رواية امراة العقاب الفصل 35 بقلم ندى محمود توفيق
رواية كيان الفهد الفصل 35 هى رواية الكترونية من تأليف ندى محمود توفيق واليوم سنعرض لكم الفصل او البارت 35 من رواية كيان الفهد
رواية كيان الفهد الفصل 35
نظراتها عالقة على ساعة الحائط المعلقة منذ وقت طويل .. الساعة تخطت الثانية صباحًا ولم يعد حتى الآن ، تتذكر جيدًا كلماته الأخيرة لها بالصباح وبعدها فورًا اختفى وغادر وإلى الآن لم يأتي .. لأول مرة يعاتبها ويتحدث بتلك النبرة الغريبة .. هل حقًا يؤلمه جفائها وبالأخص حين تخبره بكرهها المزيف له ! .. باتت تشعر أن حقيقة التغير التي لا تؤمن بها قد تكون موجودة بالفعل !! .
التقطت اذناها أصوات أقدام تقترب من الغرفة فاعتدلت في فراشها فورًا وثبتت نظرها على الباب منتظرة دخوله .. ثواني معدودة ورأته يفتحه ويدخل بخطوات متعثرة وغير متزنة قليلًا .. ويمسك بطرف سترته التي فوق كتفه وتتدلى على ظهره .
تابعته بعيناها المدهوشة لتراه يقترب من الفراش ويلقى بسترته في عدم مبالاة فتسقط فوق حافة المقعد ثم يتجه إلى الفراش ويلقى بجسده فوقه رافعًا ذراعه ليضعه فوق عينيه متنفسًا الصعداء بحنق .
لم تكن بحاجة للاقتراب منه حتى تتأكد أنه ثملًا بعض الشيء وليس بوعيه الكامل .. فبقت جالسة مكانها تحدقه بصمت لدقيقة كاملة حتى ارتفع صدرها بنفس عميق أخذته وهبط ببطء مع زفيرًا متمهلًا .. ثم خرج صوتها الخافت بتعجب :
_ عدنان إنت كنت سايق العربية بالحالة ده !
همهم بهدوء تام :
_ امممم .. خايفة عليا ولا إيه !
أصدرت تأففًا قوى بيأس لتجيبه في جدية :
_ طيب قوم غير هدومك وخد دش
لم تسمع أي رد منه فقط صوت تنفسه الحاد كان هو المسموع .. وبعد برهة من الوقت سمعت همسه وهو يبتسم بمرارة :
_ الحقيقة دايمًا بتوجع .. وإنتي قولتي الحقيقة امبارح
ابعد ذراعه عن عينيه وتطلعها بعينان لامعة يتابع كلامه بخزي وألم :
_ واللي يوجع اكتر هو نظرات الكره وعدم الثقة والنفور اللي بشوفها في عينك .. صدقيني بتخليني اكره نفسي اكتر .. هي وجعتني في كرامتي وشرفي وإنتي في قلبي
لوهلة اشفق قلبها عليها ربما لو كان بوعيه لما كانت اشفقت لكن كلامه وهو ثمل هكذا يشعرها بالسوء والحزن .. فاقتربت منه في الفراش وامسكت بذراعه تحثه على النهوض هاتفة :
_ عدنان قوم إنت مش في وعيك لما تفوق قول اللى إنت عايزه
رأته يضحك بسخرية ويغمغم في نبرة موجوعة :
_ وهو أنا من إمتى كنت بوعي أساسًا .. لو كان عندي وعي وعقل كانت هتقدر تستغفلني أربع سنين وكنت هظلمك واخسرك بسببها
تقوست ملامح وجهها بتأثر فضغطت على ذراعه أكثر وغمغمت برجاء :
_ قوم ياعدنان عشان خاطري
لم يبالي برجائها أو محاولاتها بل تابع بنفس نبرته السابقة وابعد يدها عن ذراعه بلطف :
_ لما بشوف كرهك ليا بقول معقول أنا وصلتها للدرجة دي .. معقول إنت كنت غبي وحقير كدا ياعدنان
لا تتفوه ببنت شفة تستمر في التحديق به بسكون والعبوس ظاهر على محياها .. تستمع لكلماته التي يجلد بها ذاته في قسوة .. وفي أعماقها تتمناه أن يتوقف فلا تريد أن تسمع منه أي شيء وهو بهذه الحالة المزرية .
اكمل عدنان بثغر مبتسم في أسى :
_ جايز أكون اناني زي ما بتقولي .. بس أنا أناني في حبي وتمسكي بالشخص اللي عايزه .. مش بقبل بعده عني ولا بقبل اشاركه مع حد
ثم سكت لدقيقة قبل أن يتبع بعينان تلمع بدمعة متحسرة :
_ ربنا اخدلك حقك مني ياجلنار
غامت عيناها بالعبارات ولو كانت بقت للحظة أخرى تتطلع إليه تلك العبارات ستشق طريقها إلى وجنتيها .. فابتعدت عنه مسرعة وهمت بالنزول من فوق الفراش حتى تغادر لكن قبضته على رسغها اوقفتها وتبعها همسته الراجية :
_ خليكي جمبي !
