصابه حين يتخيل أنها كانت تنام بحضنه ليلة وبالليلة التالية تكون بحضن ذلك الوغد ! .

وأخيرًا ارتفع صوت طرق الباب ومع صوت الطرق توقف قلبها بالداخل من الرعب .. بينما هو فاستقام وسار نحوه ليفتح فيقابل عمها بنظرات ثاقبة ووجه جامد .. فيندفع عمها للداخل كالثور الهائج يدخل الغرفة الكامنة بها .. سمع عدنان بالخارج صوت صفعة مدوية منه تبعتها صرخة متألمة ومرتعدة منها ، وهو يلقن مسامعها بألفاظ تليق بفعلتها المشينة .
اندفع عدنان بغضب للداخل وصاح بعمها بصرامة :
_ خد بنت اخوك واعمل فيها اللي عايزه بعيد عن هنا .. ومتخلنيش اشوف وشها تاني عشان وقتها مش هترجعلك
حدق عمها بعدنان وهو يوميء بتفهم وبنظراته يعتذر منه في خزي من فعلا ابنة أخيه .. ثم التفت إليها وجذبها من ذراعها معه للخارج ويهمس في أذنها بالوعيد لها .. بينما هي فألقت نظرة أخيرة على عدنان .. نظرة ألم وندم حقيقي ، لا تتوسله بنظراتها لكنها تطلب منه العفو حتى لو بعد زمن .

***
كان في طريقه للمصعد حتى يغادر بعد أن قضى اليوم كاملًا بالمكتب ينهي أعماله .. لكنه لاحظ الضوء المنبعث من طاولات أحد الموظفين .. فضيق عيناه بدهشة وحيرة ، لا يعقل أن يكون هناك أحد مازال بالشركة .
غير وجهته وسار تجاه تلك الطاولة في خطوات متريثة فرأى فتاة تستند بمرفقيها فوق سطح الطاولة وتضع رأسها فوقهم نائمة .. رفع حاجبه باستغراب واقترب أكثر حتى وقف أمام الطاولة وابعد خصلات شعرها عن وجهها حتى يتمكن من رؤيتها فصابه الذهول عندما وجدها مهرة !! ..
كانت تنام بعمق والإرهاق والتعب يبدو على وجهها حتى هي ونائمة .. فمد ذراعه وهزها برفق هامسًا حتى لا يفزعها :
_ مهرة .. مهرة
انتفضت كالتي لدغها عقرب ووثبت واقفة تحدق بآدم في عدم استيعاب وكأنها لم تدرك ما يحدث حولها .. فهتف هو بحدة :
_ إنتي مجنونة إيه اللي مقعدك لغاية دلوقتي .. مفيش حد غيرك في الشركة
رفعت كفها لفمها تتثاؤب وتجيبه بخفوت :
_ أصل كان معايا شغل كتير ولازم بكرا الصبح يتسلم فقولت اقعد واخلصه ولما عرفت إنك لسا موجود فاطمنت اني مش هقعد وحدي يعني .. بس معرفش ازاي نمت
آدم بحزم واستياء بسيط :
_ ما يتحرق الشغل .. إنتي إيه ضمنك تقعدي وحدك ممكن يحصل إيه .. واحمدي ربك إني اخدت بالي منك قبل ما امشي
مهرة بخنق من توبيخه لها :
_ خلاص متبقاش قفوش ياعم .. أنا غلطانة إني همي على مصلحة شغلكم .. بعدين مين ده اللي يقدر يقرب مني ده أنا أخلي وشه شوارع
آدم مستنكرًا :
_ اه انتي هتقوليلي بإمارة امبارح .. بعدين ايه الألفاظ دي ، المفروض انتي بنت تكوني رقيقة وكلامك لطيف مش أخلي وشه شوارع !!
_ اه زي ليلى سكرتيرة عدنان بيه
_ مالها ليلى !
مهرة بقرف وغيظ :
_ بتمشي تتقصع بالكعب بتاعها في الشركة كلها وتفضل تتطوح زي الفرخة الدايخة يمين وشمال .. لغاية ما في مرة هتتكفي على بوزها وهيبقى منظرها وحش أووووي

انطلقت منه لا إراديًا ضحكة عالية يعيد جملتها من بين ضحكه بتعجب :
_ فرخة دايخة !!!
مهرة بثغر متسع وبمرح :
_ شوفت ضحكت .. اعترف بقى هااا اعترف إني دمي خفيف وبضحك يبقى متسكتنيش تاني لما اتكلم عشا......
قاطعها عمدًا وهو يبتسم بمشاكسة :
_ اسكتي يامهرة ويلا
مهرة بنفاذ صبر :
_ اووووف سكت أهو حلو كدا !!
اماء برأسه في إيجاب وأشار لها بأن تلحق به فسارت خلفه باقتضاب لكن سرعان ما عادت تتحدث إليه من جديد هاتفة بعفوية :
_ هو إنت ليه عينك مش باينة خضرا دلوقتي ؟!
غضن حاجبيه باستغراب من سؤالها لكنه ابتسم واجابها ببساطة :
_ عشان احنا في الضلمة لازم مش هيبان لونها الطبيعي
وقفا أمام المصعد الكهربائي وبمجرد ما أن انفتح ودخلا فاقترب بوجهه منها فجأة وهمس مداعبًا بابتسامة :
_ كدا رجعت خضرا في النور صح !
انتفضت للخلف بزعر وهتفت مفزوعة :
_ إيه الهزار البايخ ده ياعم
قهقه بخفة فوجدها تبعده لآخر المصعد هاتفة بغيظ :
_ خليك بعيد كدا عني
آدم بتعجب وعدم فهم :
_ ليه !!
_ مش واثقة فيك
عاد يضحك مرة أخرى لكن دون صوت حتى انفتح باب المصعد وخرجا .. يسيران معًا إلى خارج الشركة بأكملها .. فيهتف هو محدثًا إياها باستنكار :
_ تحبي اوصلك ولا لسا مش واثقة فيا
مهرة بعفوية ومزاح :
_ هتخطفني ؟!
زم شفتيه بجدية مزيفة يبادلها المزاح :
_ على حسب لو صدعتيني في العربية ممكن اعملها
هتفت بثغر متسع وبطريقة كوميدية وحماسية :
_ يبقى هصدعك
رمقها مدوهشًا وهو يبتسم بحيرة فأسرعت تعدل جملتها بضحكة بلهاء :
_ إنت بتصدق أي حاجة كدا علطول .. بهزر طبعا أنا هاكل دماغك بس
انفجر ضاحكًا واكمل سيره باتجاه سيارته ليفتح باب مقعده ويجيب عليها قبل أن يستقل به :
_ طيب اركبي يابلائي
ابتسمت له باتساع في عفوية ولطافة كالأطفال ثم استقلت بالمقعد المجاور له .

***
كانت كامنة في فراشها وتسحب الغطاء فوق جسدها .. تولي ظهرها للباب كالعادة ، وعيناها تحدق في الفراغ أمامها بسكون تام لكن يدها امتدت لعنقها تعبث بعقدها الذي البسها إياه بصباح اليوم .. وإذا بها تسمع صوت باب الغرفة ينفتح وتلتقط أذنها صوت خطواته داخل الغرفة .

نزع عدنان الجاكت وعلقه ثم أخرج مفاتيحه وهاتفه يضعه فوق الطاولة الصغيرة بجانب فراشهم .. وتقدم خطوة نحو الفراش ليتسطح بجسده فوقه دون أن يبدل ملابسه حتى .

كان صوت زفيره وانفاسه العالية فقط المسموعة في الغرفةةحتى مرت دقائق وشعرت به يعتدل في نومته ليقترب منها يعانقها من الخلف وذراعه يلفه حول جسدها .. اضربت وانزلت يدها لكي تبعده لكن بمجرد ما إن لمست يدها كفه سمعت همسه الضعيف :
_ مش هعمل حاجة ياجلنار متخافيش
تنهدت بعمق وردت في خفوت :
_ عدنان لو سمحت ااا......
وصلها رجائه في صوته يهمس لها وهو يدفن وجهه في شعرها ورقبتها :
_ لو سمحتي إنتي خليني احضنك .. هحضنك بس صدقيني

استسلمت لرجائها ومنحته ومنحت نفسها متعة الشعور بالدفء والحب لساعات .. تشعر بأنفاسه الدافئة تلفح رقبتها من الخلف .. يتنفسها بقوة كالأكسجين ، يأخذ نفسًا عميقًا يستنشق فيه رائحتها ثم يعود ليزفره متهملًا في حرارة تبعث رجفة في جسدها ..

أخيرًا سمعته يهمس بصوت به لمسة الانكسار لأول مرة :
_ طلقتها !
كان هذا المتوقع لكن سماعها منه تحديدًا بتلك النبرة كان كافيًا ليجعلها تتجمد قليلًا ويغلف الاجواء بينهم حالة من الصمت القاتل حتى تلتفتت برأسها له تقطع عليه استنشاقه لعبيرها وتسأل باهتمام :
_ وهي فين دلوقتي ؟!
حين التفتت برأسها أصبحت في مواجهة وجهه تمامًا لا يفصلها عنه سوى سنتي مترات لا تحسب .. ليجيب عليها متطلعًا في عيناها بعمق :
_ عمها اخدها .. مش عايز اشوف وشها تاني .. مش طايق اشوفها أساسًا
جلنار برقة :
_ كويس إنك فكرت في هنا ومعملتش فيها حاجة
استند بجبهته فوق خاصتها هامسًا :
_ انتوا كل حياتي دلوقتي
اغمضت عيناها للحظات تستمتع بجمال اللحظة لكن سرعان ما فتحت عيناها وابعدت وجهه تعود لوضعها الطبيعي فتسمع تنهده القوى في عدم حيلة ، ثم عاد يدفن وجهه من جديد في شعرها وهدأت أنفاسه تدريجيًا وهي معه حتى غطوا كلاهما في نوم عميق بعد دقائق طويلة نسبيًا .