بقت على وضعها توليه ظهرها تحاول كبت دموعها من السقوط لكنها انهمرت بشكل لا إرادي حين شعرت بلمساته تهبط برقة من رسغها إلى كفها ليقربه لشفتيه لاثمًا باطنه بعدة قبلات تتنقل من باطن الكف لظاهره وانفاسه الساخنة تلفح بشرتها الناعمة .
التفتت برأسها له وسط دموعها فتراه يحتضن كفها ويمطره بوابل من قبلاته وهو مغمضًا عيناه .. فتجمدت يدها أمام قبلاته ولم تتمكن من سحبها إلا عندما توقفت قبلاته واحست بانفاسه السريعة هدأت وانتظمت وكأنه نام .. فجذبت يدها ببطء ورفعت أناملها تجفف دموعها قبل أن تهم بالنهوض .. لكن خرجت همسة خافتة من بين شفتيه جعلتها تتصلب بأرضها كأن صاعقة برق أصابتها واتسعت عيناها على أخرهم بصدمة .
كان لا يزال مغمضًا عيناه وخرجت منه همسة بمشاعر صادقة .. رغم أنه شبه نائم وتأثير الكحول واضح عليه إلا أن قلبه ولسانه تولوا مهمة الكلام بدلًا عن عقله المغيب :
_ بحبك يارمانتي !
قدماها تسمرت مكانها وانفرجت شفتيها بذهول .. ومن فرط صدمتها ظنت أن عقلها يختلق تهيأوهات ويهلوس .. وبأقل من الثانية كانت تلتفت برأسها إليه في معالم وجه يعلوها الذهول وعدم الاستيعاب .. فوجدته يغلق عيناه بسكون تام .. بشكل تلقائي تحركت لتصعد فوق الفراش من جديد وتقترب منه تمد أناملها الرقيقة تهزه في كتفه بلطف تتأكد هل مستيقظًا أم نائم :
_ عدنان !! .. عدنان !
لكنه للأسف لم يجيبها فقد كانت تلك هي جملته الأخيرة قبل أن يغرق في سباته العميق .. استمرت في التحديق بوجهه بعينان مصدومة حتى وجدت شفتيها تنفرج عن شبه ابتسامة عفوية ثم تبتعد عنه وتنهض لتغادر الغرفة بأكمله تاركة إياه ينعم بنومه العميق .
***
مع صباح اليوم التالي .......
صك سمعها صوت رسالة وصلت للتو على هاتفها .. فنهضت من فراشها واتجهت لتلتقط هاتفها وتفتح الرسالة تتفقد آخر رسالة وصلت وكانت من رقم مجهول محتواها كالآتي ( نصيحة مني ليكي متثقيش أوي في رائد .. هو مش ملاك زي ما متخيلة ولا عمره هيكون .. خدي حذرك وخلي بالك منه عشان ده شيطان متجسد في صورة انسان ) .
أعادت قراءة الرسالة حوالي خمس مرات تقرأها بشكل مستمر والدهشة تتملكها .. وقد بدأت حلقة الأسئلة تدور في ذهنها حول هوية صاحب هذا الرقم ولماذا يحذرها من رائد !! .. ماذا يعرف عنه حتى يقول هكذا ؟!! .
بقت على هذا الوضع لدقائق تارة تعود وتقرأ محتوى الرسالة من جديد بتدقيق أشد كلمة كلمة وتارة ترفع نظرها تحدق في الفراغ بشرود .. لا تنكر شعور القلق والخوف الذي انتابها لوهلة بعد هذه الرسالة رغم سخافتها بالنسبة لها إلا أن صاحبها نجح في بث الخوف بنفسها وتحقيق مبتغاه الذي لا تعرف سببه ! .
قطع شرودها دخول ميرفت عليها الغرفة هاتفة بعجلة وحزم :
_ وبعدين يازينة تعالي ساعديني شوية يابنتي كلها كام ساعة وعمتك وولادها يوصلوا ده حتى خطيبك هيجي الليلة !
مسحت زينة على وجهها متأففة في عقل مشوش .. لكنها قررت عدم الانشغال برسالة سخيفة كتلك من ارسلها هدفه واضح وهو دلع نيران الشجارات والتفرقة بينهم .. لتجيب على أمها بإيجاب وخفوت :
_ حاضر ياماما روحي وأنا جاية وراكي علطول
استدارت ميرفت وغادرت من جديد لتعود للمطبخ تكمل تجهيزات طعام المساء .. بينما زينة فما هي إلا دقائق قصيرة حتى لحقت بأمها لكي تساعدها .