***
بصباح اليوم التالي ......
كانت تجلس هنا فوق فخذ أبيها تشاهد التلفاز معه .. تستند برأسها فوق صدره وعيناها عالقة على التلفاز .. وفجأة دون مقدمات تذكرت شيء فابتعدت عن صدره وهتفت برقة :
_ بابي !
عدنان مبتسمًا بحنو :
_ نعم ياروح بابي
هنا بعفوية طفولية :
_ إنت تعرف عمو حاتم ؟
اختفت ابتسامته وظهر محلها القوة في الملامح ليجيب على صغيرته بمضض :
_ أيوة اعرفه ياحبيبتي ماله
اكملت هنا بنفس عفويتها غير مدركة لما تتفوه به وكيف سيكون تأثيره على أبيها :
_ لما كنا أنا وماما في أميكا ( امريكا ) .. هو في يوم فضل يلعب معايا كتير عشان كنت تعبانة وقعد لغاية لما الليل خلص ولما صحيت الصبح لقيته لسا مش مشي


تابعتهم بنظراتها من بعيد وهي تبتسم بدفء .. تتطلع إليه كيف يضمها إلى أحضانه والصغيرة ساكنة بين ذراعيه بآمان .. فتقدمت منهم بخطوات هادئة وابتسامتها تزين ثغرها لكن تصلبت قدميها بالأرض فور سماعها لجملة ابنتها الأخيرة وهي تخبر والدها عن الليلة التي قضاها حاتم معهم بالمنزل .

هيمنت الصدمة على ملامحه لبرهة يرمق ابنته بجمود .. حتى بدأت تتشنج عضلات وجهه تدريجيًا وتتقوس قسماته بشكل مريب ليجيب على صغيرته بترقب وصوت محتقن :
_ في البيت معاكم !
لمحت هنا أمها التي تقف كالصنم تحدق بأبيها في معالم وجه كانت غريبة بالنسبة لها ولم تتمكن من تفسيرها .. لكن حدثها الطفولي أخبرها بأن الأمور لن تسير بشكل جيد .

انتبه هو لنظراتها المعلقة على الجانب فالتفت لنفس الجهة فيرى جلنار ثابتة بالأرض ونظراتها تحمل بعض الاضطراب خصوصًا بعدما وقعت عيناه الملتهبة عليها .
وبالثوان التالية كان يهب واقفًا وينزل ابنته من فوق قدميه ليجلسها فوق الأريكة بمكانه ويهمس بطبيعية متصنعة :
_ خليكي هنا ياحبيبتي وكملى كرتونك
أماءت الصغيرة برأسها متطلعة لأبيها باستغراب من تحوله المفاجيء والغريب .. ثم رأته يسير تجاه الدرج ويهتف محدثًا أمها بصوتًا مخيفًا دون أن يلتفت لها بوجهه :
_ تعالي ورايا
ثم رأت أمها تنظر لها بابتسامة دافئة كأنها ترسل لها إشارة بأن كل شيء على ما يرام وأن تكمل مشاهدة فيلمها الكرتوني .. بادلت أمها الابتسامة وعادت تعتدل بجسدها لتصبح مواجهة للتلفاز تشاهد في عدم استمتاع ! .

وصلت أمام باب غرفتهم الذي تركه مفتوحًا بعد دخوله .. ألقت عليه نظرة من الخارج لتراه يقف ويرفع أنامله لذقنه يحكها ويمسح على نصف وجهه بعنف مغلقًا على قبضة يده في شراسة .. لا تنكر أن حالته اربكتها وجعلتها تخشى ثورانه الذي ستشهده بعد قليل ، تقدمت إلى داخل الغرفة في خطوات مترددة ثم أغلقت الباب بهدوء حتى لا تلتقط أذن صغيرتهم الأصوات المخيفة التي ستملأ الغرفة الآن .
سمعت البداية تخرج هادئة كالمتوقع وهو يسأل بخفوت مخيف :
_ إيه اللي قالته البنت تحت ده !!!!
تنفست الصعداء تتحكم في اضطرابها الغير إرادي منه وغمغمت :
_ دي بنت صغيرة ياعدنان ومش فاهمة حاجة
صرخة جهورية انطلقت منه تبعتها وثوبه من مكانه بخطوة واحدة ليصبح أمامها :
_ حـاتـم كان بيعمل إيه في البيت طول الليل معاكي

رغم أن صرخته بعثت هزة بسيطة في جسدها إلا أن جملته كان لها الأثر الأكبر حيث ابتسمت وقالت باستنكار :
_ بيعمل إيه !!!
نزعت ابتسامتها من فوق شفتيها ورسمت الحدة لتتابع حديثها بنظرة خزي :
_ زي ما بنتك قالت .. كانت تعبانة جدًا اليوم ده وجبنالها الدكتور في البيت وهو صمم يقعد معانا عشان لو هنا تعبت تاني يتصل بالدكتور وميسبناش وحدنا ، وفضل قاعد جنبها في الأوضة طول الليل ومحدش فينا نام الليلة دي أساسًا .. ارتحت كدا ولا مش مصدق كمان

لم تهدأ ثورته بل ازدادت حيث صاح في عصبية أشد :
_ يعني كنتي هربانة ببنتي وتعبت بالشكل ده وأنا معرفش .. وفوق ده كله تسمحي لراجل غريب يبات معاكم
صاحت منفعلة :
_ قولتلك هنا كانت تعبانة وأنا أساسًا كنت منهارة من الخوف عليها وهو فضل معانا عشان لو تعبت تاني فجأة
عدنان بصياح مرعب :
_ مفيش مبرر يخليني اهدأ لما أعرف إن راجل قضى الليل كله مع بنتي ومراتي في البيت .. اللي هي أصلًا كانت هربانة مني
جلنار في زمجرة :
_ وهو أنا هربت ليه مش عشان اتفاقك القذر إنت وبابا .. هربت لما ملقيتش حد احتمي فيه ولا الجأ ليه .. فلجأت للهروب منكم

قبض على ذراعها بعنف وجذبها إليه لتصتدم بصدره ويصرخ :
_ متتهربيش من غلطك بإظهار ظلمي ليكي .. سبق واعترفت بغلطي وفهمتك كل حاجة وإنه مكنش اتفاق على قد ما كان تمسك بيكي .. بس الهانم بتفسر كل حاجة على مزاجها ومن غير تفكير اخدت بنتي وهربت بيها .. لا وفضلت شهرين كاملين مع راجل غريب ، أنا كنت بحاول اتغاضي عن الكلام ده واتصرف بطبيعية وأنا بتخيل طول الشهرين كانت طبيعة العلاقة بينكم إزاي و نظراته ليكي كانت إزاي ده غير الصور اللي وصلتني وهو ماسك فيها إيدك .. ودلوقتي بتقولي كنت منهارة وهو فضل معانا عشان هنا !!!

حاولت التملص من قبضته لتصيح به بغضب :
_ مكنتش قاعدة معاه .. والصور دي كانت في عيد ميلاده وتصرفه كان تلقائي لما كان بيشكرني على الهدية وأساسًا أنا سحبت إيدي فورًا وقتها
هتف بتحذير شبه صائحًا :
_ متعليش صوتك عليا
صرخت في وجهه بشراسة وعينان حمراء كالدم :
_ وإنت متتكلمش معايا بلهجة التحذير وتزعق فيا .. مش صوتك العالي هو اللي هيخوفني منك
عدنان منذرًا إياها وهو يتمالك انفعالاته بصعوبة :
_ جلنار أنا اقسم بالله على أخرى وبحاول اتمالك اعصابي بالعافية .. متخلنيش اوريكي الخوف اللي بجد

تململت بين قبضته بعصبية لأنها لا تتمكن من التملص منه فتجاهلت جملته وصرخت بصوت ملأ الغرفة وبوجه محتقن بدماء الغضب :
_ ابعد إيدك عني ومتلمسنيش

هو يغلي أساسًا من الغيظ ونيران الغيرة ، وحين هتفت بكلمتها المعتادة أثارت جنونه أكثر .. فتحول وجهه كله وليس عيناه فقط للون الأحمر ، ليلف ذراعه حول خصرها بعنف ويلصقها به أكثر في طريقة المتها .. ثم يمسك بكف يدها اليسار يرفعه لأعلى ضاغطًا عمدًا على خاتم الزواج في البنصر يذكرها بملكيته الوحيدة عليها ويهتف في صوت ملتهب كعيناه مخرجًا زفيرًا ناريًا تقسم أنه كاللهيب حقًا الذي يضرب صفحة وجهها :
_ محدش ليه الحق يلمسك غيري .. ولا يمسك إيدك غيري .. أنا بس اللي ابصلك والمسك فاهمة ولا لا

ظهر الألم على محياها رغمًا عنها عندما وجدته يعتصر كفها بقسوة بين قبضته فهتفت بنبرة مرتفعة قليلًا :
_ عدنان سيب أيدي بتوجعني !
تطلع في عيناها بنظرات كانت كالجحيم وتمتم بهمس مرعب :
_ اعتبري دي آخر مرة هعدي فيها .. زي ما عديت الصور وعديت هروبك معاه وكمان دفاعك عنه قدامي وطلبك اني اعتذر منه بعد اللي حصل في الفرح .. وزي ما هعدي اللي عرفته دلوقتي وهتغاضي عنه وأصدق إنك سبتيه يفضل بحسن نية زي ما قولتي على الرغم من إني متأكد أن مكنش الموضوع بغرض المساعدة فقط بالنسباله .. هعدي ياجلنار بس صدقيني دي آخر مرة بعد كدا لو سمعت اسمه تاني هتكون النتائج مخيفة

أدمعت عيناها من كلامه القاسي وشعورها بلهجة الشك المضمورة في صوته .. حتى لو لم تكن شك بالنسبة له لكنها أحستها هكذا .. وفوق ذلك قبضته العنيفة على كفها والتي تؤلمها أكثر .
فهمست في وجهه بعين دامعة وغضب امتزج بقسوة فاقت قسوته لتطلق سهمها المسموم في الصميم بالضبط :
_ سبق وسألتني بتكرهيني بجد ولا لا وأنا جاوبتك يمكن أه ويمكن لا .. احب اقولك دلوقتي إني بكرهك بجد ياعدنان بكرهك من كل قلبي ومش عايزاك وندمانة إني منعت بابا لما جه وملختهوش يطلقني منك

اختفت نظرة الغضب ليظهر محلها الذهول .. استمر في التحديق بها بصمت وبشكل لا إرادي لانت قبضته فوق خصرها وكذلك كفها .. لا تضيع الفرصة كلما تسمح لها في طعنه بسهم كلماتها السامة وتذكيره بكرهها له الذي أكدته للتو .. كلما يتقدم خطوة تطيح بهم الظروف لنقطة الصفر من جديد .
إن فسرت غضبه كشك فحتمًا مخطئة ربما غيرته العمياء وانفعاله الهادر هيأ لها كذلك ، هو فقط لا يطيق تحمل اجتماع اسمها واسم حاتم بجملة واحدة والذي يثير جنونه ويشعل لهيب نيران صدره .

وصلت هنا أمام باب غرفة والديها بعدما سمعت صوت صراخ أبيها وخافت قليلًا فطرقت بكف يدها الصغير فوق الباب تهتف بعبوس :
_ بابي !
استغلت جلنار فرصة طرق ابنتهم وسكونه التام بعد كلماتها لتبتعد عنه وتندفع نحو الحمام الملحق بالغرفة .. فيبقى هو مكانه للحظات حتى عاد صوت الطرق يرتفع من جديد مع صوت صغيرته الذي بات مبحوحًا .. أخذ نفسًا عميقًا وتحرك نحو الباب ليفتح لها فيجدها تتطلع له بعينان تملأها الدموع .
ألا يكفي لقلبي دموع والدتك حتى تزيدي إنتي العذاب بدموعك أيضًا ! .

انحنى ليجثي أمامها ثم يحتضن وجهها الصغير بين كفيه ويقترب يطبع قبلة بجانب عينها الصغيرة ويضمها لصدره لاثمًا شعرها ويهمس بألم :
_ هو بابي هيلاقيها من فين ولا فين ياحبيبتي بس ! .. متعيطيش والله مش بستحمل اشوف دموعك
دفنت وجهها الصغير بين صدره الواسع هامسة بحزن :
_ مامي بتحبك زي وبتزعل لما تزعق
انتصب في وقفته وهو يحملها معه ويهمس بمرارة :
_ امممم بتحبني أوي .. تعالي يلا ننزل تحت
_ ومامي ؟
_ مامي في الحمام .. لما تطلع هتنزل ورانا

***
على الجانب الآخر بألمانيا تحديدًا في مدينة برلين ( العاصمة ) .....
داخل إحدى المستشفيات وبغرفة خاصة بأكفأ الأطباء بالمستشفى .. كان جالسًا فوق مقعده أمام المكتب يرتدي مئزره الطبي الأبيض ويمسك بيده صورة صغيرة .. قديمة إلا أنه يحتفظ بها جيدًا فمن يمسك بها لا يتوقع أبدًا أن تلك الصورة مرت عليها كل هذه السنوات ومازالت كما هي .
يتأملها وبأنامله يتحسسها في رقة .. تلك الصورة هي الأنيس الوحيد في وحشته وغربته منذ سنوات طويلة .

" طال الغياب وفَقَدَ حِلو النظر لكنه لم يَفقد ابدًا لهفة اللقاء المحتوم "
انفتح باب الغرفة فجأة بدون سابق إنذار ليدخل شابًا يناضره بالعمر ويهتف بمرح يتحدث اللغة الألمانية :
_ الطبيب هنا وبالخارج الجميع يبحث عنه !
تطلع إليه بيأس وهتف وهو يدس الصورة في مئزره :
_ لمرة واحدة فقط أطرق الباب أولًا
تقدم نحوه ليربت على كتفه بخفة هامسًا بضحكة عذبة :
_ وهل هناك خصوصية بيننا ياصديقي !
هز رأسه بعدم حيلة وقال :
_ لا فائدة من الجدال معك .. اجلس وقل ما لديك
اقترب صديقه ليجلس فوق المقعد المقابل لمكتبه ويهتف في جدية هيمنت على صوته وملامحه :
_ سمعت إنك ستعود لمصر خلال أسابيع !
تنهد وقال بهدوء :
_ صحيح .. ولا اطيق الانتظار حتى يوم العودة
_ أنت تمزح ! .. هشام إنت من أكفأ الأطباء بالمستشفى إن لم تكن أوشكت أن تصبح الاشهر على الاطلاق ببرلين .. هل ستترك كل شيء وتعود !!
ابتسم واجابه في بساطة :
_ من قال أنني سأترك كل شيء .. سأواصل مهنتي ببلدي .. وربما بيوم أعود لبرلين مرة أخرى ، من يعلم !
أخرج صديقه زفيرًا حارًا ليجيبه بعد ذلك بنظرات دقيقة ويأس :
_ اهلكك الشوق ولم تتحمل أليس كذلك ؟!
لاحت ابتسامة مريرة على شفتي هشام الذي أصدر تنهيدة طويلة تبعها استقامته من مقعده وهو يلتفت حول المكتب ويربت على كتف صديقه بخفة هامسًا في مداعبة :
_ هيا ياصديقي لدينا الكثير من الأعمال وليس هناك وقت لنهدره في الحديث

هز رأسه الآخر مغلوبًا على أمره فكلما يتخذ مجرى حديثهم ذلك الموضوع يسارع في تغييره أو التهرب منه .. وهو ما يفعله الآن كالعادة ! .

***
توقف بسيارته أمام أحد الفنادق الضخمة ثم ترجل منها وقاد خطواته للداخل مرتديًا نظارته السوداء فوق عينيه .. حتى وصل إلى مكتب الأستقبال وقف أمام الموظفة التي بدورها ابتسمت له ببشاشة وقالت :
_ اتفضل حضرتك
حاتم بصوت جاد :
_ حابب اعرف رقم الغرفة الموجودة فيها نادين سامي
اخفضت نظرها لشاشة الحاسوب التي أمامها تبحث بين نزلاء الغرف عن ذلك الاسم حتى عثرت عليها فقالت بإيجاب :
_ آنسة نادين سامي .. تمام لحظة من فضلك بس هبغلها الأول
حاتم بحزم :
_ ملوش لزوم هي عارفة .. ممكن تقوليلي رقم الأوضة
مطت شفتيها وقالت بنظرات دقيقة :
_ الغرفة رقم 404 بالدور الخامس
لصق رقم الغرفة والطابق بذهنه ثم ابتعد وسار باتجاه المصعد الكهربائي ليستقل به ويضغط على زر الطابق الخامس وبعد دقيقتين تقريبًا توقف وانفتح الباب فخرج وسار في الردهة طويلة يتفقد أرقام الغرف المدونة فوق الأبواب حتى عثر على غرفتها .. فتحرك ووقف أمامه ليرفع يده ويطرق عدة طرقات ليست بلينة ولا قوية .

لحظات قصيرة وفتحت هي الباب معتقدة أن خدمة الفندق قد وصلت بالفطار .. لكن تجمدت دماء وجهها وطالت التحديق به تحاول اختراق تلك النظارة السوداء التي تحجب عنها رؤية عيناه ونظراته .. ثم انتصبت في وقفتها بشموخ وقالت في خنق :
_ خير شو بدك ؟!
نزع نظارته أخيرًا عن عينيه فرأت نظرة مستاءة تمركزت في عيناه وهو يجيبها :
_ لمي هدومك يلا عشان نمشي
خرج سؤالًا شبه استنكاريًا منها :
_ لوين ؟!
حاتم بحدة :
_ على البيت يانادين ولا متخيلة إني هسيبك تقعدي في فندق هنا وحدك
ردت في برود استفزازي وابتسامة غير مبالية :
_ بس أنا حجزت الطيارة لكاليفورنيا وموعدها المسا الساعة 6
استفزته واغضبته بشدة لكنه تحكم في زمام نفسه ليدفعها للداخل برفق ويدخل ثم يغلق الباب هاتفًا بلهجة آمرة :
_ مفيش مشكلة يتلغي الحجز
نادين بغيظ :
_ راح ارجع ما بدي اضل هون بيكفي يا حاتم
تقدم منها بخطوات متريثة فتقهقرت هي لا إراديًا للخلف حتى اصطدمت بباب الحمام الملحق بالغرفة ، أشرف عليها بهيئته وهمس في لهجة لا تقبل النقاش :
_ مش هترجعي .. احنا جينا مع بعض وهنرجع مع بعض
رغم اضطرابها من قربه إلا أنها صاحت به بغضب :
_ ما في شيء اسمه نحنا عم تفهم .. ولا إنت نسيت اللي سويته مبارح
لم يتمكن من كبح انفعالاته أكثر من ذلك فصاح بها في صوته الرجولي المهيب وعيناه المظلمة :
_ لما تقضي اليوم كله مع راجل معرفش مين هو أصلًا وتقوليلي رفيقي .. وبعدين ترجعي آخر الليل منتظرة تكون ردة فعلي إزاي يعني .. مين صاحبك ده هاااا .. قولي ميين خليني اعرف يمكن تكوني على حق ؟!!
نادين بعصبية شديدة متجاهلة ضربات قلبها المتسارعة :
_ لك شو خصك إنت مين رفيقي هادا !! .. بخرج مع اللي بدي ياه ما راح انتظر الأذن منك مثلًا
ضرب بقبضة يده على باب الحمام بجانب رأسها فانتفضت بخفة فزعًا وانكشمت في وقفتها حين رأته يدنو منها بشكل خطير حتى لفحت أنفاسه النارية صفحة وجهها وخرج صوته منذرًا وقد أظلمت عيناه بشكل مخيف :
_ قدامك خمس ثواني ياتقولي مين اللي كنتي معاه امبارح يا أما صدقيني أنا مش مسئول عن اللي هعمله

خشيت تحذيره ونظراته التي أثبتت أنه لا يمزح فيما يقوله .. خصوصًا وهو قريب بهذا الشكل ، رغم ذلك أبت الخضوع أمامه فقالت بابتسامة متشفية تحمل لمسة النصر :
_ إنت غيران ولا شو ؟!
حاتم بنفاذ صبر :
_ نـــاديــن !!!
طالعته بتحدي عاقدة ذراعيها أمام صدرها تأبي التكلم واكتفت بابتسامتها ونظراتها الواثقة لتجده يزأر كالأسد ويهتف بغضب معترفًا :
_ أيوة غيران ، ولو متكلمتيش متلوميش غير نفسك على اللي هيحصل
ابتسمت بنصر وسعادة لاعترافه بغيرته الجنونية عليها فاستدارت توليه ظهرها ثم تفتح باب الحمام وتدخل وقبل أن تغلق الباب همست في ابتسامة مثلجة :
_ كانت رفيقتي مايا
ثم أغلقت الباب دون أن ترى ردة فعله لكنها استشعرت مدى الصدمة التي تهيمن عليه الآن .. بالتأكيد يقف متسمرًا كالصنم يحدق في الباب وفي أثرها ببلاهة وعدم استيعاب للخديعة التي سقط فيها بكل سهولة .. وربما غاضب منها بشدة ويرغب في فض شحنة غيظه بها .. لكن كل هذا لا يهم طالما حصلت على ما تريده ! .