***
داخل الاستراحة الخاصة بالمستشفى .....
تجلس فوق مقعدها حول طاولة صغيرة وعلى الوجه المقابل لها مقعد فارغ .. أو بالأحرى مقعده حيث استقام منذ لحظات وابتعد عنها لكي يجيب على هاتفه وقد اوصاها بأن تتناول طعامها ومشروبها إلى حين عودته .. واكتفت هي بالإماءة في موافقة دون أن تتحدث .
ذبل وجهها المبتهج دائم الابتسام وبات شاحبًا تحيط بعيناها الهالات السوداء .. كانت ترفع شعرها لأعلى في تسريحتها المعتادة لتتركه ينسدل على ظهرها ذيل طويل .. مرتدية بنطاله الأبيض الواسع واعلان كنزة بحمالات عريضة وفوقها جاكت جينز واسع في الذراعين يعطيها شكل لطيف مقارنة بجسدها المتناسق .
كانت عيناها تائهة تحدق في الفراغ بضياع وشريط ذكريات حياتها المأساوية يمر أمامها كفيلم سينمائي .. وسؤال واحد يدور في ذهنها تستمر في طرحه ( هل سأفقدها هي أيضًا ؟!! ) .
فجأة التقطته عيناها .. لا تعرف كيف رأته هل ظهر من العدم أم أنه كان يقف منذ وقت ولم تلاحظه .. اتسعت عيناها في دهشة ورعب ، لكن اوهمت عقلها بأنها مجرد تخيلات ولا وجود له .. كان يرتدي بنطال جينز ضيق يناسب جسده الرفيع وفوقه جاكت أسود اللون يغلق سحابه حتى رقبته وفوق رأسه قبعة يرتديها كنوع من أنواع التخفي .. لكن تلك القبعة لم تخفيه عنها .. فتلك النظرة التي بعيناه لن تتمكن من محوها أبدًا .. حتى تلك الندبة التي في يسار وجنته لا تتمكن القبعة من إخفائها .. وما أكد لها أنه حقيقة عندما عبر أحد من جواره واصطدم بكتفه .. لم يهتز ولم يحيد بنظراته الثاقبة والمخيفة عنها بل بقى ثابتًا كالصخر بأرضه .
ابتلعت ريقها بتوتر وارتيعاد ملحوظ فوق قسمات وجهها ثم استقامت واقفة فورًا والتفتت برأسها حولها تبحث عن آدم لكن لا وجود له .. ازداد خوفها واضطرابها أكثر وباللحظة التالية كانت تندفع بين الطاولات تهرول داخل المستشفى لتختبأ منه وعيناها تستمر في التجول حولها بحثًا عن آدم .
على حين غرة اصطدمت بجسدها به فارتدت للخلف وكادت أن تسقط لولا يده التي التقطتها واعادت توازنها .. كانت ستنطلق منها بين شفتيها صيحة عالية في هلع ظنًا منها أنها اصطدمت بذلك الذي تحاول الهرب منه لكن هدأت أنفاسها المتسارعة ودخلت السكينة لقلبها فور رؤيته لتزفر بقوة وتهتف بزعر ملحوظ :
_ إنت روحت فين ؟!!
تفحص معالم وجهها باستغراب وغمغم بهدوء :
_ كنت برد على التلفون يامهرة .. حصل إيه مالك ؟
هزت رأسها بالنفي تجيبه بخفوت ورأسها تستمر بالتلفت حولها في خوف :
_ محصلش حاجة أنا جيت اشوفك بس لما لقيتك اتأخرت
أمسك آدم بوجهها وثبته عليه في اتجاهه ليهتف في لهجة شصارمة :
_ بصيلي يامهرة في إيه مالك ؟ .. بتبصي حواليك بخوف كدا ليه ؟!!
علقت عيناها بخاصته الخضراء في لحظة وسرعان ما عادت لوعيها تقول بطبيعية مزيفة :
_ مفيش حاجة صدقني .. خليك معايا بس ومتسبنيش
ابتسم آدم بساحرية وتمتم في خفوت جميل :
_ ما أنا معاكي أهو هو أنا سبتك !!
بادلته الابتسامة بأخرى مرتبكة وبعد ثواني كان هو يتحرك نحو الطاولة بعد أن أشار لها بعيناه أن تأتي .. فهرولت مسرعة خلفه تسير بجواره شبه ملتصقة به كطفل صغير يحتمى بوالده وعيناها تتجول في كل بقعة بحثًا عن صاحب القبعة لكن لا أثر له .
لاحظ آدم تصرفاتها الغريبة والتصاقها به كنتيجة لخوفها من شيء لا يعلمه فانتظر حتى جلسوا فوق مقاعدهم حول الطاولة وهتف بجدية :
_ في حاجة حصلت وأنا مش موجود يامهرة .. شوفتي حاجة أو حد يعني ؟!!
لم تنتبه لكلماته بسبب انشغالها بالتجول بنظرها بحثًا عنه في استغراب فقد كان يقف هناك للتو كيف اختفى بهذه السرعة .. عاد آدم يهتف في غلظة صوته القوى :
_ مـــهــرة !!!
انتفضت وعادت بوجهها لجهته تنظر له ببلاهة قبل أن يتمكن عقلها أخيرًا من ادراك ما سمعه للتو فتهتف في نفى تام وثبات متصنع :
_ لا مفيش حاجة يا آدم صدقني
_ امال بتبصي حواليكي وبتدوري على مين كدا ؟!
مهرة مخترعة كذبة حتى تستطيع الفرار من حصاره :
_ أصل شوفت واحدة صحبتي اعرفها ودلوقتي مش لقياها .. بس شكلي شبهت عليها ومش هي
آدم بنظرة شبه مستنكرة وثاقبة كالصقر :
_ صحبتك !!
أدركت أن كذبتها لم تجدي بنفع معه وأنه كشفها لكنها اكتفت بابتسامتها المضطربة واسرعت تلتقط مشروبها ترتشفه بهدوء وعيناها تتجول بكل مكان عدا وجهه تتفادى النظر إليه عمدًا كأنها تتهرب من نظراته التي تخترقها ! .
***
سارت باتجاه غرفة مكتبه الخاصة تحمل بيدها كأس ماء ممتلئ وباليد الأخرى اقراص لعلاج الآم الرأس .
فتحت الباب في بطء ودخلت ثم أغلقت الباب خلفها واقتربت منه بخطواتها الرقيقة حتى جلست بجواره فوق الأريكة ومدت يديها بكوب المياه والاقراص .
كان هو يضع ذراعه فوق عينيه المغلقة بسبب الألم القاسي الذي يضرب برأسه منذ استيقاظه من النوم وعندما احس بوجودها أزاح ذراعه وفتح عيناه يحدق بها وبيديها الممدودة بالماء والعلاج .
جلنار في لطف :
_ خد العلاج ده هيخفف ألم الصداع شوية
عدنان باستغراب ونظرات دقيقة :
_ وإنتي عرفتي منين إني عندي صداع !
جلنار ببساطة :
_ واضح ياعدنان وطبيعي جدًا يجيلك صداع شديد بعد الحالة اللي رجعت بيها امبارح البيت
مد يده يلتقط اقراص الدواء ليبتلع واحدة منها ثم يجذب كوب المياه ويرتشفه كله دفعة واحدة فوق الدواء ثم نظر لها وتمتم بنبرة لينة :
_ شكرًا
سكتت للحظات طويلة حتى تفوهت بهمس ناعم ورقة امتزجت بمعالم وجهها العابسة :
_ مكنتش اقصد
التفت برأسه تجاهها وتطلعها بحيرة لبرهة حتى أدرك مقصدها فتنهد وابتسم مغمغمًا :
_ مكنتيش تقصدي في إي بظبط .. في إنك مبتحبنيش ولا ....
قاطعته وتابعت بخفوت :
_ في كلامي عمومًا ياعدنان .. يعني كنت متعصبة ومش عارفة أنا بقول إيه !
مال بوجهه عليها حتى لفحت أنفاسه الساخنة صفحة وجهها وتطلع في عيناها بتدقيق شديد هامسًا في فحيح مربك :
_ ليه ؟!
قذف بذهنها اعترافه الصريح بحبه لها في الأمس .. لا تدري هل هو يتذكر ما قاله بالأساس أم أنها كانت مجرد كلمات عبثية خرجت من بين شفتيه بعدم وعي .. لكن هنا شعور يحتويها كلما تتذكر نبرته المختلفة أن تلك الكلمة كان يعنيها حقًا وكانت تخرج من صميم قلبه صادقة ! .
اربكها اقترابه بشكل غريب فهزت رأسها بعدم فهم تتمتم :
_ هو إيه اللي ليه ؟!!
لم يبتعد رغم ملاحظته لتوترها .. بل اقترب أكثر ليتلذذ بذلك الاضطراب الذي نادرًا ما يراه على وجهها وأردف بهمس رجولي يذيب البدن :
_ كنتي متعصبة ليه ياجلنار .. سألتك لو أنا عملت حاجة ضايقتك مني ومردتيش عليا .. فحابب اعرف كان إيه سبب عصبيتك !