***
كانت ستتجه الخادمة لفتح الباب بعد سماع صوت رنينه لكن أسمهان أوقفتها بإشارة من يدها وسارت هي لتفتح وكانت تعرف أن الطارق هو ابنها .
فتحت الباب واستقبلته بابتسامة امومية حانية ثم فردت ذراعيها له تعانقه وتهتف :
_ ازيك ياحبيبي
ابتسم لها وملس على ظهرها بلطف مغمغمًا :
_ كويس ياماما .. إنتي عاملة إيه طمنيني بتاخدي علاجك بانتظام ؟
أسمهان بإماءة بسيطة :
_ باخده متقلقش ..كويس إنك جيت أهو تتغدا معانا ونتلم كلنا على السفرة
طبع قبلة سريعة فوق رأسها يجيبها على عجلة معتذرًا :
_ خليها مرة تاني ياست الكل وهقضي اليوم كامل معاكي .. أنا جاي بس اخد كام حاجة من الأوضة كنت شايلها بخصوص الشغل وهمشي
ابتسمت متهكمة وردت باقتضاب تلقي بتلمحياتها المباشرة :
_ طبعًا ماهي خلاص خدتك مننا .. وعرفت تكسبك في صفها
أصدر زفيرًا طويلًا بخنق ثم ابتسم وقال متخطيًا جملتها :
_ آدم موجود ؟

هزت رأسها بالنفي ولا زالت ملامحها مقتضبة فهز هو رأسها بيأس واندفع تجاه الدرج يصعد إلى غرفته بالأعلى ، فتح الباب ودخل ثم اتجه اول شيء إلى أدراج الطاولة الخشبية يفتحهم واحدًا تلو الآخر يبحث عن الذي يريده ولم يتمكن من إيجاده ، ووجهته التالية كانت الخزانة فيسحب الباب الجرار الذي بالمنتصف لتقع عيناه على ملابس فريدة المعلقة والتي تملأ الخزانة بأكملها ، أظلمت عيناه واحتدمت نظراته ومر أمامه شريط بجميع أفعالها والذكرى الأخيرة عندما تركها لتذهب مع عمها .. تخلت عنه وهو تخلى بأبشبع الطرق واقساها .
خرجت صيحة عارمة منه :
_ مــامـا
لحظات وكانت أسمهان تهرول إليه بالأعلى على أثر صيحته .. وحين دخولها الغرفة تصلبت بعدما رأت الأرض تمتلأ بملابس فريدة والتقطت نظراتها الخزانة التي أصبحت فارغة تمامًا .. ولم تلبث حتى سمعت صوته الممزوج بصيحة مزمجرة ولهجة آمرة :
_ الخدم ياخدوا القرف ده يحرقوه أو يرموه في الزبالة .. والأوضة تتنضف مش عايز اشوف أي حاجة تخصها موجودة في الأوضة والبيت كله من هنا ورايح
هدرت أسمهان بإمتثال ونبرة رزينة :
_ حاضر ياحبيبي أنا بنفسي هحرق الهدوم دي وهخليهم ينضفوا الأوضة كويس .. متعصبش نفسك

لكم بحذائه كومة الملابس الملقية ثم عبر فوقها غير مباليًا وانصرف بعد أن أخذ ما كان قد أتى لأجله بسبب العمل .. بينما أسمهان فبقت مكانها تقف وتتجول بنظرها بين أرجاء الغرفة تبتسم بتشفي وخبث ثم ترفع ذراعيها تعقدهم أمام صدرها وتقول :
_ رجعتي للزبالة اللي جيتي منها .. قولتلك مش هتفضلي كتير وإنتي بنفسك اللي رسمتي خطوط نهايتك .. من البداية كنت عارفة إنك واحدة قذرة والحمدلله ابني خلص منك من غير ما تأذيه

***
في تمام الساعة الواحدة بعد منتصف الليل ......
خرجت من الحمام ممسكة بيدها منشفة صفراء صغيرة تجفف بها وجهها ويديها ، فتسقط نظراتها علي الفراش بتلقائية وتنتفض فزعًا عندما تراه ممدًا فوقه على ظهره يضع ذراعه فوق عينيه ، قبل أن تدخل الحمام منذ دقائق لم يكن موجودًا .. متى جاء ؟! .
لوت فمها بغضب ولم تعيره اهتمام وعادت للحمام مرة أخرى تضع المنشفة بمكانها وتخرج من جديد ، لكن هذه المرة اندفعت نحو الفراش تسحب الوسادة المجاورة له وتضمها لصدرها تحتضنها كطفل صغير يحتضن دميته وتلقى عليه نظرة مشتعلة قبل أن تستدير وتسير تجاه الباب .
كان هو يشعر بخطواتها حوله واحس بالوسادة تسحبها من جانبه فتملكه الغيظ أيضًا بعدما توقع ما تنوي فعله .. وقبل أن تمسك بمقبض الباب أوقفها صوته الخشن :
_ رايحة فين !!
ردت عليه بقرف وعدم اكتراث :
_ هنام مع هنا
ثم أمسكت بالمقبض وكانت على وشك أن تديره لولا أن قبضته الفولاذية نزعت يدها فجأة من فوق المقبض وادخل المفتاح في القفل يغلق الباب عليهم ثم يخرجه ويضعه بجيبه هاتفًا في غضب مكتوم :
_ مكانك جنبي هِنا في الأوضة مش عند " هَنا "
نقلت نظرها بين الباب المنغلق وبينه بصدمة ثم هتفت :
_ إنت قفلت الباب ليه !!!
عدنان بهدوء مستفز :
_ عشان متطلعيش
بسطت كفها أمامه تقول شبه آمرة باستياء :
_ هات المفتاح من فضلك
هز رأسه بالرفض القاطع يرمقها بنظراته الثاقبة وعلى حين غرة يجذب الوسادة من بين ذراعيها ويلقيها على الأرض ثم يدنو منها ويهتف بغضب زوج يرغب ببقاء زوجته بجواره وهي تقابل كل شيء منه بالنفور :
_ لو فاكرة إنك لما تروحي تنامي في أوضة تاني كدا بتعاقبيني تبقى غلطانة .. أنا سمحتلك مرة ومش هسمح تاني
جلنار بابتسامة هازئة :
_ وإنت متخيل إنك لما تحبسني معاك في الأوضة أنا كدا هضطر وأنام جنبك ! .. يبقى بتحلم !!
ابتسم ببرود ثلجي واقترب بوجهه منها أكثر يهمس متسليًا :
_ بس أنا أحلامي حقيقة !
وباللحظة التالية كان صوت شهقتها المرتفعة هي وحدها المسموعة بالغرفة .. بعدما وجدته ينحنى ويحملها فوق ظهره ليصبح نصفها العلوى بالخلف والسفلي من الأمام يثتبها منه فوقه .. صاحت بغضب تلوح بقدميها في الهواء بشراسة :
_ إنت اتجننت ، نزلني .. عدنان بقولك نزلني .. عــدنــ.....

ابتلعت بقية اسمه حين شعرت بجسدها يهوي فوق الفراش .. فانطلقت منها شهقة أخرى وسرعان ما تداركت الوضع وكانت على وشك الوثوب واقفة إلا أن يديه أعاقتها وثبتتها مكانها ، فانحنى عليها بوجهه وهو واقفًا وهمس :
_ شوفتي إني مش بحلم
زئرت من بين شفتيها بشراسة تمامًا كالقطة تتلوى من قبضته وتهتف :
_ ابعد
أظلمت عيناه بشكل مريب لم يكن مخيفًا بقدر ما كانت تحمل في ثناياها المرارة .. وهو يجيبها ساخرًا :
_ أه نسيت معلش إنك بتكرهي لمستي وبتكرهيني من كل قلبك وندمانة وعايزة تطلقي .. في حاجة نسيتها ولا بس كدا
لحظة صمت مرت حتى تابع كلامه بسخرية أشد :
_ لو مبعدتش دلوقتي هيحصل إيه هتكرهيني ! .. إنتي aleardy بتكرهيني .. فمش فارقة .. عشان كدا هتنامي هنا وجنبي ياجلنار سواء شأتي أم أبيتي

وقبل أن يمهلها اللحظات لترد انحنى أكثر عليها وهمس بنبرة جديدة عليها :
_ العُقاب نسر والنسور معروفة بعزة النفس والكبرياء .. بس لما يقرر يتخلي عن كبريائه في سبيل الحفاظ على ملكه وينزل الأرض معناه إنه مستحيل يتخلى عن ملكيته دي مهما حصل

لم يحصل على رد سوى الدهشة والسكون وهي تحدق به بنظرات تفصح عن داخلها .. انتصب في وقفته والتف حول الفراش ليتسطح بجوارها من الجانب الآخر على نفس وضعيته السابقة .. ولم تتحرك هي من مكانها بقت كما وضعها تمامًا تختلس النظر إليه بين آن وآن .

مرت نصف ساعة من السكون التام المهيمن على الغرفة حتى ظنته نام .. لا تدري لما داهمتها رغبة جامحة في معانقته والنوم بين ذراعيه كأمس .. وأن بقيت أكثر من ذلك سيتغلب عليها ضعفها وستفعلها .. فتأففت بخنق واختلست المسافة بينهم تمد أناملها بحذر شديد إلى جيبه لكي تلتقط المفتاح .. وبعد معاناة من نجاحها في ادخال يدها بجيبه لم تجده .. فتنهدت بيأس واقتربت أكثر حتى أصبحت فوقه تقريبًا لتمد يدها بالجيب الآخر .. لكن انطلقت منها شهقة أشبه بصرخة حين شعرت بذراعه يحاوطها مثبتًا إياها بهذا الوضع فوقه وذراعه الآخر رفعه ليظهر لها كفه ممسكًا بالمفتاح بين أنامله ويهز كفه أمام عيناها هامسًا بمكر :
_ بتدوري على ده !
كانت فارغة شفتيها وعيناها بفعل الصدمة واستمرت على هذا الشكل لدقيقة حتى انتشلت نفسها من بين ذراعه أو أحضانه بمعنى أدق ورمقته بنارية وغيظ قبل أن تلتقط عيناها سبيل هروبها منه .. الأريكة ! .
فابتعدت ونزلت من الفراش تهرول تجاه الأريكة لتتسطح فوقها وتهتف بابتسامة نصر :
_ قولتلك مش هتقدر تحطني قدام الأمر الواقع

لاحظت نظرته المشتعلة لها وهو يكاد ينقض عليها لكنه لم يفعل وتصنع تجاهلها ليعود من جديد يضع ذراعه فوق عينيه وبداخله يتوعد لها ولتلك الأريكة بالصباح حين يستيقظ .

***
مع أشراقة شمس يوم جديد ......
عيناه عالقة بشاشة الحاسوب النقال الذي أمامه ولم يرفعها عنه حتى عندما سمع صوت طرق الباب ليخرج صوته قويًا :
_ ادخل
انفتح الباب ودخلت مهرة وهي تحمل فنجان القهوة خاصته وعلى شفتيها ابتسامتها المعتادة .. تقدمت من مكتبه ووقفت بجواره تمامًا ليتمتم هو دون أن يبعد نظره عن الحاسوب :
_ شكرًا ياليلى حطيها واتفضلي خلاص
مهرة بابتسامة عريضة :
_ ليلى تعبت أوي واخدت إذن ومشيت .. فأنا تطوعت وجبتلك القهوة
رفع رأسه أخيرًا عندما ميز صوتها المميز والذي بات يعرفه جيدًا .. وطالت نظرته إليها للحظات بدهشة ثم ابتسم وقال وهو يعود بنظره للحاسوب :
_ متشكر يامهرة تعبتك
تقدمت خطوة أكثر منه حتى تتمكن من وضع القهوة بجواره فوق سطح المكتب لكن التوت قدماها بشكل لا إرادي ومعها مالت يديها ليسقط فنجان القهوة الساخن فوق ملابسه .
انتفض في مقعده ورجع للوراء فورًا بصدمة يفرد ذراعيه بشكل تلقائي فشهقت هي وصاحت بهلع :
_ آسفة آسفة والله ما أقصد
وثب واقفًا وصدره يلتهب من السخونة يتأفف وعلامات الألم اعتلت ملامحه وبعفوية رفع أنامله لأزرار قميصه يفتحها واحدًا تلو الآخر حتى انتهى ونزع عنه القميص يليقيه على الأرض .
استدارت مسرعة هاتفة بذهول وحدة امتزجت بالخجل :
_ هووووي إنت ما صدقت ولا إيه
سمعته يقول في غيظ :
_ انتي اكتمي خالص مش كفاية جبتيلي الجلطة كمان عايزة تسلقيني
_ جبتلك الجلطة ! .. ده أنا ملاك حتى تعالى أسأل عني في المنطقة
لم تسمع رده فقط سمعته يتحدث في الهاتف مع أحدهم ويقول له بصوت غليظ :
_ هاتلي قميص واطلعلي على المكتب
اهتمت لأمره وقلقت عليه ، رغبت بأن تلتفت له ولكن ببقائه عاري هكذا ليس لديها الجراءة لتفعلها .. فقذفت بذهنها فكرة حيث قامت بنزع الشال الذي حول رقبتها والتفتت لها تلف الشال حوله بسرعة هاتفة في ضحكة مرحة :
_ خد استر نفسك الأول بس .. ربنا يستر علي ولايانا
هم بأن ينزعه عنه متطلعًا له شزرًا فمنعته وهي تثبته حوله ضاحكة ببلاهة :
_ والله ما يرجع .. خليه زي ماهو .. أنا حلفت خلاص
ثم تابعت وهي تبتعد عنه مسرعة بلهفة :
_ لحظة واحدة هجيب شنطة الاسعافات واجيلك
بمجرد ما أن التفتت وولته ظهرها نزع هو عنه ذلك الشال بنفاذ صبر وقبل أن تفتح الباب لتغادر انفتح من الخارج ودخلت أسمهان وعلى وجهها ابتسامة واسعة تستقبل بها ابنها ! .

***
فتحت عيناها بتكاسل وأشعة الشمس الذهبية المتسللة لعيناها من خلال النافذة ازعجتها في نومها .. حيث ضربت ببؤرتي عينيها ليلمع لونهم البندقي تزامنًا من ضوء الشمس وشعرها كان مشعس قليلًا لكنه مثير .

احست بالملمس المختلف والناعم أسفلها فأنزلت يدها بسرعة تتحسس أسفلها بعينان متسعة وبأقل من اللحظة كانت تثب جالسة تتلفت حولها .. كيف وصلت للفراش مرة أخرى .. لا وجود له بالغرفة ولا في الفراش بجانبها لكن حتمًا هو من حملها بالأمس لجواره ذلك الخبيث .
كان هناك فراغ كبير بالغرفة وكأنه هناك شيء ناقص .. تجولت بنظرها في استغراب تبحث عن ذلك الشيء حتى وقعت عيناها على مكان الأريكة الفارغ .. اين ذهبت ؟!! .

وثبت من الفراش بعدما سمعت صوته في الحديقة بالأسفل .. فملست على شعرها بكفيها وتحركت نحو الشرفة تقف تتطلع إليه منها .. فوجدته يقف يتحدث مع حامد بوجه حازم وتفاجأت بشابين يحملان الأريكة ويتجهان بها إلى خارج المنزل ليضعوها بسيارة نقل صغيرة .

فغرت شفتيها بعد رؤيتها لذلك المنظر وهتفت بضحكة مدهوشة :
_ مش للدرجادي !!!


فور دخوله الغرفة وجدها تقف بجانب الشرفة عاقدة ذراعيها أمام صدرها وترمقه بقوة .. لم يعير نظرتها اهتمام وتجاهلها متعمدًا حتى يزيد من غضبها

لحظة وسمعها تهتف بدهشة :
_ وديت الكنبة فين ؟!
شرع في ارتداء ملابسه وعلى شفتيه ابتسامة عبثية متسلية .. استشاطت غيظًا من تعمده التجاهل وتلك الابتسامة المستفزة التي فوق شفتيه تثير أعصابها ، فأندفعت إليه ووقفت أمامه تحدقه شزرًا وتهتف :
_ أنا بسألك !
لم يتخلى عن ابتسامته لكن صاحبتها نظرته المثلجة :
_ كانت عاملة زحمة في الأوضة على الفاضي وملهاش لزمة .. ده غير إنها كانت مضيقاني
عقدت يديها في خصرها وهدرت بازدراء :
_ لا والله !
مالت برأسها للخلف في تلقائية بعدما وجدته يدنو منها بوجهه ويهمس أمام شفتيها متسليًا بنظرة تلمع بوميض الانتقام :
_ امممم وخصوصًا امبارح عصبتني أوي
لم تشعر بنفسها سوى وهي تبتسم بشكل لا إرادي وتستمر في التطلع إليه متلذذة بغيظه الدفين منها .. هذه المرة لم تخجل أو ترتبك كعادتها بل مالت هي بوجهها عليه وقالت مبتسمة بنظرة نصر وتشفي :
_ الكنبة برضوا اللي عصبتك !!
اتسعت ابتسامته وعيناه تجولت على وجهها وبالأخص ابتسامة ثغرها في نظرات جريئة ثم همس بخبث غامزًا :
_ عندك شك في كدا !
ضحكت بصمت في سخرية ثم رفعت كفها تضعه على صدره لتدفعه بخفة من أمامها ثم تعبر وتتجه نحو الحمام .. وقبل أن تدخل سمعت صوته العابث وهو يجيب عليها بتحية الصباح التي لم تلقيها عليه من الأساس :
_ صباح الخير ليكي إنتي كمان يارمانة !

هزت رأسها بعدم حيلة تبتسم في استنكار ثم دخلت وأغلقت الباب ! .

***
تسمرت مهرة مكانها وهي ترى تلك المرأة تنقل نظراتها النارية بينها هي وآدم بصدمة .
كانت امرأة متقدمة في العمر .. لكن لا يبدو عليها الكبر أبدًا .. جسدها متناسق وملابسها أنيقة وفخمة .. ترتدي حذاء عالي وتقف بشموخ .. ولديها نظرات كلها استعلاء وقوة .. رأتها تمامًا كالسيدات التي تتجسد دور الشر في المسلسلات ! .
التفتت برأسها تلقائية للخلف عندما سمعت صوت آدم المندهش واستقام سريعًا من مقعده :
_ ماما !!!

نست أنه عاري الصدر عندما التفتت لكن سرعان ما اشاحت بوجهها فور التقاط نظرها جسده وعضلات صدره البارزة والصلبة التي تجعله يقف باستقامة دون أي انحناءة .. تطلعت مرة أخرى لتلك المرأة التي اتضحت هويتها الآن كمان قال " والدته " .

هدرت أسمهان بذهول وغضب :
_ إيه اللي بيحصل بظبط .. ومين دي ؟!

لمست مهرة نظرة الاستحقار في نبرتها وهي تشير بسبابتها عليها وتسأل عن هويتها .. فتقلصت عضلات وجهها لتجيب عليها بابتسامة صفراء :
_ مهرة .. اسمي مهرة
صاحت أسمهان بعصبية وبنبرة فظة :
_ أنا مش بسألك إنتي .. إيه اللي بيحصل يا أستاذ آدم وإيه المنظر اللى إنت فيه ده !!
تلك المرأة المتعجرفة تثير الروح الشرسة والمنحدرة التي تكمن في أعماقها .. لكنها تمالكت أعصابها واجابتها بقوة وابتسامة كانت متكلفة :
_ أصل القهوة ادلقت عليه عشان كدا هو قالع .. عمومًا أنا كنت رايحة اجيب مرهم للحروق عشان الالتهاب ميزدش

فور سماعها لتلك الكلمات اندفعت نحو آدم مسرعة تتفقد صدره وبطنه هاتفة بتلهف وقلق :
_ فين الحرق ياحبيبي إنت كويس ؟!
آدم بخفوت وهو يتنهد بقوة :
_ كويس ياماما متقلقش
بقت مهرة واقفة تحدق بأسمهان في أعين تتجول على طول جسدها بنظرات دقيقة وساخرة ، بينما الأخرى فابعدت نظرها عن ابنها وهتفت بحدة تحدث مهرة :
_ واقفة عندك كدا ليه روحي جيبي اللي قولتي عليه ده

جزت على أسنانها وسط ابتسامتها المزيفة وأماءت برأسها في الموافقة ثم استدارت وفتحت الباب لتخرج وتغلقه خلفها .. وقفت خلفه وقالت بقرف واغتياظ :
_ أما ست تنكة بصحيح .. ومتتنكش علينا ليه بعد الكعب اللي لبساه في رجلها .. ده أنا لو زوزا لبستهولها الولية يجيلها تشنجات في عضلات رجلها

بينما في الداخل فهتفت أسمهان وهي تشير على الباب باستهزاء :
_ مين البنت البيئة دي !
احتدمت نظرة آدم ليجيب على والدته بغضب بسيط :
_ ماما من فضلك .. مهرة شغالة في الشركة هنا ولما ترجع بلاش تتصرفي معاها بطريقة مش لطيفة
هتفت أسمهان منفعلة :
_ وهي إيه عمية مش بتشوف عشان تكب القهوة عليك