توترت بشدة وفرت الكلمات من عقلها فلم يسعفها لسانها للتفوه بأي كلمة .. وتطلعت بعيناه البندقية الثاقبة في لحظات من غياب العقل المؤقت .. تبدو نظراته قاسية لكنها تحمل الحنو والعاطفة في ثناياها .. تلك المشاعر تراها للوهلة الأولى بعينيه التي طالما كانت متحجرة وجامدة كمشاعره وقلبه .. لا تدري هل عقلها هو الذي يرسخ تلك الأفكار به بسبب ذلك الاعتراف أم أن ما تراه حقيقي بالفعل ! .
كانت ستنطلق فوق ثغره ابتسامة لكنه كبحها وغمز بخبث دفين وأعين اختفت بها لمعة القسوة تمامًا التي بدت لها في البداية :
_ شايفة إيه ؟!!
فاقت من تأملها لعيناه على تلك الجملة التي تفوه بها فحدجته بعدم فهم ليكمل بنفس النبرة السابقة يعيد سؤاله بتوضيح أكثر :
_ شايفة إيه في عيوني !
" ماذا يحدث لي؟! ، لماذا اتطلع إليه كالبلهاء هكذا ، توقفِ عن هذه السخافات وعودي لوعيك ياحمقاء ! " لم يكن عقلها هذه المرة من يتحدث بل نفسها المتمردة .. وفورًا ارتدت للخلف تبتعد عنه وتجيب بحزم بسيط :
_ هشوف ايه يعني ! .. مش شايفة حاجة وبعدين أنا هبص لعينك ليه
فشل في حجب ابتسامته أكثر من ذلك حيث ارتفعت لثغره ومط شفتيه بجهل مجيبًا بنظرة ذات معنى :
_ لنفس السبب اللي بيخيلني أنا كمان ابص في عينك واتأملها
جلنار بابتسامة ساخرة :
_ وهو ايه ده بقى السبب !
عدنان بلمعة عين مختلفة :
_ إنتي فاهمة قصدي كويس
أدركت ما يقصده فتجمدت قسمات وجهها لثواني قبل أن تهب واقفة وتهتف بعناد وثبات :
_ لا مش صح
القت بجملتها وقررت إنهاء حرب الأعصاب التي تعاني منها فاندفعت نحو الباب حتى تغادر لكنه قبض على كفها يمنعها من التقدم .. وكأنه قرأ ما كان يدور برأسها اثناء تأملها لعيناه فقرر الرد بفعل بسيط لكنه يعني الكثير .
رأته يقرب كفها من شفتيه ويغلق عيناه ليلثم باطنه برقة وعمق .. تمامًا كقبلته بالأمس كأنه يرسل لها إشارة من خلالها أنه يتذكر ليلة أمس جيدًا وخصوصًا اعترافه الذي يؤكده الآن لها بالفعل .
تسارعت دقات قلبها الشغوف واضطربت بشدة فسحبت كفها بهدوء بعدما ابعد شفتيه وفتح عيناه ثم أسرعت للباب تفتحه وتنصرف لتقف بالخارج أمامه بعدما اغلقته خلفها .
هبطت بنظرها إلى كفها تحديدًا لباطنه موضع قبلته .. فترتفع الابتسامة لشفتيها الجميلة وتغلق على كفها وبشكل لا إرادي ترفعه لشفتيها غير مصدقة ما يحدث .
وسط تلك اللحظات سمعت صوت صغيرتها تهتف بتعجب من حالة أمها :
_ مامي !!
فزعت واسرعت بإنزال كفها لتجيب على ابنته بجدية تجسدتها بمهارة :
_ نعم ياحبيبتي
هنا بفضول طفولي واستغراب :
_ بتضحكي ليه !
أشارت جلنار لنفسها باستنكار تنفي سؤال ابنتها :
_ أنا بضحك !!!! .. هضحك ليه .. أكيد مش بضحك يعني ياهنون .. ادخلي اقعدي مع بابي جوا
ثم انحنت على صغيرتها ولثمت وجنتها بحنو قبل أن تستقيم من جديد وتسير مبتعدة عنها .. بينما الصغيرة فبقت تتابع أمها بنظرات متعجبة حتى زمت شفتيها بيأس ودخلت لأبيها ! .
***
كانت نظرات فاطمة ثابتة على ابن شقيقتها الذي يجلس على المقعد المقابل لها ويعبث بالصحن دون أن يأكل وعلى شفتيه ابتسامة عبثية بسيطة .. وبتلقائية ارتفعت الابتسامة لثغرها هي الأخرى تضحك بعدم فهم وحيرة على حالته الغريبة .
بينما هو فعقله كان مشغول بتلك التي احتلته بشكل عجيب وبسرعة لم يكن يتخيلها .. قضى الليل بأكمله الأمس يفكر في تلك الخطوة التي يرغب بها .. وبعد تفكير مليًا وطويلًا حسم قراره أخيرًا .. سيفعلها لتكون فرصة وبداية جديدة لهم هم الأثنين .