بتلك اللحظة تحديدًا عادت مهرة وهي تمسك بيدها علبة صغيرة بداخلها أنبوبة مرهم مضاد للحروق ولسوء الحظ أنها سمعت جملة أسمهان الأخيرة .. فضغطت على العلبة بقوة حتى كادت أن تفعصها تمامًا كما ترغب في فعله بتلك المرأة .. لاحظ آدم الوضع فمد كفه لها هاتفًا بنظرة ذات معنى ضاغطًا على حروف الكلمات :
_ شكرًا يامهرة .. هاتي المرهم
تقدمت ووضعته في كفه دون أن تنظر له وعيناها عالقة على أسمهان التي عادت تتحدث من جديد تقول بفظاظة متجاهلة تنبيه ابنها منذ قليل :
_ مش تخلي بالك وإنتي بتحطي القهوة ولا اتعميتي
بتلك اللحظة حذفت من ذهنها فكرة بقائه عاري حيث رمقته بنظرة محتقنة وعادت مجددًا بنظرها لأسمهان تجيب في تهكم امتزج بضحكة عبثية منها :
_ أنا اتعميت ! .. لا بعيد الشر عني ان شاء الله عدويني

تجاهلتها أسمهان وجذبت الأنبوبة من يد ابنها وتولت هي مهمة تهدئة التهاب حرقه بوضع المرهم فوقه .. وكان آدم يمسح على وجهه متأففًا بخنق حتى سمع صوت طرق الباب ومن بعده دخل أحدهم وهو يمسك بيده القميص الذي طلبه فأسرعت مهرة تجذبه من يده هاتفة :
_ أخيرًا القميص وصل
هز آدم رأسه للرجل بإيجاب كإشارة له أن يرحل وفور رحيله التفتت مهرة تجاه آدم وناولته القميص متمتمة :
_ اتفضل يا آدم بيه القميص .. متقلعهوش تاني بقى هااا

ثم تمتمت بخفوت بينها وبين نفسها لكن صوتها وصل إليه فجعله يبتسم بعفوية :
_ هي كانت أول وآخر مرة اجبلك قهوة فيها أصلًا
رأت ابتسامته فارتبكت واشاحت بوجهها عنه سريعًا بينما أسمهان فرفعت نظرها لها وهتفت بحزم :
_ خلاص اتفضلي على شغلك يلا ايه اللي مقعدك
التفتت مهرة توليهم ظهرها وترفع يدها مغلقة قبضتها بغيظ وتهمس مستنكرة في صوت غير مسموع :
_ بتفرج على جمالك
ثم اندفعت نحو الباب وقبل أن تفتحه وتنصرف التفتت برأسها تجاه آدم وابتسمت بغيظ وبعيناها تشير على القميص ويديها تحركهم فوق كتفيها بمعنى أن يرتديه ثم تلقى أخيرًا نظرة مشتعلة على أسمهان فتجده يهتف في حدة بدت لها حقيقية بمجرد ملاحظته لنظراتها المغتاظة لأمه :
_ امــشي يامهرة

ودون أن تنظر له فتحت الباب وانصرفت فترتفع الابتسامة المغلوبة فوق شفتيه ويتابع بعيناه أمه وهي تعالجه بلطف وحنو .

***
فتحت نادين باب غرفتها وخرجت وقبل أن تخطو خطوة واحدة رأت باب الغرفة المقابلة لها ينفتح .. توترت للحظة وبسرعة همت بأن تذهب لكن تسمرت بأرضها على أثر همسته الرخيمة :
_ نادين !
ثواني معدودة واحست بخطواته تقترب منها ، أصدرته زفيرًا حارًا ثم التفتت بكامل جسدها إليه فوجدته أمامها مباشرة يتطلع إليها بعمق ثم أردف :
_ كدبتي عليا ليه وقولتلي إنه راجل في الأول مش واحدة صحبتك ؟!
علّقت عيناها عليه فتنصهر أسفل نظراته واقترابه منها .. ذلك الماكر لن يتوقف أبدًا عن الاقتراب منها .. يعلم أن قربه يبعثرها ويفعلها عمدًا حتى يتلذذ بخجلها واضطرابها .
حين لم يحصل على الرد منها غمغم بنبرة رجولية ساحرة :
_ عشان تخليني اغير مش كدا ؟
تمالكت أعصابها المرتبكة وردت عليه بثبات متصنع وابتسامة غير مبالية :
_ هو الحقيقة كانت الفكرة للخالة فاطمة هي اللي اقترحت سوي هيك ، وأنا حبيت الفكرة وقلت يعني بتسلي شوى وبعصبك .. ما توقعت إنك تكون بتغير عليا عن جد

ابتسم باستنكار وتقدم بقدمه خطوة منها جعلها ترتد للخلف بشكل لا إرادي وغمغم :
_ كانت فكرة خالتي ! .. ومتوقعتيش إني بغير ! .. هو إنتي شيفاني عبيط يانادين عشان اصدق الكلام ده !!!

هزت رأسها بالنفي في عفوية وعلى شفتيها المزينة بأحمر شفاه ابتسامة متوترة ، ثم خرج صوتها المبعثر تمامًا كخطواتها في التراجع ونظراتها :
_ والله كانت فكرتها .. إذا مو مصدق أسألها

زادت ابتسامته في الاتساع وهو يمعن النظر بها في غرام مستمتعًا بخجلها وتوترها .. لا يعرف كيف أثرته بذلك الشكل دون أن يشعر .. لكنه متيقن من حقيقة واحدة إنها أصبحت خطرًا عليه .

هدر حاتم بمشاكسة يعترف للمرة الثانية :
_ اممم طيب .. وبما إنك عرفتي إن بغير عليكي وغيرتي وحشة زي ما شوفتي فمتكرريهاش تاني

وسط الأجواء المضطربة التي تهيمن عليها وعلى الحديث بينهم إلا أن ما قاله دفعها تلقائيًا للابتسام في خجل وسعادة جعلت قلبها يتراقص بجنون .
رأت نظراته انخفضت لتستقر فوق شفتيها فتلاشت ابتسامتها فورًا وتوقف قلبها عن التراقص ليزيد من دقاته بعنف ، النظرة التي في عيناه اشعرتها بالخطر القادم فإن بقت أمامه للحظة أخرى سيفعلها كما تظن .. همت بأن تفر مسرعة من أمامه لولا قبضته التي أمسكت بذراعها لتوقفها .. أغمضت عيناها بقوة ولوهلة داهمها شعور أنها ستفقد الوعي متوسلة إياه بين نفسها أن لا يفعلها .

أصدرت زفيرًا متنهدة براحة وهي تراه يخرج منديلًا من جيبه ويضعه في كف يدها هامسًا بلهجة لم تكن آمرة لكنها حازمة :
_ ياريت تمسحي الروچ ده كمان متطلعيش بيه

وباللحظة التالية كان يحرر ذراعها ويسير مبتعدًا عنها .. فرفعت يدها تضعها فوق قلبها الذي ينبض بعنف وتتنفس الصعداء بارتياح هامسة :
_ وليش ما قلت هاد الكلام من الأول .. لك وقفت قلبي ياغبي !

***
في مساء ذلك اليوم ...........
عاد للمنزل بعد يوم طويل ومرهق قضاه بالعمل .. تفقد غرفة ابنته أولًا كعادته ليجدها نائمة في فراشها بثبات عميق .. ثم اتجه لغرفته وبيده ينزع السترة السوداء عنه .. دخل ورآها متدثرة في الفراش مولية ظهرها للباب فظنها هي الأخرى نائمة .. علق سترته وشرع في فك إزرار قميصه حتى انتهى وقبل أن يخلعه عنه تمامًا اقترب وجلس على حافة الفراش من الجهة المعاكسة لها ورفع يده لينزع ساعته ويضعها على الطاولة الصغيرة بجوار الفراش .. ثم قوص ذراعيه ليهم بنزع قميصه لكن أوقفه صوت الأنين الضعيف المنبعث منها .. غضن حاجبيه باستغراب وسكن دون حراك للحظات يتأكد من الأنين الذي سمعه عله يكون قد هيأ له .. لكنها عادت تأن بألم مكتوم من جديد .
التفت بجسده فورًا لها ثم صعد جيدًا فوق الفراش ينحنى عليها من الخلف ويبعد خصلات شعرها عن وجهها متمتمًا :
_ جلنار إنتي كويسة .. جلنار !
لم يسمع رد منها فقط أنفاسها كانت سريعة وشفتيها حمراء كالدم .. فوضع كفه مسرعًا فوق جبهتها يتحسس حرارة جسدها .. وكما توقع كانت تحترق من حرارتها المرتفعة .. حاوطها من كتفيها وادارها حتى تتسطح على ظهرها وبكفه يملس على وجنتيها برفق هاتفًا بقلق حقيقي :
_ جلنار افتحى عينك وردي عليا .. جلنار متقلقنيش ردي عليا
سمع همسًا ضعيفًا منها دون أن تفتح عيناها :
_ مش قادرة افتح عيني ياعدنان تعبانة
استمرت أنامله في التجول فوق وجنتها الساخنة ويجيبها بحيرة :
_ إيه اللي حصل مرة واحدة .. ما إنتي كنتي زي الفل الصبح قبل ما اطلع
ابعد يده والتفت برأسه يمد ذراعه ليتلقط هاتفه ويهدر باهتمام ملحوظ في نبرته :
_ هتصل بالدكتور
احس بلمستها الضعيفة فوق كف يده الآخر تقول بخفوت متعب :
_ لا متتصلش ملوش لزمة أنا هبقى كويسة
احتضن كفها الناعم بين قبضته وهتف بصرامة ولهجة لا تقبل النقاش :
_ ملوش لزمة إزاي يعني .. هو أنا هستني لما تبقى كويسة واسيبك تعبانة كدا

لا تملك القدرة على مجادلته ، فالتزمت الصمت وتركته يفعل ما يريد .. وماهي إلا دقيقتين حتى سمعته يتحدث مع الطبيب في الهاتف ويطلب منه قدومه على الفور .. وفور انتهائه نهض من جوارها واتجه للخزانة يفتحها ويبحث بين ملابسها عن شيء مناسب ترتديه بدلًا من ثوب النوم الذي فوق جسدها .
فعثر على رداء طويل وبأكمام طويلة ومحتشم لا يظهر شيء من الجسد .. أخرجه وعاد لها مجددًا يهتف في لطف :
_ قومي يلا غيري هدومك عشان الدكتور في الطريق