فاطمة بضحكة مستغربة :
_ إيه ياولا مالك من أول ما قعدت على السفرة وانت منشكح كدا .. قولي حتي وفرحني معاك !
رفع حاتم نظره لخالته وتنفس الصعداء بعمق قبل أن يغمز لها بمشاكسة ويميل بوجهه تجاهها هامسًا :
_ هحققلك مناكي يافطوم
استغرقت دقيقة كاملة حتى فهمت ما يرمي إليه فصاحت به بفرحة غامرة :
_ هتتجوز ياحاتم !!!
بتلك اللحظة تحديدًا كانت نادين تهبط الدرج متجهة إليهم وعند سماعها لصيحة فاطمة بتلك الجملة تسمرت مكانها مدهوشة .. وبقت تستمع لبقية حديثهم ! .
اماء حاتم برأسه في إيجاب لخالته التي تابعت بحماس شديد :
_ هااا قولي بقى مين ست الحسن دي ؟!
أشار بعيناه إلى الطابق العلوى من المنزل غامزًا بلؤم ففغرت فمها بصدمة وهتفت بضحكة عالية وسعيدة :
_ وايه اللي حصل فجأة كدا ياحنين وخلاك تغير رأيك .. مش كان مستحيل ولا يمكن ومينفعش
بادلها الضحك وهدر بمداعبة :
_ القلب وما يريد بقى يافطوم نعمل إيه !
قهقهت بقوة وعيناها تلمع بسعادة نقية وبهجة جميلة .. بينما نادين فاشتعلت غيظًا وتأججت نيران الغيرة بقلبها .. هل كان يتودد إليها بالنظرات والكلمات ويخبرها بغيرته المباشرة عليها وهو كان ينوي الزواج بأخرى .. يا لها من حمقاء صدقت مشاعره وأنه حقًا يبادلها الحب ! .. والآن يغدر بها بأبشع الطرق على الإطلاق .
رفعت أنفها لأعلى بشموخ وهبطت الدرج بقوة وثبات يليق بها .. حتى لو كان مصطنعًا لكنها لن تسمح بالظهور أمامه ضعيفة بعد الآن .. توقفا الاثنين عن الكلام فور رؤيتهم لها تنزل الدرج وتقترب منهم بمعالم وجه ليست طبيعية أبدًا .. جلست فوق المقعد المجاور لفاطمة وغمغمت بخفوت دون أن تعيره ادني اهتمام :
_صباح الخير ياخالة
فاطمة ببشاشة وجه وهي تتبادل النظرات الخبيثة مع حاتم :
_ صباح النور ياحبيبتي
باشرت في تناول طعامها حتى سمعت صوت حاتم العابث :
_ مفيش صباح الخير ياحاتم كمان ولا إيه !
أجابت ببرود دون أن تنظر له :
_ معلش ما اخدت بالي منك
سكت للحظات يحدق بها وبملامحها في تدقيق واستغراب حتى أكمل عبثه بلهجة أكثر مرحًا كنوع من تلطيف الجو :
_ ياااه هو أنا شفاف للدرجادي !!
تجاهلته كأنها لم تسمعه من الأساس وتابعت أكلها ببرود مثير للأعصاب .. بينما هو فتلاشت ابتسامته تدريجيًا من فوق شفتيه وهتف :
_ نادين !
للمرة الثانية تتجاهله عمدًا وهو لا يدري السبب وهذا ما أثار جنونه حيث عاد يردف بصوت رجولي غليظ :
_ نادين أنا بكلمك !!!
احست فاطمة بأن شجار عنيف سينشب بينهم إن لم تسرع وتتدراك الموقف قبل أن تندلع الحرب حيث هتفت بضحكة بسيطة محاولة بث البهجة من جديد حولهم :
_ كملوا اكلكم ياولاد مش وقت الكلام دلوقتي .. ما إنتوا طول الوقت مع بعض في الشغل والبيت
كانت نظرات حاتم ملتهبة لنادين التي تستمر في تجاهله والتصرف ببرود متعمد وكأنها لا تراه .. فألقى بالشوكة في الصحن بعنف واستقام واقفًا يجيب على خالته بصوت محتقن وعينان ثابتة على الأخرى :
_ شبعت !
فور سماعها لخطواته التي تبتعد باتجاه باب المنزل نظرت له بطرف عيناها هامسة بصوت منخفض وغيرة أنثوية حارقة :
_ قال شو القلب وما يريد ! .. لك أنا راح اخنقك بإيديا ياكذاب يامخداع
***
في تمام الساعة السابعة مساءًا .........
خرجت زينة من المطبخ تحمل فوق يديها كؤوس العصير وعلى ثغرها ابتسامة واسعة حتى وصلت لهم بالصالون فانحنت عليهم جميعهم واحدًا تلو الآخر تمد يديها حتى يلتقطون كأس من العصير ووقفت أخيرًا أمام هشام الذي حدجها بغرام لم تلاحظه للأسف ورفع يده يلتقط كأس العصير الخاص به لتعود زينة لمقعدها تجلس فوقه ويبدأون في تبادل الأحاديث الممتعة فيما بينهم .. وتارة يبادلهم هو وتارة يكتفى بتأمله لمعشوقة قلبه .
استفاق على صوت ميرفت التي هتفت بعذوبة وحب أشبه بالأمومي :
_ عقبال ما نفرح بيك كدا ياهشام ياحبيبي
ابتسم لها بمرارة وألقى نظرة سريعة على زينة التي تتابعهم بابتسامتها العريضة ثم تنهد بثقل مغمغمًا :
_ والله أنا حاولت يامرات خالي بس واضح إني مليش حظ في موضوع الجواز ده
ميرفت بمداعبة وضحكة دافئة :
_ ياسلام إنت شاور بس وأنا وأمك نجوزك ست البنات .. هي مين دي اللي متقبلش بيك
هدرت زينة بمشاكسة غامزة له بلؤم :
_ ميغركمش شكله ده مش ساهل .. ممكن يكون متجوز من ورانا في المانيا والله
رغم جملتها السخيفة إلا أنه ضحك وبادلها مشاكستها يجيب بسخرية :
_ طيب أنا راضي ذمتك ده منظر واحد متجوز !!
إجابته ضاحكة :
_ الحقيقة لا
قطع حديثهم صوت رنين الباب فهمت ميرفت بالنهوض لكن سبقتها زينة التي استقامت وقالت بعينان مشرقة :
_ خليكي ياماما ده أكيد رائد هروح أنا افتحله
_ طيب ياحبيبتي روحي
أسرعت زينة تجاه الباب وسط نظرات هشام التي بدأت تظلم تدريجيًا ورفع يده يمسح على وجهه بعنف يجاهد في تمالك أعصابه من قبل أن يراه حتى .. لاحظت شقيقته الجالسة بجواره تبدل ملامح وجهه فعضت على شفاها بتوتر حتى سمعته ينحنى على أذنها ويهمس بغيظ مكتوم :
_ إنتوا كنتوا عارفين إن خطيبها جاي ؟!!
نفت الاء مسرعة بصدق :
_ أكيد لا يعني .. وأنا لو كنت اعرف كنت أول واحدة هقولك
بعد ثلاث دقائق تقريبًا رآه يقترب منهم وهو يبتسم بلطف وتسير خلفه زينة ثم بدأ يلقى التحية على الجميع وعندما وصل إليه وبسط كفه أمامه .. فنقل هشام نظراته المريبة بين وجهه وكفه ثم رفع يده وصافحه بقوة .
احس رائد بأنه يعتصر كفه من فرط ضغطه عليه فسحب كفه بهدوء وقد اشتدت نظراته تجاه هشام كذلك وبعد أن كانت طبيعية أصبحت مشحونة بطاقات سلبية .
اقترب وجلس بجوار زينة ثم عادوا جميعهم لتبادل أطراف الحديث بمرح معادا هشام الذي مهما حاول ابعاد عينيه عنهم لا يتمكن .. رؤيتها تجلس بجواره هكذا وتضحك معه ثم يهمس هو بأذنها بشيء فتضحك بخفة وتجيب عليه بعفويتها الساحرة .. تؤلم قلبه بشدة بل وتمزقه أربًا .. ويزيد ألمه غيرته المشتعلة بصدره التي تأكله بالبطء .
بين كل آن وآن يمسح على ذقنه مصدرًا تأففًا ساخنًا ينفث عن نيران صدره ويجاهد بالبقاء ثابتًا .. لاحظ رائد نظرات هشام النارية لهم وبفطرتهم كرجال استطاع فهمه من نظراته المتأججة بالغيرة .. فاحتدمت عينيه ومد يده عن عمد ليمسك بكف زينة في تملك رامقًا هشام بحدة وشيء من التحذير .