تحاملت على جسدها المنهك واعتدلت لتجلس بمساعدته لها .. وانزلت قدماها من الفراش لتضعهم على الأرض ثم تقف وهو يحاوطها بذراعيه .. ضرب رأسها دوار عنيف فور وقوفها ولولا يديه لكانت سقطت .. فقالت تهز رأسها بالرفض وملامح وجهه طفولية على وشك البكاء :
_ لا لا لا مش قادرة أقف
احكم قبضتيه حول خصرها يسندها ويهتف في حنو :
_ أنا هساعدك يلا معلش استحملي دقيقتين
تطلعت إليه بأعين واهنة وقالت بصوت مدهوش :
_ هتساعدني إزاي .. لا خلاص اطلع برا وأنا هعرف اغير وحدي
مد يده يبعد خصلاتها عن عيناها ويهدر شبه ضاحكًا :
_ مش وقت عند خالص يارمانتي .. متخافيش هغمض عيني
_ كذاب !
تنهد بيأس ثم اغمض عيناه وفوق شفتيه ابتسامة جذابة ليجيبها :
_ أهو حلو كدا
جلنار بخفوت لعدم قدرتها على الكلام :
_ عارف لو طلعت بتكذب عليا وشايف .. مش هكلمك بجد المرة دي ومش هسامحك
تمتم بصوت منخفض وهو يضحك بعبث ووقاحة :
_ على أساس هشوف حاجة جديدة يعني !
لكزته بضعف في كتفه بعدما سمعته وقالت بغيظ :
_ قولت إيه ياوقح !
_ ولا حاجة اخلصي احسن افتح عيني بجد .. قولتلك مش شايف

دققت النظر به للحظات في عدم ثقة ، لكن بالأخير استسلمت فهي للأسف لا تقوي على الوقوف ولولا يديه التي تحاوطها الآن لسقطت فوق الفراش من جديد .. بدلت ملابسها سريعًا بمساعدته البسيطة لأنها لم تسمح له بالتعدي الزائد .
فتح عيناه بعدما انتهت وحملها ثم وضعها فوق الفراش برفق ودثرها بالغطاء .. دفعته بعيدًا عنها فورًا قبل أن تفتح فمها وتغطيه بكفيها تعطس عدة مرات متتالية .. ثم خرجت همسة ضعيفة منها بعدما توقفت عن العطس :
_ الحمدلله
ابتسم وانحنى يطبع قبلة دافئة فوق جبهتها مجيبًا :
_ يرحمكم الله
سمعت صوت رنين الباب فاعتدلت هي في نومها وجلست نصف جلسة تستند بظهرها على ظهر الفراش بينما هو فخرج حتى يفتح للطبيب .

***
اختفى من الغرفة فور رحيل الطبيب .. تركها وغادر ولا تعرف ماذا يفعل لكن هناك اصواتًا خافتة تلتقطها أذنيها .. وترجح أن الأصوات منبعثة من المطبخ .
ضيقت عيناها بحيرة واحست أن فضولها سيقتلها أن لم تذهب وترى ماذا يفعل .. نزلت من الفراش وسارت للخارج في خطوات بطيئة وضعيفة مستندة بكفها على الحائط وهي تسير .. فحرارتها المرتفعة أضعفت جسدها وانهكته فلا تقوى على الوقوف والسير بخفة كطبيعتها .

وصلت أخيرًا للمطبخ فاتسعت عيناها بدهشة ، وتجمدت بأرضها تحدق به في ريبة ، يقف ويقوم بتقطيع الخضروات في مهارة بحركات متقنة ، هي نفسها لا تحسن امساك السكين بهذا الاحتراف ، يديه سريعة في التحضير والطبخ ، لم تكن تظن أبدًا أنه يحسن تحضير الأكل بهذا الشكل ! .
انتفضت على أثر صوته الذي خرج هادئًا دون أن يلتفت لها :
_ روحي ارتاحي في السرير وأنا دقايق وهاجي وراكي
جلنار بتعجب :
_ إنت بتعمل إيه ؟!
_ روحي ياجلنار وهتعرفي لما آجي

زمت شفتيها بعدم فهم والحيرة لا تزال تعتلي ملامحها .. ثم استدارت وعادت مرة أخرى للغرفة لتجلس فوق الفراش وتسحب الغطاء على جسدها تتجول بنظرها في الغرفة ننتظره كما قال .

دقائق وكان يدفع الباب بقدمه ويدخل حاملًا الطعام فوق يديه ، رمشت بعيناها عدة مرات في ذهول .. ظلت تتابعه بملامح وجه متجمدة حتى رأته يجلس ويضع الطعام في المنتصف بينهم .. استمرت في التحديق لحظة بالطعام ولحظة به حتى هتف هو متعجبًا :
_ في إيه كلي !
جلنار مشيرة للطعام بسبابتها في دهشة :
_ إنت عملت الأكل ده عشاني !!!!
_ امال عشان مين يعني !
اعتقدت أنه يعد الطعام لنفسه لم تتوقع أبدًا أنه لها ، فظهر شبح ابتسامة رقيقة فوق شفتيها لكنها قالت برفض :
_ شكرًا ، بس أنا مش قادرة أكل والله ومليش نفس

رأته يبتسم بطريقة مريبة ويمسح على وجهه مطلقًا زفيرًا حارًا .. وكانت حركته القادمة أشدهم دهشة حيث وجدته يمسك بالمعلقة ويملأها بالحساء ثم يرفعها لفمها يحثها بنظراته الحازمة أن تأكل .. لكنها أمسكت منه المعلقة وانزلتها في الصحن مرة أخرى تهتف في دهشة :
_ عدنان في إيه مالك إنت مش طبيعي !!
عاد يمسك بالمعلقة من جديد ويقول مبتسمًا ببساطة ولهجة آمرة :
_ أنا هبقى مش طبيعي فعلًا لو مكلتيش .. يلا كلي

لم تتمكن من أظهار رفضها مجددًا بعد لهجته فانحنت تبتلع الحساء الذي بالمعلقة في نفور وعدم رغبة ، وقبل أن يضع المعلقة ويملأها من جديد جذبتها من يده وقالت :
_ ميرسى خلاص أنا هكمل وحدي
لم يعترض وتركها على راحتها يشاهدها بتركيز وتأمل وهي تأكل مجبورة .. كل لحظة والآخرى ترفع أناملها لتبعد خصلاتها المتمردة عن عيناها وتعيدهم خلف أذنها .. وبالمرة الأخيرة سبقها هو وابعدهم بكامل اللطف والحنو فرفعت نظرها إليه تتابعه وهو يملس على شعرها ويبعده بأنامله ، توقفت المعلقة بالطريق قبل أن تصل لفمها من دهشتها بتصرفاته الغريبة والغير مألوفة ، بعد أن انتهى وسحب أنامله ابتلعت ريقها ورفعت المعلقة لفمها لكن وقف الطعام في حلقها فجعلت تسعل بقوة وحين تمكنت من أخذ أنفاسها قليلًا رأت يده يمدها بكوب الماء هاتفًا :
_ خدي اشربي وكلي على مهلك
جذبت الكوب من يده بقوة في غيظ من تصرفاته التي لا تفهمها .. لا تزعجها بالعكس تمامًا لكن يستفزها كونها لا تفهم سبب تحوله الجذري .. ارتشفت كوب الماء كله دفعة واحدة وانزلته ثم قالت بحدة :
_ إنت عايز إيه بظبط ؟!!
فهم ما تلمح إليه ومقصدها ليبتسم بساحرية ثم يهز كتفيه بعبث متمتمًا في لؤم وانامله وجدت طريقها لوجنتها :
_ ولا حاجة .. مراتي تعبانة وبهتم بيها .. فين الغلط في كدا !!!
رمقته شزرًا وهتفت بشراسة مثيرة :
_ شيل إيدك
لم يعاندها وامتثل لطلبها وهو يبتسم بمداعبة بينما فهي فعادت تكمل طعامها لكن قبل أن تدخله لفمها مرة أخرى شعرت بمعدتها تتقلص تحثها على التقيء رافضة الطعام الذي دخل إليها .. فكتمت على فمها بيدها ووثبت من الفراش واقفة تهرول تجاه الحمام لتقف أمام المرحاض تفرغ به جميع محتويات معدتها بما فيها ما تناولته للتو .
كان صوت تقيأها مرتفع وكأن روحها تخرج معه .. اسرع هو إليها غير مباليًا بتقأيها يحيطها بذراع وبالآخر يثبت خصلات شعرها خلف ظهرها .
بعد لحظات طويلة توقفت أخيرًا ففتحت صنبور المياه بيد مرتعشة لتغسل وجهها وانفاسها متسارعة وقد عاد الدوار يداهمها مجددًا وقدماها لا تقوي على حملها مرة أخرى .. فوجدت نفسها بتلقائيًا تلقى بحمل جسدها كله عليه واضعة رأسها فوق صدره ويديها المرتجفة تتشبث بهم بملابسه خشية من أن تسقط .. بينما هو فانحنى وحملها بين ذراعيه يسير بها للخارج عائدًا للفراش وبشفتيه يطبع عدة قبلات متفرقة فوق شعرها وجبهتها .
وضعها فوق الفراش برفق ودثرها بالغطاء ثم ابتعد عنها حتى يحمل الطعام ويعود به للمطبخ وبعد دقيقتين عاد لها من جديد ..

فوجدها متكورة في الفراش كالجنين وترتجف بعنف واسنانها تحتك ببعض من شدة ارتجافها .. ليسمع صوتها الذي يكاد يسمع بصعوبة :
_ بـ..ـردانـ..ـة ياعدنان .. دفيني

فتح الخزانة وأخرج غطاءًا آخر وفرده فوقها ثم انضم لها في الفراش أسفل الغطاء يحاوطها بذراعيه ويجذبها لحضنه ويده يحركها نزولًا وصعودًا فوق ذراعها كنوع من بث الدفء في جسدها وبشفتيه يلثم شعرها فلتفحها أنفاسها الدافئة لتشعرها بالقليل من الدفء .
احس بلكزتها الضعيفة فوق صدرها معبرة عن رفضها لما يفعله لكنها ليست في حالة تمكنها من الشجار معه فاستسلمت لدفء احضانه واكتفت بجملتها الساخرة والمغتاظة :
_ قولتلك دفيني مش احضني
سمعت بضحكته الخافتة يجيبها في مشاكسة :
_ ماهي دفيني دي بنسبالي احضني ياعدنان
لم تعقب عليه فرجفة جسدها كانت أقوى وأشد من أن تنشغل به .. استمر هو فيما يفعله حوالي خمس دقائق حتى هدأ ارتجاف جسدها ومعه هدأت أنفاسها لتسكن بين ذراعيها تتنفس براحة وانتظام .. لكن رأسها كانت تمامًا فوق يساره فأحست بدقات قلبه القوية .. صوت نبضه العنيف يضرب بأذنها ورأسها في قوة مما جعلها تسأله بخفوت دون أن تحرك رأسها أنش واحد من مكانها :
_ قلبك بيدق جامد ليه ؟!!!
عدنان بهمس جميل لاثمًا شعرها بعمق :
_ تفتكري ليه !!
هزت كتفيها بجهل دون أن ترفع رأسها وتنظر له فحصلت على الرد منه بالصمت للحظات حتى سمعت صوته ينسدل كالحرير ناعمًا محملًا بعواطف جديدة :
_ قربك منه بيخليه مش على بعضه

صدمها الرد وتجمدت بين يديه واحست بالبرودة تعود لجسدها مرة أخرى لكن ذلك لم يمنع الابتسامة من الخروج لثغرها تاركة نفسها تستمتع بسماع دقاته الناتجة عن قربها منه كما أوضح للتو .. وماهي إلا دقائق قصيرة وكانت تغط بنوم عميق وسط لمساته الرقيقة فوق شعرها .. وبعدها بدقائق هو أيضًا أغمض عيناه مستسلمًا للنوم .

***
توقف بسيارته أمام بناية منزلها ثم التفت برأسه لها يحدجها مبتسمًا بدفء ، فتبتسم الأخرى باستحياء وتهمس في رقة :
_ ميرسى يارائد بجد انبسطت جدًا النهارده
رائد في ابتسامة عريضة وبحنو هتف :
_ تعيشي واسعدك دايمًا ياقلب رائد
مدت يدها في حقيبتها وأخرجت شالًا قصيرًا من الصوف صنعته يدويًا ومدته له في خجل ورقة جميلة :
_ كويس إني منستش .. كنت هنسى ادهولك

التقطه من يدها يتطلع له بإعجاب كان من اللون الرصاصي وسميكًا لكي يبث الدفء في الجسد .. نظر لها وقال مبتسمًا بدهشة :
_ إنتي عملاه ؟!!!
أماءت برأسها في إيجاب وهتفت بتشوق لمعرفة رأيه :
_ أيوة ، إيه رأيك ؟
رفعه ولفه حول رقبته في وجه مبتسم يجيب عليها في نظرات كانت لها أثر عميق على نفسها :
_ جميل أوي تسلم إيدك ياحبيبتي .. شكرًا على الهدية الجميلة دي
زينة بسعادة عفوية تميل للطفولية قليلًا :
_ بجد عجبك يارائد !
_ طبعًا عجبني هو ده سؤال برضوا .. كفاية إن إنتي اللي عملاه بإيدك الحلوة دي
زينة بفرحة وخجل :
_ الحمدلله كنت خايفة ميعجبكش
ثم تابعت كلامها بعد لحظات طويلة نسبيًا من الصمت بينهم تودعه بعجلة وإشراقة وجهها البريء :
_ يلا أنا هطلع بقى عشان اتأخرت وماما قلقت عليا أكيد

قبل أن تفتح الباب وتنزل وجدته يمسك بكف يدها ويرفعه لفمه يلثم باطنه بعمق ويتطلع لها في أعين أثرت قلبها .. ثم يخرج همسة عاطفية بعينان لا تحيد عنها :
_ بحبك
انصدمت واضطربت بشدة لكنها تصلبت بمكانها لدقيقة كاملة تحدقه بعدم استيعاب .. ولا تصدق ما سمعته أذنها .. هل حقًا اعترف لها بحبه للتو ؟! .. كانت تسمع الأحاديث الكثيرة حول تأثير تلك الكلمة ولم تكن تصدق لكنها عاشت اللحظة بالفعل الآن وصدقت .
تسارعت دقات قلبها ولاح شبح ابتسامتها المصدومة والخجلة على شفتيها ثم سحبت كف يدها بسرعة من قبضته وفتحت الباب لتنزل وتهرول شبه راكضة لداخل البناية وابتسامتها تزداد اتساعًا ! .....

***
بصباح اليوم التالي .......
دوى صوت رنين الباب فظنت فوزية أن مهرة قد نست شيء وعادت لتأخذه .. فتحركت باتجاه الباب لتفتح لكنها قابلت جارتهم من المنطقة " سميرة ".. ابتسمت لها فوزية ورحبت بها بحبور هاتفة :
_ أهلًا ياسميرة تعالى ادخلي اتفضلي
انحنت عليها سميرة تعانقها وتهتف في بشاشة :
_ أزيك ياحجة فوزية أنا قولت أما اجي اشقر عليكي واطمن على صحتك
فوزية بعذوبة وصفاء :
_ فيكي الخير ياسميرة أنا بخير الحمدلله .. اخبار أمك وأخواتك إيه ؟
دخلت سميرة وسارت باتجاه الأريكة لتجلس فوقها وتجيب عليها :
_ زي الفل وبيسلموا عليكي
فوزية في وجه مبتسم :
_ الله يسلمهم .. أنا هروح اعملك حاجة تشريبها
أمسكت بذراع فوزية توقفها هاتفة في رفض تام :
_ لا والله ما تعملي حاجة .. هو أنا غريبة .. أنا جاية اطمن عليكي مش اتعبك
_ ولا تعب ولا حاجة يابنتي هعملك حاجة سريعة كدا بس
_ اقعدي بس ياخالتي والله ما له لزمة .. متتعبيش نفسك
تنهدت فوزية بعدم حيلة ويأس ثم جلست بجوارها تحدجها بعتاب بينما الآخرى فملست على كتفها بلطف وهتفت في فضول :
_ ألا صحيح هي مهرة سابت الشغل مع الحج سمير
فوزية بإيجاب في بساطة :
_ آه سابته والله بس الحمدلله لقت شغل في مكان تاني ومرتاحة فيه
حكت سميرة ذقنها وقالت بحيرة :
_ أصل أنا استغربت لما سمعت طراطيش كلام كدا .. أن الحج سمير قال طردها من المكتبة عشان الكلام اللي داير عليها في المنطقة
تجهمت ملامح فوزية التي أجابت في صدمة :
_ طردها !!!
هتفت سميرة في استغراب ودهشة :
_ يووووه يقطعني هو إنتي متعرفيش ولا إيه ؟!
فوزية في حدة وقد أظلمت نظرات عيناها بغضب :
_ اتكلمي ياسميرة كلام إيه ده اللي داير على بنت ابني !!!

رمقتها سميرة في خوف مترددة من أن تسرد عليها كل شيء يدور على الألسن بالمنطقة ولا تدري به لكن نظرات فوزية المشتعلة أجبرتها على الحديث !! ...

***
فتحت عيناها بخمول وتكاسل .. رغبت بالتحرك لكن ثقل ذراعيه حول جسدها التي لا زالت تحاوطها حتى الآن لم تمكنها من التحرك .. كان يحكم قبضته حولها جيدًا بل كان يحتجزها بين أحضانه بالمعنى الحرفي كطفل يحتضن لعبته بقوة أثناء نومه خشية من أن يأخذها أحدًا منه خلسة .
تلوت بين يديه محاولة الخروج من ذلك القفص المحتجزة به .. ذراعيه وبنيته الضخمة وصدره الواسع اشعرتها أنها داخل قفص بالفعل .. لكن إن كان يجب عليها الاعتراف فهو قفص رائع ! .

نجحت أخيرًا في أبعاد ذراعيه عنها ومع تلويها وحركاتها العبثية في الفراش ايقظته .. ففتح عيناه في خمول مماثل لها بالبداية ومجرد وضوح صورتها أمامه وجدته يهمس في شبه ابتسامة وهو يرفع يده ماسحًا على شعره :
_ صباح الخير
اعتدلت وهبت واقفة من الفراش تجيبه وهي تتجه إلى الحمام :
_ صباح النور
تشعر بتحسن كبير عن الأمس حتى حرارتها انخفضت مما جعلها تتمكن من التحرك بخفة وطبيعية على عكس أمس .
غسلت وجهها جيدًا بالمياه ثم اتجهت لمياه الدش لتنزع ملابسها عنها وتفتح صنبور الماء الساخنة لتدخل بجسدها أسفلها .. تزيح عنه تعرق وإرهاق الأمس .
عصفت بذهنها جملته التي بصمت أثرها في نفسها ( قربك منه بيخليه مش على بعضه ) .. فرفعت ذراعيها ترجع بخصلات شعرها للخلف أسفل المياه والإبتسامة تشق طريقها لثغرها الجميل .

بعد تقريبًا عشر دقائق خرجت مرتدية روب الحمام الخاص بها ( البرنس ) وشعرها تلفه بمنشة صغيرة ترفعه بها لأعلى .. لكنها ارتدت للخلف في فزع حين فتحت الباب ورأته أمامها مباشرة .. وضعت كفها على قلبها تتنفس الصعداء ثم تبعده بلطف من أمامها وتعبر لكنه قبض على رسغها ليوقف ويقترب حتى يقف أمامها مباشرة ثم يمد أنامله يضعها على وجنتها يملس فوقها برفق متفقدًا حرارتها ويتمتم :
_ عاملة إيه دلوقتي ؟
مازال يتصرف كالأمس .. اعتقدت أنها حالة من الجنون ضربت بعقله للساعات وسيعود لطبيعته فور استيقاظه .. لكنه كما هو بلطفه ورقته معها .. ماذا يحدث مع ذلك الرجل ! .. هل تلك الأريكة السخيفة تسببت في كل هذا ؟!!!
أجابت جلنار بنبرة هادئة لكن نظراتها تائهة كعقلها تمامًا :
_ الحمدلله احسن من امبارح
انحنى بوجهه عليها يلثم وجنتها في عمق مغمغمًا :
_ الحمدلله
لم تسامحه بعد ولا تريد أن تضعف أمامه بكل سهولة هكذا وبنفس اللحظة لا تريد أن تنفره بقسوة وجفاء كعادتها بعد تصرفاته الحانية معها بالأمس والآن .. فقالت في لطف ونبرة جادة :
_ عدنان ممكن متقربش مني أنا لسا تعبانة وممكن تتعدي وتتعب
غمز لها بنفس نظراته العبثية منذ أمس وقال في مكر :
_ خايفة عليا يارمانتي !
جلنار بغيظ دفين :
_ متقوليش يارمانتي بتعصب
عدنان ضاحكًا بخفة :
_ مش ذنبي إنك شبهها
غضنت حاجبيها باستغراب وهتفت :
_ شبه مين ؟!!
_ الرمان يارمانة
هزت رأسها بيأس متنهدة ثم همت بالابتعاد لكن يده مازالت تقبض على رسغها فوقفت بعد خطوتين والتفتت برأسها له للخلف تشير ليدها بأن يتركها .
ثلاث ثواني وشعرت به يسحبها إليه من ذراعها فتصطدم بصدره في قوة ولم يكن ليمهلها اللحظات ككل مرة حتى تدفعه أو تنفره كالعادة بل مال بوجهه عليها وكان على لحظة فقط ويفعلها لولا صوت طرق الباب بيد صغيرته التي تطرق بقوة تتناسب من قبضة يدها الصغيرة هاتفة في خنق :
_ بابي ! ......






حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-