رغم الأجواء المتوترة التي تسيطر على الوضع إلا أنه ابتسم باستهزاء بعد نظرة رائد وبالضبط بعد دقيقة كان يستقيم واقفًا عندما انهمزم أمام قلبه وفشل في تحمل رؤيته يمسك بيدها هكذا أمامه ليقول بخشونة :
_ طيب عن أذنكم عشان ورايا مشوار ومش عايز أتأخر عليه
هدرت ميرفت مسرعة برفض :
_لا مشوار إيه اقعد ياهشام احنا لحقنا نقعد معاك
انحرفت عيناه على رائد يرمقه شزرًا قبل أن يجيب بطبيعية متصنعة :
_ معلش يامرات خالي مرة تاني
ثم تابع يوجه حديثه لأمه :
_ شوية كدا وهعدي أخدكم
هزت رأسها بالإيجاب في نظرات مشفقة على ابنها المسكين وعندما استدار وغادر همت ميرفت بأن تلحق به فأوقفتها أمه هامسة بابتسامة منطفئة :
_ سبيه متطغيش عليه خلاص ياميرفت
لم تفهم ميرفت ما تقصده أمه لكنها هدأت وبقت بمقعدها كما طلبت منها.. بينما زينة فهمت بالوقوف لتلحق به قبل أن يغادر تمامًا لكن يد رائد منعتها هامسًا لها بحزم :
_ رايحة فين ؟!
سحبت يدها ببطء من يده وغمغمت بجدية تامة لا تقبل النقاش :
_ لحظة يا رائد وراجعة
ثم أسرعت مهرولة نحو الباب وفتحته لتخرج إلى درج البناية وتراه قد وصل للطابق الذي اسفلهم فصاحت عليه حتى توقفه :
_ هشام استنى
توقف ورفع رأسه لأعلى يتطلع لها وباللحظة التالية فورًا كانت تنزل إليه مسرعة حتى وقفت أمامه وهتفت باستغراب :
_ في إيه مالك ، مشوار إيه اللي ظهر فجأة ده !!
هشام بجمود مشاعر :
_ مفيش حاجة يازينة اطلعي فوق
ثم استدار وهم بالرحيل لكنها أسرعت وقبضت على ذراعه تمنعه من التقدم هادرة بحزم :
_ مالك ياهشام !!!
نزع قبضتها عن ذراعه بلطف وهتف في نبرة صلبة وأعين حادة :
_ مليش قولتلك .. اطلعي لخطيبك يلا
ولم يمهلها الفرصة لتحاول منعه من جديد حيث اندفع إلى الدرج يكمل طريقه للأسفل وقد عاد الألم والبؤس يعلو ملامحه من جديد .. بينما هي فظلت مكانها تتابعه وهو يتوارى عن أنظارها بحيرة وقلق ! .
***
كانت جلنار تجلس بحديقة المنزل تتصفح هاتفها وتجلس بجوارها ابنتها التي تلعب بألعابها في اندماج .. فانتبهت على صوت هنا وهي تهتف برقة تليق بصوتها الطفولي :
_ مامي أنا هروح اشرب مايه
جلنار بابتسامة دافئة :
_ ماشي ياحبيبتي روحي
نزلت الصغيرة من فوق الأريكة وهرولت راكضة داخل المنزل حتى تشرب كما قالت لوالدتها وبتلك الأثناء انتبهت جلنار على أثر صوت الخطوات التي تقترب منها فدارت برأسها للجانب لترى أسمهان تسير نحوها بتعجرف وقوة كعادتها .. فتبتسم وتستقيم واقفة تستقبلها بصوتها العذب المحمل بلهجة السخرية :
_ أهلًا يا أسمهان هانم .. ياترى إيه سبب الزيارة المرة دي !!!
أسمهان بقرف :
_ ده بيت ابني ووقت ما أحب هاجي يابنت نشأت مش هتمنعيني اجي ازور ابني وأشوف حفيدتي
ضحكت جلنار بتهكم على آخر كلماتها قبل أن تميل عليها وتهتف في قوة جديدة عليها :
_ لعلمك أنا سبت بنتي تفضل معاكي من يومين بمزاجي عشان أبوها ميشكش في سبب رفضي بس لكن أنا عمري ما آمن إن اسيب بنتي معاكي أبدًا
أسمهان بعصبية :
_ الزمي حدودك ومتنسيش إن دي حفيدتي
_ حفيدتك اللي حاولتي تقتلي أمها وتقتليها وهي لسا في بطني
التهبت نظرات أسمهان بغل وحقد عارم قبل أن تبتسم فجأة بشكل مريب وتغمغم في خبث وأعين تلمع بوميض شيطاني :
_ زي ما أنا عندي أسراري اللي مخبياها عن ابني إنتي كمان عندك وميعرفش عنها حاجة
التزمت جلنار الصمت لبرهة من الوقت تحاول فهم ما ترمي إليه حتى أدركت مقصدها فاتسعت عيناها بدهشة ثم رمقتها باشمئزاز وهدرت :
_ إنتي ست بشعة ومش طبيعية .. حقيقي أنا بشفق عليكي
أظلمت عيني أسمهان بنقم وغيظ لترفع كفها في الهواء تهم بصفعها لكن صيحة ابنها الغاضبة من الخلف جعلت يدها تتعلق بالهواء في صدمة :
_ مــــامــــا !!!! ............